نجيب محفوظ .. ستمضي الحياة في الحديقة والناي والغناء

08-02-2013

نجيب محفوظ .. ستمضي الحياة في الحديقة والناي والغناء

نجيــب محفــوظ مهنــدس الملحمــة المصريــة
  سئل نجيب محفوظ في أحد الحوارات التي أقيمت معه: ما سر هذه الهندسة الصارمة التي تتبدى في نصوصك الروائية؟.
فأجاب في تبجح وثقة وصدقية المصري الذي كانه... قال: لا تنسَ أني حفيد المهندسين العظام الذين أنشأوا الأهرام والذين بنوا المعابد في الجنوب.
وهو على حق, ففي نفس الوقت الذي كانت مصر تبني فيه معبد رمسيس ذا الساعة الفلكية العجيبة, كانت حضارات كثيرة أخرى، ما عدا حضارات الأنهار الآسيوية العظمى، ما تزال تتعثر في بناء الأكواخ والبيوت حتى لا يسقطها تراكم الثلج وعواصف الريح.
بدأ نجيب محفوظ هندسته واستكشاف ميراثه الهندسي حين قرر تجاوز الروايات التاريخية, أي الملتزمة بالنص التاريخي, أو المحرضة على استنهاض الأحفاد للحاق بالأجداد فتوقف بعد رادوبيس وكفاح طيبة وتخلى عن الروايات الطبيعية واستسلم تماماً للرواية الواقعية التي قرأ نموذجها لدى الكاتب الانكليزي غولزورثيي ملاحقته الانفلات السري والتحفظ الفيكتوري لأسرة برجوازية في تعبدها ولهوها وازدواجية رؤيتها للعالم الجنسي, وصعودها السياسي، متنقلة من الهم الشخصي إلى الهم الوطني, ثم إلى دخولها ضمن برجوازية المستوظفين الرائعين في خير الميري.

ملحمة الحسينية

ثلاثية بين القصرين، وقصر الشوق والسكرية، ملاحقته هذه الأسرة وتفرعاتها وتضحياتها وموت بعضها على يد الاحتلال البريطاني، وتعلقها بسعد زغلول، رمز الوطنية المصرية، الذي بدأ يظهر بعد أن انتشر شكل ما من أشكال التعليم بين المصريين منذ أيام محمد علي وأبنائه وأحفاده، ورغم تردي التعليم بشكل فاحش بعد تغيير المناهج والغرض من التعليم، على يد دنلوب أيام الخديوي توفيق، إلا أنه ظل تعليماً ومنهجاً لضبط العقل وجعله يعرف أنه ليس ابن الجارة فقط, بل ابن الوطن، وكان للصحف والمسرح وللمركزية السياسية التي جعلت كثيراً من أبناء المدن يمضون موظفين ومعلمين إلى أقصى القطر فيعرفون أنهم مصريون, ويعرفون أن الفلاحين مصريون.
وهكذا ربما كانت هذه الثلاثية المصرية بامتياز أولى ملاحم نجيب محفوظ التي لا تقل عما كتب الجبرتي قبل قرن وبضع عقود.
بعد ثلاثية الحسينية هذه توقف نجيب محفوظ لفترة، كتب فيها روايات مفردة تتراوح بين الحداثة (ثرثرة فوق النيل) وبين السجالية مع رواية أخرى (ميرامار, في سجالها مع رباعية الإسكندرية )، وشبه البوليسية (اللص والكلاب ).
في ثلاثية الحسينية اكتشف نجيب محفوظ جذره المهندس الذي لا ينسى وهو يبني الدرجة الأولى في الهرم أن هناك قمة أعلى الهرم، عليه أن يضبط الزوايا والجدران منذ القاع حتى لا تنحرف الجدران فتضيع القمة.
كان نجيب محفوظ حينها قد أصبح الاسم الأول بين كتاب مصر الروائيين، مبعداً نجومها الذين سبقوه عن المنافسة.
ولكن طموح المهندس كان يقول له: أنت مهيأ لما هو أكبر, وبهدوء أخذ الطموح لديه ينمو شيئاً فشيئاً لكتابة شيء اشبه بالتوراة, أو بملحمة جلجامش, أو الشاهنامة.
إن ما يريد كتابته ليس ملحمة أسرة لخمسين أو سبعين, أو حتى مئة سنة... بل هي ملحمة الجنس البشري منذ آدم وحتى يومنا هذا. فها هو يبدأ روايته الجديدة مع أدهم (هل يحق لنا اعتباره معادلاً لآدم)، ربما. ولكن هاهو آدم الإبن المدلل عند صاحب القصر والجنينة, هاهو يخطئ حين يستجيب لإغراءات إدريس (أتراه معادلاً لإبليس) سأترك الجواب لمن يريد.
يطرد أدهم من عمله الهام والمحسود عليه. كقيم على حسابات وإدارة مصاريف القصر والجنينة. ويطرد حتى من القصر، فقد أغواه إدريس وجعل الجبلاوي الأب والمدلل يغضب فيأمر بطرده. وهكذا يصبح أدهم وإدريس مطرودين من القصر. وتبدأ مناوشات إدريس وكأنها مقالب عادية, إلا أنها مقالب مؤذية تغرق أدهم في الخطايا يوماً بعد يوم, وتأخذ الأحزان خارج القصر في مطاردته (المعادل لآلام آدم المطرود من الجنة). الى آخر هذه المقابلات التي ما أعتقد أن الكاتب يفضلها.
يختفي أدهم وتبدأ عذابات أبنائه ـ وإن ظلوا طوال الوقت يرنون الى القصر وجنينة الفرح والحلم ـ وفجأة يظهر في الحارة فتوة جديد, إنه (جبل) المعادل الموضوعي لموسى, الخ. الى آخر الرواية التي سنرى فيها محاولات البشرية حل مآزقها في السعي وراء الخبز والعدل والحرية, ولكن كل داع جديد، موسى كان أم عيسى (رفاعة) أو محمد (قاسم). لا يلبث أتباعه أن يتحجروا ويكلسوا أفكاره, راجعين بها إلى ما يشبه الوثنية في عبادة المال, والجبن أمام السلطان والضعف أمام الجنس, وكان يمكن لهذا كله أن يدوم إلى الأبد لو لم يظهر (عرفة)، إنه العلم الذي يقدم الحلول في الاكتشافات والاختراعات ولكن الطاغية في القصر يستولي على منافع هذا العلم, وهذه هي رؤية الكاتب, وربما هي رؤية الواعين في تحول العلم إلى أداة بيد الأقوياء والمتنفذين, به يستعبدون ويتسلطون ويمكنون لأنفسهم.
جوبهت هذه الرواية حين صدورها برفض شديد من رجال الدين وبدأ التهجم عليها, وكانت قد طبعت على فصول في جريدة الأهرام, ثم طبعت في بيروت كاملة, ولكنها لم تطبع طبعة ثانية لما يزيد على الثلاثين عاماً, فقد كان نجيب محفوظ يرفض أن يقف في الصف المقابل لشعبه وللرأي العام, وكان في هذا يمثل الرجل المصري الوسطي, الذي لا يريد صداماً مع عموم الشعب ومع المؤسسات الدينية (الأزهر)،ومع ذلك فلم يسلم محفوظ من محاولة اغتيال ذبحاً عام 1994،على يد شاب اعترف بأنه لم يقرأ الرواية, ولا يعرف عنها أكثر من أنها رواية كفر كتبها كافر. وأنها الرواية التي شجعت سلمان رشدي على كتابة رواية آيات شيطانية.
عاد نجيب محفوظ بعد رواية أولاد حارتنا, إلى كتابة الروايات المنفردة فوضع المرايا وهي شكل جديد حاول فيه أن يقدم صورة لأشخاص عرفهم في شبابه محاولاً جعل هذا الموزاييك نصاً روائياً, ثم دخل روايات السجال مع الفترة الناصرية وضغط المخابرات وتخريبها الفرد أمام التحديات الخارجية, فكتب الكرنك، والحب تحت المطر, وحضرة المحترم وروايات أخرى.

