ما هو التاريخي التراثي في مدننا؟ ولماذا نحافظ عليه؟

30-01-2009

ما هو التاريخي التراثي في مدننا؟ ولماذا نحافظ عليه؟

ما هي المدن التاريخية في التعريف؟ وما هو التراث؟ وغالباً ما نجد المفردتين، في عناوين ندوات متخصصة، تسلّط الضوء على التحديات التي تواجه المدن التاريخية والتراثية، وأخرى تطرح إشكاليات الحفاظ على التاريخي التراثي المتبقي في هذه المدن. وما يهمنا نحن المعماريين العرب من البحث في هذا التعريف، وبعيداً عن أي ادعاءٍ معرفي معمَّقٍ في علم التاريخ، هو وعينا، بأن كل المكتشفات الأركيولوجية منذ نشأة هذا العلم حتى يومنا هذا، تؤكد أن منطقة الشرق الأوسط العربي، هي المهد الأكيد الذي شهد ولادة المدن الأولى في التاريخ. مشهد من حلب
فمنذ الألفية الرابعة قبل الميلاد، في الجنوب عند ملتقى نهري دجلة والفرات، وإلى الشمال في منطقة الوسط بين النهرين، أي في ما عرف بمنطقة الميزوبوتاميا، تكونت مجموعاتٌ مبنيَّةٌ، تميَّزت بأنماطٍ من »التنظيم المديني« يحدِّد وسط هذه المجموعات، بصفته مركزاً يشكِّل قلبها، فيه مبانٍ دينية وأخرى مدنيَّة مختلفة، من بينها مباني الحكم.
وفي الألفين التاليين، وربما قبل ذلك، انتشر هذا »التنظيم المديني« في معظم أرجاء المنطقة، فنشأت مدنٌ كانت عواصـمَ لتنظيمات إقليمية مثل سومر، وبابل، وإبلا، وأخرى تجارية على الشاطئ الكنعاني ـ الفينيقي في جبيل (بيبلوس)، وأوغاريت، وصور، وغيرها، ليصل بعد ذلك إلى المدن المعابد في وادي النيل، مثل ممفيس والكرنك.
وإذا كان بعض هذه المدن قد تحوَّل إلى أطلالٍ، فإن حالاتٍ من الاستمرار العنيد لا تزال تُشاهد اليوم في دمشق، وجبيل (بيبلوس )، وصور، وغيرها. ومن عناصر الاستمرار المميزة، هو البيت المكعَّب المنَّظم حول فناء داخلي مفتوح تدخله السماء، وهو نموذج من السكن انتشر خلال العصور القديمة في كل أرجاء الشرق الأوسط العربي، ولا يزال موجوداً بكثافة حتى يومنا هذا.
وفي زمن قصير نسبياً، لم يتعدَّ القرن الواحد إلا بقليل، انتشر الإسلام حتى وصل إلى اسبانيا والهند. ورافق هذا الانتشار، ازدهارٌ مديني قلَّ نظيره. ومهما كانت النِظرة إلى هذا الازدهار المديني، في أصوله وميزاته، فالمؤكد أنه قرابة نهاية الألفية الميلادية الأولى، كان في الوطن العربي، المجموعة المدينيَّة الأكثر عدداً في العالم. إذ كان فيه آنذاك، ما يقارب العشر مدن التي يتعدَّى عدد سكَّانها مئة ألف نسمة.
ـ ففي مشرق الوطن العربي، شُيِّدت على التوالي، البصرة في العام ٦٣٥ م، والكوفة في العام ٦٣٨ م، والفسطاط التي بناها عمرو بن العاص في العام ٦٤١ م، وكانت النواة الأولى لبناء القاهرة.
ـ أما في المغرب العربي، فبنيت القيروان في العام ٦٧٠ م وقد بناها عُقْبة بن نافع، وبعدها المونستير وسوسه والمهديَّة. واستمر الحراك باتجاه الغرب، فبنيت فاس في العام ٨١٠ م، ومرَّاكش في العام ١٠٧٠ م. هذا في مجال المدن الجديدة. مع التأكيد بالطبع، على التطور المديني الاستثنائي الذي شهدته مدن المشرق العربي العريقة، مثل حلب، ودمشق، والقدس، وانطاكية، (التي كانت لنا)، وغيرها.
لقد شكَّلت التعاليمُ، والقواعدُ العامة للسلوك، التي أرساها الإسلام في حياة الناس، الأُسسَ التي قامت عليها حياةٌ مدينيةٌ جديدة. وأَنحازُ دون تردُّد، إلى الموقف الذي يرى أن هذه المدن العربية الإسلامية، تجسِّد بحقٍّ، طابعاً خاصاً مميزاً، ونموذجاً أصيلاً، لما ستكون عليه المدن العربية الإسلامية، التي تألقت في القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين.
لقد ارتكز هذا النموذج المديني العربي الإسلامي، على قراءة ترى أن تنظيم المجال مدينياً، يقوم على مركزٍ لا تشيَّد فيه إلا المباني العامة بشقيها الديني والمدني، بالإضافة إلى مباني الحكم. أما المناطق السكنية فتتوزَّع في الأطراف، محدَّدة بطرقٍ تربطها بالمركز. إن في هذه القراءة رؤيةً لاستمرار موروثٍ مدينيٍّ عربي في المدن الإسلامية الجديدة، آت من اليمن ومن الحجاز. والصفةُ التاريخية لهذه المدن، تقوم على ركائز ثلاث:
[ الأولى : أنها نماذج لمدن تاريخية قطعت مع النماذج المدينية القائمة في زمنها، وأسَّست لنماذج مدينية جديدة واضحة الإِصالة.
