محطة الجزيرة تغرق في بحيرة الدم السوري

28-03-2012

محطة الجزيرة تغرق في بحيرة الدم السوري

مملكة الوهم
بعد فورة التسعينيات الفضائيّة، عرف العرب نوعين من التحرّر. الأوّل «اجتماعي» مع محطّة lbc التي انتصب لها الخليج سيفاً واحداً، تحيّة للحسناوات الخفيفات اللبس والاستعراض والبوح الملتهب والاغراء. وبعد هذه السنوات، جاء الرأسمال السعودي والتهم بشبق الفضائيّة اللبنانيّة المذكورة. أما التحرّر الثاني في المشهد الفضائي العربي، فجاء «سياسيّاً»، مع «الجزيرة» التي فرضت نفسها في وقت قصير اقليميّاً ودوليّاً. إنّها قصّة أليس في بلاد العجائب. في الدولة الصغيرة الغنيّة، تفتّحت تجربة اعلاميّة مثيرة، تراهن على الاختلاف والجرأة والمهنيّة. من التغطية المغايرة للحدث إلى رفع لواء «الرأي الآخر»، تشكّل اعلام بديل لم يكن يتخيّله مشاهدو التلفزيون الرسمي، من المحيط إلى الخليج.
الاختراع المحيّر صار مرجعاً للفرد العربي المتعطّش لكشف المسكوت عنه، ومتابعة الجدل السياسي ولو استعراضيّاً. كيف بوسع نظام سياسي لا يختلف عن أنظمة الجوار، أن يفتح تلك الثغرة «التقدميّة»؟ غضّ كثيرون النظر عن الخلطة الغريبة في المكوّنات السياسيّة للمحطّة: من «بعث» (عراقي) آنذاك، و«ليبراليّة» مشرّعة على إسرائيل في فترة ما، إلى الاتجاه الاسلاموي الذي ابتلع كل ما عداه.
ما همّ؟ صار للعرب محطّة تضاهي
الـ CNN، وتنظر إلى الأحداث من زاوية أخرى. من الحرب الأميركيّة ـــ البريطانيّة على العراق إلى العدوان الاسرائيلي على لبنان ثم غزّة… وصولاً إلى الانتفاضتين التونسيّة والمصريّة، كان التاريخ يتشكّل مباشرة على «الجزيرة». ثم اكتشف النظام القطري هواية جديدة، وقرّر أن يصبح سبونسور «الثورة» العربيّة. مرّت المحطّة فوق ربيع المنامة مثل الدبابات السعوديّة، لـ«تقود» حركة التغيير في سوريا. بسرعة بدأت الزلات المهنيّة التي تحوّلت انحرافات متعمّدة، فتزييفاً منهجيّاً للحدث كما تثبت الوثائق والتصريحات التي تسرّبت في الأسابيع الأخيرة. ليس أن النظام السوري بمنأى عن الاستبداد والقمع، لكن «فجور» الخطاب الاعلامي جاء يسرق من الشعب انتفاضته. على صخرة المأساة السوريّة تكسّرت مملكة الوهم، وعادت المحطّة إلى حجمها الطبيعي. فجأة انتبه المشاهدون إلى أنّهم أمام اعلام رسمي يشبه ما نراه في سائر الأنظمة الشموليّة، بل يفوقها خطورة بحكم التجربة والصيت وادعاءات الاستقلاليّة والموضوعيّة. اليوم تتواصل الفضائح والاستقالات، ليبقى في ذاكرة الاعلام العربي المعاصر، جرح غائر اسمه «الجزيرة».

بيار أبي صعب


مراسلات إبراهيم هلال: وقائع هزيمة معلنة

منذ فترة و«الجزيرة» تعاني من داء التسريبات داخل أروقتها. من تظاهرة في دمشق ولعل الأخطر كان اختراق «الجيش السوري الإلكتروني» المشغل الرئيسي «لقلعة الثائرين» وفق ما يصفها بعضهم، وكشف جزء يسير مما يحتويه هذا المشغل (السيرفير)  حصلنا من مصادر داخل القناة على نسخة من «أمر اليوم» الذي صدر في مناسبة الذكرى السنوية الأولى للانتفاضة في سوريا. إنّه تعميم خاصّ وجّهه مدير الأخبار في القناة إبراهيم هلال إلى الموظّفين مؤرخ في 15 آذار (مارس) 2012 بعنوان «تغطيتنا للشأن السوري». اللافت في الرسالة هو تغيّر لهجة مدير الأخبار في المحطة بحسب الرسائل التي حصلنا عليها منذ تعيينه في تشرين الثاني (نوفمبر) 2011 حتى اليوم.
الرسالة الأخيرة التي بعثها هلال تندرج ضمن سياسة القناة القطرية التي نزعت قناع «الرأي والرأي الآخر» تدريجاً منذ انطلاق الانتفاضات، وخصوصاً في الملف السوري. بعد إطاحة وضاح خنفر المدير العام لشبكة «الجزيرة» إثر الفضيحة الشهيرة ، حصلت تغييرات على مستوى إدارة الأخبار، فأوكلت إلى المصري إبراهيم هلال، خلفاً للجزائري مصطفى سوّاق الذي عين مديراً عاماً لقناة الجزيرة الناطقة باللغة العربية فقط، وعُيَِّن الجزائري محمد صافي في إدارة الإدخال (input) خلفاً للأردني محمد داوود، كذلك عيّن الجزائري عبد الحق صداح في إدارة التخطيط. هذه التغييرات جرت وفق منطق تصفية الحسابات الداخلية، ليبدأ عهد الصقور في القناة القطرية...
في البدء، حاول مدير الأخبار الجديد المصري إبراهيم هلال ترميم التصدّعات التي أصابت القناة في مقاربتها الإعلامية للانتفاضات في العالم العربي. وكان قد وصف أداء المحطة أمام بعض المقربين بغير المهني، وخصوصاً في ما يتعلّق بالملف السوري. وهنا استهل مهماته برسالة (مؤرخة في الرابع من ت2/ نوفمبر بعنوان «تحية طيبة لكم جميعاً») إلى قسم التحرير، والمراسلين والمذيعين ومديري الأقسام، حاول من خلالها استعادة شعار القناة «الرأي والرأي الآخر»، واحترام المشاهد وعدم الوقوع في فخّ «نفي الآخر» و«التسلّط في الرأي». حتى إنّه عند تعيينه، نقل بعضهم عن هلال قوله حرفياً: «مهمتي هنا استعادة «الجزيرة» من أيدي عيال بيلعبوا فيها».
حاول هلال في البداية الضغط لاعتماد المهنية والدقة، وتقليص مساحة الملف السوري ضمن التغطية اليومية للمحطة، وخصوصاً في النشرات الرئيسية وفي طليعتها نشرة «حصاد اليوم»، فضلاً عن تقصير مدة التغطية المفتوحة كل يوم جمعة. كان يرى أنّ تلك التغطية لا تعطي قيمة مضافة للقناة، بل تضعفها. وكان يؤكد أمام بعض العاملين الأساسيين في قسم الأخبار أنّه غير مقتنع بأعداد القتلى اليومية التي تزودهم بها الهيئة العامة للثورة السورية، لكنّه مضطر إلى تبنيها.
أما الحادثة التي دفعت هلال إلى الخروج عن طوره، فكانت مقتل الصحافي الفرنسي جيل كاجييه في حمص في 11 كانون الثاني (يناير) الماضي، وطريقة تعامل قسم التحرير مع الخبر، من حيث الإصرار على إبراز عدد القتلى السوريين وتضخيمه، على حساب خبر مقتل صحافي فرنسي لاعتبارات تحريضية برأيه. هكذا، بعث رسالة بعنوان «مقتل الصحافي الفرنسي» (مؤرخة بتاريخ 12 ك2/ يناير 2012) حيث انتقد هذا «الشغف بأعداد القتلى»، منتقداً بشدة فريق الأخبار الذي أصبح شغله الشاغل «الاحتفاء بعدد القتلى»، مشدداً مرة أخرى على ضرورة تقديس شعار «الرأي والرأي الآخر» وعدم «تبنّي مواقف لكسب حبّ الجمهور».
إذاً، محاولات متكررة قادها هلال لإعادة التوازن إلى أداء المحطة من دون جدوى. والنتيجة فشل ذريع لتلميذ مدرسة «بي. بي. سي» البريطانية. هذا الفشل أفضى إلى الإقرار بالأمر الواقع، والسير وفق السياسة الخارجية القطرية. وهذا ما بدا واضحاً من اللغة التي اعتمدها هلال في آخر تعاميمه. إنّها الرسالة المؤرّخة بتاريخ 15 آذار (مارس) الحالي. الإعلامي الذي كان يصف نفسه بالمهني، انقلب بسحر ساحر. في تلك الرسالة التي حملت عنوان «تغطيتنا للشأن السوري»، بدأ هلال بمطالعة تاريخية تفيد بأنّ الجمهورية العربية السورية دولة عربية ذات سيادة مستقلة ووحدة ترابية، ليكمل بأنّ «الشائعات» التي طاولت أداء «الجزيرة» في الملف السوري دليل قوة. علماً بأنّه في مجالس خاصة بكبار موظّفي القناة، يعلم الكلّ أنّه لا أحد من موظفي المحطة يستطيع التعبير عن رأي مخالف للتوجيهات الأميرية بشأن الملف السوري، وإلا فسيكون مصيره، إما الإقصاء أو الإحراج للإخراج.
لكنّ البند الأهم في تعميم هلال كان تشديده على عدم إبداء المحطة أي معارضة في أدائها التحريري، لقضية التدخل الأجنبي في سوريا، وعدم التشكيك في أغراض الجيش السوري الحرّ وإبراز دور المعارضين، وخصوصاً من ذوي الأقليات. هكذا، تغيّرت لهجة هلال، ولم يعد يرى أي شوائب في أداء هذه القناة التي نجحت في أحد الأيام في التربع على عرش الإعلام العربي قبل أن تتحوّل إلى فرع من فروع الديوان الملكي.

