في ذكراه العاشرة: ملف عن سعد الله ونوس

15-05-2007

في ذكراه العاشرة: ملف عن سعد الله ونوس

 شوق إلى إصلاح ما لا يمكن إصلاحه

كان يأتي في فترة مرضه الأخيرة، شاحباً، بطيء الخطى قابضاً على ابتسامة. فإذا جلس سأل عن أحوال الآخرين، وبحثت يده عن زجاجة ماء ترطّب فماً دائم الجفاف. وكانت ابتسامته تبعث وجهاً حجبته طبقات المرض، يعاندها صوت مبحوح، لم تفلح الابتسامة في تحريره من قيود الأسى. كان وراء سعد المريض، الذي يرى إلى داخله وخارجه، سعد آخر، يريد أن يكون ما كانه، صوتاً واضحاً يقاتل المرض. حاول الإنسان المريض: وبإرادة غير متوقعة، أن يكون صورة عن «سجين الأمل»، الذي تحدّث عنه قبل سنة من رحيله ونيّف، حيث على السجين أن يعابث عبث الوجود وأن ينتظر يوماً لا جفاف فيه، يوزّع النور على القارئ والكاتب والصوت، وعلى مسرح مزدهر واسع، لا يكون المجتمع حيّاً سليماً من دونه. ذلك «أنّ المسرح ليس تجليّاً من تجليّات المجتمع المدني فحسب، بل هو شرط من شروط قيام هذا المجتمع».

على رغم المرض والجفاف وعين قلقة تلاحق «زجاجة الماء»، كان المبدع الناحل مصمّماً على محاكمة زمن خائب، وعد بالفضيلة واستنهض الرذيلة، بمقدار ما كان مصمّماً على مواجهة «الخديعة الذاتية»، التي أقنعت المثقّف المسؤول بأنّ التاريخ لا يعود إلى الوراء. ولعلّ هاجس التمييز بين الخطأ والصواب، هو الذي أملى على هذا المثقف، الذي كان يستأنس بأفكار عبدالله العروي وقسطنطين زريق وفرانتز فانون وغيرهم، أن يعود إلى الماضي القريب، الذي بدا نهراً أو ما يشبه النهر، قبل أن يتحلّل ويركد ويتفسّخ، وينتهي إلى «الاستنقاع»، بلغة ونوس. وهذه الدورة، التي تلطم العقل حتّى لو كان بصيراً، جعلته في أيامه الأخيرة يحاول مسرحية، لم تنته، عن أيام أديب الشيشكلي، بعد مسرحية «الأيام المخمورة» التي تأمّلت الهوية ونسيج الإنسان الشرقي و «زمن التنوير»، الذي بدأته عقول مشرقة مخلصة، وبدّدته البلاغة الفارغة والعقول الانقلابية وحسابات السماسرة.

بدا ونوس، في حقبة «مسرح التسييس»، مفعماً بيقين الأمل وبأمل له جلال الحقيقة، وانتهى، بعد الاحتلال الإسرائيلي لبيروت بشكل خاص، إلى مرحلة منسوجة من الشك والمساءلة والقلق، باحثاً عن الصواب في زمن عربي ألقى بالصواب إلى مزبلة. يقول الحفيد في «الأيام المخمورة»: «أيقنت أنّ في العائلة دملاً يتستّر عليه الجميع، وأيقنت أنّي لن أستقر في اسمي وهويتي إلاّ إذا اكتشفت الدمّل وفقأته»، ويقول أيضاً: «ألا يحتاج المرء أن يعرف أهله والناس الذين يحمل هويتهم؟». لم يعد المسرحي الكهل، الذي كان مشدوداً إلى بريشت وبيتر فايس وكاتب ياسين، مشغولاً بالثورة الاشتراكية، التي يؤسسها الحالمون ويسرقها الجبناء، ولا بالوحدة العربية، التي تزهر كلاماً وتورّث خيبة، بل أصبح مهجوساً بسؤال صغير كبير، يدور حول الاسم، والذي يشك في اسمه يشك في وجوده، وحول الهوية، التي استنقعت إلى تخوم الانحلال. كان سعد في أسئلته القلقة، وهو الذي لا يسقط النوم عليه هيّناً في الأيام السعيدة، يسأل خيبة عربية متوالدة، منذ أن أصبحت فلسطين مزاداً وسوقاً وبازاراً، كما لو كان الوباء العربي وباء لا علاج له. يقول الأراجوز في «الأيام المخمورة»: «ما هي الحقيقة؟». إنّها «إبرة ضاعت في مزبلة». لم يكن سعد يهوّن من شأن الحقيقة بل كان مذعوراً، من فداحة المزبلة»، التي تردّ المثقف المسؤول مهزوماً، من دون أن يستطيع السير مع «السائرين نياماً»، أو أن يقنع عقله بالكف عن الخفقان.

في منتصف سبعينات القرن الماضي، أو ما جاورها، كتب سعدالله مسرحية «الملك هو الملك»، التي هي «لعبة تشخيصية لتحليل بنية السلطة في أنظمة التنكّر والملكية»، كما قال: أظهر في مسرحيته أنّ السلطان كيان مجرّد، قوامه رموزه، فالحاكم هو الرداء الذي يلبسه مثلما أن الوزير هو رداء الوزير. فلا وجود لأشخاص وجماعات و «طبقات»، لأنّ البشر لا يصنعون السلطة، فهي التي تصنعهم وتعطيهم ميلاداً جديداً، كما لو كان في السلطات المستبد منها بالتأكيد، ما يضعها السلطات في زمن قاتم وحيد. صرّح المسرحي بتشاؤم يقارب اليأس، سبقه إليه نجيب محفوظ في «أولاد حارتنا»، التي قالت إنّ «الإنسان الطيّب» الذي يصل إلى السلطة لا يظل طيّباً بعد الوصول إليها. فالسلطة لعبة تنكرية، من ينسى أدواتها يفقدها، والسلطة تنكّر موروث، من يكشف عن وجوهها المحتجبة يسقط في الاغتراب.