[ والثانية: أن أجزاء هامة منها، استمرت عبر التاريخ، ووصلتنا بخاصيَّاتها رُغم كل التحدِّيات.
[ والثالثة: أن الناس يعيشون اليوم في هذا الإطار التاريخي الموروث. إنها أمكنةٌ مميَّزة للسكن، وللنشاط الاجتماعي المتعدد الأوجه.
فالأهرام آثارٌ، والبتراء أثرٌ، وقلعة حلب أثرٌ.
أما القاهرة القديمة حيث يعيش ويعمل ما يزيد عن مليون نسمة، وحلب القديمة حيث يعيش ويعمل كُثرٌ أيضاً، وصيدا وطرابلس القديمتان (في لبنان)، إن هذه الأجزاء من المدن، هي أجزاء مدينية تاريخية بامتياز.
ـ٢ـ
التراث، والتراثي.
أما التراث في اللغة العربية، فهو ما يخلِّفه الإنسان لورثته. وأصل الكلمة وُرثٌ أو وُراثٌ (بضم الواو)، فأُبدلت الواو بالتاء وصارت تُراثاً. والتراثُ في لغة العرب مرة أخرى، يُطلق على ما نرثه من الأجيال السابقة. والتراث الحضاري، هو مجموع ما ورثناه من منجزاتٍ مبنيَّةٍ، ومن أفكارٍ ومفاهيمَ وقيمٍ وتقاليد، تشهد كلُّها على نِظرةِ من سبقونا إلى الحياة، وموقفهم منها. تراثٌ ماديٌّ، من مبانٍ وأدوات ومنقولات وغير ذلك... من جهة، وتراث معنويٌّ روحيٌّ انطبع في وجدان الناس، من جهة أخرى.
والتراثُ المديني والمعماري، هو الإرث الحضاري لمجتمع ما. فالمدينة، والعِمارة، هما مرآة هذا المجتمع، وتجسيدٌ له. والإرث هذا، هو وثيقةٌ تاريخية، وحقيقة ثقافية.
وانطلاقاً من هذه القيم، تُحدَّدُ مكانةُ أجزاءِ المدن التاريخية والتراثية في حياة الناس، وتَتحدَّد أساليبُ التعامل مـع هذه الأجزاء، وسياساتُه. وكلُّ ما نقوم به، يهدف إلى إطالة حياة هذا الإرث الثقافي الهام، لنُبرزه، ونؤكِّد قيمته الحضارية لنا، وللإنسانية جمعاء. فنحافظُ عليه، أي نمنعُ تدهوره نتيجة الظروف المناخية، أو نتيجةً لتصرفات الناس، ونهتمُّ بإبراز تميُّزه، وفرادة حضوره في الثقافة الإنسانيـة، ونجعله موضع عناية
وقائية مستمرة تطالُ النسيجَ المبنيَّ وكلَّ ما يحوطه في المكان. إن هذه المقاربة تفترضُ منهجاً يقوم على مناسيبَ ثلاثة:
ـ الأول : المحافظةُ على هذا الإرث الثمين، نحميه من أي تغيير قد يهدِّده، ونُبعد عنه التعديات والأخطار.
ـ والثاني: ترميمُه، مدركين بدقَّة، التراكم الظاهر فيه، عبر اجتيازه مراحل تاريخيةٍ متعاقبة، حملت كلُّ مرحلة منها طابَعَها الخاص، وعِمارَتَها لغةً ومفردات.
؟ والثالث: تأهيله وإعادة استعماله، مع تحديدٍ دقيق للاستعمالات الجديدة الممكنة له، وللتغييرات المقبولة فيه، والتي قد تتطلِّبها الاستعمالاتُ الجديدة.
ـ٣ـ
بأية حال وصلتنا الأجزاء التاريخية في بعض مدننا؟
معظم المدن الهامة إذاً في الوطن العربي مشرقاً ومغرباً، هي مدنٌ تاريخيَّة، انتقلت إلينا أجزاؤها كما كانت عليه عند تشييدها، حاملةً معها تحولاتٍ مدينيةً متواصلة لا قطع فيها. وظلَّ مركزُها قلبُها يقوم بوظائفه الثلاث التي أنشئ من أجلها، وهي الوظائف الدينية، والمدينية التجارية، ووظيفة الحكم. إذ نجد في مراكز معظم هذه المدن، الجامع الكبير ومساجد أخرى أصغر منه، ومباني الحكم، والأسواق. ومن هذا المركز تنطلق الطرق المستقيمة أحياناً، والمتعرِّجة كالمتاهات أحياناً أخرى، إلى الأحياء السكنية في الأطراف. وتميَّزت الأجزاء التاريخية هذه، بخاصياتٍ عديدةً هي ثمرةُ تكاملها مع بيئتها الطبيعية والثقافية. إنها خاصياتُ الإِصالةِ والانتماء، التي لا تزال واضحةً إلى الآن، أذكر بعضَها مكرِّراً:
[ تمركزُ النشاطات التجارية في الأسواق التقليدية وحولها.
