ملف عن رحيل الشاعر العربي الكبير محمود درويش (2)

11-08-2008

ملف عن رحيل الشاعر العربي الكبير محمود درويش (2)

دعوه يعانق أرض الجليل!
وجّهت مجموعة من أصدقاء الشاعر محمود درويش هذا النداء: «في هذه اللحظات المليئة بالأسى، ونحن نودع شاعرنا الكبير محمود درويش، نرى الحزن مرسوماً على خريطة فلسطين، ونشعر بفداحة الخسارة التي جاءت تتويجاً لزمن الخسارات الذي نعيش.هذا النداء موجّه الى أهلنا في فلسطين الذين كان درويش وسيبقى شاعر الحلم والمعنى في أرضهم. وهو نداء يتعلّق بحقّ شاعر الجليل في أن يعانق أرض الجليل ويستريح في المكان الذي شهد ولادته الشعرية، وملأ قصائده بعطر اللوز والزيتون. يحقّ لإبن الجليل وشاعره أن يُدفن في أرضه، ويجب أن لا يكون في مقدور أحد أن يمنع هذا الفلسطيني الكبير من العودة الأخيرة الى بلاده.
هذا نداء موجّه الى الجميع، كي نعمل معاً من اجل أن تستعيد الأرض جسد كلامها، الذي صار شعراً عظيماً كتبه شاعر عظيم.

التواقيع:
أنطون شماس، ليلى شهيد، سليم بركات، مرسيل خليفة، الياس صنبر، محمد برادة، فاروق مردم، صبحي حديدي، عباس بيضون، فواز طرابلسي، الياس خوري، طه محمد علي، انطوان شلحت، حنا أبو حنا، رمزي سليمان، محمد بكري، محمد علي طه، محمد نفاع، سهام داوود.

 

وإن قيل لي ثانيةً: ستموت اليوم،
فماذا تفعل؟ لن أَحتاج الى مهلة للرد:
إذا غلبني الوَسَنُ نمتُ. وإذا كنتُ
ظمآنَ شربتُ. وإذا كنتُ أكتب، فقد
يعجبني ما أكتب وأتجاهل السؤال. وإذا
كنت أتناول طعام الغداء، أضفتُ إلى
شريحة اللحم المشويّة قليلاً من الخردل
والفلفل. وإذا كنتُ أُحلق، فقد أجرح
شحمة أذني. وإذا كنتُ أقبِّل صديقتي،
التهمتُ شفتيها كحبة تين. وإذا كنت
أقرأ قفزت عن بعض الصفحات. وإذا
كنتُ أقشِّر البصل ذرفتُ بعض الدموع.
وإذا كنتُ أمشي واصلتُ المشي بإيقاع
أبطأ. وإذا كنتُ موجوداً، كما أنا الآن،
فلن أفكِّر بالعدم. وإذا لم أكن موجوداً،
فلن يعنيني الأمر. وإذا كنتُ أستمع الى
موسيقى موزارت، اقتربتُ من حيِّز
الملائكة. وإذا كنتُ نائماً بقيتُ نائماً
وحالماً وهائماً بالغاردينيا. وإذا كنتُ
أضحك اختصرتُ ضحكتي الى النصف احتراماً
للخبر. فماذا بوسعي أن أفعل؟ ماذا
بوسعي أن أفعل غير ذلك، حتى لو
كنتُ أشجع من أحمق، وأقوى من
هرقل؟

(من «أثر الفراشة» ــــ «دار الريّس»، بيروت 2008)


محمود درويش رمى نرده ومضى
في السنوات الأخيرة كانت أعماله مسكونة بهاجس الموت. بعد عمر من التيه على طريق وطن مستحيل، سكت قلب الشاعر الفلسطيني في الولايات المتحدة بعد جراحة لم يكتب لها النجاح. بغياب محمود درويش يخسر الشعر العربي أحد أعذب أصواته، والقضيّة الفلسطينيّة رمزاً كبيراً لم يفلت من تناقضات المرحلة

في هيوستن انتهت رحلة المنفى الطويلة. رصدتها شاشات التلفزيون، كما يليق برئيس دولة أو نجم كبير. على «العربيّة» أطلّ الدكتور عبد العزيز الشيباني، طبيب محمود درويش (1941 ــــ 2008)، ليحسم الأمر. ثم أطل أبو مازن لينعي «رائد المشروع الثقافي الحديث» وكاتب «إعلان استقلال فلسطين». وكانت «الجزيرة» سبقت الجميع إلى نشر النبأ الحزين، وملأت الشاشة بصورته الأليفة وصوته الأجش، يقرأ لنا الشعر كأن شيئاً لم يكن. عند الساعة السادسة والدقيقة الثالثة والثلاثين من مساء السبت، بتوقيت غرينتش، فصلت أجهزة الإنعاش التي كانت تدعم المؤشرات الحيويّة، وأفلت الشاعر من جسده. افترق عن نفسه عند ذلك البرزخ بين الليل والفجر: «ولنذهبنّ معاً أنا وأنت في مسارين: أنت إلى حياة ثانية، وعدتك بها اللغة (...)، وأنا إلى موعد أرجأته أكثر من مرّة، مع موت وعدته بكأس نبيذ أحمر في إحدى القصائد...». في غرفة مستشفى في ولاية تكساس، تحققت النبوءة وفقاً للسيناريو الذي وضعه بنفسه «في حضرة الغياب» (٢٠٠٦).
تلك النهاية التي كان يستشعرها محمود، وينتظرها برهبة تتنكّر في ثياب الحياد واللامبالاة، تضع حدّاً لرحلة بين المنافي على طريق وطن مستحيل. «كلما طال منفى الشاعر توطدت إقامته في اللغة» كان يقول... عبوره في المدن، كان تنقّلاً بين محطات على درب الجلجلة. وها هو يترك للأجيال المقبلة، تراثاً شعرياً غنياً بالتحولات، يختصر عصراً كاملاً ــــ عصرنا ـــــ بجراحه ومشاغله وأسئلته الجماليّة، ويختصر فلسطين التي صار الناطق المطلق باسمها، ضميرها ووجدانها، هو الذي طالما دافع عن فرديّته كشاعر، وعرف كيف يهتدي إلى المعادلة السحريّة التي تجمع في القصيدة نفسها بين المفرد والجمع، بين «أنا» الشاعر و«نحن» الجماعة.
محمود درويش هو المنفيّ بامتياز: «لا ينتمي إلى أي مكان خارج ذاكرته الأولى... يضخّم المنفيُّ جماليات بلاده ويُضفي عليها صفات الفردوس المفقود... ويتساءل: هل أنا ابنُ التاريخ، أم ضحيّته فقط؟». كان يعدّ العدّة لرحيله منذ أشهر. ودّع حيفا في تموز/ يوليو الماضي، في «الأوديتوريوم»، ودّع باريس في الخريف بأمسية نادرة احتضنها «بيت الشعر»، ودّع رام الله قبل أسبوعين في الاحتفال الشهير الذي أقامته بلديّة المدينة، ونقله التلفزيون إلى ملايين المشاهدين في العالم. نبّه الجمهور يومذاك إلى كونه موعداً وداعياً، واعتذر عن وجوده المستغرب في حفلة تأبينه.
هل نواصل؟ القاهرة منحته جائزة «مؤتمر الشعر»... وكان قد عاد إلى قرطاج بحثاً عن بعض سنواته الضائعة... وبيروت التي تنشر أعماله كان يواعدها سرّاً، كما عشيقة سريّة. أطلق اسمه على ساحة في رام الله. وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات الفلسطينية، وضعت صورته على طابع بريدي. ماذا بقي إذاً؟ قصائده الأخيرة («على محطّة قطار سقط عن الخريطة»، «لعبة نرد»...) لا تترك مجالاً للشكّ. لقد رتّب الرجل الأنيق الذي نادراً ما رأيناه من دون بذلة، والشاعر المتوحّد وسط هذا الصخب، موعداً مع الطفل الذي بقي هناك بعيداً في البروة. أعدّ كلّ شيء، وكتب وصيّته الشعريّة. رثى محمد الماغوط وبعده ممدوح عدوان، ثم رثى نفسه على طريقة مالك بن الريب «في حضرة الغياب» ومضى. إنّها نهاية مرحلة أساسيّة واستثنائيّة في تاريخنا الشعري والثقافي.
إجتاز درويش على طريق الشعر دروباً متعرّجة تختزل مسار الذائقة الشعريّة العربيّة منذ ستينيات القرن الماضي وحتّى يومنا الراهن. بين «بطاقة هويّة» و«لعبة نرد»، بين «سرحان يشرب القهوة في الكافيتيريا» و«قافية من أجلِ المعلقات» مرّ عصر كامل، تخفّف خلاله الشعر من أعباء كثيرة. قام الشاعر، حسب تعبيره، بـ «تخفيف ضغط اللحظة التاريخية على جمالية الشعر، من دون التخلّي عن الشرط التاريخي». في الستينيات عاش وناضل في حيفا، كان شيوعيّاً وشاعراً وصحافيّاً. فقدم القصائد الأولى التي ما يزال يرددها كثيرون. في السبعينيات عبر من موسكو إلى القاهرة فبيروت، استقرّ فيها لتبدأ في شعره مرحلة جديدة. بعد «العصافير تموت في الجليل» (١٩٦٩) و«حبيبتي تنهض من نومها» (١٩٧٠)، كتب «تلك صورتها وهذا انتحار العاشق» (١٩٧٥). ثم جاء الخروج الجديد من بيروت إلى تونس في الثمانينيات، وكان «حصار لمدائح البحر» (١٩٨٤). السنوات الباريسيّة برأي النقاد هي سنوات التحوّل الحاسمة، والعودة إلى رام الله ترافقت مع سنوات النضج.
ويمكن اعتبار «ورد أقل» (1986) بداية الانعطافة في تجربة محمود درويش. أخذت قصيدته تتخفّف من غنائيتها العالية ودراميتها المتوترة، تاركةً مسافة نقديّة بينها وبين ثقافة النضال والمقاومة، لتعدّل نهائيّاً صورة الشاعر كناطق رسمي باسم القضية. وتواصلت الانعطافة منتصف تسعينيّات القرن الماضي، مع صدور «لماذا تركت الحصان وحيداً؟». واقترنت تلك المرحلة الجديدة بناشر لبناني هو رياض نجيب الريّس الذي أطلق تباعاً كل أعماله اللاحقة: «سرير الغريبة» (1995)، «جدارية» (2000)، «حالة حصار» (2002)، «لا تعتذر عمّا فعلت» (2004)، «كزهر اللوز أو أبعد» (2005). وقد أعيد جمع تلك العناوين في مجلّد خاص طوّب «الأعمال الجديدة» (2004)، كنوع من التكريس لتلك المرحلة في مسار الشاعر الفلسطيني. ولم يلبث الريّس أن أدخل إلى كاتالوغه مجموعات درويش السابقة، إذ نشرها العام الماضي في ثلاثة أجزاء تحت عنوان «الأعمال الأولى».
بينه وبين النثر كانت هناك علاقة تجاذب دائمة. كان يكتب عيناً على المتنبّي وأخرى على رينيه شار، فإذا بنصّه الشعري تأليفاً بين أزمنة ومدارس وأجيال وحقب شتّى. دعا الشاعر لإعادة الاعتبار إلى النصّ الشعري، وتحريره من كلّ العوامل الدخيلة المسقطة عليه، و«تنظيف القصيدة مما ليس شعراً». القصيدة باتت الوجع السري الحميم أوّلاً، بالنسبة إلى أبرز روّاد الغنائيّة في القصيدة الحديثة، ولها بعد ذلك أن تعكس ــــــ تبعاً لميكانيسمات سحريّة، ومعادلات معقّدة ــــــ وعي الجماعة وجراحها وهمومها.
المنافي والمذابح والهزائم والهجرات بقيت تتلاحق على إيقاع النصّ الشعري. واللغة المتجذّرة في الأرض البعيدة تبني في كلّ مدينة جديدة امتدّ إليها المنفى، شكلاً للوطن. كان يطلّ علينا محمود درويش، مشرقاً وأليفاً، ليذكّرنا بأن طريق فلسطين تمرّ في القصيدة، وأن القصيدة رمز لكلّ الأحلام المجهضة. فالشاعر تماهى مع القضيّة، ولم نعد نستطيع أن نتبيّن أيّهما يعطي زخماً للآخر. استحال صاحب «جواز السفر» ضميراً لشعبه، لأنّه عرف كيف يبقى شاعراً قبل كلّ شيء، بكلّ ما تختزنه الكلمة من عري وتقشّف، في قلب العاصفة، عند ذروة المأساة.
هكذا شهد شعره تحولات مفاجئة، مدهشة، فاكتسب ديناميّة جديدة، وشفّ وتصفّى. ولعلّ علاقة درويش بحوادث الزمن الفلسطيني وانهياراته، وراء تلك الإشراقة، وذلك التصفّي. فهو من أبرز وأوّل الأصوات العربيّة التي ارتفعت تجاهر بموقع الخاسر. طالب بالحقّ في إعلان اليأس، بصفته «فسحة لتأمّل المصير»، ودعا إلى وعي الهزيمة والتحرّر من «ميثولوجيا المنتصر».
ولا شكّ في أن المأزق السياسي والوطني الذي تعيشه القضيّة الفلسطينيّة منذ سنوات، وضيق الأفق بين خيار «متشنّج» يحمل في طيّاته بذور مقاومة، وخيار «منفتح» ارتمى في أحضان الجلاد... من العناصر التي زادت من مأزق الشاعر ويأسه. اليوم، ونحن نودّع محمود درويش، نستعيد كلماته ترياقاً وعزاءً: «اليأس هو الأرض الشعريّة والنفسيّة واللغوية... التي تردّنا إلى وحدة شبه مطلقة على أرض الغربة، تردّنا إلى بداية الشعر...».