آمن سعد الصبي، وهو يسجل في قريته ملاحظات على دفتر بسيط، بأنّ في الواقع المعيش خللاً، وأنّ الخلل قابل للإصلاح. وما على الصبي، الذي أصبح كاتباً، إلاّ أن يشرح مواقع الخلل، ويحرّض الفقراء على هدم قصور الظلم وتشييد مملكة العدالة. كتب، وهو الذي كان يستضيء بالماضي، مسرحية موجعة «مأساة بائع الدبس الفقير»، الذي انتظر طويلاً إحسان القلوب الأخيرة، إلى أن داسته الأقدام واستحال إلى «لطخ سائل مصفرّ يبقّع الإسفلت». كان سعد، قبل زمن «الملك هو الملك»، قد وزّع هواجسه على سؤالين: سؤال «السلطة الطبقية»، التي تعيد إنتاج غنى الأغنياء وفقر الفقراء، وتعيد إنتاج المعرفة السلطوية وجهل الرعيّة. ولهذا جعل من سؤال الانتقال من «الغفلة إلى اليقظة»، وهو موضوع استقاه من بيتر فايس، مكمّلاً لذلك السؤال الأبدي، الذي يحكي عن مكر الحاكمين وسذاجة المحكومين. كيف يصبح المسرح منقذاً اجتماعياً، مخلّصاً آخر، بديلاً عن «المخلّصين المسلّحين»، الذين ينجزون لعبة التنكّر ونحر المصلحة الجماعية في آن؟ كيف تتحوّل المسرحية إلى مظاهرة، كما هجس سراً وهو يكتب «حفلة سمر من أجل حزيران»؟

مقتفياً آثار غيره من الحالمين الكبار، ذهب سعد إلى «مسرح التسييس»، الذي يواجه المتفرّج بتناقض اجتماعي غير متوقع، ويجبره على التخلّي عن الإجابات الجاهزة. أراد المسرحي، الذي حاول التنظير لمسرح إبداعي عربي، أن يقيم الفرق بين مسرحه و «مسرح سياسي» آخر يحوّل أوجاع الناس إلى «نكات» ماسخة. ولهذا رأى التسييس المسرحي في مقولات جمالية جديدة، تعيد بناء ذائقة المتفرّج الذي حوّلته التربية التقليدية إلى مستقبِل (بكسر الباء) سلبي، يرى ويسمع بلا مساءلة أو فضول. شاء سعد، في هذه المرحلة، أن يطبق قول بريشت عن «الكاتب الذي يصطحب معه قارئه إلى المعركة». لكنّه ما لبث أن أدرك أنّ الحديث عن «رسالة مسرحية» حديث عن مجتمع مدني يحتفي بالمسرح، وأنّ التوجّه إلى جمهور مسرحي يفترض فضاء اجتماعياً يتمتّع بحياة سياسية سليمة. فقد جاء المسرح من السياسة وظلّ مهجوساً بأسئلة سياسية. عرف سعد أنّ عليه أن يدع فكرة «المعركة» وأن يذهب إلى فضاء التأمّل الطليق.

كان عليه، وهو يحاول اختبار الصواب، أن يصمت، أي أن يشك في ما كان يعتبره بداهة ولو بقدر، وأن يشك، لزوماً، في بداهات «فلسفة التقدّم»، التي تخترع، في الشروط العربية، ما شاءت من الطبقات المتوهمة، وتغدق ما شاءت من الصفات الجديدة على أنظمة لا علاقة لها بالجديد ولا بما يشبهه، خطأ، ولا بما يتقاطع معه، ولو صدفة. وبعد صمت طويل جاء بـ «منمنمات تاريخية»، التي تأمّلت هندسة الخراب الذاتية، التي تجعل البلاد مهزومة قبل هزيمتها الأكيدة القادمة، إلى أن وصل إلى قفر موحش، يتنافس فيه البشر كي يذهبوا إلى الهاوية. جاء في مسرحية «ملحمة السراب»: «أنّ الزرقاء قالت لو أنّكم لم تستعجلوا موتها لكان ممكناً أن تبصر في البعيد شمساً تشرق بعد انقشاع هذا الليل الطويل». أراد الكاتب - الرائي معركة غير ميؤوس منها، وأراد الواقع العربي الاحتفال بالليل الطويل، الذي يلغي معنى الشروق والغروب.

تأمّل سعدالله الواقع العربي وحاور أسئلته، وتأمّل المسرح وعمل على تطويره، حتّى أصبح المسرحي العربي الأكثر تجديداً وأصالة، في النصف الثاني من القرن العشرين. عالج المسرحي الراحل صخرته الثقيلة حتى الرمق الأخير، مارس ما قال به، وطوّر قوله وظلّ مخلصاً لما آمن به وهو يسجّل، صبيّاً، ملاحظات عن المعنى والوجود وعن جمال الأحلام وخراب الروح البشرية. يقول مثل أفريقي: «حين يغيّب الموت عجوزاً تغيب معه مكتبة واسعة». خلّف ونّوس مكتبة مبدعة ورحل ولم يجاوز الخمسينات إلاّ بقليل.