ملحمة الحرافيش..

إنها المرة الأولى التي يسمي ما يكتبه بالملحمة, فهو لم يسم ثلاثيته بالملحمة (الساغا)، وكلمة ساغا التي استخدمها غولزورثيي البريطاني مستعيراً إياها من الأدب الاسكندينافي والتي تعني السيرة الأسطورية لشعب ما بكل ما فيها من مغامرات وبطولات وصراعات آلهة وجان وأقدار غامضة، ولا شك أن كاتبنا حين قرأ هذا المصطلح الذي يستخدمه غولزوررثيي عن أسرة بريطانية وهي أسرة الفورسايت, أسرة برجوازية في انتقالها من الفيكتورية وحتى المعاصرة.
لا شك أنها قدمت له نموذجاً من الكتابة عرفه الأدب العربي الشعبي في السير (الملك الظاهر, سيف بن ذي يزن) الخ وكان قد حاول أن يستفيد من الأدب العربي التاريخي ليستحدث شكلا جديداً في الرواية. ثم حاول استخدام شكل أدب الرحلات, فكتب رحلات ابن فطومة, لكنه تخلى عن كل تلك الأشكال ملتزماً بشكل الساغا ـ الملحمة, حينما كتب أولاد حارتنا ولكنه لم يسمها ملحمة أو ساغا تاركاً هذا الاسم حتى كتابة ملحمة الحرافيش. ولم يسم أولاد حارتنا بالملحمة أيضاً, ولكنه هاهنا يعرف، وهو المثقف العارف لمهنته جيدا،ً أن يسمي ما يكتب بالملحمة (الساغا)، وكان قد سمى الناس الذين تابعهم في خان الخليلي وزقاق المدق وحكايات حارتنا, سماهم بالحرافيش, فقرر في جرأة أن يجعلهم الأبطال في ملحمته هذه ملحمة الحرافيش. في هذه الرواية التي نشرت في العام 1977، أي بعد حوالي خمسة عشر عاماً من نشره (أولاد حارتنا) والتي حملت العنوان المخادع والأقرب الى السذاجة أولاد حارتنا.
انتقل محفوظ إلى همه الأساس... الحرافيش.. فقراء في الحرف الدنيا, أكثرية الشعب المصري ممن لم يكونوا فلاحين ولا موظفين, الرعية.
هؤلاء الناس الذين كتب عنهم ابن إياس والجبرتي والمقريزي.. إنهم العامة.. وقود الأوبئة والطواعين وربما كانوا وقوداً للحروب, فلم يسمح لهم السلطان أبداً من قصره البعيد أن يحملوا السلاح فيصبحوا خطراً محتملاً.
تبدأ رواية الحرافيش بوباء يضرب حارة عاشور الناجي, العملاق الفقير الذي يهرب من الحارة بعد تلقيه تحذيراً في الحلم عن الوباء القادم فيهرب مع عائلته الى الجبل حيث النقاء من الأمراض. وتمر الأيام ليعرف بعدها أن الوباء قد انقضى, فيحركه الحنين ويعود إلى الحارة ليجد أنها قد خلت من سكانها تماماً، فيمر بها ويتفحصها, وفجأة يرى قصر ثري الحارة, فيتجرأ ويدخل ليكتشف ألا ساكن فيه, فقد مات الجميع, يأتي بزوجه ويسكنان البيت مع أطفالهما، ويبدأ حلم اليقظة في الثراء يتحقق.
منذ سكنى عاشور الناجي مؤسس الأسرة في القصر تبدأ الملحمة, لتبدأ قصص الأبناء, فابنه شمس الدين الذي نشأ في العز يبدأ بتصنيع أسطورة التفوق والتميز على أبناء الحارة الذين يتقاطرون ويعيدون ملأ الحارة التي خلت لزمن من السكان. ثم يأتي الحفيد سليمان الناجي الذي تتدهور معه سيرة الأسرة حين أخذ يخزن المال ويحرم الفقراء من حقهم في أموال وريع صاحب القصر من أوقاف القصر, الذي حل الجد عاشور فيه. ويذكرنا هذا السقوط بنظرية ابن خلدون, أن للأسر الحاكمة ثلاثة أجيال تبدأ من بعدها بالتحلل. وهكذا يتقدم فتوة آخر ليس من أسرة الناجي, فتنحدر الأسرة لتصبح من الحرافيش في انتظار المنقذ, ويكون عاشور الثاني فيحول العشيرة من شحاذين ونشالين إلى العشيرة الأعظم في تاريخ الحارة.
ثم يأتي شمس الدين سارق النعمة, ويأتي بعدهم أحفاد فيهم من يريد بناء برج يصل فيه إلى السماء, وفيهم امرأة تتسيد حين يعجز الرجال.
إنها ملحمة البحث عن العدل المطلق, والحرية المطلقة, والخبز المطلق. هي رحلة البشرية مختصرة بحرافيشها. ملحمة الحرافيش هي النص الأدبي الذي أعلن فيه نجيب محفوظ أخيراً أنه يكتب ملحمة, فقد كان يكتبها في النصين السابقين, ولكنه لم يكن يدرك أولم يكن متأكداً أنه يكتب ملحمة ولكنه أخيراً أعلن أنها ساغا الحرافيش الذين ظل يشتغل عليهم لأكثر من ربع قرن كانت قمة الهرم فيها هي هذه الملحمة التي ستظل تحدياً لكثير من مهندسي الرواية في الأدب العربي.

 خيري الذهبي

نجيب محفوظ .. ستمضي الحياة في الحديقة والناي والغناء
مبكراً، انتبه نجيب محفوظ إلى الدور السياسي الذي يمكن أن تلعبه جماعة الإخوان المسلمين في السياسة بل وفي الدين أيضاً. كانت المرة الأولى التي تظهر فيها شخصية تنتمي إلى جماعة الإخوان في الرواية العربية لدى نجيب محفوظ، تحديداً في روايته «القاهرة الجديدة» التي صدرت عام 1934، أي بعد ست سنوات فقط من تأسيس الجماعة عام 1928، كانت الشخصية تحمل اسم مأمون رضوان، كتب محفوظ في روايته ساخراً منه: «الأستاذ مأمون رضوان إمام الإسلام في عصرنا هذا. وقديماً أدخل عمرو بن العاص الإسلام في مصر بدهائه، وغداً يخرجه منها مأمون رضوان بثقل دمه».. والمفارقة أن ما تنبأ به صاحب «أولاد حارتنا» يحدث في مصر الآن بالفعل. لم يكن محفوظ يضرب الودع وقتها، ولكنه كان يعرف حركة التاريخ ومكره أيضاً، إطلاعه الواسع على الجماعة وظروف تأسيسها (في الإسماعيلية المسيطر عليها سيطرة كاملة من الاحتلال الإنكليزي وقتها) أتاح له أن يقرأ المستقبل. وكان محفوظ ينفر بشدة بحكم تكوينه الليبرالي من أي جماعة ترى أنها تمتلك الحقيقة المطلقة. وقد حاول العديد من أصدقاء محفوظ بعد انتشار أفكار الجماعة وبزوغ نجم حسن البنا أن يقنعوه بأن «يأخذ فكرة عن الجماعة»، حاول ذلك بقوة الروائي وناشر محفوظ عبد الحميد جودة السحار، بل حدد له موعداً مع حسن البنا ولكن عميد الرواية اخبره أنه كان ينفر بشكل فطري من التنظيمات المغلقة، التي تقترب في بنائها من الفاشية. وكان يرى أن جماعة الإخوان ومصر الفتاة مجرد تنظيمات «فاشية وانتهازية في الوقت ذاته»، لذا نفر منهما مفضلا الانضمام إلى الوفد. قال له السحار: تعال قابل البنا وبعدين احكم. ولكن محفوظ لم يكن «يطيق هذه السيرة أبداً».
لم يتغير موقف محفوظ حتى عندما التحق واحد من معارفه بالجماعة، بل صار مفكرها الأبرز فيما بعد. سيد قطب الذي ربطته بالعميد علاقة قوية، وقدم تقريباً رواياته الأولى للوسط الثقافي. قطب يكبر محفوظ بخمس سنوات فقط، وكان ناقداً أدبياً وروائياً وشاعراً، كانت أناشيده مقررة على طلبة المدارس حتى منتصف الستينيات، عندما تم القبض عليه، كما أنه كتب رواية هامة «أشواك» تقترب أن تكون سيرة ذاتية يشرح فيها معاناته النفسية بعد قصة حب فاشلة تخللها لقاءات غرامية وجنسية.