لقراءة الروابط والوثائق المتعلقة بالملف كاملة انقر هنا
(انقر زر الفارة الأيمن ومن ثم اختار "save as" من القائمة)


هكذا غزا الإخوان «ديسك» سوريا
أنشئ «ديسك سوريا» عندما تسلّم مدير الأخبار في «الجزيرة»، إبراهيم هلال، منصبه في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي. كانت مهمته متابعة أخبار سوريا التي تستقيها القناة منه حصراً. وكان لا يُسمح للناشطين أو للتنسيقيات بالتواصل مع المحطة إلا عبر هذا الديسك. أوكلت رئاسته الى السوري أحمد العبدة، شقيق أنس العبدة عضو المجلس الوطني السوري وأحد منظّري الإخوان. لكنّ أحمد العبدة يُعرف في القناة باسم أحمد إبراهيم كي لا يفتضح بأنّه شقيق العبدة. كما انضمت الى الفريق إيلاف ياسين التي عملت كمضيفة طيران VIP على الخطوط الجوية السعودية حتى بداية عام 2011. ويساند القسم مدير مكتب الجزيرة في باكستان السوري الإخواني أحمد زيدان الذي كان أحد المقاتلين السابقين في «الطليعة المقاتلة» في سوريا الثمانينيات.
يتولّى الديسك مهمة فتح التغطية واختيار الناشطين وشهود العيان، والتواصل مع التنسيقيات. لكنّ مهماته تعدّت ذلك إلى مطالبة الناشطين السوريين بتنظيم تظاهرات ليلية في مناطق مختلفة من سوريا ولمدة وجيزة كي تُنقل على الهواء مباشرة أثناء نشرات القناة الليلية. وكان الهدف من ذلك تصوير التظاهرات على أنّها عفوية تحدث الآن بهدف إيصال فكرة أنّها مستمرّة لا تتوقف ليل نهار. أيضاً، كان ديسك سوريا يجبر قسم المقابلات على استضافة ناشطين في كل نشرة، حتى في غياب أي مستجدّات في الملف السوري والتحدث عن أمور وقعت في وقت سابق من أجل التحريض على النظام فقط.
وعندما اشتدت الحملة الأمنية على حمص منذ حوالى شهرين، طُلب من مراسلي مكاتب القناة في لبنان، وتركيا، والأردن أن ينتشروا على الحدود مع سوريا لتغطية الأحداث في الداخل، لكن من الحدود. والغريب في القناة التي تدّعي المهنية أنّ المراسلين المنتشرين لا يستطيعون بالعين المجردة رؤية ما يحدث في الداخل السوري. وهنا، أرسلت إدارة التخطيط في المحطة تعميماً يقضي بأن يزوّد ديسك سوريا المراسلين بالأخبار من غرفة الأخبار في الدوحة، وما على المراسلين سوى تلاوة هذه الأخبار والقول بأنّها تجري في المناطق القريبة من مكان انتشارهم. وأوكلت مهمة تزويد المراسلين بالمعلومات أيضاً الى مسؤول الديسك أحمد العبدة. وبينما يشكّك عاملون في ديسك سوريا، الحديث الولادة، بأرقام القتلة التي ترسلها الهيئة العامة للثورة السورية، يتجاهل الديسك كلياً الأرقام التي يعلنها الجيش السوري الحرّ عن عدد القتلى الذين أوقعهم في صفوف الجيش النظامي.

إلياس مهدي

فادي سلامة يصرخ: كفى تزويراً للحقيقة!
أجواء غير صحية ومتوتّرة. هكذا يصف مصدر في «الجزيرة» المناخ الذي يعمل فيه موظفو القناة القطرية هذه الأيام. لقد جاءت الأزمات والفضائح المتلاحقة لتطيح حلماً راود كثيرين حول محطة عربية حديثة تخرج عن القاعدة ولا تكون ذراعاً إعلامية للسلطة التي تملكها. آمال كبيرة بناها متابعو القناة القطرية قبل أن تتوالى الفضائح عن الفبركات والتزييف الذي مارسته قناة «الرأي والرأي الآخر» في سوريا وسلسلة الاستقالات التي توالت من العاملين في المحطة احتجاجاً على أدائها والحديث عن استقالات جماعية أخرى في الطريق.