كان يقول في ساعات الكآبة: «إنّ باطن الأرض أرحم من وجهها». بعد عشر سنوات على رحيله لم تغيّر الحياة من وجهها شيئاً.

فيصل درّاج- الحياة

اختيار لحظة الموت

سعد.. هل اخترت يوم وفاتك في ذكرى النكبة واغتصاب فلسطين لتضاعف حزننا؟ نعرف ان اسرائيل بالنسبة إليك لم تكن مجرد عدو.. إنها سارقة الأرض والفرح والأرواح. ‏

ألست أنت القائل: «إن إحساسي الجنائزي سيتضاعف أكثر وأكثر، لأني وأنا على حافة هذه التخوم الرجراجة بين الحياة والموت أعتقد ان اسرائيل، واني أقولها بالمعنى الحرفي لا بالمعنى المجازي، ان اسرائيل سرقت السنوات الجميلة من عمري وأنها أفسدت على انسان عاش خمسين عاماً مثلاً الكثير من الفرح، وأهدرت الكثير من الامكانات».. 
 ويا سعد.. بتّ على قناعة بأنك اخترت يوم وفاتك من دون انتحار لتذكرنا بأن النكبة مستمرة وان موتك كان صرخة احتجاج باسم شعبنا العربي كما كانت كلمتك في يوم المسرح العالمي باسم هذا الشعب.. وباسم الانسانية.. ‏

رئيس تحرير ‏جريدة تشرين ‏

سعد الله ونوس.. أفتخر حقاً ‏

لاحظت بالتجربة المباشرة ان مستوى لغتي الانجليزية يتدنى عندما أتكلم مع شخص لغته سيئة! كما لاحظت بالتجربة المباشرة أن مستوى ذكائي يصبح أفضل عندما أتحاور مع سعد الله ونوس! ‏

صحيح ان سعد الله لم يكن كثير الابتسام حتى قبل إصابته بالمرض الخبيث لكن ابتسامته عندما تتفتح تبدو صافية ونادرة وعميقة كنبع يشق دربه بين الصخور.. كانت رؤية ابتسامته وهي تطرد الشحوب من وجهه مسرة حقيقية بالنسبة لي، والحق إن بعض ابتساماته النادرة لا تزال تتفتح في ذاكرتي لتنيرني بحريتها الصافية. لكنني كنت أعرف مع سعد الله ونوس مسرة أخرى هي مسرة التحليق دون أجنحة، فسعد الله هو الشخص الأكثر حرية والأقل خوفاً من كل الكتاب العرب الذين تعرفت عليهم وقرأت لهم. ‏

لست أريد هنا أن أذكر محاسن موتاي، فسعد الله ونوس ليس ميتاً بالنسبة لي، وأنا لا أزال أرافقه وأحاوره، وانْ كان مستوى الحوار قد انخفض بعض الشيء لأنني أجيب نيابة عنه لاسيما في الأمور التي لم يسبق ان ناقشناها معاً. ‏

ليست كثيرة هي الأشياء التي يمكنني ان افتخر بها دون تحفظ. لكنني أفتخر حقاً ودون أي تحفظ بأنني رافقت سعد الله ونوس وهو يخوض معركته البطولية ضد السرطان.. أفتخر دون تحفظ لأنني كنت بين أول من اطلعوا على نصوصه المسرحية الأخيرة التي اقتنصها بين جرعة كيميائية وأخرى رغم خيانات الجسد؛ فجاءت ابداعاً معجزاً في جماله وحريته، سيظل عطره يضوع ما دام الانسان. 
 قبل سعد الله ونوس تعرض شكسبير وبريشت لحملات من التشكيك.. أحد صيادي الشهرة زعم ان شكسبير ليس شكسبير بل هو كريستوفر مالرو وقبل بضعة أعوام طلع علينا صياد شهرة آخر بقوله أن بريشت ليس كاتباً وأن عشيقاته هن اللواتي كن يكتبن له! لست أدري ان أقف عند المشككين لكنني أود ان أشير الى معلومة موثقة لها دلالة لا تخفى على القارئ اللبيب. عندما اجتمعت اللجنة العليا لمشروع «كتاب في جريدة» الذي تشرف عليه منظمة اليونسكو، واختارت بالاقتراع السري أسماء المؤلفين العرب الذين ستنشر أعمالهم على شكل ملاحق صحفية توزع مع ثلاث وعشرين جريدة عربية في ثلاث وعشرين دولة يوم الأربعاء الأول من كل شهر، جاء اسم سعد الله ونوس في المرتبة الثانية من حيث عدد الأصوات بعد المتنبي ثم تلاه ثالثاً اسم شيخ الروائيين العرب الأديب الكبير نجيب محفوظ. ‏

لقد حاول سعد الله ونوس أن ينتحر بعد زيارة السادات للقدس وأصيب بالسرطان صبيحة حرب الخليج الثانية. فماذا كان يمكن ان يفعل لو بقي حياً حتى

حسن م. يوسف ‏- تشرين

الجوع الى الحوار ‏

قبل عام على وفاته كتب سعد الله ونوس رسالة المسرح العالمي باسم كل مسرحيي العالم؛ فكان أول عربي يكلف بهذاالشرف.. وفي ذكرى رحيله تعيد تشرين نص الرسالة.. ونقول لروحه: اننا محكومون بالأمل. ‏

