يسار إسرائيلي يهاجم مجدداً غضب محمود درويش

03-07-2010

يسار إسرائيلي يهاجم مجدداً غضب محمود درويش

افتتحت، قبل أيام، في قرية كفر ياسيف في فلسطين المحتلة في 1948، «مؤسسة محمود درويش للإبداع»، في احتفالٍ حضره حشد من قادة العمل السياسي والثقافي الفلسطيني في الداخل.وقد شارك رئيس الوزراء الفلسطيني سلام فياض بكلمة شدّدت على «وحدة الوطن». ولعلها المرة الأولى يشارك مسؤول بارز من السلطة الوطنية في نشاطٍ له هذا الوجه الثقافي والوطني في فلسطين التي صارت إسرائيل في التسمية التي تتبناها السلطة ومنظمة التحرير. وقُرئت في الحفلة كلمتان للفنان مارسيل خليفة والروائي إلياس خوري. وأمِلَ جواد بولص، سكرتير المؤسسة، بألا يعصف أحد بها، «لأن درويش اسم أكبر من الأحزاب، وعصيٌّ على الحزبية والتحزيب والجغرافيا».

شارك في الاحتفال الإسرائيليان، الكاتب والروائي عاموس عوز والوزير السابق يوسي ساريد، وسيكون جدلياً السؤال عن وجاهة مشاركتهما وقد لبيا دعوةً وُجهت إليهما. وفي البال أن محمود درويش لم يكن يمانع في الالتقاء بمثقفين إسرائيليين يناصرون عدالةَ الحق الفلسطيني، وقال في حواره المطول مع عبده وازن، (صدر في كتاب عن «دار الريس للكتب والنشر» 2006)، إنه لا يعترض على أيّ كاتبٍ فلسطيني يُحاور كاتباً إسرائيلياً معتدلاً، ويجمعهما الحد الأدنى المشترك، هو القبول بالدولة والحق الفلسطينيين. والمسألة ليست هنا، بل في ما قاله الاثنان في الحفل، كما نقله مراسل لصحيفة الخليج الإماراتية. وللتذكير، يوسي ساريد هو وزير التعليم الإسرائيلي السابق الذي اقترح في الكنيست عام 2000 تدريس قصيدتين لدرويش اختيارياً في مناهج التعليم الإسرائيلية. ذكر في الحفل أنّ الشاعر الراحل عبّر على مسامعه عن «ندمه» لكتابته قصيدته «عابرون في كلام عابر» في 1987، و «تبرّؤه» منها، لأنه لا يحبها وكتبها في «لحظة غضب، وحقّ الغضب مكفول للجميع». وكما قال ساريد، دلّل درويش له على ذلك بأنّه لم يضمّن القصيدة في أيٍّ من دواوينه. وأضاف: «أقوال محمود مثيرة، لأنّ الشعراء لا يتنازلون عما يكتبون، وهو تبرأ من تلك القصيدة ولم يرغب يها». وزاد أن درويش أبلغه: «أنتم لن تذهبوا إلى أي مكان، مثلما أننا لن نذهب إلى أي مكان. نحن هنا لنعيش معاً».