وفي الفترة الأخيرة، عقدت اجتماعات عديدة في أروقة المؤسسة لتقييم الوضع على وقع الفضائح التي خرجت إلى العلن. لكن يبدو أنّ كل هذه الاجتماعات لن تفيد في انتشال المحطة من حالة التخبط التي تعانيها مع إطالة أمد الأزمة السورية.
وفي آخر التطوّرات، حصلنا على نسخة من رسالة بعثها مراسل القناة في طوكيو الإعلامي السوري فادي سلامة ضمن نظام الـ Talkback أي مساحة الرأي الخاصة بموظفي المحطة. هنا، شكا الإعلامي السوري طريقة تعامل «الجزيرة» مع الشأن السوري، انطلاقاً من قريته (العثمانية) وتجربته الشخصية. يقول في الرسالة المؤرخة بتاريخ 5 آذار (مارس) 2012: «في قريتي ستة من أبناء عمي قتلوا، واثنان اختفيا بعدما ظهرا على قناة «الجزيرة» على أنهما منشقّان هما عزيز وبشار (...) عزيز والد لخمسة أطفال، كان صوته يتهدّج خوفاً وهو يقول ما تم تلقينه وظلّ بندقية وراء رأسه (...) في قريتي آخر القتلى كان ابن عمتي أحمد، وجدت جثته في مكب للقمامة في حمص مقطعة الأطراف (...) في قريتي يحبّون الأسد (...)». وسخر سلامة من سياسة المراسلين غير الرسميين للمحطة أي الناشطين المعارضين الذين يزوّدونها بالأخبار، قائلاً: «مراسلو «الجزيرة» إذاً في سوريا يلتزمون المعايير التحريرية والموضوعية والحيادية وتقديم الرأي والرأي الآخر، أشدّ على أيديهم وأدعوهم إلى زيارة قريتي ففيها الكثير من القصص الجميلة».
هكذا، وضع مراسل «الجزيرة» يده على الجرح وحض شبكة الناشطين التي تأخذ على عاتقها تقديم الأخبار للمحطة القطرية على زيارة الأماكن المنكوبة والاطلاع على حقيقة ما يجري من قتل وضرورة الانتباه إلى أنّ الأسد ما زال يحظى بمؤيدين من دون أن يتمكّن صوت هذا المراسل من تغيير شيء في سياسة محطته. وتقول مصادر من داخل المحطة إنّ الوضع السوري صار الشغل الشاغل لموظفي القناة، وإن الأحداث الواردة من الشام باتت تسيطر على كل الاحاديث الدائرة في أروقة المؤسسة، فلا يجتمع شخصان إلا ويكون ثالثهما الوضع السوري. وتضيف المصادر أنّ لا أحد من مديري القناة يملك أجوبة شافية حول ما يحصل، ولا أحد قادر على الردّ على علامات الاستفهام الكثيرة التي يرسمها عدد كبير من فريق «الجزيرة» الذي ضاق ذرعاً بما تفعله محطته. وقد خال بعضهم أنّ التعاطي مع الملف السوري سيتغيّر بعد إطاحة المدير العام للشبكة وضّاح خنفر إثر فضيحة «ويكيليكس» الشهيرة (راجع ص 14). لكنّ شيئاً لم يتغيّر، فالأمر مرتبط بالسياسة الخارجية القطرية تجاه سوريا.
وضمن سلسلة الاجتماعات التي تدعو إليها إدارة «الجزيرة» لمناقشة الأزمة السورية، كشفت لنا مصادر أنّ اجتماعاً عُقد في الدوحة بين الثامن والعاشر من الشهر الجاري وشمل مديري مكاتب المحطة في العواصم المختلفة. في ذلك الاجتماع، تعالت أصوات المديرين، ووُصف الاجتماع بالعاصف في ظل الانشقاق الحاد في الرأي بين موظفي القناة تجاه الملف السوري. وتنقل المصادر عن أحد مشرفي التحرير في المحطة قوله إنّ الخطأ القاتل الذي ارتكبته القناة في الشأن السوري «أننا استنفدنا كل خططنا من أجل إسقاط النظام في سوريا لكن الأسد فاجأنا بصموده». وتابع أنّ سيناريو تونس ومصر وليبيا سقط فعلياً في سوريا! بينما لم ينكر سقوط القناة المدوي في البحرين وصمتها إزاء ما يجري هناك، واعترف بأنّ التوجهات السياسية هي التي تحكّمت كلّياً بالتغطية الإعلامية للقناة القطرية، ثم ختم حديثه متأسفاً: «في الحقيقة، على «الجزيرة» أن تعمل الآن لسنوات وسنوات كي تستعيد ثقة العرب وتعود لمنافسة كبرى القنوات».
هكذا بعدما بذلت المحطة جهوداً حثيثة منذ انطلاقها عام 1996 حتى بنت لنفسها قاعدة جماهيرية صلبة وحصدت نجاحات متتالية وحازت ثقة شريحة الجمهور، ها هي تقامر من أجل تنفيذ أجندات حكومة بلادها وتدخل في نفق مظلم لعلّه يشي بنهاية حلم اسمه «الجزيرة».

فاتح جاموس، المعارض الهادئ لم يشهد بالزور
تنطبق مقولة «الزمن دوار» على تغطية قناة «الجزيرة» للسياسة السورية. عندما كانت المحطة القطرية تعدّ من أبرز الداعمين لنظام بشار الأسد وكانت تتباهى قطر بصداقتها مع سوريا، كانت «الجزيرة» تطبق ما يشبه الفيتو على بعض الشخصيات المعارضة ممن اشتهرت برفضها لديكتاتورية النظام السوري واستبداده، ودفعت سنوات من عمرها في أقبية الفروع الأمنية والسجون السورية دفاعاً عن قناعاتها. وعموماً، فإن جميع أفراد حزب العمل الشيوعي كانوا محظورين من الظهور على شاشة «الجزيرة» بسبب مواقفهم المناهضة للنظام السوري. لكن بعد اندلاع الانتفاضة، تبدلت الأحوال وصارت المحطة القطرية تبحث جاهدة عن كل من يدعي معارضته للنظام السوري.. حتى أنها بالغت في استضافة شخصيات لم يسبق للشعب السوري أن سمع بأسمائها، وصارت تطلق عليها تسمية المعارضة. وبالتزامن مع الانشقاقات الحاصلة في صفوف المعارضة السورية وتفتتها وعجزها عن التوحد تحت راية واحدة، برزت بعض الأسماء التي أطلق عليها اسم المعارضة الوطنية الداخلية التي اشتهرت بالاعتدال والحرص على مصالح الشعب السوري ونبذ أي دعوة إلى التدخل الخارجي. وكان من بين هؤلاء ميشيل كيلو، وفايز سارة، وفاتح جاموس ولؤي حسين وغيرهم.
هكذا، حصدت تلك الأسماء إعجاب نسبة كبيرة من السوريين بمختلف انتماءاتهم وتعدد مشاربهم، وظهر جلياً الفرق بين أن يكون المرء سياسياً محنكاً خبر الانتماء إلى أحزاب سياسية وتنظيمات سرية وقارع استبداد النظام على مر عقود، وبين الوجوه المعارضة الجديدة. إلا أنّ المفارقة كانت بما أدلى به أحد موظفي «الجزيرة» المستقيلين  عندما قال: «تطبّق «الجزيرة» فيتو على بعض الشخصيات المعارضة التي عرف عنها الاعتدال وتندد بأي دعوة إلى التدخل الخارجي وعلى رأس هؤلاء الكاتب ميشيل كيلو. والدليل أنه لم يعد أحد يلمحه على القناة القطرية في الفترة الأخيرة».
الكلام الذي يدلي به موظف الجزيرة السابق يؤيده بشدة المعارض فاتح جاموس. ويقول هذا الأخير : «كانت لي تجرية طويلة مع الاعتقال دامت لمدة تسعة عشر عاماً، ولا يمكن لأحد أن يزايد عليّ أو ينفي عني صفة المعارض لهذا النظام. لكن تجربتي مع «الجزيرة» كانت أسوأ من تجربتي مع الأنظمة الحاكمة. لقد رفضوا طلبي الظهور على شاشاتهم أيام كان النظام السوري مقرباً منهم، بحجّة أنني أنتمي إلى حزب العمل الشيوعي المعارض». وعما يخص التغطية الإعلامية للملف السوري في المراحل الأخيرة، يضيف جاموس: «طلب مني أن أظهر كشاهد عيان وأتحدث عن مناطق لست موجوداً فيها. طبعاً، رفضت رفضاً قاطعاً المشاركة في مسلسل التحريض الذي تنتهجه هذه القناة. لذا فأنا متأكد أنّني من ضمن الأسماء الممنوعة من الظهور على شاشة القناة».
إذاً، ها هي «الجزيرة» تتبع سياسة المنع ذاتها، لكنّها تمارسها هذه المرة على بعض الشخصيات التي ترفع شعار الاعتدال في معارضتها للنظام السوري وتكشف عن حكمة في طريقة تحليلها للأزمة. لكن يبدو أنّ ذلك لا يتفق مع نهج المحطة القطرية.