«كلفني المعهد الدولي للمسرح التابع لليونسكو بكتابة «رسالة يوم المسرح العالمي» لعام 1996 وقدكتبت هذه الرسالة التالية التي ترجمت الى لغات العديد من بلدان العالم وقرئت على مسارحها». ‏

لو جرت العادة على أن يكون للاحتفال بيوم المسرح العالمي عنوان وثيق الصلة بالحاجات التي يلبيها المسرح ولو على المستوى الرمزي لاخترت لاحتفالنا اليوم هذا العنوان «الجوع الى الحوار»: حوار متعدد مركب، وشامل، حوار بين الأفراد وحوار بين الجماعات. ومن البدهي ان هذا الحوار يقتضي تعميم الديمقراطية واحترام التعددية وكبح النزعة العدوانية عند الأفراد والأمم على السواء، وعندما أحس هذا الجوع وأدرك إلحاحه وضرورته فإني أتخيل دائماً أن هذا الحوار يبدأ من المسرح ثم يتموج متسعاً ومتنامياً حتى يشمل العالم على اختلاف شعوبه وتنوع ثقافاته وأنا أعتقد ان المسرح، ورغم كل الثورات التكنولوجية، سيظل ذلك المكان النموذجي الذي يتأمل فيه الانسان شرطه التاريخي والوجودي معاً. وميزة المسرح التي تجعله مكاناً لا يضاهى هي المتفرج يكسر فيه محارته كي يتأمل الشرط الانساني في سياق جماعي يوقظ انتماءه الى الجماعة ويعلمه غنى الحوار وتعدد مستوياته فهناك حوار يتم داخل العرض المسرحي وهناك حوار مضمر بين العرض والمتفرج، وهناك حوار ثالث بين المتفرجين أنفسهم.. وفي مستوى أبعد هناك حوار بين الاحتفال المسرحي عرضاً وجمهوراً وبين المدينة التي يتم فيها هذا الاحتفال.. وفي كل مستوى من مستويات الحوار هذه ننعتق من كآبة وحدتنا ونزداد احساساً ووعياً بجماعيتنا. ومن هنا فإن المسرح ليس تجلياً من تجليات المجتمع المدني فحسب بل هو شرط من شروط قيام هذا المجتمع وضرورة من ضرورات نموه وازدهاره. ولكن عن أي مسرح اتكلم؟! هل أحلم أم هل أستثير الحنين الى الفترات التي كان المسرح فيها بالفعل حدثاً يفجر في المدينة الحوار والمتعة؟! لا يجوز ان نخادع أنفسنا؛ فالمسرح يتقهقر.. وكيفما تطلعت فإني أرى كيف تضيق المدن بمسارحها وتجبرها على التقوقع في هوامش مهملة ومعتمة بينما تتوالد وتتكاثر في فضاءات هذه المدن الأضواء والشاشات الملونة والتفاهات المعلبة. لا أعرف فترة عانى فيها المسرح مثل هذا العوز المادي والمعنوي فالمخصصات التي كانت تغذيه تضمر سنة بعد سنة والرعاية التي كان يحاط بها تحولت الى اهمال شبيه بالازدراء غالباً ما يتستر وراء خطاب تشجيعي ومنافق، وما دمنا لا نريد ان نخادع أنفسنا فعلينا الاعتراف بأن المسرح في عالمنا الراهن بعيد عن أن يكون ذلك الاحتفال المدني الذي يهبنا فسحة للتأمل والحوار ووعي انتمائنا الانساني العميق. وأزمة المسرح رغم خصوصيتها هي جزء من أزمة تشمل الثقافة بعامة ولا أظن اننا نحتاج الى البرهنة على أزمة الثقافة وما تعانيه الأخرى من حصار وتهميش شبه منهجيين، وانها لمفارقة غريبة ان يتم ذلك كله في الوقت الذي توفرت فيه ثروات حولت العالم الى قرية واحدة وجعلت العولمة واقعاً يتبلور ويتأكد يوماً بعد يوم، ومع هذه التحولات وتراكم تلك الثروات كان يأمل المرء ان تتحقق تلك اليوتوبيا التي طالما حلم بها الانسان. يوتوبيا ان نحيا في عالم واحد متضافر تتقاسم شعوبه خيرات الأرض دون غبن وتزدهر فيه انسانية الانسان دون حيف أو عدوان ولكن يا للخيبة! فإن العولمة التي تتبلور وتتأكد في نهاية قرننا العشرين تكاد تكون النقيض الجذري لتلك اليوتوبيا التي بشر بها الفلاسفة وغذت رؤى الانسان عبر القرون فهي تزيد الغبن في الثروات وتعمق الهوة بين الدول الفاحشة الغنى والشعوب الفقيرة والجائعة كما أنها تدمر دون رحمة كل أشكال التلاحم داخل الجماعات وتمزقها الى أفراد تضنيهم الوحدة والكآبة.. ولأنه لا يوجد اي تصور عن المستقبل ولأن البشر وربما لأول مرة في العالم لم يعودوا يجرؤون على الحلم فإن الشرط الانساني في نهايات هذا القرن يبدو قاتماً ومحبطاًَ.. وقد نفهم بشكل أفضل مغزى تهميش الثقافة حيث ندرك انه في الوقت الذي غدت فيه شروط الثورة معقدة وصعبة فإن الثقافة هي التي تشكل اليوم الجبهة الرئيسة لمواجهة هذه العولمة الأنانية والخالية من أي بعد انساني.. فالثقافة هي التي يمكن ان تبلور المواقف النقدية التي تعري ما يحدث وتكشف آلياته وهي التي يمكن ان تعين الانسان على استعادة انسانيته وان تقترح له الأفكار والمثل التي تجعله أكثر حرية ووعياً وجمالاً، وفي هذا الاطار فإن للمسرح دوراً جوهرياً في انجاز هذه المهام النقدية والابداعية التي تتصدى لها الثقافة فالمسرح هو الذي سيدربنا عبر المشاركة والأمثولة على رأب الصدوع والتمزقات التي أصابت جسد الجماعة وهو الذي سيحيي الحوار الذي نفتقده جميعاً وأنا أؤمن أن بدء الحوار الجاد والشامل هو خطوة البداية لمواجهة الوضع المحبط الذي يحاصر عالمنا في نهاية هذا القرن. ‏