مع سيد قطب

لم تكن علاقة محفوظ وقطب علاقة تلميذ بأستاذه، إذ لم يكن عميد الرواية يخفي أنه تلميذ لاثنين الشيخ مصطفى عبد الرازق، وسلامة موسى، أخذ من الأول - كما يقول رجاء النقاش: «نظرته المستنيرة إلى التراث العربي والإسلامي، ومن الثاني التطلع إلى التجديد الحضاري، والدعوة إلى العدالة الاجتماعية ورد الاعتبار للجذور القديمة للشخصية المصرية». لذا يمكن اعتبار علاقته بقطب علاقة احترام لا صداقة أو تلمذه.
وكما كان مأمون رضوان أحد أبطال «القاهرة الجديدة» ثقيل الظل، تحول قطب بالنسبة إلى محفوظ إلى شخص ثقيل الظل بعد انضمامه إلى جماعة الإخوان، وقد وصف ذلك ببراعه في روايته «المرايا» حيث حمل قطب في الرواية اسم عبد الوهاب إسماعيل: «إنه اليوم أسطورة، وكالأسطورة اختلفت فيه التفاسير، وبالرغم من أنني لم الق منه إلا كل معاملة كريمة أخوية إلا أنني لم ارتح لسحنته ولا لنظرة عينيه الجاحظتين الحادتين....»، ويضيف محفوظ: «وبالرغم من أن عبد الوهاب إسماعيل لم يكن يتكلم في الدين، وبالرغم من تظاهره بالعصرية في افكاره وملابسه وأخذه بالأساليب الإفرنجية في الطعام وارتياد دور السينما، إلا أن تأثره بالدين وإيمانه بل وتعصبه لم تخف عليّ. اذكر كاتباً قبطياً شاباً أهداه كتاباً له يحوي مقالات في النقد والاجتماع، فحدثني عنه فقال: إنه كاتب مطلع حساس وذو أصالة في الأسلوب والتفكير. فسألته ببراءة متى تكتب عنه. فابتسم ابتسامة غامضة وقال: «لن اشترك في بناء قلم سيعمل غداً على تجريح تراثنا الإسلامي بكافة السبل الملتوية»..وأضاف: «لا ثقة لي في أتباع الأديان الأخرى»!
وكان آخر لقاء جمع محفوظ وقطب في منزل الأخير بحلوان في عام1964، عقب خروجه من السجن بعفو صحي، رغم معرفة محفوظ بخطورة هذه الزيارة وبما يمكن أن تسببه من متاعب أمنية: في تلك الزيارة تحدثنا في الأدب ومشاكله, ثم تطرق الحديث إلى الدين والمرأة والحياة, وكانت المرة الأولى التي ألمس فيها بعمق مدى التغيير الكبير الذي طرأ على شخصية سيد قطب وأفكاره.. لقد رأيت أمامي إنسانا آخر.. حاد الفكر.. متطرف الرأي.. يرى أن المجتمع عاد إلى الجاهلية الأولى وأنه مجتمع كافر لا بد من تقويمه بتطبيق شرع الله انطلاقاً من فكرة الحاكمية لا حكم إلا لله.. وسمعت منه آراءه من دون الدخول معه في جدل أو نقاش.. فماذا يفيد الجدل مع رجل وصل إلى تلك المرحلة من الاعتقاد المتعصب؟! يضيف محفوظ: في تلك الزيارة كان مع قطب مجموعة من أصحاب الذقون، لم يكن قطب يشبه صديقي القديم الذي عرفته فيه، وأردت أن اكسر حدة الصمت الثقيل فقلتُ دعابة عابرة، وافترضتُ أن اساريرهم ستنفرج وسيضحكون، ولكنهم نظروا إلي شزراً، ولم يضحك أحد حتى سيد نفسه، وعندها غادرت البيت صامتاً، وشعرت بمدى التحول الذي طرأ عليه».
إذن نحن هنا أمام نموذجين، كلاهما باحث عن حقيقة ما، لكن قطب كان صاحب مشوار مليء بالانقلابات والتغيرات الحادة، كل مرة يصل إلى طريق يجد أنه مسدود، سواء أكان في أحضان السلطة...أو يشعر بأنه يمتلك الحقيقة المطلقة، التي تجيز له أن يكفر المجتمع كله.
بينما على الجانب الآخر كان محفوظ شخصاً مختلفاً. استطاع طوال سنوات عمره، التي قاربت قرناً من الزمان، وبعد رحيله أيضاً، أن يحافظ على تأثيره وفاعليته، ليصبح رمزاً عابراً للسنوات والعصور.
عايش محفوظ التقلبات السياسية والمنعطفات الحاسمة، الثورات والأنظمة والحروب، من النكسة الى الاستنزاف وحرب أكتوبر، من ثورة 19، إلى ثورة يوليو 52 إلى كامب ديفيد، ومن نوبل إلى الخنجر الغادر الذي جاءه من الخلف. استطاع أن يصمد في وجه التقلبات والعواصف والتغيرات التي أصابت المجتمع والثقافة، صموده في وجه الحقد الأصولي. تبدلت الموضة وانقلبت المعايير الجمالية، وتغيرت الأسماء، وانسحب كتّاب كبار إلى متحف «التاريخ»، فيما ظل محفوظ في مكانه، يثير الاهتمام والإعجاب والجدل الصاخب.
تكبد صاحب « الثلاثية» مشقة السفر في عالم الرواية طوال عقود بعد أن قاوم الشيخوخة تارة والسلطات تارة أخرى، وكتاب التقارير وصناع الطغاة، وسكاكين المتطرفين وكل الصعوبات التي كادت تحول بينه وبين الكتابة تارات وتارات. ربما تمتد حياته وتتسع سيرته لحداثة عربية ضلت دروبها. كيف كان الوطن؟ وكيف أصبح؟
لم يكن عمره قد تجاوز الرابعة عشرة عندما بدأ الكتابة بقصة طويلة اسماها (الأعوام) مقلداً فيها رائعة عميد الأدب العربي طه حسين (الأيام)...وعندما التحق بكلية الآداب اختار الفلسفة لدراستها، وظل مشتتاً لفترة بين الأدب والفلسفة حتى حسم أمره نهائياً بالإخلاص للكتابة الأدبية وحدها. باختصار قرر أن يتخذ من الكتابة حرفة رغم ما ستجره عليه من مشكلات تماماً مثل راوي رائعته (أولاد حارتنا)!
عبر الكتابة لم يبحث عن شهرة أو مجد أو مال وإنما متعته الشخصية وحدها. ولذا تكفل عبر أكثر من خمسين رواية ومجموعة قصصية بقطع الرحلة التي قطعتها أجيال من الروائيين الغربيين خلال أربعمئة عام. أحرق محفوظ مراحل تطور الرواية من التاريخية إلى الواقعية إلى الرمزية، ولم يعد أمام أبنائه وأحفاده إلا الاندماج في مسيرة الرواية العالمية كتفاً بكتف.
محفوظ رجل الساعة، حسب وصف صديقه الكاتب الساخر محمد عفيفي، المنضبط رغم أنه يمارس أقصى أنواع اللعب في كتابته، صاحب الذاكرة المتوهجة، الحادة. حتى يومه الأخير لم تأخذ الأيام من ذاكرته شيئاً، بل كان في جلساته اليومية مع أصدقائه مثل شيخ صوفي، عباراته قليلة، مكثفة تلخص حكمة الكون، وتفيض بالدهشة، كما تعكس ضحكته الصافية التي ترتفع ين الحين والآخر استهزاء بذلك العالم التافه!
لم تفارقه النكتة حتى في أسوأ الأوقات بل لعله كان واحداً من أشهر ملوك القافية والقفشة التي لا تتميز فقط بالسخرية بل تكشف عن ذكاء حاد وبديهة حاضرة.
عندما سأله الحرافيش - كما يحكي جمال الغيطاني - في جلستهم الأسبوعية عن إحساسه لحظة الزلزال الذي أصاب مصر عام 1992 قال: (كنت أجلس في الصالة، شعرت به بقوة، وتطلعت إلى السقف منتظراً سقوطه، وسقوط برلنتي عبد الحميد في حجري)...وبرلنتي واحده من أشهر نجمات السينما في الستينيات تزوجت المشير عبد الحكيم عامر وتسكن الطابق العلوي من نفس العمارة التي يسكنها محفوظ!
وعندما زاره المفكر الفرنسي جارودي ذات مرة عام 1997، سأله: ماذا تكتب الآن؟
أجاب محفوظ بتلقائية: أكتب اسمي!
كانت زيارة جارودي له عقب محاولة الاغتيال التي تعرض لها عام 1994 بسبب روايته أولاد حارتنا وأصيبت اليد اليمنى، نتيجة طعنة مطواة في العنق سددها شاب غشيم لم يكن قد قرأ له حرفاً، وكان يتلقى علاجاً طبيعياً بانتظام، ويعاود التمرين على الكتابة مثل طفل، مكرراً كتابة اسمه آلاف المرات. ولم يكن صاحب الخنجر الذي امتد إلى رقبة محفوظ سوى سيد قطب نفسه صديق محفوظ الذي ترك تلاميذاً من الجهلاء، العنف والقتل والدم هو وسيلتهم الوحيدة للتغيير. الثورة كانت حلم محفوظ الدائم. بالتأكيد هو الأكثر فرحاً بها. هل تصله تفاصيلها؟
ربما لم يغادر محفوظ عالمنا. أتخيله يستيقظ في الصباح، يدخن سيجارته الأولى مع فنجان القهوة الأول، وفي الموعد المحدد يتجه إلي باب البيت ليفتح لقارئه الأول وكاتم أسراره عم صبري. يجلسان ليقرأ له الجرائد، ويخبره بآخر أخبار الدنيا. وفي المساء يرتدي ملابسه ويخرج ليلتقي الأصدقاء.. ويكون سؤاله الأول لهم: إيه آخر الأخبار؟
كل واحد يخبره بأمر من الأمور: الحقائق والشائعات. هو منصت باهتمام، قد لا يعلق، قد يتذكر شيئاً من التاريخ مشابهاً لما يستمع إليه، حادثة أو حكاية..وبعد أن يلم بكل التفاصيل والأبعاد..ينطق بحكمة مكثفة، أو نكتة وترتفع ضحكته الصافية وضحكات المحيطين به. هل تريد أن أخبرك بما جرى في حارتنا بعد غيابك؟ لعلك تابعت في عالمك الآخر ما جرى ويجري. لقد أيقن الشعب أن «عاقبة الجبن أوخم من عاقبة السلامة» كما كنت تقول دائما. شاهدنا مصرع الطغيان ومشرق النور والعجائب. لا لقد شاهدنا العجائب في «حارتنا»، ولكن مشرق النور لم يكتمل بعد، إنها الثورة التي حلمت بها، ودعوت لها، ويحاول الكثيرون حالياً الالتفاف عليها، ومحاصرتها. إسمك حاضر بقوة في الثورة، بعد أن خرجت الثعابين من جحورها، توجه إليك سمومها، يقولون ويقولون..يستعيدون تلك الاتهامات البالية، بالقطع ستقابل هذه الاتهامات بوداعة واستسلام. ربما تضحك.. وتتمنى أن «تمضي الحياة في الحديقة والناي والغناء» كما كنت تحلم في «أولاد حارتنا».. فهل تحقق الثورة حلمك الذي هو حلمنا جميعا؟!