وسام كنعان

شريط الفضائح بدأ مع وضّاح خنفر
منذ انطلاق «الجزيرة» عام 1996، توجّهت إليها أنظار المشاهدين العرب الذين سئموا اللغة الخشبية للقنوات الحكومية. سرعان ما فرضت القناة القطرية نفسها في المشهد الإعلامي بفضل حيويتها، وتغطياتها الحصرية وانتشار مراسليها في مكان الحدث ومواكبته بالصوت والصورة. هكذا، كونت قاعدة شعبية وجماهيرية، متجاوزةً كل الانتقادات التي اتهمتها بالتطبيع مع إسرائيل، وتحويل شاشاتها منبراً للأميركيين لتبرير حروبهم، وخصوصاً بعدما تعرّضت مكاتبها في أفغانستان والعراق للقصف الأميركي. ونسي كثيرون أنّ مَن يملك القناة ليس سوى نظام يستقبل أكبر قاعدة عسكرية أميركية في الشرق الأوسط.
لكنّ الثورات العربية وضعت «الجزيرة» على المحك. بدأ العد التنازلي لسقوط مدوٍّ تلخّص في الانحياز الفاضح، وسياسة الكيل بمكيالين. وفي مقابل تجاهل البحرين، وقعت المحطة في حالة تخبط خلال الأيام الأولى للانتفاضة السورية. بعد ذلك، مضت قدماً في دعم الانتفاضة إلى مرحلة التزوير والتحريض والفبركة الواضحة.
هكذا، أعلنت حربها الإعلامية على دمشق، معتمدة على ما تيسّر لها من مقاطع فيديو عُرضت على الشبكات المعارضة التي تسهل فبركتها، واستعانت بالشهود العيان الذين لا يكشفون أسماءهم الحقيقية ولا يمكن الوثوق بكلامهم. فقد سبق أن بثت «الجزيرة» مئات الأخبار عن تظاهرات حاشدة في مناطق لم تشهد أي تجمّعات وبالغت في عدد القتلى والجرحى، ثم أوردت مرة خبراً عن وصول المتظاهرين إلى ساحة العباسيين وتحليق كثيف للطائرات فوقهم، رغم أنّ الحياة كانت طبيعية بنحو كامل في الساحة الشهيرة.
كل ما سبق لم يكن سوى مقدمة لقنبلة مدوية أسقطت القناع عن «الجزيرة» وفضحت الدور الذي أنشئت من أجله المحطة وفسّرت سبب صعودها الصاروخي مترافقاً مع سطوع نجم المدير العام السابق للشبكة الإخواني الهوى وضاح خنفر الذي حصد إعجاباً كبيراً وعداوات بالجملة، رغم دبلوماسيته وحنكته وخبرته السياسية. لكنّ وثائق «ويكيليكس» جاءت لتميط اللثام عن تلقّي خنفر التعليمات من الاستخبارات الأميركية. الوثائق الدامغة وما أعقبها من تغطيات إعلامية أجبرت عميد محطة «الجزيرة» على الاستقالة، لكنّه خرج ليُعلن أنّه لم يُقَل بل اختار الاستقالة للتفرغ لمشاريع أخرى. وفي ظل تجاهل قناة «الرأي والرأي الآخر» للفضيحة التي أجهزت على شعارها، تتالت الفضائح. كان الاختراق الذي حققه الجيش السوري الإلكتروني لنظام البريد الإلكتروني الخاص بالمحطة ودخوله الرسائل التي تبادلها مراسل بيروت السابق علي هاشم والمذيعة السورية رولا إبراهيم مجرد حلقة في مسلسل فضائح لا ينتهي. يومها، أكّدت المذيعة السورية في رسائلها أنها باتت مرتدة على الثورة وشاهدة على إعلام التحريض الذي يهدف إلى تنفيذ أجندة واضحة في سوريا. وفي ردّه عليها، وافقها هاشم الرأي، وقال إنّه فضل الوقوف على الهامش بعدما أرسل للقناة صوراً عن المسلحين وهم يشتبكون مع الجيش السوري بالقرب من وادي خالد، لكنّها لم تعرض، بل طُلب منه العودة إلى بيروت فضلاً عن اتهامه بأنّه شبيح! أمام هذه الفضيحة، اتبعت المحطة سياسة التجاهل نفسها، وخصوصاً أنّه لا يمكن نفي هذه الواقعة المدعّمة بالوثائق. وأخيراً، توالت استقالات إعلاميين وعاملين في فريق «الجزيرة»، بدءاً من مدير مكتب بيروت غسان بن جدو (عُيِّن مكانه الجزائري عياش دراجي)، مروراً بعلي هاشم وموسى أحمد وانتهاء باستقالة تتكتم عليها المحطة لنحو عشرة إداريين في مكتب الدوحة، وأنباء عن استقالات جماعية تعدّ على نار حامية لمجموعة من الإعلاميين، واحتمال عقدهم مؤتمراً صحافياً يتحدثون فيه عن الضغوط التي تمارسها عليهم إدارة المحطة.
من جهة أخرى، لم يقف الأمر عند سلسلة الاستقالات التي لمّحت بنحو مباشر أو غير مباشر إلى أنّ السبب وراءها كان التغطية التحريضية في سوريا والصامتة في البحرين. فاجأ تلفزيون «الدنيا» مشاهديه ببث شرائط تظهر مراسلي المحطة غير الرسميين والناشطين السوريين الذين يتعاملون معها وهم يفبركون رسائلهم. هكذا، ظهر مراسل القناة غير الرسمي في بابا عمرو خالد أبو صلاح في غرفة تبدو كأنّها ملحق لمستشفى ميداني. ويبدو في الشريط وهو يلقّن طفلة مضمدة وطبيب شهادات معدة سلفاً من أجل تلاوتها على الهواء وهو ما حصل وتابعه مشاهدو المحطة القطرية... إذاً، وسط حفلة فضائح انتشرت رائحتها في كل مكان، واصلت المحطة القطرية سياستها التحريضية، لتتحوّل ذراعاً إعلامية للسياسة القطرية تجاه سوريا.