إننا محكومون بالأمل وما يحدث اليوم لا يمكن ان يكون نهاية التاريخ منذ أربعة أعوام وأنا أقاوم السرطان وكانت الكتابة وللمسرح بالذات أهم وسائل مقاومتي.. خلال السنوات الأربع كتبت وبصورة محمومة أعمالاً مسرحية عديدة ولكن ذات يوم سئلت وبما يشبه اللوم ولِمَ هذا الاصرار على كتابة المسرحيات في الوقت الذي ينحسر المسرح ويكاد يختفي من حياتنا! باغتني السؤال وباغتني أكثر شعوري الحاد بأن السؤال استفزني بل وأغضبني.. طبعاً من الصعب أن أشرح للسائل عمق الصداقة المديدة التي تربطني بالمسرح وأنا أوضح له ان التخلي عن الكتابة للمسرح وأنا على تخوم العمر، هو جحود وخيانة لا تحتملها روحي وقد يعجلان برحيلي وكان عليّ لو أردت الاجابة ان أضيف «إني مصر على الكتابة للمسرح لأني أريد ان أدافع عنه وأقدم جهدي كي يستمر هذا الفن الضروري حياً». ‏

وأخشى أنني أكرر نفسي لو استدركت هنا وقلت: «ان المسرح في الواقع هو أكثر من فن.. انه ظاهرة حضارية مركبة سيزداد العالم وحشة وقبحاً وفقراً لو أضاعها وافتقر اليها» ومهما بدا الحصار شديداً والواقع محبطاً فإني متيقن أن تضافر الإرادات الطيبة وعلى مستوى العالم سيحمي الثقافة ويعيد للمسرح ألقه ومكانته. ‏

إننا محكومون بالأمل وما يحدث اليوم لا يمكن ان يكون نهاية التاريخ. ‏

‏ سعد الله ونوس ‏

سعد الله ونوس في ذاكرة العالم ‏

لقد وظف الكاتب المسرحي السوري في كتاباته رموزاً كونية بشكل دلالي فعال دون أن يتخلى عن خصوصيته الثقافية. فالعناصر التخييلية في حبكة مسرحية ملحمة السراب وتوظيف بعض الرموز الأسطورية القديمة مكنت هذا الكاتب السوري من مقاربة مسرحية دقيقة لأكثر القضايا حساسية في العالم المعاصر. لقد استطاع ونوس أن يوظف في أعماله رموزاً ومرجعيات تمكنه من التواصل مع الشرائح الواسعة من الجمهور.. لقد طرح هذا الكاتب في أعماله قضايا تخص المجتمع العربي ولكنها في الوقت نفسه قضايا كونية تخص الإنسانية عامة. وفي الحقيقة لقد حاكم ونوس ونقد الوجه المادي الجشع للحياة الحديثة.. لقد كان في أعماله صرخة من أجل العدالة ودعوة الى الوعي في مواجهة مشكلات العصر. ‏

ہ سيباستيان غونثر باحث وأستاذ في جامعة تورونتو في كندا. ‏

التاريخ والمعرفة ‏

لقد نجح الكاتب السوري سعد الله ونوس بشكل كبير في توظيف أشكال الفرجة التراثية وخصوصاً فن الحكواتي. لقد استطاع هذا المسرحي أن يشخص التاريخ من خلال هذه التقنية الدرامية وأن يجعله مادة للمعرفة وكان هدفه من توظيف هذا الشكل التراثي تحقيق التواصل بين عناصر العرض المسرحي وإيصال رسالته الى الجمهور بشكل فعال. ‏

ہ فريدريك بانويك ناقد وباحث ألماني. ‏

مساحة إبداعية للجمهور ‏

لقد عبر الكاتب المسرحي السوري سعد الله ونوس في أعماله الأولى عن مأزق الإنسان في العالم الحديث، لكن ما يميز هذا الكاتب انه صور الجانب العبثي من معاناة الانسان في السياق الاجتماعي والسياسي. لذلك نرى أن مصير الانسان العبثي في مسرحياته الأولى يعود الى عوامل اجتماعية وسياسية.. إن ونوس لا يلزم نفسه بالأوهام والشعارات، بل يعلن أفكاره بجرأة ويختار الأسلوب المناسب للتعبير عنها... لقد كان هذا المسرحي السوري الأكثر قدرة على منح الجمهور مساحة إبداعية للتفكير والتأمل.. لم يعبر كاتب عن ما لحق بالمجتمع العربي من ظلم وقسوة بدقة وإتقان مثلما فعل ونوس. لقد عبر في مسرحية الاغتصاب عن غضبه العارم تجاه الواقع السياسي العربي... ‏