بيار أبي صعب

أوردت بعض الصحف أن الشاعر صحا من العمليّة في هيوستن، وباشر كتابة قصيدة قبل أن يسوء وضعه مجدداً: “هزمتك يا موت/ الفنون الجميلة جميعها هزمتك/ يا موت الأغاني في بلاد الرافدين/ مسلة المصري/ مقبرة الفراعنة/ النقوش على حجارة معبد هزمتك/ وأنت انتصرت”.

سيرة

والآن أين مدينة الموتى؟ عاش محمود درويش (1941 ــــ 2008) بلا مدينة، موزّعاً على المنافي، ومات في هيوستن ولاية تكساس الأميركيّة مساء السبت الماضي. كان طفلاً عندما ذاق طعم الهجرة، منذ خرجت عائلته من قرية «البروة» شمالي عكا، عام 1948.
لجأت العائلة إلى جنوب لبنان، في رميش قرب جزين، وكان محمود الثاني بين أربعة إخوة وثلاث إخوات. بعد انقضاء عام، عاد متخفّياً مع العائلة ليكتشفوا أن قريتهم دمّرت (وأقيم على أنقاضها كيبوتس «أحيهود»)، فأقاموا في “دير الأسد في الجليل، ثم استقروا في قرية الجديدة». واعتبرهم الاحتلال ِ«غائبين حاضرين» لأنهم كانوا غائبين لدى أول إحصاء إسرائيلي للعرب. فعاشوا لاجئين في بلدهم. هذا الوضع أوحى له بقصيدة ِ«بطاقة هويّة» (سجل أنا عربي) عام 1967.
انطلق محمود الشاب إلى حيفا في الستينيات، لينهي دراسته الثانويّة، يعمل في الصحافة، وينخرط في السياسة، ويصبح شاعراً. كتبَ في صحيفة «الاتحاد» وترأس تحرير مجلة «الجديد» التابعتين للحزب الشيوعي الإسرائيلي (راكاح). لوحق واعتقل مراراً، وفي السجن كتب قصيدته الشهيرة «أحن إلى قهوة أمي» عام 1965، كما فُرضت عليه الإقامة الجبرية عقداً كاملاً، لكنه ظلّ يتنقّل بقصائده بين القرى، بعدما أصدر ديوانه الأول «عصافير بلا أجنحة» (1960).
في عام 1972 التحق بمنظمة التحرير الفلسطينية، واختار المنفى فمضى إلى موسكو ثم القاهرة، واستقرّ في بيروت. هنا أشرف على «مركز الأبحاث الفلسطينيّة»، وترأس تحرير مجلّة «شؤون فلسطينيّة»، وترأس رابطة الكتب والصحافيين الفلسطينيين إلى أن أطلق مجلّة «الكرمل» عام 1980 وانتقلت معه إلى قبرص فرام الله ثم احتجبت قبل سنوات في رام الله.
في عام 1981، كتب قصديته «أصدقائي لا تموتوا»، وكان قد شهد اغتيال صديقه ماجد أبو شرار، خلال مشاركتهما في مؤتمر عالمي. بعد اجتياح بيروت، أصدر درويش عمله النثري الأول «ذاكرة للنسيان». وتنقل بين تونس والقاهرة وقبرص وبلغاريا حتى استقرّ في باريس. عمل مستشاراً للرئيس ياسر عرفات، وانتخب عضواً في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير عام 1988، واستقال منها عام 1996 احتجاجاً على «أوسلو». عاد عام 1994 ليقيم في رام الله، موزعاً أوقاته بينها وبين عمّان.
أصدر أكثر من ثلاثين ديواناً، نذكر بينها: «عاشق من فلسطين» (1966) و«آخر الليل» (1967) و«حبيبتي تنهض من نومها» (1970) و «ورد أقل» (1987) و«لماذا تركت الحصان وحيداً» (1995) و«حالة حصار» (2002) و«كزهر اللوز أو أبعد» (2005) وأخيراً «أثر الفراشة» (2008). أما آخر قصائده فكانت «سيناريو جاهز» التي نشرت في الصحف قبل أسابيع. حاز جوائز عالميّة عدّة منذ «اللوتس» و«لينين» و«درع الثورة الفلسطينيّة»... حتى الـ «برنس كلاوس»، مروراً بـ «جائزة العويس».
موقعه الرسمي: www.mahmouddarwish.com