البادي أن الوزير (من حزب ميرتس اليساري) كما غيره من نخب إسرائيلية مثقفة واسعة، لم يُطق غضبة محمود درويش من توحش الجيش الإسرائيلي ضد الفلسطينيين في أثناء انتفاضتهم، ولا يحتمل تلك الغضبة حتى الآن، مثل الذين هاجوا وماجوا في «الكنيست» بعد نشر درويش قصيدته تلك، لمّا قرأها لهم رئيس الوزراء في حينه إسحق شامير، وزعم أنّها تحرّض على رمي الإسرائيليين في البحر. وكشفت تلك الضجة أنّ وقعَ «عابرون في كلام عابر» كان هائلاً على الإسرائيليين، خاصّتهم وعامّتهم، نخبهم وسوادهم، بسبب ما قد تؤكّده من استحالة تسليم الفلسطينيين بوجود إسرائيل. والبادي أن يوسي ساريد على قناعة بذلك، وإلا لما فاتَحَ درويش بشأن تلك القصيدة دون غيرها، ولما ظلت حكايُتها في باله، ولما حرصَ، في حفلٍ يستذكر فيه الفلسطينيون شاعرهم الكبير بمؤسسةٍ تحتفي بالإبداع وتحمل اسمه، على التنويه إلى ما ظنّه ندماً من الشاعر الراحل بسبب كتابتِها، وتبرؤاً منها. والمؤكد أنّ عدم معرفة ساريد بصلة الشاعر الكبير بمنجزه الإبداعي الوفير جعلَ ما عبر إلى مسامعه يلتبسُ عليه. وفي البال أن درويش سألته صحيفة «هاآرتس» في 2002 عما إذا كان يدعو إلى غرق الإسرائيليين في البحر، فأوضح أنه قال إنه يدعوهم إلى أن يخرجوا من البحر، وليس أن يذهبوا إليه. وسألته عما يعنيه بالقول: «أيها المارون في بحر الكلمات العابرة»، فصحّح لها بأنه قال: «أيها المارون بين الكلمات العابرة».

أي ندم؟

يحتاجُ يوسي ساريد إلى تصحيحٍ كثيرٍ في شأن ما ظنّه ندمَ درويش على «عابرون في كلام عابر» وبراءةً منها، فالشاعر الراحل لم يكن معتدّاً بهذه القصيدة، واعتبرها نصاً احتجاجياً في وقته. ولم يُضمّنها في أيٍّ من دواوينه، لأنه لم يعتبرها ذات قيمة فنية رفيعة، وإنما مجرد صرخة. ونشرها بين مقالاتٍ كان يكتبها أسبوعياً في مجلة «اليوم السابع» الباريسية، ما قد يعني أن تلك (القصيدة) مقالةٌ تقترنُ بظرفٍ محدّد، أو نصّ له سياق مختلف عما هو شعر وفن. ولم ينشر درويش ذلك النص في «الكرمل» التي واظب فيها على نشر جديدِ قصائدِه، قبل أن تجتمعَ في دواوينه. وفي ندوةٍ استضافته فيها وزارة الثقافة الفلسطينية في رام الله في أيار (مايو) 1996، قال: «عابرون في كلام عابر، كتابةٌ غاضبةٌ جداً، لم تُراعَ فيها أيّ جماليات أدبية. عندما رأيتُ تكسير عظام شعبي في الانتفاضة، خرجتُ عن طوري الأدبي، ولذلك، كانت قصيدتي حجراً يضربُ إسرائيل، وليست الانتهازية السياسية ما جعلتني لا أدرجها في أي ديوان». ولا يعرف يوسي ساريد أن درويش ضمّ «عابرون...» في كتابٍ اشتمل على مقالات له، صدر عن دار توبقال المغربية في 1991، حمل اسم هذا النص. وعلى رغم عدم اعتداده بذلك النص الغاضب، فإن درويش قرأه في أمسيات شعرية في الرباط وعمان وغيرهما.

ولم يحدُث أن الراحل تنكّر لنصٍّ كتبه، أو موقفٍ أعلنه، ولم يُسجّل عليه أنه تبرأ مما هو محسوبٌ عليه كتابة. وعقب ضجة الكنيست، صرّح أنه أخطأ الظن في مثقفين إسرائيليين اعتقد أنه يمكن محاورُتهم في شأنِ عدالة القضية الفلسطينية، لكنهم أخذوا موقف شامير. والأهم أنه، في حوار عبده وازن معه، كشف أنه لو أتيح له لكان دائم التنقيح في أعمالِه، ولو أتيحَ له أن يحذف، فلربما يحذف أكثر من نصف أعماله، «... لكن هذا الأمر ليس في يدي، وليس من حقي على ما يبدو»، وصرّح أنه حذف مجموعته الأولى «عصافير بلا أجنحة» كلياً، ولا يعترف بها البتة، وكتب قصائد عدة، ونشرها في الصحف، ولم يدرجها في مجموعاته. وشدّد على أن الاعتبار الجمالي وحده المعيار في هذا الأمر، أي ليس بالتأكيد ما دار في ذهن يوسي ساريد، في شأن ندمٍ افترضه لدى درويش عن موقف سياسي أو وطني. ويرى الشاعر الراحل أن القصيدة السياسية استنفدت أغراضها، إلا في حالات «الطوارئ الكبرى»، بحسب تعبيره، وقال: «ربما أصرُخُ غداً غضباً، تعبيراً عن أمرٍ ما، ولكن، لم تعد القصيدة السياسية جزءاً من فهمي المختلف للشعر». وفي مقابلةٍ مع «الاتحاد» الحيفاوية، نُشرت في تموز (يوليو) 2007، قال «الضغط التاريخي على اللغة الشعرية قائم، وهي تتعامل معه بطريقة سلسة أحياناً، وتستسلم أحياناً».