[ تواصلُ النسيج المبني كثيفاً ومتلاصقاً، مما جعل الأجزاء التاريخية من المدينة، مجالات للمشاة.
[ ديمومةُ الدلالات على الطابع الإسلامي للمدينة، يعبِّر عنه تعدُّد المساجد، والمدارس، وبعض مكمِّلات العبادة، مثل أقنيةِ المياه والنوافير.
[ وتعدُّدُ الإجاباتِ المبدعةِ في التنظيم المديني وفي العِمارة، والتي تُعالج مسألة الحرارة الحارقة في الأمكنة.
ـ ومن هذه الإجابات، ضيقُ الدروب وتعرُّجُها، بما يؤمِّن تعدُّد الفُسحات المظلَّلة، وحمايةَ الواجهات من أشعة الشمس من جهة، ويسمح للهواءِ وقد انخفضَت حرارتُه ليلاً، بالاحتفاظ بهذه الحرارة المنخفضة خلال الساعات الأولى من الصباح، من جهة أخرى.
ـ ومن هذه الإجابات أيضاً، الأفنيةُ الداخليةُ المفتوحة، التي تشكِّل رُبع المساحاتِ المبنيَّة، وابتكارُ وسائلَ إضافية للتهوئة، مثل ملاقف الهواء تعلو فوق السطوح، كما في بعض مدن الخليج العربي العتيقة.
[ والاستعمال المنهجي للسطوح المسوَّرة، كملاحق للسكن خلال فصل الصيف.
إلا أن الاحتلال الكولونيالي حَّل عندنا باكراً. في الجزائر في العام ،١٨٣٢ وفي عدن في العام ،١٨٣٧ وفي أوائل العشرينيات من القرن الماضي أي مع انتهاء الحرب العالمية الأولى، (في سوريا ولبنان وفلسطين ومصر، والعراق) وغيرها فـي المشـرق والمغـرب العربيين. قطـع الاحتـلالُ الكولونياليُّ بشكـلٍ فـجٍّ التطور الطبيعي لمدننا الذي استمر متكاملاً مع بيئتها الطبيعية والثقافية قروناً، وأسقط فوق النسيج المبني التقليدي لهذه المدن، تنظيماً مدينياً مستورداً صمَّمه منظِّموا المدن الذين جاؤوا معه.
ـ فحاصر مدينة عدن التاريخية (كريتر كما سمِّيت)، في موقعها الطبيعي لصيقة الصهاريج حيث تُجمع مياهُ الاستعمال من السيول الموسمية، وبنى مدينته ممتدة على طول الواجهة البحرية.
ـ وهدم أجزاءً كبيرة من النسيج التقليدي المبني في بيروت، وبنى فوق الركام مدينةً كولونياليةً مستوحاةً من النمط الهوسماني الباريسي في شبكة الطرق، وفي العِمارة.
ـ وكان القطعُ الفجُّ في تواصل النسيج المبني المديني من نصيب تونس (العاصمة)، والجزائر (العاصمة)، والدار البيضاء، ودمشق، وحلب، وغيرها من مدننا التاريخية.
ـ وفي لهاثها وراء الحداثة بعد الاستقلال، لجأت السلطاتُ الوطنيَّة، إلى منظِّمي مدنٍ من البلدان التي كانت تستعمُرنا. جاء أيكوشار، وإيغلي، وبانشويا، ودوكسيادس، وغوتون، وغيرهم كثرٌ. جاؤوا حاملين ميثاق أثينا الذي صاغه المعمار الفرنسي لوكوربوزييه، ومخطَّطات التنظيم المديني المعروف »بالحديث« ومعهم الجَّرافات، ليحوِّلوا مدننا إلى أرض محروقة، يقيمون فوقها مدناً تنقلنا إلى »جنَّة الحداثة«، التي ما زلنا إلى اليوم، نلهث للحاق بها، وإن بعد سقوطها.
إلا أن مقاومة محليَّة عنيدة انتصبت هنا وهناك، واستطاعت أن تحدَّ من النتائج الكارثية لهذه المخططات، وتَّمت المحافظة على أجزاء هامة من مدننا التاريخية. وكل الأرقام التي ستلي، هي أرقامٌ تقريبية أذكرها للدلالة فقط.
[ ففي تونس مثلاً، تغطِّي المدينة القديمة (القصبة) وبعض ضواحيها، مساحة تقدَّر بمئتين وسبعين هكتاراً، ويسكنها ويعمل فيها ما يقارب المئتي ألف نسمة. وقد تمكنت »جمعية الحفاظ على المدينة القديمة« التي أنشئت في العام ،١٩٦٧ بالتعاون مع اليونسكو، من التصدِّي لمخططات التهديم الكارثية، فحمت المدينة القديمة وسجّلتها في لائحة التراث المبني العالمي.
[ ثمة حالة مشابهة في مدينة حلب، حيث تُغطي المدينة القديمة مساحة تصل إلى حدود الأربعمئة هكتار، تتجاور فيها بحضورٍ مدهشٍ، المعالم المعمارية الزِنكيَّة، والأيوبيَّة، والمملوكية، والعثمانية. لقد سُجِّلت المدينة القديمة في لائحة التراث المبني العالمي، ولم ينفَّذ من المخطَّطات الكارثية، سوى مشروع باب الفرج، وهو موضع نقد شديد في حلب اليوم.