ہ إيوا ماتشوت ميندكا ناقد وباحث من بولونيا. ‏

الأكثر عمقاً ‏

لقد كان سعد الله ونوس الأكثر عمقاً في استكشاف ومعالجة العلاقة بين الخطاب والفعل، بين النظرية والممارسة في عمل المبدع والمثقف.. وفي مسرحية منمنمات تاريخية يحلل بعمق علاقة المثقف والمبدع بالسلطة والواقع.. وعلى النقيض من غيره من الكتاب الذين كتبوا مسرحيات تاريخية، لم ينكر ونوس ولم يتجاهل قدرة التاريخ على إضاءة الحاضر.. لقد أوضح ونوس أن على المثقفين أن يتحملوا المسؤولية وأن يشاركوا في الحياة العامة ويرفضوا الاضطهاد.. ‏

ہ مريام كوك باحثة وأستاذة جامعية بريطانية. ‏

الجمهور بداية المسرح ‏

لقد كتب سعد الله ونوس عدداً كبيراً من المسرحيات والمقالات والدراسات، وكلها تعبر عن عمق ثقافته الواسعة وعن مدى التزامه بالمسرح.. ولقد أثارت أعماله أسئلة كثيرة وجدلاً واسعاً.. لقد أصر ونوس دائماً على أن نقطة البداية بالنسبة للمسرح هي الجمهور، وهو بذلك حاول توجيه المسرح العربي في اتجا ه جديد يحرره من التقيد بالمفهوم الأوروبي لفن المسرح. ‏

ہ روجر ألان باحث وأستاذ في جامعة بنسلفانيا في الولايات المتحدة الأمريكية. ‏

الموت كلحظة حداثة

عندما رحل سعد الله ونوس قبل عشرة أعوام، كانت تحولات كبرى قد بدأت تعصف بالعالم وكانت إشارات تلك التحولات وطقوسها قد بدأت بالفعل ترسم ملامح عصر جديد.

وكانت هذه التحولات بالنسبة لونوس فضاء مفتوحاً لممارسة فعل استثنائي من المعرفة والإبداع. وفي ذكرى رحيل سعد الله ونوس العاشرة، يدفعنا الى قراءة بعض ملامح تجربته الغنية في الابداع والمعرفة أمور عديدة تبدأ بالحب لكنها لا تكتفي به، بل تضيف إليه واجب وضرورة البحث والقراءة والاكتشاف الذي علمنا إياه سعد الله أستاذاً ومثقفاً ومبدعاً. ولعل في قراءتنا المتجددة له ما يعيد تأكيد حقيقة أن الكبار يعلموننا دائماً حتى بعد رحيلهم. ‏

تتجلى الأهمية الخاصة لكتابات ونوس في أنها شكلت إضافة ومشاركة من مبدع عربي في مواجهة الشرط الثقافي الكوني الجديد. يصف المفكر «هومي بابها» هذا الشرط بأن «السؤال الثقافي أصبح اليوم بالنسبة لكل مبدعي العالم يتجسد في فضاءات النهاية والما بعد. ففي نهاية القرن العشرين أصبحنا محكومين بمصطلحات النهايات ورغبة التجاوز. كأن وجودنا اليوم مشروط بتلك الرغبة الغامضة بالنجاة والتجاوز ونحن نعيش على حدود الحاضر حيث لا توجد تسمية مناسبة لهذا الشرط غير تلك البادئة الإشكالية «الما بعد»، ما بعد الحداثة، ما بعد الكولونيالية، ما بعد الرأسمالية، مابعد.. والما بعد هنا ليس أفقاً جديداً ولا تجاوزاً للماضي بشكل كامل». ‏

وهنا في الحقيقة تتجلى خصوصية ومشكلة المبدع العربي في مواجهة هذا الواقع الثقافي الكوني الجديد. فإذا كان المبدع والمثقف في الغرب قد توفر له سياق نظري وثقافي للتعبير عن أزمته وإحساسه بنهايات حقبة وبدايات أخرى من خلال النظريات التي عبرت عن نفسها ببادئة الما بعد، فإن المثقف والمبدع العربي يبدو مفتقداً لهذا الترف. ففي واقع ثقافة متداعية وإحساس عميق بالأزمة وبنهايات عصر وبداية آخر كان على مبدع كسعد لله ونوس أن يواجه التحول دون مرجعية ثقافية أو نظرية يمكن لها أن توفر أفقاً أو معنى ما للنهايات كما هو الحال في وضع المبدع الغربي. ‏

عاد سعد الله ونوس الى الكتابة المسرحية ليعبر عن تجربته في مواجهة التحولات وعالم الما بعد بلغته الخاصة وضمن خصوصية انتمائه الثقافي. وكان عليه أن يخوض غمار هذه المغامرة ليس فقط على المستوى الثقافي والسياسي، بل على المستوى الفردي، الإنساني والوجودي، إن لغة النهايات والموت التي سيطرت على ثقافة نهاية القرن العشرين من موت المثقف والكاتب ونهاية التاريخ ونظريات الما بعد قد اقترنت لدى ونوس بتجربة النهايات على المستوى الشخصي في تجربة المرض والموت. ‏

انعكس ذلك في أعمال ونوس الأخيرة في تحرره من الأطر الايديولوجية التي حكمت كتابته المسرحية سابقاً وفي انعتاقه من كل أشكال السلطة والرقابة الداخلية والخارجية. وأدى ذلك الى تحرر الذات والذاكرة كما هو واضح في كل أعمال هذه المرحلة. تحررت الذاكرة في محاولة لمواجهة النهاية والإحساس بالفقدان ومواجهة الخيبة مما يسميه هابرماز «المشروع غير المكتمل للحداثة في نهاية قرن عنيف، وكأن استيقاظ الذاكرة هو تعبير عن رغبة في استعادة المفقود». ‏