 محمد شعير

«اللــص والكــلاب» اليــوم
أين يكون نجيب محفوظ من الربيع العربي اليوم، بل أين يكون من مصر التي تقف على شفا تنازع أهلي بدأت تباشيره الدموية في الظهور. وهل لنا أن نستعيده ونحن نسمع بالذبح يعمل في رقاب رواد ستاد بورسعيد وبالحريق حول قصر الاتحادية وبالهجوم على الفنادق والمؤسسات. هل نرجع إليه مجدداً لنرى مصر، أم ان مصر اليوم، مصر الشقاق الأهلي والخصومة الدامية لا تكاد تشبه رواياته التي لا يكاد الزمن يمر فيها أو انه يتتابع ضمنها ببطء يكاد معه ان يكون كسيحاً أو عاجزاً أو ساكتاً، مصر التي لا نجد لها نظيراً في رواياته أو روايات غيره، فالأرجح انها لا تكاد تشبه نفسها والأرجح اننا لا نجد في ماضيها القريب سوى حريق القاهرة الشهير نموذجاً سابقاً على اضطرامها الحالي.
ليس نجيب محفوظ الروائي ثورياً، فإذا كانت هناك سمة للثلاثية وزقاق المدق وبداية ونهاية وروايات تلك الحقبة من حياة نجيب محفوظ فإنها تكاد تفتقر إلى التحول أو إلى الانقلاب أو إلى التغيير.
في هذه الروايات مسار باهت، الزمن فيه ينخر ويتآكل ويكاد يعمل وحده، فيما الحياة تنقضي في تكرار ودوران رتيب يتحول فيه الأشخاص إلى نماذج إنها المثقف والمعلم والضابط والشحاذ والمومس، كل مدموغ بعمله ونموذجه وظرفه وبيئته. وكل يتآكله الوقت وتتآكله العادة ويتآكله الظرف فيسير إلى نهايته كمن يسير إلى قدره، انه تهافت وانتكاس ونخر، وإذا خامره طموح ما أو دفعه باعث ما فتلك هي الفضيحة، سرعان ما يبدو هذا الطموح وذلك الباعث زائفين كاذبين. سرعان ما يتحولان إلى مهزلة وألعوبة يخرج منهما القدر ساخراً صارماً وقاطعاً.
ليس التحول ولا التغير سمتي شخصيات نجيب محفوظ، لم يكن محفوظ واقعياً اشتراكياً، لذا فإن واقعيته سوداء، نقدية. إذا لاح هناك أمل سرعان ما يخبو وإذا ارتقى إنسان سرعان ما يبدو هذا الارتقاء مشبوهاً، وإذا تراءى له انه انتصر على واقعه سرعان ما يلتقمه هذا الواقع بأسنانه ويطحنه بها. لنقل إن المستقبل ليس معدوماً في روايات نجيب محفوظ، لكنه ليس مشروع حياة، انه فقط النهاية التي يقود إليها زمان تكراري، انه حصيلة هذا التعثر وذلك التهافت اليومييْن، لا نستطيع الزعم بأن ثوار مصر خرجوا من روايات نجيب محفوظ، فالثوار يؤمنون بالمستقبل والثوار ينزلون إلى الشارع ليصنعوا هذا المستقبل، وليس في روايات نجيب محفوظ ثورات، بل إن ثورييه، إذا جاز ان نطلق عليهم هذا الاسم، يحملون ثوريتهم كما في اللص والكلاب كقدر تراجيدي. انهم محكومون بها كما هم محكومون بمصائرهم المأسوية وهم يندفعون فيها موقنين من انهم يسيرون إلى خسائرهم وأن سقوطاً صارماً ينتظرهم في الأسفل. ثوريو نجيب محفوظ يتامى زمانهم، خاسرون من البداية ومحكومون بالخسارة. إن شيئاً كالقدر الصلب ينتظرهم ويتربص بهم. الحتم التاريخي في روايات نجيب محفوظ ذات الترسيمة الطبقية شبه الماركسية ليس سوى هذه الخسارة المقدرة. هل يعني ذلك ان ليس بين لص نجيب محفوظ وثوريي القاهرة والاسكندرية اليوم وجه شبه. هل يعني ذلك ان ذلك الثوري شبه الانتحاري الذي سلم نفسه لأسنان الكلاب ليس له نظير بين ثوريي مصر الحالية، وأن هذا الحراك المليوني الحاشد يكذب صورة اللص الفرد الذي يواجه وحده المجتمع برمته.
لا نجد في روايات نجيب محفوظ أي أمل بالثورة ولا أي دعوة ثورية، هذا بالطبع لا يضر أدب نجيب محفوظ ولا يثنيه، لكن الأدب الحقيقي كما هو أدب محفوظ لا ينصاع للواقع، بل ينفذ إلى داخله ويرى صميمه المتعفن والإجرامي والقبيح، رأى نجيب محفوظ بدءاً من ثلاثيته هذا الصميم المشبوه. الأدب الحقيقي لا يتنبأ بالطبع لكنه يستشرف، وأدب نجيب محفوظ عاين التراب الشعبي المصري، تراب المنبوذين، تراب الطحين الاجتماعي. أبطاله الشعبيون كانوا من هذا التراب، لم يتنبأ محفوظ بثورة بل كان أدبه كله يأساً من الثورة، لكنه عاين من قرب ذلك الطحين الاجتماعي الذي صار الآن مادة الثورة. لقد رأى نجيب محفوظ مصر وعاين مصر، رأى من قرب الركام الاجتماعي المصري واليوم وقد انفجر هذا الركام وقد غلى ذلك الطحين وخرج من محابسه فإننا نرى صورته في أدب نجيب محفوظ، بل نحن نستشير روايات نجيب محفوظ لنفهم هذا الطحين ولنفهم حراكه ومزاجه وطبعه، هكذا نعثر مرة على لص نجيب محفوظ في «اللص والكلاب»، لقد سار هذا اللص إلى نهايته مدفوعاً ليس فقط بإيمانه بل أيضاً بغضبه من أولئك الذين خانوه. لقد قبل مصيره بامتثال أخلاقي، وبقبول تراجيدي، كان لص نجيب محفوظ فرداً وسقط كفرد، لكن ألا يشبه اولئك الذين يرمون بأنفسهم إلى التهلكة غير هيابين في مصر وحتى في سوريا اليوم، ألا يشبه هؤلاء الذين ينزلون إلى اليوم إلى الشارع بدافع ذاتي وتوق داخلي من دون ان يكون ذلك فدوى لقرار وامتثالاً لدعوة، ومن دون ان يسفر ذلك الحراك عن قيادة ملموسة. إنه غليان السديم الاجتماعي المهمل والراكد والمتروك والمهمش، انه صدام الطحين الاجتماعي بالأجهزة، الخروج من الحضيض وعنف الحضيض. يمكننا ان نرى في ما يجري اليوم الأفق الذي يحتمل ان يتطور إليه بطل اللص والكلاب وأبطال روايات محفوظ عن الواقع الشعبي بوجه عام.