وسام كنعان

 

البروباغندا الجامحة حجبت (حتى) المسجد الأقصى
مع بداية الأحداث السورية في آذار (مارس) 2011، تعاملت «الجزيرة» بحذر شديد مع هذا الملفّ. لكنّ زيارة خاطفة قام بها وزير خارجية قطر حمد بن جاسم لدمشق، للتشاور مع نظرائه في بداية الأحداث، قلبت الموازين وأعلنت القطيعة النهائية بين النظام السوري والحكومة القطرية.من تظاهرة أمام مكتب القناة في بيروت

هنا، دخلت «الجزيرة» مرحلة مختلفة في التعاطي مع الانتفاضة السورية، سرعان ما حوّلتها إدارة المحطة إلى ثورة حقيقية، تصدرت أحداثها وتفاصيلها النشرات الإخبارية. تناولها المفكر عزمي بشارة في برنامجه «حديث الثورة» الذي كان يبث مساء كل يوم جمعة، شارحاً ومفصّلاً حقائق وخفايا كثيرة لمتابعي المحطة، بعدما كان يتجاهل الشأن السوري ويتهرّب من أسئلة المذيع. وتوالت استقالات المذيعين والإعلاميين في المحطة التي بدأت رحلة ابتعادها عن المهنية ودخولها في وحول السياسة. وربما غُفر للقناة أخطاؤها اليومية بأسماء المناطق والجهل الواضح بجغرافية البلد الذي توليه الأهمية والمساحة الكبرى من تغطيتها. مثلاً، أذاعت خبراً لم يفلت من المبالغة والتهويل عن انفجار مدوٍّ في «مقر قيادة حزب البعث في الميدان» وسط دمشق، بينما كانت الحقيقة هي انفجار قنبلة صوتية بالقرب من مبنى فرع الحزب في منطقة المزرعة، إضافة إلى بث أخبار كاذبة تؤكد أنّ السوريين ينفذون إضراباً عاماً في مختلف المحافظات، وعرضها لشريط يظهر الرئيس السوري بشار الأسد وهو يخطب أمام عشرات الأشخاص في فيديو مفبرك صوِّر قبل توافد المؤيدين للنظام إلى ساحة الأمويين في كانون الثاني (يناير) الماضي واتهام الإعلام السوري بأنه فبرك أعداد المتظاهرين في الساحة...
ومع دخول الأزمة السورية عامها الثاني، افتتحت «الجزيرة» مرحلة جديدة في تعاطيها مع الملف، لا تبتعد كثيراً عن سياسة الحكومة القطرية التي أعلنت صراحةً انحيازها الكامل إلى المعارضة السورية وتبنّيها المجلس الوطني السوري، ودعمها لما يسمّى الجيش السوري الحر. فعلت ذلك من خلال تقارير كثيرة عرضتها ضمن نشراتها الإخبارية، وصوِّرت في معاقله وبين مجموعاته، لتؤكّد نزاهته ووطنية عناصره، متجاهلة الشهداء الذين سقطوا في العمليات التي نفذتها المجموعات المسلحة، أو تغطية التفجيرات التي تعرضت لها دمشق، ومدينة حلب أخيراً. أما خبر اقتحام القوات الإسرائيلية للمسجد الأقصى في الشهر الماضي والاعتداء الإسرائيلي على غزة منذ أسابيع، فلم تولهما القناة أهمية تذكر. وحدها، أحداث «الثورة السورية» كما تريدها «الجزيرة» بقيت الحدث الأبرز الذي تصدّر نشراتها الإخبارية حتى اللحظة.

أنس زرزر

رولا إبراهيم: الإعلاميّة الضحية
منذ اندلاع الانتفاضة السورية، وقعت المذيعة رولا إبراهيم بين فكي كماشة. لم تستطع محاباة النظام وقمعه للتظاهرات السلمية والصمت عن المجازر، لكنّها لم تتمكن أيضاً من تجاهل تجاوزات «الجزيرة» ونهجها التحريضي في التعاطي مع الملف السوري. وبين هذا وذاك، تبدو الإعلامية السورية كالكثير من أبناء بلدها الذين خسروا طرفي المعادلة بسبب اعتدالهم وحرصهم على قول الحقيقة. منذ نحو عام، تتعرض إبراهيم لمجموعة ضغوط بدأت بمطالبتها بالاستقالة من «الجزيرة» والاعتداء على أملاكها وحرق منزلها في طرطوس وانتشار دعوات بسحب الجنسية منها على مواقع التواصل الاجتماعي. في المقابل، انتشرت صفحات على فايسبوك تدعمها مثل: «رولا إبراهيم صوت يرفض الصمت».

ومع استمرار الانتفاضة السورية وتحولها إلى مواجهات مسلحة، فجرت الوسائل الإعلامية السورية مفاجأة عند اختراق الجيش السوري الإلكتروني نظام البريد الخاص بـ«الجزيرة» وكشفه مجموعة رسائل بعثتها المذيعة إلى زميلها السابق علي هاشم في بيروت. كشفت هذه الرسائل عن الضغوط التي تعرضت لها في المحطة بسبب إحراجها الناطق الرسمي باسم الإخوان المسلمين في سوريا وتذكيرها بتهديدات الجيش الحر قبل انفجارات الميدان والحديث عن منعها من إجراء مقابلات تخص سوريا، إضافة إلى فضحها سياسة محطتها التحريضية واعترافها بأنها باتت مرتدة عن الثورة وحديثها عن العقلية الطائفية التي يتعامل بها بعض زملائها في القناة. هذا الأمر عرّضها لتهميش إضافي في المحطة. لكن ما كادت تمرّ أيام على هذه الفضيحة حتى تناقلت المواقع الإلكترونية خبراً عن اختراق صفحة رولا إبراهيم على فايسبوك ونشر رسائل وتعليقات تشتم فيها النظام السوري. ولم تفد تصريحاتها بأنها لا تملك أي حساب على الموقع الأزرق في رفع التهمة عنها أو تخفيف نقمة النظام عليها. حتى إنّ هناك أنباءً سُرِّبت عن توصية وجِّهت إلى المحطات الموالية للنظام السوري بالامتناع عن التعامل معها حتى لو استقالت من «الجزيرة».
إذاً، الإعلامية التي تدرجت من الإذاعة السورية ثم عملت لفترة قصيرة في تلفزيون «روسيا اليوم» قبل أن تلتحق بقناة «الرأي» الكويتية ثم تستقر في «الجزيرة» وتحقّق حضوراً وأداءًَ مميزين، تواجه اليوم المجهول. ويبدو أنّها وصلت إلى قطيعة حقيقية مع محطتها وأسلوبها التحريضي فيما تعاني من تهديد النظام والموالين له. حتى إنها دخلت في إجازة مفتوحة انتقلت فيها من الدوحة ففرنسا ثم دبي من دون أن تتضح حتى الآن وجهتها النهائية بسبب إصرارها على قول كلمة حق في زمن الباطل.