وتجتمع كل هذه الملامح والشروط الثقافية والسياسية والشخصية لتؤدي الى لغة مسرحية قادرة على التعبير عن هذه التجربة الانسانية والابداعية المعقدة. لقد صاغت اللغة المسرحية الجديدة هذه التجربة على شكل مفارقة درامية محورية في كل أعمال سعد الله ونوس الأخيرة. تتجسد هذه المفارقة في أن سعي الفرد نحو حريته وسيطرته على مصيره ونحو اكتشاف ذاته لا يتحقق في المسرحيات إلا في لحظة النهاية والموت. كل الشخصيات تناضل من أجل حرية مستلبة ومن أجل ذات مقموعة ولا تتحقق لحظة حريتها درامياً إلا مقترنة بتجربة الموت وبتمزق النسيج الاجتماعي وانهيار كل سلطاته. سناء، الماسة، سعاد فاروق وحتى المفتي والعفصة في طقوس الإشارات كلهم ذوات سعت الى الحرية في زمن التحولات الكبرى ولم تجد انعتاقها من سلطة الاجتماعي والسياسي إلا بتجربة الموت والنهاية. ‏

لقد طرح سعد الله ونوس كل هذه الأسئلة ومضى في مغامرة النهايات وعالم الما بعد وحيداً. كانت تجربة الموت لحظة حداثة نادرة أعاد فيها صياغة العالم والأسئلة. ولم يشأ ونوس في لحظة حداثته الفريدة إلا أن يكون المسرح سؤاله الأخير قبل أن يمضي.. المسرح والحداثة! قلق السؤال كان حاضراً في نصه الأخير «الأيام المخمورة» كإصرار عنيد على إكمال مشروع وجود. ‏

أدرك سعد الله ونوس أن الخطاب المسرحي الحداثوي الذي سعى إلى تأصيل الثقافة المسرحية في المجتمعات العربية خلال الستينيات والسبعينيات لم يعد ذا مصداقية أو كفاءة في التعبير عن عالم جديد. ولقد واجه ونوس أسئلة الكتابة المسرحية على مشارف الألفية الثالثة في نصوصه في مرحلة التسعينيات. في هذه المرحلة جرب المسرحي المثقف في جماليات فنية وفي لغة مسرحية جديدة معبراً عن تجربة فريدة اجتمع فيها الخاص والعام ليجعل منها استثناء. هي تجربة الانتقال بين عالمين. الانتقال بين عصرين مختلفين سياسياً وثقافياً واجتماعياً على المستوى العام، والانتقال بين عالمي الحياة والموت على المستوى الشخصي الخاص. ‏

لقد أشار سعد الله ونوس الى أن أزمة المسرح هي أزمة تخص العالم عموماً في أواخر القرن العشرين، وهي ليست خاصة بالمسرح العربي. وفي الحقيقة يبدو أن المسرح في العالم عموماً بدأ يعاني من مشكلات حقيقية في العقدين الأخيرين من القرن الماضي. تتعلق هذه المشكلات بالتطورات الكبيرة التي أفرزتها ثورة الاتصالات وثقافة المجتمع الما بعد رأسمالي والتي أدت الى أزمة عميقة في الحداثة الغربية. في هذا السياق يقول المفكر الفرنسي جين بودلير: «لقد تغيرت وضعية المسرح في أوروبا الحديثة من كونه فناً رئيساً الى كونه فناً هامشياً في عالم مابعد الحداثة، حيث كل شيء يتمسرح. لكل التمسرح هنا يتم عبر وسائط الاتصال الحديثة من تلفزيون وكمبيوتر والوسائط التفاعلية الأخرى». ‏

هنا يبدو السؤال معقداً وهو هل يمكن للشروط والعوامل التي أدت الى ظهور مايسمى ثقافة ما بعد الحداثة في المجتمعات الغربية والتي أفرزتها طبيعة المجتمع الما بعد رأسمالي والثورة التكنولوجية أن تجد أصداء أو آثاراً في مجتمعات لم تنجز حداثتها بعد ولا يزال القسم الأكبر منها غارقاً في القبلية والأمية دون علاقة حقيقية بالثقافة التكنولوجية؟ حتى ولو كانت الاجابة بداهة بالنفي فإن السؤال على درجة من التعقيد بحيث لا يحتمل اجابة واحدة. وهنا تحديداً كان سعد الله ونوس ذا حساسية فائقة في التصدي لهذا السؤال عبر رصد الشروط الجديدة لتجربة الانسان في مجتمعنا على مشارف الألفية الثالثة. ‏

أحد أهم هذه الشروط هو تغير حساسية المتلقي وحاجاته الجمالية وضرورة البحث عن وسائل دراماتورجية جديدة تطرح أسئلة العصر. وتشكل مسرحية الأيام المخمورة تجربة خاصة في عملية استكشاف وسائل دراماتورجية يمكنها أن تؤسس لعلاقة جديدة بين عناصر العرض المسرحي. ‏