كان نجيب محفوظ نقدياً، لقد حرر الرواية من الإنشاء الوجداني والخطاب الاحلافي والشعبوية الموروثة، كان نقدياً، وذلك يعني في جملة ما يعني، الاعتراض، لم يلق محفوظ درساً ولم يطرح امثولة ولم يكن صاحب دعوة، لكنه كان رائياً وكتب ما كتبه عن مصر الحقيقية وبدون ان يكون عرافاً او نبياً، استطاع ان ينفذ إلى المصري وان يجد المصري وان يتناول المصري. هذا المصري، مصري الشوارع والأحياء الضيقة وسكان المقابر، هو الذي خرج منها إلى قصر الاتحادية وهو الذي ابتلع الرصاص واستمر يتقدم واستمر يهاجم، وهو الذي قاد الآن ولم يستطع احد ان يأمره بالتراجع او الهدوء، في أدب نجيب محفوظ نجد الشعب المصري، هذا الشعب الذي خرج من القمقم الألفي واهتاج ولا نعرف متى يضع حداً لهياجه، بل لا نعرف ماذا سيحطم في طريقه، لكننا مع ذلك نجده في روايات محفوظ والكلاب تنوشه، ومنذ روايات محفوظ حتى اليوم، لا نزال نسمع نباح الكلاب الضارية وهي تنبحه، ربما ليست الكلاب نفسها لكنها تنبح من أماكنها ووراء الجدران ذاتها.

عباس بيضون

مرايــا مصــر الحديثــة
من الطبيعي ألّا تكون جائزة نوبل للآداب التي استحقها نجيب محفوظ عام 1988، هي دليل القارئ العربي الى التعرّف على رواياته، كما جرت العادة لدى مختلف القراء في العالم. فالعربي ألِف روايات محفوظ من قبل، وانطبعت شخصياته في الذاكرة، حتى انه يستحضرها في كثير من الأوقات، كما هي الحال مع بطل ثلاثيته احمد عبد الجواد، كأمثولة على النزعة الذكورية الطاغية داخل الأسرة العربية والمشرقية. كما يستحضر من التراث الإنساني أبطالاً مثل: عطيل وهاملت ودونكيشوت الذين يمثّلون أخلاقيات وأوضاعاً أخرى.
هذه الحراثة العميقة لمحفوظ في حقل الرواية العربية، أسبغت لوناً خاصاً ومميّزاً، وكرّست نهجاً هيمن على مجمل المتن القصصي العربي الحديث لحقبة مديدة، فمتح الروائيون من معين محفوظ أسلوباً وطريقة ورؤية. وأعاقت هذه السطوة المعنوية خروجهم من تحت عباءته وجاذبيته. ودفعت هذه الإعاقة الناقد المصري رجاء النقاش للتساؤل إن كان محفوظ أضحى عقبة في طريق الرواية العربية، بعد ان رأى ان عديداً من أبناء الجيل ابتعدوا عن ميدان الرواية، خشية تقصيرهم عن بلوغ ما بلغه، او مجاراته، او تقديم أفضل مما قدمه. وهذا الإحساس بالدونية جعل الكاتب السوداني المعروف طيب صالح، يستعظم نعته بعبقري الرواية العربية، بوجود من هو أحق منه.
وفي معظم الأحوال، فإننا إزاء كتابات محفوظ، نقف عند لوحة وصفية لمصر الحديثة، تنازع النقاد في مقاربة عناصرها ودلالاتها، من لويس عوض، إلى محمود أمين العالم، وصبري حافظ، ويحي حقي، وعبد المحسن بدر، وإدوار خراط، وجابر عصفور، وسواهم، ممن عملوا على تفكيك بنيته القصصية، وحللوا سياقاتها ورموزها وطرائق توظيفها. ومن المفارقات ان سيد قطب الذي مارس النقد الأدبي في مطلع شبابه، أسهم في التعريف ببواكير محفوظ الروائية، وأثنى عليه في مجلة «الرسالة»، لما حملت هذه البواكير من مغزى أخلاقي وروحي ووطني، وتمنى لو وُزعّت على كل فتى وفتاة في مصر بالمجان، قبل أن ينحرف خطه الديني إلى مسالك التطرّف والمغالاة، ويكون من نصيب المجني عليه، أن يغرز أحد الجناة من المسلمين المتعصبين، المدية في رقبته، لأنه يدعو، حسب زعمه، إلى الفساد والإلحاد، وهو لم يقرأ حرفاً مما كتب المجني عليه.
يعتور الحديث عن محفوظ دائماً التباس وصعوبة في تعقّب هذه المراحل إن وُجدت، والتي استفاض النقاد في تحقيبها وفي تقسيمها وتصنيفها. وإذا عدنا الى محفوظ نفسه لألفيناه يجزم بأنه بعد ثلاثيته الشهيرة لم يكتب ما يجدر تسميته قصة. إنما ما كتبه لا يتعدى أن يكون نوعاً من القصة الطويلة، او»النوفيلت» novelette بالمفهوم الغربي. أما الرواية بمعناها التقليدي فلا يستقيم أمرها او تزدهر إلا في مجتمع مستقر واضح الملامح، لا في مجتمع هو عرضة للتغيير والتطور في كل لحظة. وبهذا القول الحاسم يقطع محفوظ بين زمنين لا ثالث لهما. زمن «الثلاثية» أثره النفيس، وزمن ما سواها من تجارب متفاوتة القيمة. وقد كرّر القول لمحمد سلماوي الذي أنابه محفوظ لتسلم الجائزة عنه، انه بعد «الثلاثية» شعر بأنه أفرغ كل ما في جُعبته الروائية ولم يعد له ما يقوله.