في الجديدة عائلته ستبقى تنتظر عودته إلى الجليل
الخبر تسلّل مساء السبت. كان المدخل الشرقي لقرية “الجديدة” (بالقرب من عكا) صامتاً ومظلماً تكسره أضواء وشموع برتقالية، انبثقت من إحدى الزوايا المؤدية إلى بيت عائلة الشاعر محمود درويش: بضعة شبان يافعين، أحدهم يحمل العلم الفلسطيني، يحيطون بصورة الشاعر الراحل التي تلفّها كوفية فلسطينية. كانوا يستعدّون للذهاب إلى قرية البروة، مسقط رأس درويش. في تلك الأثناء، كانت الشموع تتناثر على جانبي الطريق المؤدية إلى بيته، كلما تأكّد خبر الرحيل أكثر. ثم جاء الخبر اليقين من مستشفى Memorial Hermann في هيوستن الأميركية: أعلن الطبيب عبد العزيز الشيباني أنّ “قراراً اتُخذ بالتشاور بين الأطباء وأسرة الشاعر بنزع أجهزة الإنعاش عنه، بعدما تبيّن استحالة عودة أعضائه الحيوية إلى طبيعتها”. هكذا، رحل درويش جرّاء مضاعفات نتجت من عملية جراحية في القلب. وسيصل جثمانه اليوم إلى عمان حيث ستجري مراسم رسمية لاستقباله، يشارك فيها مسؤولون أردنيون وفلسطينيون، ثم سيُنقل إلى رام الله حيث يوارى في الثرى ــــ موقتاً ــــ غداً الثلاثاء في المركز الثقافي الجديد. وكان وفد عن منظمة التحرير الفلسطينية قد زار منزل عائلة الشاعر في قرية الجديدة، برئاسة الناطق الرسمي باسم حركة “فتح” أحمد عبد الرحمن. وقدّم الوفد العزاء برحيل الشاعر، واستأذن العائلة رسمياً بأن يدفن الشاعر في قاعة قصر الثقافة الجديد في مدينة رام الله ليكون قريباً من ضريح الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات. ووافقت العائلة على طلب الوفد، لكنّ العائلة ستبقى تنتظر أن يعود جثمان محمود إلى الجليل، كما انتظرت عودة الشاعر في حياته.
ولد محمود درويش في قرية البروة، وهجّر منها إلى لبنان ثم عاد إلى فلسطين بعد فترة قصيرة وكان في السابعة. انتقل إلى قرية “الجديدة”، ودرس الثانوية في كفر ياسيف. مطلع الستينيات، اختار أن يكون في حيفا، تلك المدينة التي اعتبرها «أمه بالتبني». ويقول صديقه منذ أيام الدراسة، الكاتب محمد علي طه، إنّ حياة درويش “انقسمت في حيفا إلى ثلاثة أقسام: السجن والإقامة الجبرية والكتابة، وغادرها إلى الاتحاد السوفياتي، وبعدها إلى القاهرة”.
عمل محرراً في صحيفة “الاتحاد” الحيفاوية، لسان حال الحزب الشيوعي، ثم مجلة “الجديد”. سكن في حي عباس العربي. ومن أصدقائه: توفيق فياض وسمي القاسم وسالم جبران وغيرهم. ويقول محمد علي طه: “كان يحبّ هذه المدينة. وأذكر أنّه بعد أمسيته الأخيرة في حيفا، جلسنا في بيت أحد الأصدقاء. كان لا يزال يتحدث عنها كأنَّها عشيقة له”.

فراس خطيب

رام الله العاصمة الموقتة... لتابوته
رام الله كانت مدينة شاحبة أمس، لا حديث لأهلها سوى غياب محمود درويش. الأصدقاء والمقرّبون منه رفضوا الحديث، الشاعر سميح القاسم أجاب بصوت متهدّج على الهاتف: «أنا مخنوق مش قادر أحكي». أما الشاعر غسان زقطان والكاتب زكريا محمد، فلم تفلح كل المحاولات في إخراجهما عن صمتهما. بعد الإعلان عن خبر وفاته رسمياً، تجمّع العشرات من محبي درويش، على دوار المنارة وسط البلد، يحملون الشموع وينتحبون. «لم يعد لدينا أحد»، كانت هذه العبارة الأكثر شيوعاً. كان درويش صوت فلسطين، واليوم غاب، والأسوأ أنّه سيوارى في قبر موقّت قرب قصر رام الله الثقافي، بعيداً عن قريته البروة.
محمود درويش سيُدفن في رام الله التي أقام فيها منذ عودته بعد اتفاق أوسلو ومنها كان يتنقل إلى عمان وباريس. مذ عاد إلى الأراضي الفلسطينية، قطع أي علاقة له بالعمل السياسي، مفضلاً التفرغ لمشروعه الشعري، بدأ الأمر عندما استقال من عضوية اللجنة التنفيذية عام 1993، كانت الاستقالة احتجاجاً على اتفاقية أوسلو، ثم تبع ذلك رفضه منصب أول وزير فلسطيني للثقافة في السلطة الفلسطينية حديثة العهد، ما سبّب غضباً للرئيس الراحل ياسر عرفات.
يعلق الدكتور والناقد عادل الأسطة على عودة درويش إلى رام الله بأنّها «لم تكن عودة حقيقية إلى الوطن. بعد أوسلو، لجأ إلى الصمت بما يخص الشأن السياسي، لأنه لم يكن راضياً عن الاتفاق». ويضيف الأسطة الذي يتابع مسيرة درويش منذ الثمانينيات ويدرّس تجربته الشعرية في جامعة النجاح الوطنية «إذا عدنا إلى النصوص التي كتبها بعد أوسلو، وتحديداً في «لماذا تركت الحصان وحيداً»، نلاحظ بوضوح أنّ هذا السلام لم يكن سلام الند للند، بل كان في الديوان هجاءٌ مبطنٌ للرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات».
يقول الأسطة إنّ درويش هجا أبو عمار في شعره، لكنه عاد واسترضاه، ويوضح: في ديوان «أحد عشر كوكباً»، هجا درويش ياسر عرفات مباشرة حيث قال «لماذا تطيل التفاوض يا ملك الاحتضار» كما وردت عبارة أخرى هي «إن هذا السلام سيتركنا حفنة من غبار». أحد أفراد حاشية أبو عمار قرأ القصيدة له حين كان في تونس، ودرويش في باريس، وقام أبو عمار بمكالمته هاتفياً وطلب منه الحضور فوراً، وعاتبه على ما كتبه. ويبدو أنّ درويش انصاع لهذا العتاب، لذا صدرت القصيدة في طبعات لاحقة معدلة على النحو الآتي: «إن هذا الرحيل سيتركنا حفنة من غبار».
يرى الشاعر زياد خداش الذي كان صديقاً للشاعر، أنّ «رام الله لمحمود درويش كانت مثل باريس أو عمان محطة للإقامة الموقتة». قبل سفره إلى الولايات المتحدة لإجراء العملية الجراحية، كان درويش وزياد خداش وغسان زقطان يجلسون في مطعم «فاتشيه» المفضّل لدى درويش. يقول خداش: «كان سعيداً وقال لنا: أنا مش خايف من الموت، الموت هو اللي خايف مني، أنا شبه دخلته وشبه جرّبته، واكتشفت أنه مش بالهيبة والجبروت التي يظهر بهما».

نائلة خليل

الشاعر الهارب من قبيلة تعشقه

الصور وحدها تفضح الشعراء. محمود درويش لم يكن غاضباً قبل جولته الأخيرة مع الموت. بدا مرتبكاً. لم يقرّر، هل يكمل المفاوضات حتى النهاية أم يستسلم لألعاب الموت معه؟ في المرة الأولى، توقّف قلبه دقيقتين، رأى فيهما نفسه على غمامة بيضاء يستعيد طفولته. عاد من السفر قبل أن تكتمل الرحلة. هذه المرة، لم يخدع أحداً، ترك قبل الرحيل «لاعب النرد» قصيدة وداع للملاعب. حُزنها شفاف، ترى فيها ترتيبات الرحلة الأخيرة. يفصح عن محاولاته سرقةً فردية خطرة في جماعة مهزومة. ويستعيد جغرافيا حروبه الخاسرة والمنتصرة معاً. الخسارة لا تعيب الشاعر. تمنحه صوتاً أصفى وقلباً موجوعاً لا يتحمل المزيد من اللعنات. اللعنة والحب امتزجا دائماً في العلاقة بدرويش. صوته وصل قبل صورته على شريط كاسيت تناقلت «مديح الظل العالي» بأداء يشبه المطربين الكبار. ما زلت أسمع صوت درويش رغم مرور ٢٠ سنة، مثل الحب الأول أو الاكتشاف الأول لمناطق سرية. كانت هذه روعة الشعر وصوته يقتحم الحصون الأولى لفردية خجولة تلهث وراء الالتحاق بجماعة تعرفت إلى نشيدها في قصائد درويش.
درويش كان مطرب العواطف السياسية، لكنّه طرب خاص. اختلط مع أصوات أخرى في الكورس الفلسطيني. وسرعان ما انفصل بصوت نقل العواطف إلى منطقة أعمق سرق فيها فرديته خطوة خطوة وسرّب إلى مغرميه فرديةً لم يكتشفوا سرّها إلا بعد سنوات... حين أفشى درويش أسرار السرقة سراً سراً.
هرب من إغراء الحبس في قوالب «مغني الثورة»، «شاعر القضية». قبور مصنوعة بفتنة مبهرة وصور على جدران أنيقة، لكنّه هرب منها كما هرب من عاشقاته وبيوته المستقرّة في إطارات اجتماعية جذابة. كان يستجيب في البداية، يتلذّذ بمتعة عمومية لكنّه يتسلّل كما فعل أوّل مرة مع عائلته ليعود إلى أرضه التي أصبح غريباً فيها. الألفة الاجتماعية مغرية، لكنّها تقوده إلى غربة تلو غربة. يهرب من صورة المناضل السجين في زنزانة إلى القاهرة، موطن الشهرة في الستينيات والسبعينيات، لكنّه يخون الصورتين مع صورة أخرى ويهرب خلف عشق آخر. جرّب درويش ألعاب الخيانة كلّها. خان فرديّته وأصبح شاعر القبيلة. ثم خان انتظارات الجنود حين نزل من على صهوة جواد النبوة وكتب عن الحب والفرد الغريب الهارب من قبيلته.
ألعابه في السياسة كانت خشنة لجمهور يصنع للشاعر صورةً ناعمة، يخفيها تحت الوسادة في الجبهة ويختطف مقولات مأثورة يزين بها محبته للقضية. درويش كان خشناً وهو يقبَل عضوية اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير وهو يتحرّك كأمراء النضال. خشونة درويش، خشونة التجربة والاقتراب من خط النار. كان المنصب يريد التزيّن بدرويش فأعطاه درويش زينته. لم يبرّر خيبات الزعماء. خاف عليهم من جنونه وانسحب محتجّاً على «أوسلو». لكنّ لعنة المنصب ظلّت تلاحق درويش ربما في محاولة لاسترداده إلى الجماعة أو أملاً في صفقة جديدة بين السياسة وجنون الشاعر.
الجنون انتصر حتى على رغبة درويش في المصالحة بين نار الشعر ونار السياسة. مصالحة تخاف من العزلة في برج بابل. هرب من الأبراج إلى ميادين واسعة، تجمّع فيها عشاق من مراحله المختلفة. ميادين تقبل الشعراء لأنهم شعراء أولاً يلعبون، ولعبهم يمنح للحياة لذتها الكبرى. انتسب طوال عمره إلى «فلسطينيي ٤٨» أي إلى الحياة بنصف حق ومرتبطاً بنكبة لم تمّحِ آلامها حتى الآن. تتقاطع مع سيرته الشخصية مأساة شعبه. لم يكن صوت أحد رغم أنّ الفلسطينيين اعتبروه صوتهم. عشرات الشعراء تنافسوا ليكونوا صوت القضية، لكنّ درويش ظلّ صوتها المتفرد لأنّه لم يستسلم لها. قادها إلى مساحة أرحب غير شكل الخطاب السياسي الفلسطيني. وكانت في كل قصيدة خيانة لمَن ينتظر منه أن يكون على هوى الآخرين. رأى درويش أنّهم يحبّونه ميتاً ليقولوا: كان منّا وكان لنا. لم يدخل العلب المحفوظة. وكما نال محبة وشهرة وعشاقاً، لم ينجُ من اللعنات والاتهامات. قال عاشق آخر نحبّه هو ناجي العلي «محمود خيبتنا الأخيرة». وقتها، كان درويش في كادر واحد مع أبو عمّار وكانت كلمة ناجي العلي موتاً أكيداً لدرويش. وكالمعتاد، لم تكن هذه النهاية. تسلّل صوته ليعلن أنّه ما زال حيّاً في مكان آخر على أرض أخرى. وعندما كتب عن الحب فقط في ديوانه «سرير الغريبة»، قالوا: باع القضية تماماً ودفنها ونسي المقاومة. لكنّ القصائد كانت درساً في مقاومة أخرى: إعلان بأنّ الفلسطيني إنسان، يحبّ، يخاف، يهرب إلى المتع كما يهرب العشاق. تحررت المقاومة من التخصّص في مشروع واحد لتحرير فلسطين. درويش رأى تحرير الفلسطينيين أولاً من مصير الضحية المستسلمة. لم يستسلم هو. ترك جسده يستسلم وركب غمامته البيضاء ليطلّ على جنة عدن التي طرد منها آدم وأصبح أول لاجئ في الدنيا.
قبلها تسلّل صوته إلى أصدقاء يحدّثهم عن مفاوضات الموت. أخبره الأطباء بأنه يعيش وفي صدره قنبلة قد تنفجر الآن وربما تؤجل انفجارها عشر سنوات. اختار مواجهتها رغم أن احتمال النجاح ١٠ في المئة. درويش انسحب قبل أن تظهر النتيجة. ترك سريره في المستشفى الأميركي وتابع جسده وهو يعمل بالأسلاك والأجهزة وسافر قبل إعلان موته بساعات أو دقائق كي لا يودّع أحداً أو يسمع صوت بكاء أو يرتبط عاطفياً بمن سيتسلّمون جسده. لم يتحمل الانتظار، تسلّل وحيداً كي لا يرى طقوس القبيلة وهي تستعيد جسده.