[ وفي فاس في المغرب، سُجِّلت المدينة القديمة منذ العام ١٩٧٦ على لائحة التراث المبني العالمي. وتبلغ مساحتها ستمئة هكتار، ويعيش فيها ما يُقارِب المئتين وخمسين ألف نسمة، من أصل مليون ونصف يسكنون فاس بكاملها.
[ وقد سُجِّلت القاهرة التاريخية على لائحة التراث المبني العالمي في العام .١٩٧٩ وهي نموذج حي عن تراكم تاريخي، لحقبات مختلفة في الحضارة الإسلامية، إذ نجد فيها المعالم المعمارية الفاطمية، والأيوبية، والمملوكية، والعثمانية. ويبلغ عدد هذه المعالم ستمئة معلم، وعدد السكان التقريبي في القاهرة التاريخية يبلغ مليون نسمة.
[ وفي الجزائر العاصمة، تشكِّل المدينة القديمة أي (القصبة) نواة المدينة بكاملها. وقد شُيِّدت على تلة منحدرة تُشرف على البحر فيها ألف وسبعمئة مسكن، منها ألف ومئة مسكن، تعود إلى الحقبة العثمانية، يسكنها حوالى سبعين ألف نسمة.
[ أما في بيروت، فتقدَّر مساحة بيروت التاريخية بمئة وعشرين هكتاراً، وقد هدَّم الكولونياليون أجزاء كبيرة منها، وعبّدوا شوارع جديدة حملت أسماء كبار الضباط، غورو، وفوش، وكليمانصو، واللنبي، وويغان، وسبيرز وغيرهم. وبنوا بمحاذاة هذه الشوارع، مدينة كولونيالية جديدة على الطرز الهوسماني، الذي ساد في باريس في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وانتشر في أوروبا كلها. وجاءت سوليدير وهدمت خمسة وثمانين بالمئة من قلب بيروت التاريخي، أي كل ما بقي من الإرث المملوكي والعثماني، وهجَّرت مئة وخمسة وثلاثين ألف نسمة كانت تعيش أو تعمل فيه.
ـ ٦ـ
لماذا نحافظ اليوم على الأجزاء التاريخية الباقية في مدننا؟
لماذا نحافظ اليوم على الأجزاء التاريخية الباقية في نسيج مدننا؟ التي تكاد تضيع وسط النسيج المعاصر المتمدِّد بلا حدود، وغالباً بلا طابع، وبلا هوية.
نحافظ علـى هـذه الأجـزاء التاريخية، لأنها جزءٌ هام من تراثنا، من الإرث الثقافي المادي والمعنوي الذي وصلنا، بعد أن اجتاز قروناً من التحولات العميقة. نحافظ عليه بعد التغيير فـي المفاهيم المتعلقة بتعريف التراث، منذ ميثاق البندقية (فينيزيا) الذي صدر في العام ،١٩٦٤ وتأسيس الإيكوموس (المجلس الدولي للمعالم والمواقع)، الذي أنشئ في العام ،١٩٦٥ والمواثيق الدولية الأخرى التي تلت ميثاق البندقية، مروراً بميثاق واشنطن الذي صدر في العام ،١٩٨٧ ووصولاً إلى ميثاق السياحة الثقافية الدولية، الذي أُقِرَّ في المكسيك في العام .١٩٩٩
[ لم يعد التراثُ، بعد تطور المفاهيم حكراً على المنشآت الاستثنائية، التي تحتل موقع »النخبة« في فعل البنيان. فهو أيضاً مبان أكثر تواضعاً، أمضت فيها أجيالٌ سبقتنا كلَّ حياتها أو جزءاً منها، وتركت شواهدَ على مرورها فيها.
[ لم يعد التراث معالم فردية فقط، وصروحاً مميَّزة، بل أصبح أيضاً مجموعات من المباني تمَّ الحفاظُ عليها بقرارٍ أو بالصدفة. وهي جزءٌ من نسيجٍ كوَّن شبكةً متينةً، ومجموعةً فريدةً، تشكِّل بذاتها، شهادةً بليغةً على طرق البناء وأنماط العيش، في مدنِ وريفِ الأزمنة السابقة.
الأجزاء التاريخية في مدننا هي تراثية بامتياز، إنها جزء هام من الإرث الأصيل، ولهذا الإرث قيمٌ متعددة. لذلك ندافع عنه ونجهد للمحافظة عليه بكل الوسائل، دفاعاً عن القيم التي تتجسَّد فيه.
[ وأولى هذه القيم هي القيمة الجمالية: فمن السهل التأكيد أن القصورَ والدورَ في فاس ومرّاكش هي مبان جميلة. وأن الجامع الأموي في دمشق، وجامع عقبة بن يافع في القيروان، هي مبان جميلة أيضاً. ومن البديهـي القول إن الدور السكنية في حلب، والمساكن العتيقة في دمشق، في بيروت وفي القاهرة، هي مبان جميلة. ومن البديهي الجزم، أن النسيج المبني في مدننا سوف يكون رتيباً مملاً مضجراً، إذا أزيلت منه كلُّ الأعمال المعمارية الرائعة، التي أُنفق فيها المزيد من الوقت، والمزيد من الخبرة والمهنية، بحيث أُضيف إلى القيمة الاستعمالية لهذه المباني، هذا الجزء من الروح الخاصة، وهي القيمةُ الاستاتيكية أو الجمال.