بنية عميقة

وبالفعل، فإن الذي شاع أكثر من سواه لدى النقاد، هو تقسيم عمل محفوظ الى مرحلتين: الواقعية متوّجة بالثلاثية، وما بعد الواقعية. ورأى آخرون انها مراحل ثلاث. اما مردّ هذا الاختلاف فهو المنظور النقدي الذي يرى من خلاله الناقد النص الذي بين يديه. وحده جابر عصفور حسب ان روايات محفوظ جميعاً تجليات متعدّدة لنفس كلية، تتحرك عناصرها داخل نظام واحد، وما النصوص المختلفة إلّا أبنية سطحية ترتدّ إلى بنية عميقة متجانسة تحكمها، وتجعل من النصوص الجزئية نصاً فريداً ينطوي على انتظام ذاتي، في وحدة حيّة تتفاعل داخلها العناصر الستاتيكية التي يطغى عليها التأمل والحركة العقلية الباردة، والعناصر الديناميكية التي تسيطر عليها العاطفة المتوهجة والجياشة.
إقرار محفوظ أعلاه بأنه أفرغ ما في جعبته في روايته «الثلاثية»، ومقاربة عصفور لمنظور الكتابة الكلية التي توحّد وتؤالف ما تبعثر في حياة الكاتب وفكره، تحيلنا إلى تساؤل طالما خامر اذهان القراء والنقاد، وهو إن كان أعظم الأدباء شأناً لا يكتبون إلا كتاباً واحداً، هو عصارة تجاربهم وأفكارهم، بينما كل ما يليه ليس إلا تنويعات على الموضوع والهاجس الأساس؟ وبالعودة الى محفوظ، فإنه غالباً ما اقترن اسمه بثلاثيته كحدّين متلازمين يُعرَف واحدهما بالآخر. ثلاثية هي الرواية الأم التي عبّر فيها عن البيئة المصرية وصراعاتها السياسية وسجالاتها الفكرية والتطورات المتلاحقة التي طرأت على فضاءاتها العامة والخاصة. والبارز في الثلاثية وفي كل ما كتب محفوظ تشبّثه بمصريته وبالبيئة المحلية، أمكنةً وأحداثاً وفكراً. البيئة النابضة بالروح الوطنية والشعبية، وبشخصيات ظهّرها في رواياته، كان قد اختبرها في حياتها العامة والخاصة، وفي سلوكها وتصرفاتها وحركاتها في البيت والمقهى والشارع، بحكم نشأته الأولى في أحضان الأحياء الشعبية، ومواظبته على الأمكنة التي رسمها من أزقة وشوارع ومقاهٍ، تبنّى اسماءها في كثير من عناوين رواياته، وتوسع في وصفها، وفي وصف عادات المصريين البسطاء ومراسم أفراحهم وأتراحهم. وقد بلغ من انعكاس صورة المجتمع المصري في رواياته، أن قال عنه لويس عوض: ان قراءة نجيب محفوط تشبه قراءة كتاب «وصف مصر» الذي وضعته الحملة الفرنسية عن عادات المصريين، وعن طبيعة مصر بحيواناتها ونباتاتها ومياهها وآثارها. وإن كان لويس عوض يقصد أن كتابات محفوظ عارية من أي إبداع فني، سوى ما هو محصور بحدود الوصف والتصوير والتسجيل الواقعي والتاريخي. فقد تصدى رجاء النقاش لمقارعته من هذه الزاوية بالذات، لكنّ كلام عوض ليس خاطئاً بمجمله، بل ينطوي في جانب منه على حقيقة لا مراء فيها، وهي أن مصر بكل حركاتها وسكناتها تنعكس في روايات محفوظ، التي ما فتئت مصدراً من مصادر دراسة مصر الحديثة وفهمها وفهم مشاكلها الاجتماعية والنفسية والروحية، وتحولاتها السياسية والتاريخية. وهذا المنحى الوصفي الدقيق حمل رجاء النقاش نفسه، وهو الذي صاحب محفوظ فترة طويلة من حياته، على القول إن رواية «زقاق المدق» تُؤخذ بالحواس كلها، اي بالعين والشم واللمس والسمع والمذاق. بل يستطيع القارئ أن يجلس في «زقاق المدق» اذا ما قرأ الرواية، فيشعر كأنه أحد أبناء هذا الشارع الذين عاشوا فيه.