وائل عبد الفتاح

منذ سنوات، تعكف دار «أندلس» للاسرائيليّة التقدّمية ياعيل ليرر، على ترجمة كتب درويش إلى العبرية نقلها الشاعر الراحل محمد حمزة غنايم. وفي 1999، قرّر يوسي سريد، وزير المعارف يومها، إدراج قصائده في مناهج التدريس. لكنّ اليمين الإسرائيلي هاجم القرار. ومرةً صرّح أرييل شارون، أنّه يحسد الفلسطينيين على درويش، معترفاً بأنّه قرأ ترجمات شعره. ولعل هذه المفارقة تدلّ على أنّ الشاعر نجح في تشكيل لغة شعرية كونية، تتجاوز حدود القرّاء العرب، وصولاً إلى سفّاح صبرا وشاتيلا!

 

أين يعود جثمان الشريد بين المنافي؟
كان للخبر وقع الصاعقة: محمود درويش في المستشفى! كنّا نتوقّع أن الهدنة طويلة بين الشاعر والموت. ألم يكتب الجدارية في تفسير الحالة والخروج من أتونها؟ ألا تكفي هذه الفاتورة الباهظة لإنقاذ الشاعر؟
نحن في كل الأحوال بحاجة ماسة إلى محمود درويش. بغيابه، ستبدو فلسطين مرة أخرى ثكلى، ثكلى أكثر مما سبق، ثكلى أكثر مما نحتمل. وهي، في كل الأحوال، لا تحتاج إلى خسارات جديدة. لعلّه الجدار الأخير الذي كنّا نسند أرواحنا إليه من التعب الطويل وقلة الحيلة في الشعر. هناك ــــ ولا شك ــــ خطأ مطبعي في ما يحصل: أنقذوا قلب الشاعر من التلف، فقد انتهى الاحتياطي في الخزّان، ولم نعد نحتمل عطشاً آخر. محمود درويش ليس شاعراً فلسطينياً فحسب، إنّه يخصّنا جميعاً. انظروا إلى كتبه في مكتباتنا المنزلية، ما زال “أثر الفراشة” قيد الاستعمال، ولم ندر ظهرنا لـ“سرير الغريبة” أبداً. الواقع أنّنا وجدنا نصّنا الشخصي. فقد تخلّص الشاعر من ألقابه، وذهب متخفّفاً من ثقل ما لحق قصيدته من أوزارٍ وطنية، ليكتب نصه الخاص. النص الذي يحبّ. النص الذي نحبّ، من دون إيقاعاته العالية والهتاف الذي ينتهي بالتصفيق. لا شك في أنّ محمود درويش خذل القارئ العادي المرتهن للإيقاع وحده، حين ألغى فقرة القنابل الدخانية من نصه، واعتنى بالمنمنمات الذاتية والتفاصيل الجانبية المهملة، ومعنى قوة الحياة وهشاشتها، ومعنى أن يصير الشاعر عاشقاً لإمرأة ليست هي فلسطين كما يشتهي ويرغب أصحاب التأويل النقدي المياوم. أراد أخيراً، وربما متأخراً، أن يكتب قصيدته العزلاء التي تشبهه، كما يفعل شعراء آخرون لا يحملون الهوية الفلسطينية، لفلسطين مؤجلة في الأساس، ولقرية لم تعد تحمل اسمها الفلسطيني بعدما هدمها اليهود.
والآن إلى أين يعود جثمان الشاعر الشريد بين المنافي، و“الماكيت” الوهمية لفلسطين ما بعد أوسلو؟
مَن يتحمّل وزر دفن الشاعر بعيداً عن مقبرة سلالته الأولى؟ وهل سيبتسم الإسرائيلي وهو يضيف إلى قائمة الموتى اسماً صعباً آخر، لم يتمكّن منذ نصف قرن أن يمحوه من الأناشيد المدرسية وحناجر المغنين؟ سأتذكر كلاماً للشاعر، أجده ضرورياً في هذا المقام “أنقذونا من هذا الحب القاسي”. قالها درويش باكراً، وحين لم يستمع أحد إلى النصيحة، تفرّغ لكتابة نصه الآخر. تخلّص من شوائب الهتاف الاضطراري، ورنين الكلام. أزاح مفردات “القضية” جانباً بفطنة عالية، وكتب تمارين جسورة في الألم الشخصي والفقدان. وإذا بها انعطافة في شعره أولاً والشعر العربي ثانياً. ها هو شاعر من وزن محمود درويش يلتفت إلى الاحتفال بالحياة ويستعيد الميثولوجيا الكنعانية ليستمدّ منها جذوره الأولى، وأسئلة الشتات في المعاجم، وينتصر للضفة الأخرى، بعيداً عن المريدين القدامى وصدى التصفيق في المدرجات الرومانية من قرطاج إلى جرش.
سنكتشف من دون عناء أنّ مريدين جدداً تبعوا قافلة محمود درويش في بلاغتها ومجازها الآخر، حين اعتنى بالسرد الشعري والكثافة اللغوية والاقتراب الحذر من النثر، لا بل إنّه مزج أخيراً بين النثر والسرد الشعري في كيمياء ترفض الانصياع إلى ما هو مستقر: محمود درويش ضد محمود درويش في نثرٍ صافٍ. ليس غريباً على صاحب “كزهر اللوز أو أبعد”. فقد اختبره في محطات عابرة، قبل أن يخوض في جحيم الذات باحتفالية العاشق والمنفي والأعزل. الشاعر المجازف توغّل بعيداً في اللغة، فحص متاهاتها وهضابها وجبالها ووديانها في رحلة تراجيدية “لتحويل قصائد الفقدان الغنائية إلى دراما العودة المؤجّلة إلى أجل غير محدود”، وفقاً لما قاله إدوارد سعيد. لكن هذا الفقدان لم يمنعه لاحقاً من ترميم المشهد بما هو شخصي صرف، يخص الكائن وحده، بعيداً عن دراما الجموع، ومأساة الخريطة المؤجّلة والمنهوبة.
هل هو إنذار القلب المبكر منذ سنوات، ما جعله يتأمل نصَّه المؤجّل؟ ربما نعم. وكان عليه ألا يندم أو ينصت إلى نصائح الذائقة الكسلى في الإقامة في البيت القديم. هكذا، كان عليه أن يحطّم الجدران ويكتب نصه في العراء: لا، لم تبتعد فلسطين، كما يتذرّع آخرون، ولم تخفت الحماسة، فقط استبدل رنين الفضة بصفاء البلّور، لأنّ فلسطين، ببساطة، تحتاج إلى هذا النص اليوم أكثر مما هي بحاجة إلى النص القديم. فبحر عكا صار أقرب إلى فتى الجليل النحيل: “... ويا موت انتظر، يا موت، حتى أستعيد صفاء ذهني في الربيع وصحّتي، لتكون صياداً شريفاً لا يصيد الظبي قرب النبع”.
لكن هل مات المؤرخ الغريب في أرضٍ غريبة حقاً؟ ها هو متنبي آخر “في حضرة الغياب”، مَن كان يجمع الماء والنار في يدٍ واحدة، الصوت واللفظ، اللذة والألم وشبق المعنى، والفجائعية، وفضاء العيش. وهو كذلك مَن أعلن “لا تعتذر عمّا فعلت” بكل مقاصدها المجازية والجمالية. لنردّد مع الشاعر إذاً “علينا أن نتفهّم سبب التراجيديا لا تبريرها”.