المسألةُ الأولى في الحفاظ على التراث، هي الحفاظ على الجمال الذي يختزنه.
[ القيمة الثانية، هي القيمة التاريخية: التراث الصرحي أو العادي، هو شهادةٌ من الماضي. انه استمرار الماضي في الحاضر، ومصدر معرفته، وهو بالتالي قيمةٌ تاريخية. ومعرفةُ الماضي هي ضرورةٌ لتوازن المجتمـع. لن نكون عرباً إذا لم نفهم تاريخنا العربي الإسلامي، بكل ما أُنتج فيه، وبكل الأفعال الإبداعية التي تراكمت في هذا التاريخ الطويل، وتركت أثراً أكيداً في الإنسانية جمعاء. لنتصور ولو للحظة، أن جامع أحمد ابن طولون في القاهرة قد زال من الوجود، أو أن قصور مرّاكش وفاس ابتلعها زلزالٌ عنيف. إن صفحاتٍ كاملة من تاريخ منطقتنا لا بل من تاريخ البشرية، ستزول لو زالت هذه المعالم.
التراثُ التاريخي، هو مصدرُ رئيسٌ لمعرفة تاريخنا، أي لتاريخ البشرية جمعـاء.
أن نُزيل هذا التراث ـ التاريخ، هو أن نَمحو من ذاكرتِنا، ومن ذاكرةِ الإنسانية جمعاء، صفحاتٍ ضروريةً لفهم هذه الذاكرة، ولتقديرها بشكل صحيح، لأن كل تصرفاتنا وقراراتنا ترتكز على ثراء ذاكرتنا.
[ القيمة الثالثة هي القيمة المدينية والمعمارية: أخشى التكرار إذا قلت، إن تراثاً في التنظيم المديني في حلب التاريخية، وفـي دمشق، وفي تونس العاصمة، وفي غيرها مـن الأجزاء التاريخيـة فـي مدننـا، في التنظيم المديني هذا، تلتقي عبقرية التأليف مع عبقرية المكان، فتُنتِجُ هذا الكلَّ المتكاملَ، واسمُه التنظيم المديني التقليدي التراثي، والعمارة التقليدية التراثية.
لن أكرر ما قلتُه حول الدروب المتعرِّجة وما تُنتجه في تنظيم المجالات.
ـ سأكتفي بالإشارة، إلى المفاجآت الحلوة، التي تصادفها وأنت تسير في الدروب، وفي المتفرِّعات تُخرجك من الدرب الرئيس إلى مساراتٍ مقفلة توصلُك أحياناً إلى أبواب البيوت، أو تُعيدُك إذا سلكتها، الى الدرب الرئيس الذي انطلقت منه.
ـ سأكتفي بالإشارة إلى الجدران الصماء تنبت من البلاط الذي تسير عليه. الدربُ مليء بالمارة، تحوطك الجدران وكأنها لوحة تجريدية تنظِّمها برؤيةٍ راهنة الأبوابُ المتباعدة، والنوافذ الصغيرة، والمشربيات الخشبية الناعمة.
ـ سأكتفي بالإشارة، إلى إيقاع أبواب المساجد في امتدادٍ لا يزيد عن بضع مئات من الأمتار. بابُ المسجد من الحقبة الزنكية هنا، وبعده بأمتارٍ معدودة، بابٌ لمسجدٍ آخر من الحقبة الأيوبية، يليه بعد أمتار قليلة، بابٌ لمسجد من الحقبة المملوكية. الدلالاتُ كلها واحدة، وارتفاع الأبواب يكاد يكون واحداً. إلا أن الزخرف المحفور في خشب الأبواب مذهلٌ في اختلافاته، وتنوُّعاته. ويختلف الأمر عند وصولك إلى درب فرعـي ضيق. تدخُله، تصعدُ درجاً في فُتحةٍ يتدفَّق منها ضوء النهار شلاَّلاً، فيوصِلُك الدرجُ إلى فناء فسيح مشجَّرٍ في أطرافِه، وفي الواجهة أمامك مسجدٌ جميلٌ من الحقبة العثمانية. اجتزتَ في التاريخ قروناً، في مسيرةٍ هادئةٍ قصيرة، في دربٍ تنظِّم بياضَ جدرانه على الجانبين، الأبوابُ، والنوافذ المزيَّنة، والفتحات الصغيرة.
ـ سأكتفي بالإشارة إلى الفناء الداخلي في بيت دخلتُه. الفناء مبلَّط، أطراف الفناء يرسُمها بلاط مزيَّن. في وسطه نافورة ماء، وفي أحد أطرافه شجرةٌ باسقةٌ وحوضُ زهور. وكأن في هذا التأليف روحاً تزرع الحميمية والدفء، في العلاقات بين أفراد الأسرة التي تسكن البيت.