الخلفية الفلسفية

بيد ان زعم اقتصار موهبة محفوظ على هذه القدرة الفنية على الوصف إجحاف بحق الكاتب، الذي لا يمكن اغفال ان واقعيته الوصفية غير متناقضة مع المعاني الإنسانية، التي تتجلى من خلال تفاعل البشر مع محيطهم. وكتابات محفوظ عن بيئته النابضة بالحياة والعواطف والشجون، تدحض ايضاً الزعم بأن الكاتب يسقط أفكاره على الورق، ويُدخل شخصياته في قالب ذهني، على ما يردده البعض. ولعل التهمة الأخيرة ناجمة عن النظرة إلى محفوظ بأنه حصّل ثقافة فلسفية، لا بدّ أنها شكّلت خلفية رواياته. وهذا أمر بيّن في حواراته، وفي عمق خطابه الروائي الذي يتكئ على فلسفة للحياة والوجود. ومن الطبيعي ألّا تخلو منها اية رواية، حتى الأكثر تعبيراً عن اللاجدوى. ورغم أن محفوظ يعترف بأنه تأثر بديكارت وبالمنهج العلمي والماركسي، إلا انه في كتاباته الأخيرة التي صُنّفت بأنها روايات ما بعد الواقعية، والتي بلغت تخوم السريالية والعبثية لم يكن يتعاطى الفلسفة، بل هو صاحب رؤية ونظرة إلى العالم، باحث عن الحقيقة والمعرفة والمصير الإنساني، طالب للعدالة والحق وتحرير الإنسان من الطبقية والاستغلال. وكل تلك الأبعاد الفلسفية والفكرية في رواياته لا تأتي تطبيقاً للمفاهيم والمقولات التي تكمن وراءها، كما هي حال جان بول سارتر في «الغثيان». إنما تأتي على رسلها في سياق الأحداث المرسومة، وتُستشف من خلال استنطاق النص الروائي، والوقوف على جمالياته وشحناته النفسية والعقلية، وقدرته على بثّ الدلالات والمعاني الكامنة في صلب الحركة الروائية. وإذا كان بالإمكان اكتشاف الخيط الناظم الجامع، لنسيج الرواية المحفوظية، فإن بمقدورنا أن نلمس، على سبيل الافتراض، نزعة عامة أجمع عليها العديد من النقاد، هي أن رواياته مثّلت في معظمها حياة أبناء الطبقة المصرية الوسطى الرازحة تحت وطأة الماضي الثقيل. الماضي المتواضع والمشين أحياناً، من جهة، وجاذبية الحاضر والانتماء إلى عقلية العصر ومغرياته، من جهة أخرى. ويمكن ضرب أمثلة عديدة على التأرجح والتململ الطبقي الذي نراه في «بداية ونهاية» عند البطل حسنين، الذي دفع ثمناً باهظاً لاعتلاء المناصب العليا، على حساب شرفه وشرف عائلته. كذلك في «القاهرة الجديدة» التي تحوّل فيها محجوب عبد الدايم ستاراً لعلاقة سريّة بين أحد الوزراء وعشيقته.
بيد أن محفوظ إن صحّ انه روائي الطبقة الوسطى، فقد اتاحت له هذه الطبقة التي تحفل بأبطال إشكاليين يعيشون إزدواجية أخلاقية واجتماعية، ان يستثمرهم مادة روائية مناسبة، لما ينوءون به من هواجس ومواقف متناقضة. لكن محفوظ لم يقتصر على هذه العيّنة الطبقية وعلى نماذجها البشرية، إنما سعى ايضاً إلى استقراء التجارب الحيّة، و كيفية تفاعل المصريين مع محيطهم وتقلبات حياتهم الاجتماعية والسياسية، لا سيّما انه عايش بحكم عمره المديد حقبات طويلة من حياة مصر، امتدّت من عصر الملكية إلى الناصرية والساداتية والمباركية، فأثرته بموضوعات عديدة عالجها في رواياته، مثل موضوع الفقر والضغوط الاقتصادية، واستغلال المرأة اقتصادياً من قِبل الرأسمالية، ومن قِبل النزعة الذكورية المهيمنة على المجتمع. وفي هذا المقام نظر محفوظ الى البغاء الذي تمارسه المرأة بالقهر، او بوطأة الفقر والحاجة، بأنه يجب ألّا يحجب عنها الوجه الإنساني. فما يأثم هو الجسد وليس الروح، على ما يذهب إليه طه الوادي. وإزاء هذه الصورة الانثوية السلبية، ثمة صور إيجابية تتحلى فيها المرأة بالشجاعة والجرأة والاعتداد بالنفس (زهرة في «ميرامار»). كذلك يتطرق محفوظ إلى أزمة المثقفين، وإلى نقد الاستبداد والديكتاتورية والتطرف الديني، وإلى الاستلاب النفسي، وصراع الدين والعلم، والتمرد على الموروث، وإلى خيبة الأجيال، وثقل الماضي.
في رواياته يختزن محفوظ الحياة المصرية الحيّة، ويعبّر عن ضميرها وحلمها. ومن خلال ما قدمه لنا من وقائع وشخصيات وصبوات ورؤى، تعرّفنا على نبض مصر وإيقاعها الإنساني، وعلى مجمل اللوحة المصرية بتلاوينها المتواشجة المتجذّرة في أعماق التاريخ والوجدان.

  احمد زين الدين

الروائــي كآلــة زمنيــة منضبطــة

(1)

ما بقي اليوم من نجيب محفوظ الكثير. وما بقي من سيرة وذكريات وسرد وطريقة كتابة وعادات أدبية أيضاً الشيء الكثير. فقارّة هذا المبدع الاستثنائي غير مكتشفة كما يجب, ليكون محفوظ الدرس المثالي في الضبط الزمني لآليات الكتابة اليومية في فرنه السردي ذائع الصيت, فالرجل يمشي مع لحظات الزمن بطريقة عجيبة, ويكتب بدأب وإخلاص لا يشبهه فيهما أحد ولا يشبه أحداً في احترامه لزمنه الشخصي, والدرس هنا مفيد في تعقب الأثر السردي المستخلص عبر رحلة طويلة تعاقبت فيها العقود، كما تعاقبت فيها الروايات والقصص والأفلام والسيناريوهات في رحلة مضنية وشاقة, لكنها تركت الأثر الواقعي والإنساني في خلاصة الرجل الذي انتمى لواقعية الحياة ولم يجردها كثيراً من ثيابها إلا مع تطور الحال السياسية التي رافقتها متغيرات داخلية في وسط شعبي يتغير هو أيضاً متأثراً بمنقلبات السياسة وسلوكها وما يحيط بها من مفارقات وخدائع تنعكس بالضرورة على مجتمع يشوبه الحرص على تاريخه الوطني وحضارته في مأثرة البقاء التاريخي.

(2)

الضبط الزمني في حياة نجيب محفوظ له دلالته النفسية والواقعية والرمزية, فبالقدر الذي كان هذا سلوكاً شخصياً منفرداً بخاصيته, فهو مسلك سردي لم يفارق خطابه الروائي والقصصي وحتى الفيلمي, ونعني بالضبط هنا هو ما أنتجه محفوظ من كم كبير من الروايات والقصص في شبكة سردية معقدة خلط فيها الواقع بالخيال والتاريخ بالرمز والفلسفة بالوجود فشكّل ملحمة سردية عربية (مصرية) لها قوامها وتاريخيتها وتفريعاتها واستنتاجاتها المتعددة في وحدات زمنية تتقارب وتتباعد حسب ظروف محفوظ النفسية والاجتماعية التي قرأناها هنا وهناك في مجمل إنتاجيته الإبداعية.
النوبلي نجيب محفوظ (11 ديسمبر 1911ـ 30 أغسطس 2006) لا يشبه أحداً ولا يشبهه أحدٌ . ونصف قرن تقريباً من الزمن ظل هذا الرجل يعزف في روايات الواقع وجودياً ورمزياً ونفسياً وتاريخياً واجتماعيا ً وفلسفياً، في سداسية متصلة عن الحارة المصرية التي لم يبارحها قط في أروع شبكة روائية متصلة عن مصر بكل ثقلها السياسي والاجتماعي والتاريخي، امتدت على مدار القرن العشرين كله, ليكون نجيب محفوظ الروائي العربي الوحيد الذي كان آلة زمنية غاية في الدقة لتوظيف طاقاته وقدراته الفنية في أن يكون مخلصاً لاشتغالاته السردية من دون أن يتوقف, وهي اشتغالات أثارت وتثير جدلاً لا ينقطع من توصيفات نقدية وأكاديمية عن مراحل الكتابة الروائية المحفوظية وتجلياتها المتعددة.