خليل صويلح

وصف الرحيل قبل أن يرحل وهزم الموت مسبقاً

ما إن أُعلن خبر غيابه، حتى جاء أحدٌ ليحذّر مِن «انحرافاته». وهو الأمر الذي واجه نجيب محفوظ ويوسف شاهين. إنّه قدره أن يرحل في زمن الرجعية الجديدة

في معرض القاهرة للكتاب، كان الزحام مفهوماً كل عام أمام جناح دار «رياض الريّس». الديوان الجديد لمحمود درويش لم يكن مطراً نادراً، كان موعداً لا يخلفه صاحبه، ونهراً لا يتوقّف عن الجريان محمّلاً بملايين الاستعارات والصور، لكنّ صخوراً اعترضته من حين إلى آخر. وفي سنواته الأخيرة، دخل بهدوء في قوائم الرقابة المصرية التي احتجزت ديوانه «أحد عشر كوكباً» بعد صدوره بسنوات، في وقت بدت فيه السلطتان السياسية والدينية في مصر شيئاً واحداً. قبل ذلك، في زمن المواجهة بين الأصوليين والسلطة منتصف التسعينيات، وقف درويش في معرض الكتاب وسط حضور كثيف بشكل لا يصدق، ليقول «عساني أصير ملاكاً» بدلاً من «عساني أصير إلهاً». كان يلقي «إلى أمي»، ففاجأ مَن يحفظون القصيدة وأغضب معظمهم لكنه ـــــ مع ذلك ـــــ لم ينج من كراهية الآخرين. بعض أولئك الآخرين لم ينتظر حتى يكمل درويش ليلته الأولى على الضفة الأخرى، فبادر بملء صفحة الشاعر الكبير على موسوعة ويكيبيديا بالتحذير من «انحرافاته» ولا غرابة. هو الأمر نفسه الذي واجه نجيب محفوظ ويوسف شاهين، وكل مَن شاء لهم قدرهم أن يرحلوا في زمن الرجعية الجديدة، ذات الطابع الشعبي التي ارتدت رداء تكنولوجيا التعليقات على الأخبار، تلك الخدمة التي فتحت البطن العربية وأظهرت ما بها من قيح مؤكد، وأمل عابر وشاحب.
لكنّ محمود درويش ـــــ تماماً كبقية كبارنا الراحلين ـــــ أقوى من التراجعات الموقتة، وأكثر ثباتاً من الأفكار التي أنجبها اليأس، شاعر الثورة ظلمته الثورة، إذ ربطته بها. هنا بحر من الشعر لا تحدّه شواطئ طبريا، أمواجه لمست كل البلاد، وأبناؤه في كل بيت ينطق بالضاد، مع أنّه لغة مستقلة، قامت بذاتها ثم رحلت بنفسها فجأة من دون أن تتكئ على كتف أحد، لماذا ذهب درويش إلى جراحته وحيداً؟ لأنه هزم الموت مسبقاً، بكلمات لن يطمسها عشب الضريح.
في مناسبات أخرى للقاء الجمهور، كان درويش يتأخر في الصعود إلى المنصة، تعطّله الصحافة والتلفزيونات والمسؤولون الرسميون، فكان جمهور القاعات يبدأ التصفيق ولا يتوقف حتى يصعد شاعره الذي بدا شاباً أبدياًَ انتقى لأشعاره أرضاً خاصة، بعيدة عن خلافات الشعراء والنقاد، يلعب بين الشعر والنثر، الحر والتفعيلة، لا يحاسبه أحد «كم أنت منسيّ وحر في خيالك» يقول ويستعين في مقدمة ديوانه «كزهر اللوز أو أبعد» بعبارة أبو حيان التوحيدي (أحسن الكلام ما قامت صورته بين نظم كأنّه نثر ، ونثر كأنه نظم). لكنّ خلافات الشكل لم تزعج الرجل الذي استطاع أن «يرث أرض الكلام ويملك المعنى». استطاع أن يطوّر قصيدته الخاصة بمعايير لا يمكن القياس على غيره بها، أو قياس شعره بغيرها، واحتفظ بطزاجة القصيدة وتدفّق المعاني والتراكيب والجماليات التي تضرب جذورها في أرض التراث العربي، لكنّها تمتد حتى الضفاف الأجنبية، كموسيقى فلامنغو تعزفها غجرية تتمشى بين قصور أندلسية.
هو ابن العالم وشعره كذلك. رغم ارتباطه بالتراب الفلسطيني، كانت أحزانه من كل مكان، وكان شعره إنسانياً لا بل كونياً أدرك في حالة نادرة عربياً أنّ الاعتداء على الحق اعتداء على الطبيعة أيضاً (أتعلم أن الغزالة لا تأكل العشب إن مسّه دمنا؟ أتعلم أنّ الجواميس إخوتنا والنباتات إخوتنا يا غريب؟ لا تحفر الأرض أكثر! لا تجرح السلحفاة التي تنام على ظهرها الأرض! جدتنا الأرض أشجارنا شعرها وزينتنا زهرها «هذه الأرض لا موت فيها يا غريب») ، هكذا قال في «خطبة الهندي الأحمر»، فما أصعب أن يستخدم الشاعر «كليشيه» فيحيله إلى قطعة فنية، الربط بين الفلسطيني والهندي الأحمر في شعر درويش جاء ربطاً أشمل من هذا وذاك، وعلاقة بين الماضي والآتي لا تلتقط آثارها الأقمار الصناعية. إذ إنّ «هنالك موتى يمرون فوق الجسور التي تبنونها، هنالك موتى يضيئون ليل الفراشات، موتى يجيئون فجراً لكي يشربوا شايهم معكم، هادئين كما تركتهم بنادقكم».
انتهى إذاً الكتاب الدرويشي، واستراح صاحبه ـــــ بعد الرحيل المفجع والسهل ـــــ في مكانه داخل خلايا العقل العربي، ولئن لم تنجح ـــــ بعد ـــــ الثورة ، فإن درويش هو شاعر «فكرة» الثورة. الثائرون فقط يتذكرون أنّ «قلاعاً صليبية قضمتها حشائش نيسان بعد رحيل الجنود» والشعراء هم مَن يعرفون أنّ المكان «عثور الحواس على موطئ للبديهة». ويدركون أنّ لا مسافة بين البداية والنهاية، فهناك لا مكان ولا زمان، حيث ذهب الشاعر الذي وصف الرحيل قبل أن يرحل «أرى السماء هُناك في متناولِ الأيدي/ ويحملني جناح حمامة بيضاء صوب طفولة أخرى».

محمد خير

تعازي بيروت الجمعة المقبل... يوم تشاءم رياض نجيب الريّس
على الرغم من حالة الذهول التي أصابت رياض الريّس لحظة سماعه نبأ رحيل محمود درويش، فقد تمكنّا من التقاط بعض مشاعره الأولى في فجيعته. لم يصدق الخبر أولاً، وقد انشغل هاتفه الخلوي بالاتصالات، وخصوصاً أنّه موجود في دمشق للمشاركة في فعاليات معرض الكتاب. ووسط حزنه الشديد وتقبّله العزاء بفقدان الشاعر، اتصل بجريدة “النهار” لحجز إعلان بالاتفاق مع رفاقه لإقامة يوم عزاء في ساحة الشهداء في بيروت، يوم الجمعة المقبل. وأبدى استياءه من استنفار المهرجانات العربية لتكريم الشاعر على عجل. في صبيحة أمس اتصلنا برياض الريّس هاتفياً للاطمئنان عليه، فأجابنا بكلام مرتبك: “ماذا أقول: مات شاعرنا الكبير؟”. ثم صمت قليلاً وأضاف: “ودّعتُ محمود درويش هاتفياً قبل رحيله بأسبوع، وقال لي إنّ الفيزا إلى أميركا قد وصلته أخيراً، بفضل مساعي السلطة الفلسطينية لدى وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس. أجبتُه: ما دمت قد قررت الرحلة وإجراء العملية الجراحية، أتمنّى أن تعود منها سالماً. لكن قل للسلطة وقد كرّمتك بأمرين: الأول إصدار طابع بريدي بصورتك، والثاني تسمية ساحة في رام الله باسمك، أنّها استعجلت في ذلك. قال محمود: الطوابع معقولة. أمّا الساحة فقد فاجأني الناس بطلب استئجار أماكن فيها، كأنني المالك، ولم يقتنعوا بأنّني لا أملك سوى الاسم. لم أخفِ عن محمود تشاؤمي بتسرّع السلطة في إقامة الساحة وإصدار الطوابع، فكان جوابه: ليكرّموني الآن، أفضل من أن يكرّموني بعد موتي. محمود درويش هو أمير حقيقي للشعر لم تعرف الأمة العربية مثله منذ رحيل أمير الشعراء أحمد شوقي قبل 70سنة. والكلام عن محمود يطول، وخاصة لمفجوع مثلي عاصره شعرياً طوال عقود، وعرفه صديقاً وحبيباً وناشراً لكتبه. لا عزاء لأحد بموت محمود درويش”.