... وفيصل القاسم الرابح الأكبر
خلفت الأزمة السورية مشاكل عديدة على مختلف المستويات. لكن في المقابل، أدت دوراً في شهرة بعض الشخصيات، سواء كانت من الموالاة للنظام أو من المعارضة له، إضافة إلى رواج اسم بعض الفضائيات التي رفعت شعارات طائفية بحتة واعتمادها على شيوخ استخدموا التحريض أسلوباً وحيداً لخطاب المحطة الإعلامي.
وسط ذلك، بدا مذيع «الجزيرة» فيصل القاسم من أكثر المستفيدين إعلامياً من الأحداث السورية. بعدما وصل برنامجه الشهير «الاتجاه المعاكس» إلى طريق مسدود استنفد فيه كل أدواته، حتى صار مضطراً إلى طرح مواضيع لا يتوقعها المشاهد كمصاعب مهنة التمريض على اعتبار أنها مهنة القاسم الأساسية، سرعان ما أسهمت الأحداث في سوريا في إحياء موسم جديد من البرنامج. عاد وحقّق حضوراً جماهيرياً واسعاً رغم اعتصام معده ومقدمه عند فكرة واحدة هي جلب خصمين حول فكرة واحدة، وترك المجال لهما للخلاف والصراخ والمقاطعة من دون أن نشاهد ملمحاً واحداً من ملامح الحوار الصحية والسليمة.
هكذا، تحولت حلقات البرنامج إلى حلبة مصارعة ومنبراً لتبادل الشتائم والاتهامات مع الاستعراض الواضح لغالبية الضيوف في استفزاز الآخر من دون التقيد بالحد الأدنى من آداب الحوار الإعلامي. مع ذلك، تزايدت جماهيرية «الاتجاه المعاكس»؛ لأنّه مثل معادلاً سياسياً لبرامج الترفيه والتسلية الفنية التي تعتمد على فضائح المشاهير بوصفها فرصة للترويح عن النفس في ظل بؤس الأوضاع وانقسام الشارع السوري، ولو كان ذلك على مبدأ شر البلية ما يضحك.
هكذا، يظهر فيصل القاسم كل أسبوع بحركات حفظها الجمهور، وبنبرة باتت مدعاة للسخرية على اعتبار أنها جرس إنذار لحفلة شتائم جديدة. وحالما تبدأ الحلقة، يعلو الصراخ ويبدأ تراشق الاتهامات بين الضيفين. طبعاً، كل ذلك يكون بمباركة فيصل القاسم الذي تراه مبتهجاً كلما احتد النقاش أكثر. فيما يضطر في بعض الأحيان إلى استخدام قدراته في إشعال فتيل الحرب عندما يلاحظ أن ضيفيه يحترمان أصول الحوار وآدابه وسلوكياته العامة. وكان القاسم في أكثر لحظات حياته المهنية سعادةً عندما سجّل برنامجه في موسمه الأخير تجاوزات مضحكة، لعلّ أبرزها حين هجم الصحافي اللبناني جوزيف أبو فاضل على عضو المجلس الوطني السوري محيي الدين اللاذقاني على خلفية الملف السوري، فيما كان القاسم يحاول فض الاشتباك الحاصل على الهواء مباشرة.
الإعلامي السوري الذي يختار ضيوفه بنفسه، يحاول دوماً إقناع مشاهديه بأنه لا يتقصّد تصفية حسابه مع النظام في برنامجه الذي يستمرّ أسبوعياً في موعده كل ثلاثاء، لينال مجدداً لقب أول برنامج عربي علّق ورقة نعي الحوار الحقيقي.

وسام كنعان

قناة «الرأي والرأي الآخر» لم تسمع صراخ البحرين
سقطت موضوعية قناة «الجزيرة» عندما قرّرت تجاهل ما يجري في البحرين منذ انتفاضة «14 فبراير» العام الماضي. صحيح أنّها لم تأخذ جهة السلطة بنحو واضح في الأزمة، لكنّ «حيادها» وتجاهلها لممارسات الشرطة والأمن كانا كفيلين في جعلها شريكة في مؤامرة حصار هذا الشعب الأعزل. لم تكن «حيادية» بين الجلاّد والضحية فحسب، بل تجاهلت المحطة الكثير من المواد التي أرسلها إليها ناشطون ومعارضون بحرينيون رغم تأكيد هؤلاء العلاقة «الراقية» التي تجمعهم بمراسلي المحطة القطرية وموظفيها.

تقول مصادر  إنّ صحافياً بحرينياً كان يزوّد مكتب «الجزيرة» في الدوحة يومياً بالأخبار والفيديوات عن القمع الحاصل وتظاهرات دوار اللؤلؤة، لكنّها كانت تقابل جميعها بتجاهل تام من المنتجين ورؤساء التحرير. في المقابل، فتحت المحطة هواءها لتقرير «اللجنة البحرينية المستقلة لتقصي الحقائق» في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، علماً أنّ المعارضة البحرينية رفضت التقرير واتهمته بأنّه «أخفى حقائق وممارسات كثيرة».
وهنا لا بدّ من التمييز بين تغطية «الجزيرة» العربية وتلك الإنكليزية التي جال مراسلوها في شوارع البحرين وعاينوا الأحداث ورافقوا الانتفاضة وأهم فصولها على الأرض، وشهدوا على أعمال العنف ووثّقوها، وكانوا خير شاهد على آلام «تصرخ في الظلام». مع ذلك، فقد أثار شريط وثائقي عرضته القناة الإنكليزية بعنوان «البحرين... صراخ في الظلام» أزمة بين قطر والبحرين.
وبعيداً عن أسباب هذا التمايز في التغطية، ما الذي دفع «الجزيرة» العربية إلى إحراج نفسها بعد تغطيتها المكثّفة وحضورها الواضح في الانتفاضتين التونسية والمصرية؟ في بداية الانتفاضة البحرينية، كان خوف قطر ومن ورائها الدول الخليجية عدم امتداد الربيع العربي إلى ربوعها؛ لأن أي اهتزاز للعرش الملكي في البحرين سيرتدّ على بقية العروش. ولهذا جاء الفيتو الخليجي ـــ لا القطري فقط ـــ على تغطية «الجزيرة» لأحداث البحرين وباقي القنوات الخليجية.
اليوم تبدّل الوضع. فلماذا يستمر هذا الصمت؟ (مع أنّ مسيرة التاسع من آذار الضخمة أجبرتها على تغطية الحدث). تعيش الانتفاضة في الوقت الراهن حالة جمود سياسي رغم التظاهرات التي تستمرّ يومياً مهما اشتدّ الخناق. مطلب إسقاط النظام بات شعاراً ترفعه الحركة الشبابية، وتحديداً «ائتلاف شباب 14 فبراير» تعبيراً عن الغضب، أكثر منه مطلباً تتبناه القوى المعارضة المرخصة. بل على العكس، فإنّ هذه الأخيرة تبرّأت منه ورفضته مع اشتداد الحملة الأمنية بعد دخول قوات «درع الجزيرة» الخليجية إلى المملكة الصغيرة. السلطة البحرينية لا تغفل مناسبة دولية أو إقليمية من دون أن تُروّج لنفسها على أنّها دولة ديموقراطية تستجيب لمطالب شعبها، بينما تضرب بيد من حديد المسيرات السلمية. روايات متضاربة حول مشروع حوار وطني يلقى ترحيباً من المعارضة، فيما تحاول جهات موالية للحكم عرقلته. وهناك وساطات خليجية ودولية آخرها سعودية «غير مؤكّدة» تدلّ على رغبة خليجية في تغيير الوضع القائم. لكن كل هذه التطوّرات غابت عنها المحطة القطرية ولم تولها التغطية التي تستحقّها، هذا إن سلّمنا بأنّ الإعلام العربي ككل يتحرّك وفق مصالح سياسية، ويخدم الأنظمة، وليس كما يدّعي أنّه يتحرّك وفق تطلعات الشعوب. هذا ما يقوله طاهر الموسوي المسؤول في الأمانة العامة لجمعية «الوفاق» المعارضة.
ويؤكّد الموسوي أنّ تعاطي الإعلام العربي مع الثورة كان مخجلاً، فقد تعامل معها بازدواجية، ما يدلّ على أنّه «مسيّر من قبل المصالح ورؤوس الأموال والنفط الخليجية». ويشير الى أنّ الإعلام كان شريكاً في تضييع حقوق الشعوب كما جرى في البحرين وسوريا، إذ أسهم في تأجيج الوضع حتى دخلت البلاد في اقتتال داخلي.
ويأسف لتغطية «الجزيرة» لأحداث البحرين، واصفاً إياه بأنّه «كان معيباً جداً، فالدم الخليجي يسيل على الأرض، وهي تتجاهله. كأن شعب البحرين ليس من حقه أن يعيش أو أن يطالب بالديموقراطية». ويشير هنا إلى أنّ الإعلام يحتاج إلى ربيع عربي، شأنه في ذلك شأن الأنظمة العربية «فبعض العلاقات السياسية تحكمت بنحو غير أخلاقي في الإعلام».