(3)

يشير أرشيف التاريخ الأدبي العالمي بشكل قاطع إلى أن الظواهر الأدبية الفريدة هي ظواهر لا تتكرر مهما نسجت الحياة من أسماء جديدة تتوفر على قدر كبير من الفرادة والألمعية. فكل فرد نتاج تاريخه الشخصي غير المعزول عن تاريخ بيئته ومجتمعه، وجمالية محفوظ، بكل إحالاتها ومرجعياتها، هي تاريخ محلي صرف لم يغادره إلا الى التاريخ الفرعوني في ثلاث روايات معروفة، لينسج من تلك الواقعية التاريخية بداياته التي أثمرت لاحقاً عن واقعيات متعددة افترعتها السياسة في كثير من الأحوال، لكنها ظلت في إطار الحارة المصرية بطبقاتها الفقيرة والمتوسطة، تحكي دائماً عن صراعات اجتماعية غريبة أحياناً، وهي تطفح في العادة في موشور محفوظ التحليلي البارع في تشخيصاته المجتمعية للحارة المصرية المنتجة للفتوات والحرافيش والشخصيات الهامشية التي أنتشلها محفوظ من قاع الحارة وجعلها حياة متحركة في كل سردياته المفتونة بهذه العوالم السحرية العجيبة. لذلك خرج من متون المحلية الضيقة وغموضها الى عالمية نوبل؛ فالحارة المصرية المجهولة كانت هي التجربة المثالية لمحاكاة العالم والالتصاق به فنياً ومن ثم العبور اليه سرداً واقعياً لفت النظار الى عمق تلك الحارة الصغيرة التي اختصرت كثيراً من آليات السرد التي يبتغيها كثير من روائيي العالم. والتجربة المحفوظية يمكن أن نُشابهها الى حد معين مع تجارب روائيي أميركا اللاتينية في واقعياتهم السحرية الأسطورية التي انطلقت من محليات غير معروفة وأسرار مجتمعية لم تكن مفتوحة الى العالم إلا من خلال روادها الروائيين الكبار أمثال ماركيز ويوسا وغيرهما, والحال لا يختلف عن التجارب الروائية الأفريقية في استلهامها لثيمات مجتمعية غاية في الخصوصية؛ غير أن نجيب محفوظ افترق عن هذه التجارب حينما توغل أكثر في عمق الحارة المصرية واستنطق فتوّاتها وحرافيشها وفقراءها وطبقتها المتوسطة في مسروداته الكثيرة, وبالتالي أعطى قيمة فنية ومعنوية لتلك الأسماء والمسميات وأخرجها الى نور السرد العربي ومن ثم الى العالم عبر نوبل!

(4)

نجيب محفوظ سارد الزمن المحلي الأول. لم يغادر مساحة الواقع حتى وهو يلجأ الى الرمز أو التاريخ أو الكون أو التجلي الفنطازي. في يقين ثابت لديه أن هذه المساحة توفر له قدراً أكبر من الحركة أفقياً وعمودياً. وحتى في حركة التاريخ لديه لا يتوجه الى غير هذه المساحة الأثيرة, فثمة أنساق سردية في تجربة محفوظ الطويلة اختلفت في توجهاتها الفكرية, لكنها التقت في مساحة الواقع وتناقضاته الكثيرة, فمحفوظ الأربعيني والخمسيني كان يصب في النسق السردي التاريخي (عبث الأقدار ـ كفاح طيبة ـ رادوبيس) ومحفوظ الخمسيني والستيني انتمى الى النسق الواقعي الرمزي في (القاهرة الجديدة ـ السراب، وغيرهما) ومن ثم تتابعت الأنساق الوجودية (أولاد حارتنا) وهيمنت الرمزية على أعمال غير قليلة من فعالياته السردية القائمة على استخلاصات الواقع في سيكولوجية الحارة المصرية وأرخنتها في تتابعات روائية؛ الستينية والسبعينية وما تلاها؛ على المشهد السردي العربي، وانطلق محفوظ في رحلة الرواية في سداسياته النسقية في أساطير المجتمع المصري ومن حاراته الضيقة, الصغيرة, ذات التاريخ الحافل بالفتوة والبراعة في إغناء المشهد الاجتماعي بالخارق والعجيب والمتناقض أيضاً.
وفي خضم هذا الواقع بدا وكأن محفوظ كاتب شعبي حينما أخذ يكتب مسرودات جلسائه وندمائه وأصدقائه من الحرافيش ومن الطبقة المتوسطة, كما لو يمتح من هذا المخزن الشعبي حكايات متواترة عن هذا وذاك في اختلاط الأزمان روياً وحكياً شعبياً, القائم على الحقيقة والخيال معاً واستيعاب الأساطير المحلية وبلورة رؤاها, وبدا أيضاً كأنه أخذ يعيد إنتاج رواياته لكن بطريقة أخرى, بدءاً من ثلاثيته الشـهيرة (زقاق المدق ـ بين القصرين ـ قصر الشوق) ومن ثم الى اتجاهه الرمزي والكوني في (اولاد حارتنا) التي اقترفت مشكلات دينية كادت تتسبب في إنهاء حياته, وخيالاته المفعمة بالفنطازيا الشعبية (الحرافيش) وصولاً الى رمزياته السياسية في تعقبه لهذا الحس المدين له بالكثير من الولاء، وهو يدخل في الحس الشعبي المصري لفهم آلياته وتحولاته وأنماط تفكيره ونزوعاته المختلفة. وهذا ما جعله قريباً من الروح اليومية الشعبية, لا سيما أن السينما المصرية تولت ومن ثم التلفزيون إشاعة النمط الشعبي المحفوظي الخارج من السرد والكتابة والخيال الى الشاشة البصرية والوصول الى الشارع العربي بشكل عام.

(5)

واقعية نجيب محفوظ الصرف لم تمنعه من أن يكون خارج الواقع المعتاد في كتاباته الروائية, والخروج من الواقع المحفوظي هو ذاته الدخول فيه لكن من بوابة التورية والخيال واستثمار عناصر الواقع ووقائع الكون وتجريديته, كما حدث في روايته الكبيرة (أولاد حارتنا) التي كادت تتسبب بمقتله عام 1994 من قبل الإخوان المسلمين المتشددين الذين افترق عنهم محفوظ فكراً وسلوكاً ومنهجاً وتحضراً. وعدّوه ملحداً وزنديقاً حينما تناول عناصر الخلق والأديان بصورة رمزية في فرشة سردية واقعية مضرّبة بخيال روائي؛ ففي هذه الرواية يختلف محفوظ الواقعي صاحب الثلاثية الشهيرة عن محفوظ الفنطازي الرمزي الغارق في مخيلة الخلق وصراعاته التاريخية, ومع أن الحاضنة هي أحد أحياء مدينة القاهرة التي لا يغادرها محفوظ، فإن الصراع السردي وحبكته الطويلة أفصحت عن مدلولات غير واقعية بشكلها المباشر, وما الحارة المصرية المفترضة إلا مساحة مجازية في محمولها الرمزي حيث تتسع مع دخول شخصيات تتناوب طرديا وعكسياً لتؤسس حراكها الطوباوي في أسئلتها المثيرة عن الواقع والوجود والعلم والخلق وكينونة الذات والإنسان والشيطان وما الى ذلك من اسئلة وجودية وفلسفية برع محفوظ في طرحها روائياً عبر حبكة متميزة استقصت تاريخ الوجود والكون في رسالاته السماوية وأديانه المتعاقبة، وتوقفت في أهم مفاصلة إثارة. فكانت هذه الرواية المثيرة للجدل تحولاً سردياً جديداً في علاقة محفوظ بالكتابة بوصفها نسقاً من أنساق السرد الخيالي الذي تعمق في أسرار الكون وأثار أسئلته الوجودية وملحمة تاريخية خالصة في تقصيها للأثر الديني وما يثيره من مشكلات اساسية في علاقة الإنسان بالحياة وعلاقة الشيطان بالفرد.

(6)

اليوم نقرأ خطاب نجيب محفوظ السردي في فضاءات واسعة من التشكيل النقدي وتعدد مناهجه ورؤيته الجديدة في فحص الأثر الأدبي وشبكات سرده وكشوفاته المتعددة والمختلفة بحساسيات أفرزتها حواس النقد المتماهية مع أية كشوفات معرفية تنتجها النصوص والخطاب السردي العام, ومع دراسات مستفيضة عن محفوظ أكاديميا ونقدياً, تبقى آثاره الروائية محط أنظار أية قراءة جديدة فاحصة تتدخل في الفضاءات النصية المحفوظية ذات القيمة التاريخية في السرد العربي وإنتاج مداخلات أخرى من البؤر الدلالية المتعددة في خطاب محفوظ واسع الشبكات والرؤى, ثري القيم والمعاني لغة وفصاحة سردية.

وارد بدر السالم

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...