خليل صويلح

بين شعر القضية وقضية الشعر
في حديث ثقافي قديم أجريته مع محمود درويش ــــ ذات يوم من أيام عام 1968 ــــ قبيل انتقاله العاصف من فلسطين المحتلة إلى مصر وسائر بلدان العرب، قال لي، بثقة مَن يحدّد موقعه على خارطة الشعر، في ذلك الزمان: «إنني أعتبر نفسي امتداداً نحيلاً، بملامح فلسطينية، لتراث شعراء الاحتجاج والمقاومة، ابتداءً من الصعاليك حتى ناظم حكمت ولوركا وأراغون الذين هضمتُ تجاربهم في الشعر والحياة، وأمدّوني بوقود معنوي ضخم».
كان محمود في عنفوان شبابه، وانطلاقات توهّجه الشعري ــــ المقاوم ــــ في أنحاء بلادنا، يعلن للناس العرب، الذين زلزلتهم الهزيمة، عن وجود جماعات من الشعراء والمكافحين، داخل فلسطين، تمارس تمرّدها على غطرسة القوّة الإسرائيلية التدميرية، وتضيء شموعاً في ليل الهزائم.
درويش، وصحبة من شعراء فلسطين الشباب، كانوا في هذا الموقع المقاوم للقمع العنصري، في هذا السياق من شعر يتحدّى اليأس ويقدح الشرر. إلا أن محمود درويش بالذات، المكافح، والمنتمي، والكاتب السياسي في جريدة يومية، كان شاعراً بالأساس، يجري الشعر مجرى الدم في شرايينه وكل مكوّناته الإنسانية. وكان نهماً يعبّ الحياة، والحب، والثقافة، وشغوفاً دائماً بتطوير الذات، ثقافياً وفكرياً في السياق نفسه لتطوّر هذه الذات نفسها شعرياً.
وبقدر ما انعجن شعره بالقضية، قضية وطنه المنفي عن شعبه والشعب المنفي عن وطنه، في زمانه الشعري الأول، فقد صارت القضية نفسها عنصراً مكوّناً في حركة تطوّر شعره، ورؤاه الفكرية، ومسارات حياته. لم تعد القضية عنصراً ما، خارجياً، «يعبّر الشاعر عنها»... فعلى مدى زمان محمود درويش الشعري، صار الشعر الشعر، هو القضية.
وكان في الظنّ أن تحوّلات محمود الشعرية، وتوغّله في العمق ممّا يقال إنه: التباس، ورمز، وتصارع الرموز في قلب غموض الشعر وشفافيته ــــ كان في الظنّ أن هذه التحوّلات تبتعد بالشاعر عن الجمهور وتُبعد الجمهور عن شاعرها.
فلماذا ظلّ الناس يحتشدون للاستماع إلى محمود درويش؟ مَنْ عاش زمان درويش الأول وجماهيريته: التصفيق الصاخب بما يشبه الطرب... ويتأمّل صورة احتشاد جمهور درويش في زماننا الحالي، يرى عجباً، مدهشاً، ومحرّضاً على التفكّر والتحليل: جمهور درويش في زمانه هذا، يستمع بشغف، وهدوء، يستمع ويتأمّل، يستمع ويفكّر، يشغّل جهازه الحيوي والعقلي والفكري، يحاول الدخول إلى عمق الشعر، إلى فكر درويش الشعري، حتى عمقه الفلسفي والإنساني في نسغ الشعر وشرايينه.
كأننا نلمس، هنا، ذلك الفرق العميق بين أغنية الطرب (الجميلة على كل حال) والبناء السمفوني الشاسع الذي كلما طال وتعدّد استماعك إليه تتوغّل عمقاً فيه، وتعرّفاً إلى جمالياته. محمود درويش، الشاعر أساساً، لم يكن ليتعب فقط في إبداع ما يبدعه.. كان يتعب أيضاً، ويكدح، وينوّع في نهمه الثقافي الفكري والحياتي.
كانت القضية إحدى حوامل شعره الأول. صار الشعر الشعر هو قضية محمود درويش. وظلّ محمود درويش جماهيرياً، بالعمق والمدى الشاسع. كان يرجو ــــ كما قال لي منذ أربعين عاماً ــــ أن يكون امتداداً نحيلاً لأمثال ناظم حكمت ولوركا وأراغون، فصار واحداً من كبار شعراء العالم، يضيء، بملامح شعره الفلسطينية وعمقها، دنيا الشعر في هذا العالم الواسع.

محمد دكروب

في القاهرة كانت ولادته الثانية
مع نجيب محفوظ كانت القاهرة أول مدينة عربية يزورها قبل الانتقال إلى بيروت. دُهش حين وجد نفسه لأول مرة في مدينة يتحدث أهلها كلّهم بالعربية... وعمل في «المصوّر» مع الراحل رجاء النقاش،
أول النقاد المحتفين بشعر المقاومةمع نجيب محفوظ

في الطائرة التي حملته من موسكو إلى القاهرة عام 1972، كان يقرأ ملفاً ضخماً وصفه بأنّه «يحمل مختارات من موسوعة الخيال الشرقي... موضوعه: محمود درويش». ضمّ الملفّ المقالات التي أثارها رحيله عن بلاده. كان درويش يظن أنّ الأمر مجرد «زوبعة ستنطفئ بعد أيام». لكنّ الهجوم استمر. واعتبر كثيرون في خروجه «خيانة» للقضية». لم يجد أحداً داخل فلسطين يدافع عنه باستثناء مقالة نشرتها جريدة «الاتحاد»، استنتج درويش أنّ كاتبها هو إميل حبيبي الذي رأى أنّ «درويش لم يرحل عن المعركة». وعندما وصل القاهرة، قرر أن يعقد مؤتمراً صحافياً أعلن فيه أنّه برحيله إلى القاهرة، لم يرحل عن «المعركة»بل هو قادم من منطقة «الحصار» إلى منطقة «العمل».
وبعد أيام، انضم درويش إلى أسرة تحرير «المصوّر» التي كان يرأس تحريرها رجاء النقاش، فكتب في نيسان (أبريل) 1972 مقالة بعنوان «هل تسمحون لي بالزواج» يطلب فيها ألا يحولّوه إلى أسطورة: «لست بطلاً كما يظن البعض، لست أكثر من فرد واحد في شعب يقاوم الذبح، الأبطال الحقيقيون هم الذين يموتون لا الذين يكتبون عن الموت». وقد لقيت مقالاته صدى كبيراً. ولم تخلُ جريدة مصرية من حوار معه في تلك الفترة، بل إنّ «المصور» نشرت قصيدته «أغنية حب فلسطينية» باعتبارها أول قصيدة يكتبها شاعر المقاومة الفلسطينية بعد وصوله إلى القاهرة. وأضاف الخبر «محمد عبد الوهاب بدأ تلحينها كي تغنيها نجاة». لكن يبدو أنّ حدثاً ما ألغى المشروع.
أسطورة درويش في القاهرة لم تبدأ بوصوله، بل قبل ذلك بسنوات، وتحديداً عندما نشرت مجلة «الهلال» عام 1967 ديوان «آخر الليل» الذي قدّمه النقاش باعتباره الديوان المصادَر للشاعر المحاصر محمود درويش. كما أنّ مجلة «الطليعة» المصرية التي كان يرأس تحريرها لطفي الخولي كانت تنتظر ما ينشره الشاعر في مجلة «الجديد». وكان أشهر ما نشرته له مقالة «أنقذونا من هذا الحب القاسي» طالب فيها درويش النقّاد بـ «وضع الحركة الشعرية الفلسطينية موضعها الصحيح بصفتها جزءاً صغيراً من حركة الشعر العربي المعاصر، بدلاً من الخضوع التام لدوافع العطف السياسي». بعد عام على هذا المقال، نشر عنه رجاء النقاش كتاباً كاملاً بعنوان: «شاعر الأرض المحتلة» (1969). يحكي النقاش أنّه تصوّر بدايةً أنّ «محمود درويش» ليس اسماً حقيقياً بل اسم مستعار لمناضل عربي ثوري يعيش متخفياً في الأرض المحتلة، بخاصة أنّ قصائده الأولى بدت أشبه بمنشور سياسي ثوري». بعدما قرأ النقاش قصائد الشاعر، قرّر أن يكسر الستار الحديدي الذي يعيشه أدباء الأرض المحتلة، واختار درويش لأنّه «أول اسم عربي تسلّل بشعره إلى خارج الأسوار الإسرائيلية».
لم يستمر درويش في القاهرة طويلاً. عامان فقط، التحق في الشهور الأخيرة كاتباً في «الأهرام» وتحديداً في «الدور السادس» الذي وضع فيه الكاتب الصحافي محمد حسنين هيكل النخبة المثقفة المصرية ككاتب لـ «الأهرام». وفي تلك الفترة، زامل درويش في المكتب نفسه الشخصيتين المتناقضتين: يوسف إدريس، ونجيب محفوظ. ولهذه الصداقات، رأى أنّ القاهرة «أهم المحطات في حياته»، بل «منطلقه الشعري الثاني». يحكي في أحد حواراته: «كانت الصحافة اللبنانية تهاجمني، وخصوصاً مجلة «الحوادث»... في القاهرة، تمت ملامح تحوّل في تجربتي الشعرية، كأنّ منعطفاً جديداً بدأ».
رحل درويش من القاهرة إلى بيروت، لا أحد يعرف أسباب رحيله، لكنّ ظلت علاقته بالمدينة في حالة ارتباك شديد. كتب قصيدته التي عدّها بعضهم هجاءً في المدينة: «عودة الأسير» التي بدأها بـ «والنيل ينسى، والعائدون إليك منذ الفجر لم يصلوا. ولست أقول يا مصر الوداع». وظل درويش ممنوعاً بعد كامب ديفيد من دخول القاهرة، حتى 1984، عندما جاء لإحياء إحدى الأمسيات الشعرية بعد «سبع سنوات من الغياب القسري». وقال في إحدى الندوات التي أقيمت له وقتها: «كان يصعب أن أصدّق أنّ مصر ذاهبة إلى المتراس المضاد».
وعندما نشر قصيدته الشهيرة «عابرون في كلام عابر» عام 1988 وعدّتها إسرائيل بمثابة إعلان حرب ضدها، قرّر أن يترك باريس للإقامة الدائمة في القاهرة، لكن يبدو أنّ منظمة التحرير رفضت. هكذا ظلّ يأتي إلى القاهرة، مشاركاً في الندوات، وأحياناً في زيارات قصيرة لأصدقائه، وكان آخرها في مؤتمر الشعر العام الماضي الذي مَنحه جائزة دورته الأولى.