الصديق الخصم

قرئت في الحفلة بالعبرية كلمة للكاتب الإسرائيلي اليساري عاموس عوز، استعرض فيها علاقته بمحمود درويش منذ التقيا للمرة الأولى في تل أبيب في الستينات من القرن الماضي. وقال إنه يتذكر حبّ الشاعر الراحل لشعبه وبلاده، ولما يتلاشى ويختفي، وللمعذبين والمضطهدين، وحبّه غير الناضب لمشاهد القرى المدمرة، وحبّه للبئر وأشجار الزيتون وللجدران الحجرية. وذكر أنه كقارئ يهودي إسرائيلي، كان من الصعب والموجع عليه أكثر من مرة امتصاص غضب محمود درويش. وقال: «في أكثر من مرّة، رغبتُ أن تتفهم قصائدُه أوجاعي أيضاً، لا أوجاعَه فقط، أكثر من مرة ثُرتُ على أن قصائد غضب كتبها بالأسود والأبيض». وعلى ما يرى عوز، فإن قصائد غضبٍ واحتجاجٍ كتبها الشاعر اليهودي مناحيم بياليك بشهوانية الوجع، وأن شعر الأخير أثّر في شعر محمود درويش، ولديهما معاً المواساة في أطراف الألم. وقال: «لو التقيا، لعثرا بالتأكيد على لحنٍ نفسي مشترك». واختتم عوز كلمته بأنه يفتقد محمود درويش «كصديقٍ وخصمٍ ذي قامة فارعة».

ولافتٌ أن يلتقي يوسي ساريد مع عاموس عوز في التأشير، في حفلة كفر ياسيف المحتلة في 1948، إلى مناحيم بياليك (1873 - 1934)، الشاعر الذي كان يهودياً متديناً، ورحل إلى فلسطين من موطنه الأصلي أوكرانيا في 1924، فقد قال إن درويش أبلغه أنه أحبّ كثيراً أشعار هذا الشاعر، وقال له «بمساعدة بياليك شاعركم الوطني يمكن التعرف اليكم أفضل»، واحتفى ساريد بهذه العــبارة، ووصـفها بأنها «ذكية وجميلة».

نطالع هذا الكلام، وفي البال أن بياليك كان شديد الصهيونية، وظل شغوفاً باستلهام التاريخ التوراتي والتيه والتراث اليهوديين، وهذه أسباب تجعل التباعد كبيراً بينه وبين درويش الذي لما سأله عبده وازن عن شعورِه عندما يقرأ شاعراً إسرائيلياً يتغنى بأرض فلسطين، أجاب بأنّ شعورَه يأخذه إلى «أن الصراع بيننا ليس عسكرياً فقط، ونحن مدفوعون إلى صراعٍ ثقافيٍّ عميق». ولم يأتِ على مناحيم بياليك، بل على إيهود عميحاي (1924 - 2000)، وقال إنه يحب «شعر هذا الشاعر الكبير، لم يدعْ مكاناً في فلسطين، وهو يسميها أرض إسرائيل، إلاّ وكتب فيه قصائد، وبعضها جميلٌ جداً، وتُحرج الشاعر الفلسطيني حقاً».عاموس عوز