[ القيمة الرابعة، هي القيمة الاجتماعية: تناولتُ في فقرات سابقة، الأجزاء التاريخية التراثية في مدننا، ورأيت فيها نسيجاً مبنياً فريداً في إصالته، كما رأيت في عمارته، عمارة مميزة أيضاً. وأسهبتُ بعد ذلك في الكلام عن قيمته الإستاتيكية، عن جماله. وتوقفتُ عند واقعٍ هامٍ يُفيد، بأن هذا النسيج الجميل ليس أطلالاً مهجورة، أو خراباً تسكنه الغربان، أو مجموعةً من المباني، موجودةٌ لأهدافٍ مشهدية نزورُها كمـا نزورُ المتاحف. إنه نسيج حيٌّ، الناسُ يسكنون فيه ويعملون، ويختلف عددُهم من مدينة إلى أخرى. إلا أن اللافت دائماً، هو أن الكثافة السكانية فيه مرتفعة جداً، مقارنةً مع الكثافة السكانية في أجزاء المدينة الأخرى. هذه هي الحال في صنعاء التاريخية وفي حلب، في دمشق وفي القاهرة، في فاس وفي تونس (العاصمة) وفي الجزائر، وفي كل الأجزاء التاريخية من مدننا.
يتملَّك الناس الأمكنة التي يعيشون فيها لمدة طويلة، فتنشأ بينهم علاقات إنسانية لصيقة إنسانيتهم، علاقاتُ الصداقةِ والنفور، المَودَّة والعداء، الحبِّ والكراهية، القسوة والتسامح. تنشأ بينهم خلال الإقامة الطويلة في الأمكنة هذه، علاقاتٌ عاطفية متنوعة تنمو مع الزمن، تتحوَّل معه، وتتغيَّر. كما تنشأ ايضاً خلال الإقامة الطويلة، علاقاتٌ موازيةٌ ينسجها الناس مع الأمكنةِ حيثُ يُقيمون. يألفون المباني، يندمجون في المجالات، يتلاقون في المقاهي، في الدكاكين وفي الساحات، وينتظرون الربيع، ليروا الأشجار وقد اكتست بثيابٍ طرَّزتها الزهورُ المتعددة الألوان. إن استمرار هذه العلاقات، هو ضروريٌّ لتوازنهم، وانطلاقتهم في الحياة. وكلُّ تدميرٍ لهذه الأجزاء التاريخية، التراثية، الحيَّة، المأهولة، كلُّ تدمير لهذا النسيج المديني والمعماري المميَّز، سوف يدمِّر معه النسيج الاجتماعي المميَّز هو الآخر، بالعلاقات التي نسجها الناسُ بينهم، ومع المجالات التي يعيشون فيها ويعملون. وسيفقدون توازنهم إذا ما أُجبروا على مغادرة الأمكنة، والسكن في مطارح جديدة.
فالحفاظ على النسيج المبني التاريخي التراثي، يعني قبل كل شيء، الحفاظ على النسيج الاجتماعي الذي يسكنه.
ويشكِّل الحفاظُ على هذا النسيج الاجتماعي، قيمةً اجتماعيةً كبيرة، يختزنها النسيج المبني التاريخي التراثي. وكلُّ تأهيلٍ لهذه الأمكنة، أو ترميمها، أو تجهيزها، إنما يعني بالدرجة الأولى الحفاظ عليها مكاناً لائقاً لسكن ناسها، وملائماً لنمط عيشهـم فيها. ليس في الأمر حنينٌ بكائيٌّ كما يزعم البعض، يشدُّ الناس إلـى العيش في أمكنة تتدهور، أو إنه رفضٌ مرضيٌّ للتجديد والتغيير، كما يزعم البعض الآخر.
قد يريد البعض من السكان الانتقال إلى مساكن عصرية، بنيت في مواقع طبيعية مميَّزة، إلى مساكن جديدة مجهَّزة بابتكارات العصر، مُشمِسة، مهوَّاة، مطلَّة. ولكن...؟ ماذا نصنع بالذين يريدون الاستمرار في سكن التراثي الذي ألفوه، وربَّما الذي يشعرون فيه بالانتماء وبالهوية؟ وهم يرون فيه ملجأً حقيقياً، ورمـزاً للأمان والطمأنينة والاستقرار؟ ماذا نصنـع بالذين لا يريدون العيش في أقفاص زجاجية، يشعرون فيها وكأنهم عراةٌ أمام عيون الناس؟ ماذا نصنع بالذيـن يرون وفـق معاييرنـا، أن الجار قبل الدار؟ هل نبني لهم نسيجاً تراثياً مزيَّفاً، مصنوعاً بمواد العصر وبتقنياته؟
للتراث التاريخي المبني قيمةٌ اجتماعيةٌ مزدوجة، فهو ضرورة للحفاظ على النسيج الاجتماعي الذي سكن فيه عقوداً طويلة، وهو ضروري أيضاً، لكل من يرغب في السكن في مجالات تاريخية يشعر فيها بالانتماء وبالاطمئنان. وفي الحالتين، أن نؤمّن للناس إطاراً للحياة ملائماً لتطلعاتهم، إنما هو ضروري لتوازنهم.