محمد شعير

لمّا ترجع إلى عمّان رح نعملّك حفلة
في عمّان، المشهد يبدو مختلفاً بعد رحيل درويش. فالمدينة التي اختارها للإقامة والتنقّل بينها وبين رام الله لأنها تخلو من “الدوشة الثقافية”، ترثيه الآن بصمت. لكن، وبحسب رئيس رابطة الكتّاب الأردنيين، سعود قبيلات، فقد جرت اتصالات مع الأمين العام لوزارة الثقافة الأردنية، جريس سماوي، لإقامة مراسم تكريمية عند وصول جثمان درويش إلى عمّان اليوم. آخر من رآه من الأصدقاء كان الناقدَين محمد شاهين وفيصل درّاج، قبل أن يسافر إلى هيوستن، بيوم واحد. يصف شاهين أجواء الزيارة بأنّها كانت ودية وحميمية بشكل غريب، بل إن درويش كان “منشرح الصدر” إلى درجة قال لهما: “معنوياتي عالية”. وخلال تلك الجلسة، تحدث الثلاثة عن موضوع له علاقة بمنظمة التحرير الفلسطينية في عامي 1980 و1981. سيناريوات عدة يسردها أصدقاؤه: في طريقه إلى مطار الملكة علياء، اتصل درويش بخيري منصور في القاهرة، وأبلغه بأنّ نسبة نجاح العملية 97 في المئة، فشجّعه الأخير على خوضها. وهذا ما دفعه للشعور بتأنيب الضمير بعد أن وصله الخبر طازجاً ومرّاً من هيوستن. وبجزع يسأل: ماذا أفعل برقم هاتفه؟
“أصدقاء درويش على مستويات”، يقول شاهين، فمن أصدقائه: الشاعران زهير أبو شايب وطاهر رياض، والمحامي غانم زريقات، إضافة إلى شاهين ودرّاج اللذين كانا أقرب أولئك في الفترة الأخيرة. وكان للصعاليك، كما يسمّيهم شاهين، مواعيد يحدّدها درويش مسبقاً.
البحث عن محمود درويش في عمّان يبدو مستحيلاً. فالرجل كان يفضّل العزلة على الانخراط في فعاليات أو حتى سهرات، مفضّلاً البقاء في شقته في “عبدون” من أكثر مناطق عمّان ثراءً.
قبل أن يغادر شاهين ودرّاج منزل درويش العمّاني، قال له الأول: “لمّا ترجع رح نعملّك حفلة”، فرد عليه درويش “آه.. رح نعمل حفلة كبيرة”. الحفلة التي يقيمها الآن أصدقاؤه المذهولون، تزدحم بصور كثيرة عن شاعرٍ أضفى إلى هذه المدينة حضوراً خفياً. مدينته التي يغادرها الآن بصمت، تعرف أنّها بـ“جفافها الثقافي”، اجتذبت شاعراً لن يمرّ عليها مثله

أحمد الزعتري

الحبّ... أن يعاش!
كان محمود درويش على الدوام غامضاً بشأن حياته الخاصة، ولم يتحدّث إلا نادراً عن الزواج. أجاب أحدَ الصحافيين يوماً عن سؤاله الفضولي: “يقال لي كنت متزوجاً، لكنني لا أتذكر التجربة”! ويروي أنّه قابل رنا قباني، ابنة أخي الشاعر السوري نزار قباني، في واشنطن سنة 1977 فتزوجا “لثلاثة أعوام أو أربعة”، ثم سافرت لتحصيل شهادة الدكتوراه من “جامعة كامبردج”... وتزوج قرابة عام في منتصف الثمانينيات مترجمة مصرية هي السيدة حياة الهيني: “لم نصب بأي جراح، انفصلنا بسلام. ولم أتزوج مرة ثالثة... ولن أتزوج. إنني مدمن الوحدة. لم أشأ أن يكون لي أولاد، وقد أكون خائفاً من المسؤولية. ما احتاج إليه هو الاستقرار، فأنا أغيّر رأيي، أمكنتي، أساليب كتابتي... طوال الوقت. الشعر محور حياتي، ما يساعد شعري أفعله، وما يضرّه، أتجنبه”.
ويعترف محمود بفشله في الحب: “أحب أن أقع في الحب، السمكة علامة برجي (الحوت)، عواطفي متقلّبة. حين ينتهي الحب، أدرك أنّه لم يكن حباً. الحب لا بد من أن يعاش، لا أن يُتذكر”.

السجن الأول لا يُنسى

خلال إقامته في فلسطين، أيّام الشباب، اختبر الشاعر القمع الإسرائيلي على أشكاله، تعرّض للمضايقات، وذاق طعم السجن الذي كتب فيه بعض أجمل قصائده الأولى، وفرضت عليه الإقامة الجبريّة قرابة عقد. سجن للمرة الأولى سنة 1961 بعد عام على انتقاله من قرية الجديدة ليعيش وحده في حيفا. يقول درويش عن تلك التجربة: «السجن الأول مثل الحب لا ينسى». وسُجن مجدداً سنة 1965 بسبب سفره إلى القدس من حيفا من دون تصريح. كما سُجن مرة أخرى عندما أقام الطلاب العرب في الجامعة العبرية أمسية شعرية، فذهب محمود من حيفا إلى القدس للاشتراك في هذه الأمسية، وهناك ألقى قصيدته المعروفة «نشيد الرجال» التي يقول مطلعها: «لأجمل ضفة أمشي/ فلا تحزن على قدمي/ من الأشواك/ إن خطاي مثل الشمس/ لا تقوى بدون دمي!/ لأجمل ضفة أمشي/ فلا تحزن على قلبي/ من القرصان.../ إن فؤادي المعجون كالأرض/ نسيم في يد الحب/ وبارود على البغض». وقد نشر تلك القصيدة لاحقاً في ديوانه الثالث «عاشق من فلسطين».

«الأرض مثل اللغة»

أنجزت سيمون بيتون فيلماً مرجعيّاً عن محمود درويش، قبل سنوات، لمحطّة «آرتي» الفرنسيّة ـــــ الألمانيّة. الشريط جاء بعنوان «الأرض مثل اللغة»، ويندرج ضمن سلسلة «قرن من الكتّاب» التي كانت تخصّص كل حلقة من حلقاتها لكاتب عالمي بارز. ومحمود درويش كان الأديب العربي الثاني الذي تسلّط عليه الضوء بعد عميد الرواية العربية نجيب محفوظ.
في الفيلم (59 دقيقة ـ 1998) الذي حقّقته بيتون بالتعاون مع المؤرّخ الفلسطيني إلياس صنبر، مترجم درويش إلى الفرنسيّة وأقرب اصدقائه، تستعيد السينمائيّة والكاتبة الإسرائيليّة مسيرة الشاعر وإبداعه، معاركه وحياته من خلال سلسلة مقابلات معه، وتعليق يرصد ويحلّل أبرز المراحل في حياته التي طبعته ووصمت كتابته وشعره أيضاً. هكذا، ترسم له بيتون صورة غنيّة، فاذا بها تنقل للمشاهد تجربة خصبة من صلب ذاكرتنا الجماعيّة، يتقاطع فيها الخاص بالعام كلَّ لحظة، فإذا بكل الطرق تفضي إلى القصيدة.

 