اللافت أكثر أن الإسرائيلييْن المشاركيْن في احتفاء فلسطيني وطني جامع بمحمود درويش ومؤسسة للإبداع تحمل اسمه يشتركان في استهجان غضب الشاعر الراحل، وصَعُبَ عليهما امتصاصُه، كما عبّر عاموس عوز الذي كان صريحاً في اعتباره درويش «خصماً ذا قامة فارعة». كان على الشاعر الفلسطيني الكبير، بحسبِهما، أن يرى أوجاع الإسرائيليين أيضاً وأن تُغضبه، بل ويعبّر عنها أيضاً، وكان حرياً به أن يكونَ مثل مناحيم بياليك في هذا، على ما طالب عوز درويش الغائب في قبره. وإذ كان الشاعر الراحل شجاعاً في إعلانه إعجابه بشعر عميحاي الوافد إلى فلسطين من ألمانيا والجندي الذي حارب في العدوان الثلاثي على مصر وفي حرب أكتوبر، فإن أحداً من دارسيه لم يقف على أيّ تأثر تبدّى في أي محطة في منجزه الوفير بشعر مناحيم بياليك الذي هو «الشاعر الوطني لإسرائيل»، كما وصفَه ليوسي ساريد، ما يكفي إثباتاً بديهياً على هزال فكرة التأثر التي أراد عاموس عوز أن تكون لدى درويش، الذي كانت فلسطين عنده «سيدة الأرض وأم البدايات وأم النهايات».

انشغل مثقفان إسرائيليان معتدلان، متعاطفان مع الشعب الفلسطيني وبعض حقوقه، بما غضبا منه في محمود درويش، فنسبا إليه ما التبسَ على أفهامهما، ولم يذهبا إلى الواضح، أي إلى صراحة الشاعر الكبير لمّا قال في آخر مقابلة له مع صحيفةٍ إسرائيليةٍ «هاآرتس»، في تموز 2007 «يريد الفلسطينيون أن يحظوا بحياةٍ طبيعيّةٍ على 22 في المئة من المساحة التي يعتقدون أنها وطنهم. اقترحوا التفريقَ بين الوطن والدولة، وأدركوا التطور التاريخي الذي أفضى إلى الوضع الحالي الذي يعيش فيه شعبان على الأرض نفسها في البلد نفسه، وعلى رغم هذا الاستعداد، لم يبقَ ما يمكن التحدّث عنه». ويذكرنا كلام يوسي ساريد وعاموس عوز بوصف الروائي الإسرائيلي اليساري أ. ب. يهوشواع في «معاريف» محمود درويش بأنه «الصديق والعدو»، وبما كتبه يوري أفنيري عنه بحبّ وإعجابٍ كبيرين، في مقالة في «الغارديان» رأى فيها أن السلام الحقيقي بين الفلسطينيين عاموس عوز.jpg والإسرائيليين يأتي عندما يتفهم كل جانبٍ ذاكراتِ الجانب الآخر وأساطيره واشتياقاته الدفينة وآماله ومخاوفه، وعندما يبدأ التلاميذ العرب في دراسة «وادي الموت» لمناحيم بياليك، وعندما يقرأ الطلاب الإسرائيليون في مناهجهم أشعار درويش حول النكبة.

إنها القناعة نفسها إذاً، تكاد تكون مهيمنةً، عند نخب اليسار الإسرائيلي المثقفة والمناهضة للعنف الإسرائيلي والمتعاطفة مع الحقوق الفلسطينية، وهي أنه كان على محمود درويش أن يماثل وطنياً صهيونياً، هجس بقيام إسرائيل ومات قبل أن يراها، اسمه مناحيم بياليك، وألا يغضبَ من الإسرائيليين إلى حدّ مطالبتهم بأن يخرجوا من بحر الفلسطينيين وجرحهم وهوائهم وملحهم. وليبقى صديقاً لهذه النخب، ينبغي أن يَشيع ندمُه عن غضبته تلك، ويشيعَ تأثرٌ لديه ببياليك الذي على التلاميذ الفلسطينيين أن يقرأوه أيضاً، لتتساوى الأوجاعُ وأسباب الغضب عند الشعبين وشاعريهما الوطنيين.

معن البياري

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...