[ القيمة الخامسة، هي القيمة الرمزية، قيمة الذاكرة الجماعية للناس، قيمة الهوية والانتماء:
كل الزملاء وكل الحاضرين، يعرفون حلب بالتأكيد، فهل يقبل أحدٌ في حلب أن تُهدم قلعتها؟ أو أن تُهدم أسواقُها؟ وفيها كل حِرَف حلب، وكل إنتاجها، والكثير من حمَّاماتها وخاناتها؟ وفيها قبل كل شيء فرادتُها، وازدحامُ الناس فيها...؟ سلعٌ، وباعةٌ، ومتسوِّقُون، وسائحُون، وزوَّارٌ، وفُضوليون؟ وكل الزملاء وكل الحاضرين، يعـرفون دمشق بالتأكيد، فهل يقبل أحدٌ في دمشق أن يُهدم فيها الجامع الأموي؟ أو أن تُهدم سوق الحميدية بكل متفرعاتها المتاهات؟ ربما لا يعرف الحاضرون دير القمر، وبيت الدين، وجبيل (بيبلوس) وصيدا، في لبنان، ولكن...! هل يمكـن لواحدنا أن يتصـوَّر دير القمر وقد هدم فيها قصر فخر الدين؟ أو أن يزور بيت الدين، وقد زال منها قصر الأمير بشير الشهابي؟ هل يمكن لأي مواطن لبناني أو سائح زائر، أن يقبل العيش في جبيل (بيبلوس) بدون قلعتها، بدون المرفأ الفينيقي عند أقدام القلعة؟ وبدون سوقها التقليدية؟ هل يمكن لأي صيداوي يعشق مدينته، وقد التهم البنيان كل بساتينها، وتمددت المدينة العصرية على أكتاف التلال المطلة على البحر، هل يمكن لأي صيداوي أن يتصوَّر ولو للحظة واحدة، أنه سيستيقظ يوماً وينظر إلى البحر والأفق قبالته كما يفعل كل يوم، فلا يرى قلعة البحر؟ ولا يرى الجسر التاريخي الذي يربطها بالطريق الضيق المسقوف المؤدي إلى قلعة البر؟ سيركض الصيداويون عراة ربما، ليتفقَّدوا خان الإفرنج، وخان الصابون، وساحة باب السراي، ومقهى الزجاج. سيفتشون عن البيوت الحجرية المتلاصقة، عن نوافير المياه، عن الأدراج المعلَّقة على الجدران، عن المسارات التي تشدُّك رغماً عنك لتسلكها، لتعود بك، رغماً عنك مرة أخرى، إلى الزاوية التي انطلقت منها.
والطرابلسيون في لبنان، لن يكونوا أبداً في حالة أفضل من حالة مواطنيهم في دير القمر، وبيت الدين، وجبيل (بيبلوس)، وصيدا، إذا ابتلع زلزالٌ سوقَ الخيَّاطين، وسوقَ النجَّارين، وسوقَ الصاغة وجامع طينال.
كلُّ المعالمِ، والمباني، والمجموعات المبنية التي ذكرت، هي رموزٌ للأمكنة حيث تقوم. إنها رموزٌ للمدن، صغيرة كانت أو كبيرة. وانتماءُ الناس إلى مدنهم، هي عبرَ ديمومةِ الرموز فيها. وللرمز هنا، قيمةٌ اجتماعية عُظمى، فهو دلالةُ الانتماء إلى الأمكنة، وحاملُ الهُوية. وهو قبل ذلك، مكانُ الذاكرة الجماعية بامتياز. والذاكرة الجماعية هي أحد روابط الناس الأساسية.
[ أما القيمة السادسة فهي القيمة التعليمية: أنتقل في هذه الفقرة وبانحياز ظاهرٍ، إلى مسألة دور المحافظة على الأجزاء التاريخية والتراثية من مدننا، في تعليم التنظيم المديني، وتعليم العمارة.
لقد سادت في أوائل الستينيات، نظرياتٌ تقول، أنه لننتج عمارةً جيِّدة علينا أن نمحو كل شيء من ذاكرتنا. كان يقالُ للطلاَّب إن مخيّلتكم هي التي ستخلق كل جديد.
نعلمُ اليوم، أن هذه التأكيدات كانت غير صحيحة. إذ ثبت للمختصين، أن الوليد الجديد هو غير قادر على التخيُّل لأن ذاكرته فارغة، وأن كلَّ ما نتخيَّله يُبنى على ما تختزنُه ذاكرتُنا. فنحنُ نرفضُ هذا المخزون، نقبله جزئياً، أو نلقِّحه، أو نُعيد تركَيبه انطلاقاً من عملية التفكير، لنخلُق شيئاً جديداً، لنُبدع، لنبتكر. وفي كـل عملية ابتكارٍ يعود الإنسان إلى ذاكرته. أرى في هذه التصحيحات العلمية، أن الحفاظَ على الأجزاءِ التاريخيَّةِ والتراثية في مدننا، هو الضمانةُ لنتقدَّم في عمليةِ إنتاجِ مدينةِ الغد، مدينة المستقبل، وعِمارتها. ذلك أننا نعلم اليوم أيضاً، أن التنظيم المديني الحديث، من ايدالفونسو سردا في برشلونة، إلى ميثاق أثينا الذي صاغه لوكوربوزييه في العام ،١٩٤٢ هو تنظيمٌ مديني كارثيٌّ على الصعيد الاجتماعي. ونُدرك في ضوء ذلك، ومع انتشار النظريات في التنظيم المديني المسمى ثقافوي (culturaliste)، ندركُ، أنه للتوصُّل إلى ما هو جديدٌ وجيِّدٌ لمجتمعاتنا العربية في هذا الحقل، علينا أن نبحث في ما هو موجود في ما هو قائم، في التنظيم المديني الموروث، وفي العمارة التراثية. لا لننقلها، بل لنتعلَّم منها، ولنوسِّع قدراتنا على الاختيار وعلى الإبداع في آن.