موعدنا في 24 أكتوبر في مسرح محمد الخامس
وأخيراً عادت جائزة “الأركانة” إلى محمود درويش. هنيئا لها إذاً. هنيئا لهذه الشجرة النادرة التي لا تنبت إلا في المغرب بطائر حُر اسمه محمود درويش. فدرويش من طينة المبدعين الذين تُهنَّأ بهم الجوائز قبل أن يهنّؤوا عليها. وثلة الشعراء والنقاد المغاربة الذين تحلّقوا حول محمد الأشعري قبل أسابيع في فاس ليحسموا مصير الجائزة العالمية لبيت الشعر المغربي في دورتها الثالثة، كانوا فعلاً وهم يتهامسون فيما بينهم باسم درويش يرتَقون بهذه الجائزة إلى أعالي الكلام، هناك حيثُ الشعر في بُعْده الجمالي العميق يعكس ملامح الوجهِ الآخر للمقاومة. فبعد الشاعر الصيني بي ضاو، والرائد المغربي محمد السرغيني، يحظى محمود درويش بالأركانة في طبعتها الثالثة.
تقرير لجنة التحكيم الذي وقَّعه الأشعري ورفاقه (المهدي أخريف، حسن نجمي، رشيد المومني، والناقدان عبد الرحمان طنكول وخالد بلقاسم) رأى درويش “لحظةً مضيئة في تاريخ الشعر الإنساني”، إذ “لم يكفَّ، منذ أن وعى أن الشعر مصيري، عن البحث عن القصيدة في الألم والفرح، في الحياة والموت، في الورد والشوك، في الكلّي والجزئي، من غير أن يُفرِّط في شهوة الإيقاع، أي في الماء السري للقصيدة”. وأضاف التقرير أن درويش “رسَّخ، ولا يزال، القيم الخالدة، مؤكداً في مُنجزه الكتابي وعبره، أن المادة الرئيسية لهذا الترسيخ لغةٌ لا تتنازل عن جماليتها وبهائها، ولا تتنكر لدمها الخاص”.
محمود درويش، الشاعر الملحمي الذي لم يكفَّ منذ الـ«جدارية» عن مُنازلة نفسه داخل الفضاء التراجيدي الذي ارتضاه منذ شهْقتِه الشعرية الأولى، كان سعيداً بالجائزة. هذا على الأقل ما أكده لصديق مغربي اتصل به مهنّئاً فور إعلان فوزه بها. والمؤكد أن كثيرين كانوا في انتظار محمود درويش في مسرح محمد الخامس في الرباط يوم 24 تشرين الأول (أكتوبر) المقبل، حيث كان يُفترض أن تجري وقائع حفلة تسليم درع الأركانة إلى الشاعر الكبير، وحيث كان من يُتوقع أيضاً أن يعانق صاحب “سرير الغريبة” جمهوراً صديقاً جمعته به ألفة خاصة.
مسرح محمد الخامس كان أحد الفضاءات الأثيرة لدى الشاعر الفلسطيني الراحل. هناك اعتاد أن يقرأ شعره كلما زار المغرب. حتى قصائد دواوينه الأخيرة التي صار فيها درويش أكثر إصغاءً إلى الحياة وانشغالاً بالبحث في أشكال الكتابة. في مسرح محمد الخامس قرأ درويش لشباب اليسار الجديد الذي لم يكن يرضى عن الثورة الوطنية الديموقراطية بديلاً. ثم قرأ أمام أبنائهم وقد كبروا وصاروا طلبة في معاهد المسرح والسينما والتشكيل وكليات الطب والصيدلية، وأمام الآباء أيضاً وقد صاروا يجلسون أمامه مباشرة في الصفوف الأولى بربطات عنق وبذلات تليق بمسؤولياتهم الجديدة. الصداقة ضاربة في العمق إذاً، وكل طرف ظل يراقب تحوُّلات الآخر. ومسرح العاصمة العريق كان يتحفّز لاستعادة عنفوانه بضمِّه الوجوه القديمة نفسها إلى أخرى جديدة ما دام الضيف المنتظر هو درويش.
في بداية التسعينيات، وبعد يوم نضالي ساخن، أوقفنا معركتنا داخل كلية العلوم في جامعة محمد الخامس في الرباط، ثم خرجنا في ما يشبه التظاهرة مشياً على الأقدام باتجاه المسرح. كان درويش سيقرأ تلك الليلة، ورأينا أن حضور أمسيته ومُقاطعَته من حين إلى آخر بالشعارات تتويجاً مستحقاً ليومنا النضالي الحافل. لكننا وجدنا الباب شبه مغلق. أخبرَنا الحراس أن الدخول بالدعوات، ثم إن قاعة مسرح محمد الخامس مكتظة عن آخرها. أُسقط في يد الرفاق. الشرطة تطوّق المكان. ونحن منهكون بسبب معركة كلية العلوم وقطع كل هذه المسافة سيراً على الأقدام. الرفاق حائرون. بدأنا نقلّب الأمر على كل أوجُهه. في تلك اللحظة، ظهر درويش. كان قادماً للتوّ من فندق “حسان” القريب محفوفاً بشخصيات ثقافية وسياسية بارزة. حينها صرخ في وجهه أحد الرفاق: “نحن ممنوعون من الدخول يا درويش، لكننا سنحضر أمسيتك غصباً عن الجميع”. فغمغم الشاعر الراحل مرتبكاً: “من حقكم الدخول. لكن باللين وبدون فوضى”. أجابه رفيقنا الغاضب: “بل غصْباً وفوضى ورغم أنف الجميع. ألستَ القائل: حريتي فوضاي؟”. هنا نظر إليه درويش بارتباكٍ داراهُ بابتسامة متضامنة وانسلَّ إلى الداخل. بدأ بعض الرفاق يرددون الشعارات في الخلف. ثم اشتدت حرارة المشهد. رجال الشرطة يتأهّبون. نحن نسينا الشعر وانخرطنا في ترديد الشعارات مفكرين في مواجهة البوليس. في تلك اللحظة، جاء موظف ثخين يركض نحونا. صرخ في وجه الحراس: “افتحوا الأبواب فوراً ليدخل الجميع”.فدخلنا، وطبعاً أغْنَينا الأمسية بما جادت به القريحة من شعارات غاضبة. غضبٌ يدي. غضبٌ فمي. ودماء أوردتي عصيرٌ من غضب.
عزيزي محمود درويش، كنتُ سأحضر أمسية 24 أكتوبر. كنت سأصغي إلى قصيدتك الجديدة كالعادة بحبّ وتعلم وتقدير. كنت سأحتمي بشعرك من شعاراتٍ كثيراً ما خذلتنا وهي تبدِّل جلدها في منتصف الطريق. لكنك لن تأتي إلى الرباط. لن تقرأ قصيدتك. ولهذا السبب بالضبط، كل شجر الأركان في المغرب يبدو حزيناً. أهو الحدادُ إذاً؟ أيها الشاعر الكبير، الأركانة على الأقل استحقتك. وتستحق أن نهنّئها بك. فقد نجحتْ فيما فشلت فيه نوبل. ثم إنك أيها الشاعر كنت على الدوام أكبر من كلّ الجوائز، أعلى هامة وأكثر سموقاً.

ياسين عدنان

عائد إلى حيفا
... والشاعر سميح القاسم (الى اليسار)في منتصف شهر تموز (يوليو) من العام الماضي، أي قبل عام تقريباً، لبّى محمود درويش دعوة «الجبهة الديموقراطية للسلام والمساواة» ومجلة «مشارف»، لإحياء أمسية شعريّة في حيفا. وأثارت الزيارة نقاشاً بين المثقفين الفلسطينيين والعرب، لكنّ الشاعر الذي ذكّر بأنّه عائد إلى مدينته، تعالى عن الضجيج المثار حول الزيارة، وقرأ شعره أمام جمهور كبير من أهل فلسطين التاريخيّة. وتلك الزيارة كانت تشكّل عودته الأولى إلى حيفا منذ أبعد عنها قبل 35 عاماً. يومها هرب الشاعر من الاقامة الجبريّة، واختار الانتقال إلى المنفى بادءاً رحلة طويلة لن تنتهي إلا العام 1996 مع سمح له بالعودة إلى الجزء الصغير من فلسطين الذي بات يمثّل السلطة الوطنيّة. والمعروف أن عائلة الشاعر تقيم في فلسطين الـ 48، بعد أن عدّ أفرادها من «الغائبين الحاضرين»، بسبب خروجهم لعام واحد بعد النكبة.
ومنذ ذلك التاريخ، دخل محمود درويش أكثر من مرّة إلى الأراضي المحتلّة قبل العام ١٩٦٧: مرّة مؤبناً إميل حبيبي، في ٣ أيّار (مايو) ١٩٩٦،... وكان محمود على موعد مع صديقه الباقي في حيفا، من أجل المشاركة في فيلم سينمائي عن صاحب «المتشائل»... لكن المرض العضال أسكت حبيبي قبل وصوله، فما كان منه إلا أن شارك في تأبينه.
ومرّة أخرى في كانون الثاني (يناير) 1999، سُمح للشاعر بزيارة أمه وعائلته. وفي نهاية التسعينيات، عاد درويش إلى قرية كفر ياسيف، احتفالاً بمئة عام على تأسيس مدرسة «يني يني». كما جاء إلى الناصرة في 28 أيلول (سبتمبر) 2000، وأحيا أمسية شعرية بدعوة من مؤسسة توفيق زياد.


القلب و«الزمان المستعار»
قبل جراحة «القلب المفتوح» الأخيرة التي خضع لها في هيوستن،كان الشاعر قد أفلت من تجربتين صعبتين في هذا المجال. أصيب درويش بنوبة قلبية سنة 1984، وتعرّض لموت سريري: «توقف قلبي لدقيقتين، ولم يعد إلى العمل إلا بفعل الصدمة الكهربائية... رأيت نفسي أسبح فوق غيوم بيضاء، تذكرت طفولتي كلها، استسلمت للموت، ولم أشعر بالألم إلا عندما عدت إلى الحياة». المرة الثانية سنة 1998، كانت مختلفة: «كنت في بلجيكا، أعطوني شهادة دكتوراه فخرية من جامعة هناك، وعرّجت على باريس لإجراء فحوص طبية. قرر الطبيب إجراء جراحة عاجلة، فتحمست. رغم أن طبيب القلب اعترض على إجرائها لأن قلبي لا يتحمل، وبعد نقاش اتفق الطبيبان على خوض المغامرة. فدخلت غرفة التخدير وكانت آخر كلمة سمعتها من الطبيب «نلتقي» وبعدها نمت (...). لا أعرف ماذا جرى لكن بعد الصحو قيل لي إنني مررت بخطر الموت الحتمي، بل حتى جرى البحث في ترتيب جنازة. كنت غائباً، هذا لم يكن عذابي، كان عذاب أصدقائي».
وتحت تأثير البنج راح الشاعر يهلوس يومذاك، حتّى خاف عليه أصدقاؤه من الجنون: «كنت مقتنعا بأنني لست في مستشفى، بل في قبو سجن، وبأن سجانيّ يعذبونني في كل يوم (...) وفي لحظة أخرى، رأيت نفسي جالساً مع رينيه شار، ورأيت المتنبي والمعري». تلك التجربة أوحت له بالـ «جداريّة» (٢٠٠٠)، ثم استعادها أخيراً مع كتابه «في حضرة الغياب».
وفي أحد حواراته الأخيرة، قال درويش الذي توقف عن التدخين، وخفّف من الشرب والسفر: «أنا لا أخشى الموت الآن. اكتشفت أمراً أصعب من الموت: فكرة الخلود، أن تكون خالداً هو العذاب الحقيقي. ليست لدي مطالب شخصية من الحياة لأنني أعيش على زمان مستعار... ليست لدي أحلام كبيرة. إنني مكرّس لكتابة ما عليّ كتابته قبل أن أذهب إلى نهايتي».

المصدر: الأخبار


 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...