شهيرة سلّوم

غضب في تونس: Dégage

في مساحة إعلاميّة ضيقة، وحيّز محدود للحرية تحكمه الرقابة على وسائل الإعلام المحلي، غالباً ما كانت القنوات التي تبثّ من الخارج، المصدر الوحيد الموثوق للخبر. هكذا، تابع المواطن التونسي القنوات العربية بشغف، وخصوصاً بعد انطلاق الاحتجاجات الشعبيّة في 17 كانون الأوّل (ديسمبر) 2010. توجّه اهتمامه نحو «الجزيرة» التي غطّت الأحداث على الأرض، رغم التضييق المفروض عليها.صورة تناقلها رواد الفايسبوك

لكنّ العلاقة الوثيقة بين المشاهد التونسي والفضائية القطريّة تغيّر نسبياً، بعد صعود أصوات تتهم «الجزيرة» بالانحياز إلى التيار الإسلامي. وفي مثال قريب على ذلك، نتذكر تغطية القناة لمسيرة الحريات في شارع الحبيب بورقيبة في يوم عيد الاستقلال في 20 آذار (مارس) الحالي. ضمّت المسيرة آلاف المتظاهرين المطالبين بدولة مدنيّة، رافضين اتخاذ الشريعة مرجعاً أساسياً في الدستور. كانت التغطية الإعلامية للتظاهرة واسعة، وكانت «الجزيرة» من بين القنوات الحاضرة. غير أنّ ردّ فعل المتظاهرين لم يكن ودوداً تجاه القناة، بل رفعوا شعارات «الجزيرة Dégage»، و«شعب تونس شعب حرّ/ لا أميركا لا قطر». وتجمهر بعض المتظاهرين حول مراسل المحطة لطفي حاجّي، معبّرين عن استيائهم من خطّ القناة الذي عدّوه «مفتقداً للحياد ومحرضاً على الفتنة».
لم تكن هذه المواقف لتظهر قبل «14 يناير». في ذلك الحين، ساد الشارع التونسي شبه إجماع على اعتبار «الجزيرة» المنبر الإعلامي الأجدر بالمتابعة. في زمن حكم بن علي، طرقت القناة أبواب المواضيع المحظورة، وفتحت هواءها أمام المعارضة التونسيّة الممنوعة في زمن كمّ الأفواه. في ذلك الوقت، نجحت حرفيّة المحطة في نقل الصوت، فاستقطبت المجتمع التونسي بمختلف شرائحه الاجتماعية. لكنّ انحيازها الواضح إلى التيار الإسلامي بدأ يغيّر المزاج الشعبي تجاهها. «الحملة التبشيريّة» التي قامت بها «الجزيرة» برزت بصفة جليّة قبل انتخابات 23 ت 1(أكتوبر) من خلال منحها مساحات كبيرة لإنجازات «حزب النهضة» وللجمعيّات الإسلاميّة الحديثة النشوء. هذا من دون أن ننسى تغطيتها للهجمات التي تعرّضت لها قناة «نسمة» بعد عرض فيلم «بيرسيبوليس»، وسينما «أفريكا آرت» بعد عرض فيلم «لا ربّي لا سيدي» لنادية الفاني. رددت القناة عبارات مثل «قلّة علمانيّة»، و«نموذج فرنسي»، و«اعتداء على الذات الإلهيّة» و«جماعات إسلاميّة متشدّدة»، و«سلفيّون». كأنّ «الجزيرة» مصرّة على تقسيم التونسيين إلى علماني ضدّ سلفي، يتوسّطهما الإسلام المعتدل ممثَّلاً بحزب «النهضة».
برز في عمل القناة نسق متصاعد بدأ في دعم الحملة الانتخابيّة لحركة «النهضة» قبل 23 تشرين الأول (أكتوبر)، تلاه التعتيم على الاحتجاجات، ما ولّد لها أعداء في المجتمع التونسي ممّن لا يتردّدون في إطلاق تعليقات ساخرة من نوع «70000 مشارك في مسيرة الاستقلال و«الجزيرة» ستقول لكم كانوا ثلاثمائة والبقيّة من المارّة». في المقابل، لا تتردّد المحطة في تضخيم صورة التظاهرات ذات التوجّه الإسلامي مثل تسليط الضوء على مسيرة لمجموعة صغيرة من السلفيين أمام «المسرح البلدي». وقامت هنا بتركيز الكاميرا من الخلف، بطريقةيظهر فيها كلّ من دفعه فضوله لأن يقف ويتفرّج، كأنّه يشارك في التظاهرة!
تزامن هذا النفور من «الجزيرة» مع ما شهده المجتمع التونسي من تجاذبات حول علاقة الحكومة التونسية بقطر، وتنظيم مؤتمر أصدقاء سوريا في تونس بإشراف قطري. كلّ هذه المعطيات أزّمت الموقف من القناة الشهيرة، يضاف إليها موقف الشارع التونسيّ ممّا يحدث في سوريا، وترجيح جزء مهمّ منه إلى تبنّي نظريّة المؤامرة واتّهام «الجزيرة» بالعمالة والمساهمة في «تخريب استقرار سوريا وأمنها». وما زاد الطين بلّة انتشار صور على الفايسبوك تفصّل عمليّات التركيب والفوتوشوب التي قامت بها «الجزيرة» لاحتجاجات سوريا وليبيا.

أمل جربي

 

... والبحث جار عن بديل في مصر
 هل كانت «الجزيرة» ستثير كلّ هذا الجدل لو كانت لها قنوات محليّة منافسة في العالم العربي؟ نظرة متأمّلة على المشهد الإعلامي المصري الراهن، تشي بالكثير بشأن العلاقة الشائكة بين المحطة القطرية والأنظمة العربية. بالتأكيد، لو فشلت الثورة المصرية، لخرجت «الجزيرة» من مصر. الكل يدرك هذه الحقيقة. المكانة التي كسبتها القناة في المحروسة بعد ثورة «25 يناير»، كانت متوقعة ومنطقية. هي المحطة الوحيدة التي انحازت إلى الميدان بنحو مطلق. لم يكن وجود «بي بي سي عربية» بالحجم نفسه، أما قناة «العربية» فلم تعلن يوماً انحيازها إلى الثورة، بل كانت في أوقات كثيرة لسان حال مبارك ورجاله. أمّا القنوات المصرية الحكومية والخاصة، فأدّت أدواراً معادية للثورة، باستثناء قناة «أون تي في» التي تميّزت بجرأة مساندة الهبّة الشعبية ضد نظام مبارك.
بعد انتهاء الثورة، ظن كثيرون، وخصوصاً الأطفال، أنّهم سيعتزلون نشرات الأخبار إلى الأبد. لكنّ الأحداث سارت في الاتجاه المعاكس، وكان إطلاق قناة «الجزيرة مباشر مصر» دليلاً على أن البلاد ستشهد حراكاً أكبر من الذي شهدته خلال الثورة. ومع استمرار المليونيات الأسبوعية، وسقوط الحكومات، ودخول مبارك قفص الاتهام، ظلت «الجزيرة مباشر مصر» صامدة وتتطور، مستعينةً بفريق كبير من المراسلين والمعدّين، وحاصدةً تعاطف مختلف التيارات السياسية. وجاء إغلاق مكتبها في القاهرة خلال شهر أيلول (سبتمبر) الماضي ليزيد من درجة التعاطف معها.
لكنّ الانتقادات طاولت القناة بسبب طبيعة علاقتها بـ«الإخوان المسلمين»، وانتماء العديد من العاملين فيها إلى صفوف الجماعة. بعد انحسار الثورة، لم تحافظ «الجزيرة» على حيادها الكامل بحسب منتقديها. هكذا لم تحضر كاميراتها بكثافة في الفعاليات التي يقاطعها «الإخوان المسلمون» سياسياً، ما عدّه المنتقدون سحباً للبساط من تحت أقدام تيار شعبي كبير، كان لا يزال ينادي باستمرار الثورة.
غير أن الصورة اختلفت من زاوية أخرى، عندما أدرك القائمون على الإعلام المصري أن انتقاد «الجزيرة» لن يمنع الجمهور من متابعتها. حتى المناهضون لسياسة القناة القطرية، يهتمون بمعرفة ما تقدمه في كل حين. وبالتالي، كان البديل خلق إعلام محلي بديل. هكذا، زادت قناة «أون. تي. في.» من نشراتها الإخبارية، ووسّعت شبكة مراسليها في الأقاليم، ثمّ أطلقت قناة «أون لايف». كذلك نجحت قناة «سي. بي. سي» في نقل صور حيّة للصدامات التي وقعت في محيط وزارة الداخليّة، الأمر الذي فعلته معظم القنوات الخاصّة باستثناء «الحياة».