إذ أن لما هو موروثٌ في هذا الحقل، قيمةٌ تعليميةٌ هامة. وكلُّ تدميرٍ لهذا الإرث الفريد، يعني بالضرورة إفقارَ مصادر التكوين عند الأجيال القادمة.
[ أما القيمة السابعة، فهي القيمة الاقتصادية: يعتقد البعض أن الحفاظ على التراث، بالترميم والتأهيل والصيانة، هو مصدر إنفاق فقط. نُنفقُ كي نرمِّم ونؤهِّل، نُنفِق كي نصون، هذا صحيحٌ بالتأكيد. ولكن إذا نظرنا في جدوى هذا الإنفاق، نجدُ أنَّ هذه الأعمال هي مصدرُ دخل. فالآثار والتراث في الكثير من البلدان العربية، مثل اليمن، ومصر، وسوريا، ولبنان، وتونس، وغيرها، هي الركيزة الأساس التي تقـوم عليهـا السياحة فـي هـذه البلدان. والآثار والتراث، يشكلان في هذه الحال ثروةً سياحيةً حقيقيـة، وهي مصـدرٌ لا ينضب لدخـل مباشر، ودخل آخر غير مباشر، هذا من جهة.
أما من جهة أخرى، فكلُّ الأعمال التي ذكرت. في الصيانة، والترميم، والتأهيل، هي أعمال يدوية، تحافظُ على المهارات الموجودة وتجدِّدها، تخلُق فرص عملٍ جديدة، تحافظ على الحرف التقليدية وعلى منتجاتها، وتجعلُ منها منتجاً اقتصادياً مربحاً، بما يرقى بالحرفيين، ويجعلهم يدركون قيمة عملهم الوطنية، لا بل قيمته الإنسانية.
ـ٥ـ
ماذا في الخلاصة
سأقتبس خلاصتي، من محاضرة سمعتها في بيروت، منذ بضع سنوات.
ـ يرى المحاضر، أن الحضور المادي للبعد الزمني، الذي يجسِّده المَعلمُ القديم في مجتمعٍ ما، هو استجابةٌ أساسية لحاجة إنسانية. فالإنسان في الأساس هو كائنُ ذاكرة، وبالاستعانة بذاكرتنا، نُفبرك المستقبل يقول المتحدِّث، ومجاورتنا الدائمة للذاكرة، هي أساسية في حياتنا. وإذا نظرنا إلى دماغنا حيث توجد ذاكرتنا، سيفاجئنا كون هذا الدماغ، الشيءَ الاركيولوجي الأكثر إدهاشاً بين الموجودات على سطح الأرض. وتُؤكد هذه البنية الأركيولوجية لدِماغنا، أنَّنا نحملُ في بنيتنا حضوراً للزمن، ونعمل دائماً لإيجاد بيئة متوازنة، نستطيع فيها أن نحافظ على هذا الحضور، أي أن نحافظ على الذاكرة. فالذاكرة يمكنها أن تكون العنصر الرئيس، في مسعانا لخلق بيئة تسمح بانطلاقةٍ متناغمةٍ للإنسان وللمجتمع.
ـ وتُصبح الذاكرةُ من هذا المنظور حاجةً إنسانية أكيدة، مثل التعليم، والصحة. وفي مجال اتخاذ القرارات الكبرى في السياسة مثلاً، تعملُ الذاكرةُ على منسوبٍ آخر أهم بكثير، من منسوب المحافظة على بعض الحجارة القديمة.
ماذا في الخلاصة إذاً...؟
ـ في الخلاصة، أن الحفاظ على التراث ليس موضة أو لعباً. إنَّه الاستجابةُ لحاجة إنسانية أساسية. وإذا أصبح الإنسانُ عبر الزمن، إنساناً عاقلاً، فذلك حدث بالتحديد، لأنه يملك ذاكرةً واعيةً، ذاكرةً يستعينُ بها، وهي عنده مصدرُ المخيِّلة، والخلق، والإبداع. يَنتُج كلُّ ذلك، من التفاعل الدائم بين الذاكرة والذكاء.
ـ وإذا أردنا أن يستمر الإنسانُ في مسيرته على دربِ العقل، فمن واجبنا الحفاظُ على شواهد الماضي.
بيروت في ٢٠/١٠/٢٠٠٨

المراجع:
١ ـ رفعة الجادرجي : في سببية وبنيوية العمارة.
٢ ـ رفعة الجادرجي : حوار في بنيوية الفن والعمارة.
٣ ـ أماني السيد عبد الرحمن: المواثيـق والتوصيـات الدولية للتعامل مـع التراث المعمـاري والعمرانـي.
٤ ـ د. أحمد صلاح الدين عوف:مفاهيم الحفاظ العمراني لألفية جديدة، فـي دولة الإمارات العربية المتحدة.
٥ ـ رهيف فياض : العمارة ووعي المكان.
٦ ـ رهيف فياض: العمران والذاكرة، العمران والوهم.
٨ ـRaymond Lemaire : Patrimoine et lendemain.
٧ـ Claude Chaline : Les villes du monde arabe.
٩ـ La Charte De Venise.

رهيف فياض

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...