محمد عبد الرحمن

مرآة المصالح القطرية

بدأ الحضور البارز لـ«الجزيرة» في البحرين عام 2005. عُيِّن الإعلامي محمد الشروقي مراسلاً مؤقتاً للقناة، وكانت كاميرتها حاضرة بتقارير يومية عن اعتقال المدوّنين. كان هذا كفيلاً بعدم التجديد للشروقي وإسقاط هذا الخيار. لم يكن لـ«الجزيرة» مكتب في البحرين في يوم من الأيام. لكن سلطات البحرين جمّدت نشاط صحافيي القناة في 19 أيار (مايو) 2010 عندما أذاع أحمد بشتو تقريراً عن «الفقر في البحرين» ضمن برنامجه «الاقتصاد والناس». لكن الغريب أنّ ذلك لم يؤثر في سياسة «الجزيرة»، «راعية الثورات»، في تعاطيها مع ثورة جارة ستندلع بُعيد ذلك بأشهر قليلة.

بعد تونس والقاهرة، جاء موعد المنامة في 14شباط (فبراير) 2011، أغرق الناشطون البحرينيون القناة القطرية وحسابها على تويتر بفيديوات التظاهرات والانتهاكات وقمع السلطة. نقلت «الجزيرة» الأخبار بحذر شديد، وكان سوراً ما يؤطّر تغطياتها. وتحت إلحاح النشطاء ووطأة الحدث، طلبت المحطة إيفاد مراسلها إلى البحرين، إلا أنّ السلطة اشترطت أن يكون غسان أبو حسين!
بدا الحراك البحريني عارماً، كان نصف الشعب في الشارع، لكن سياسة المحطة القطرية أصرّت على اعتباره أحداثاً لا ثورة. خصص أبو حسين نصف تقاريره لوجهة النظر الرسمية أمام زخم المسيرات والحدث، بينما اشتكى النشطاء من ضآلة الوقت المخصص لأحداث البحرين، واستاءت القوى اليسارية والليبرالية المنخرطة في الحراك من وصفها بالشيعية.
كنت أقارن التقارير التي تخرج من البحرين بالمشاهد الحية التي تلتقطها عدسة «الجزيرة» من الطبقة السادسة في فندق العباسية في ميدان التحرير في القاهرة. ادّعت المحطة أن إمكاناتها لا تعينها على النقل الحي من البحرين، فأمدّها النشطاء بالصور الحية من أبراج اللؤلؤة المطلة على الميدان من دون جدوى! استمر الوضع على هذه الحال حتى دخول قوات درع الجزيرة، وصار أبو حسين خارج الخدمة... فجأة!
قناة «الجزيرة» الإنكليزية تعاطت بطريقة مختلفة مع الثورة. كان فريقها أكثر التصاقاً بالنشطاء الذين حموهم، وحصلوا على أهم مشاهد ثورة كان عطاء الدم فيها لا يتوقف، وكان رصاص الجيش وقمع السلطة فيها كباقي الأسلحة، لا يعرف الأديان والطوائف إلا مع التقارير التي تودّ ذلك.
استمر النشطاء بمدّ «الجزيرة» بالمواد الإعلامية. وجدت هذه الأخيرة طريقها إلى القناة الإنكليزية فقط. نقلتُ هذه الملاحظة إلى الأستاذ غسان بن جدو في نهاية آذار (مارس) 2011. يومها، أبلغني استياءه من «الجزيرة» التي كان عازماً على مغادرتها، وهكذا كان.
بعد عام على الحراك المستمر، تتذرع القناة بعدم وجود مكتب لها يعينها على تغطية أحداث البحرين، حقاً؟! يظن السامع أنّنا سنتعثّر بمكاتب «الجزيرة» في ربوع سوريا التي تمتد تغطيتها في نشرة الأخبار إلى نصف ساعة أحياناً، وعلى ثوار البحرين أن يفرحوا بـ25 ثانية يخصص نصفها لوجهة النظر الرسمية في محطة «الرأي والرأي الآخر».
على النقيض من ذلك، كانت «الجزيرة» الإنكليزية حاضرة في البحرين ببرامجها وتقاريرها الإخبارية. ولا يزال شريطها الوثائقي «البحرين... صراخ في الظلام» يحصد الجوائز، وآخرها جائزة «جورج بولك» الدولية التي قدمت للصحافية ماي ولش والمنتج حسن محفوظ. الوثائقي نفسه وصفه وزير خارجية البحرين الشيخ خالد بن أحمد آل خليفة بـ«المكيف»، وأضاف عبر حسابه على تويتر: «من الواضح أنّ في قطر مَن لا يريد خيراً للبحرين. وما الفيلم المكيّف في «الجزيرة» الإنكليزية سوى خير مثال على العداء غير المفهوم».
وعبر تويتر أيضاً، جاء رد سفير قطر لدى البحرين الشيخ عبد الله آل ثاني (بو ثامر): «يستغل العاطفة ليزيد في نشر سمومه، فلا يتورع في ذلك حين يذكر أن هناك من يضمر السوء في قطر. (...) أحترم البحرين ملكاً وحكومة وولي العهد وشعباً غالياً على قلبي عشت معه لإحدى عشرة سنة (...) تعلمت الكثير فيه وله كل احترامي. أما من يتطاول على قطر ورموزها، فسأردّ بتوضيح الحقائق باحترام، ولن يعنيني السفهاء». التقطت صحيفة «الراية» القطرية خيط الأزمة، فخصصت افتتاحيتها للرد: «الإخوة هناك صبّوا جام غضبهم ليس على القناة، بل على دولة قطر الرسمية باعتبارها، حسب زعمهم، المحرّض الأول على بث الفيلم والموجّه الحقيقي لسياسة «الجزيرة» ككل»، وهو ما يختصر العلاقة بين «الجزيرة» وكل الأطراف البحرينية.
لا يمكن قراءة «الجزيرة» بعيداً عن السياسة. تلف قطر حبال الجزيرة حول السياسة. أما في البحرين، فإنّ سياسة قطر تلف حبالها حول «الجزيرة». يمكن توسّل الأعذار لهذه الثنائية التي أرادت أن «تلعب» دوراً مؤثراً طيلة شباط (فبراير) وآذار (مارس) الماضيين. وفعلاً، تقدمت الحكومة القطرية بمبادرات سياسية رفضت سعودياً. بل كان رئيس الوزراء ووزير خارجية قطر حاضراً في المشهد البحريني حتى اللحظات الأخيرة قبل اقتحام ميدان اللؤلؤة. لكن بعد عام على القمع المستمر، لا يصح اعتبار ذلك ذريعة لامتناع القناة العربية عن أداء واجبها الإعلامي مع الزهرة المنسية في الربيع العربي.

حسين يوسف

المصدر: الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...