في «الأيام المخمورة» بنية درامية معقدة تقوم في الأساس على التعدد اللانهائي للأصوات ووجهات النظر وعلى إعادة توظيف العناصر الدرامية في سياق جديد وخطاب مغاير لمسرح الستينيات والسبعينيات. لقد قام الخطاب المسرحي في الستينيات والسبعينيات على يقين امتلاك الحقيقة، لذلك كان هذا الخطاب مشغولاً بكيفية إيصال هذه الحقيقة الى الجمهور وليس بالبحث أو التساؤل عنها. كان المثقف الحداثوي في هذه المرحلة واثقاً، ربما حد المبالغة من امتلاكه الحقيقة. وكانت المخيلة الإبداعية محكومة بتلك النظرة اليقينية بأن العالم تحكمه ثنائيات واضحة من القوى والمتناقضات الطبقية مثل الحاكم والمحكوم أو القامع والمقموع. ‏

انطلاقاً من هذه اليقينيات كان سؤال الحقيقة بالنسبة لونوس سؤالاً سينوغرافياً بالدرجة الأولى ولم يكن سؤالاً وجودياً. بمعنى أن السؤال كان محصوراً في البحث عن التقنيات المسرحية التي يمكن من خلالها إيصال حقيقة واضحة الى الجمهور. في هذه المرحلة كان لابد من خلق أدوات يمكن من خلالها مسرحة صوت المثقف الذي يملك الحقيقة ويملك الحق في إيصالها. لإنجاز ذلك كان الأكثر فعالية بالنسبة للمسرحي المثقف أن يرتدي أقنعة ذات سلطة على المخيلة الجمعية للجمهور وذات مصداقية ثقافية بالنسبة له. هنا كان الحكواتي والأمثولة الشعبية والتراث أدوات فعالة في مسرحة وتسييس صوت المثقف، وليس صحيحاً أن السؤال لدى ونوس كان يتعلق بأوهام التأصيل أو الاستنبات الفولكلوري للمسرح في الثقافة العربية. كان السؤال أكثر تعقيداً وجدية من ذلك. ‏

في مرحلة التسعينيات فقد المسرحي المثقف يقينه ولم يعد يملك تلك ا لحقيقة الواضحة. لقد انهارت مشاريع ذلك المثقف وأحلامه النهضوية. هنا أصبحت الحقيقة سؤالاً مقلقاً وأصبح النص الدرامي مشغولاً بالبحث عن الحقيقة لابطريقة إيصالها. الحقيقة هي «إبرة في مزبلة» كما يقول الأراجوز في الأيام المخمورة في هذه المسرحية تتجسد فكرة النسبية والتعددية وعدم إمكانية وعي حقيقة مطلقة في الواقع عبر توظيف عدة عناصر درامية. ‏

لم تعد تقنية الراوي في الأيام المخمورة وسيلة لمسرحة صوت المثقف كمرجعية وحيدة. أصبح الراوي هنا مجرد صوت من أصوات عديدة مهمته هي محاولة البحث عن الحقيقة دون اي ادعاء بامتلاكها. حتى أن الحقيقة بالنسبة للحفيد الراوي هي سؤال معقد ليس هناك ما يؤكد إمكانية الوصول الى إجابة عليه. كل ما يمكن فعله هو محاولة البحث. وأهم ما يقدمه الراوي خلال بحثه هو التأكيد على فكرة أن الحقيقة في محصلتها ليست إلا نتيجة لتناقص وتقاطع وقراءة حكايات وسرديات صغيرة متعددة. ‏

هل يسعى النص لمسرحة هذا الشرط الذي تسميه بعض الدراسات الثقافية المعاصرة بـ «the Discursive Condition» أي أن الحقيقة أو التاريخ هو سرديات وخطابات حول الواقع. في هذا الشرط، كما تقول إليزابيث إرمارث: «عند مقاربة السير الفردية لحيوات عصية على الوصف، لم يعد هناك إمكانية للوعي الحداثي بوجود الزمن الحيادي والتاريخ الموضوعي حيث يمكن للزمن والماضي الجمعي المشترك أن يوجد. ‏

لم يعد بالإمكان ضمان الحيادية والموضوعية التي يمكن من خلالها وعي وقراءة زمن وماض مشترك، لم يعد ذلك ممكناً في عالم متعدد الأصوات والذوات الفاعلة». ‏

لا أعتقد أن ونوس يبشر هنا بموت السرديات الكبرى ولا بنهاية التاريخ. على العكس تماماً، فهو الذي أصر على أن ما يحدث اليوم لايمكن أن يكون نهاية التاريخ. إذا كانت نظريات نهاية التاريخ وموت السرديات الكبرى وتحول العالم الى كائن افتراضي من اللغة والصور هو تهويمات نظرية تدفع بعض المثقفين للتحلل من مسؤولياتهم التاريخية ومن القيم العظيمة للحداثة كالحرية والديمقراطية ومسؤولية الإنسان عن مصيره، كما أشار الراحل إدوارد سعيد، فإن سعد الله ونوس كان من الجرأة والحرية بحيث رفض تلك التهويمات ورصد التغيرات العميقة التي أفرزتها. ‏

إن السرديات الصغيرة التي تروي حياة أفراد العائلة في الأيام المخمورة والتي تبعثرها أزمة الهوية لا تبقى معلقة في الفضاء كحقائق افتراضية يركض وراءها الراوي الحفيد، بل تضع المسرحية هذه السرديات كجزء من السردية الكبرى لمجتمع يتمزق ولحداثة حكم عليها بالموت منذ البداية. وهنا تحديداً تتبدى خصوصية البنية الدرامية في هذا النص في التقنية الخلاقة لربط الفردي بالجمعي والخاص بالعام. ‏

إن عملية التحول على الصعيد الفني هنا تتلخص بأن البنية الدرامية في الستينيات والسبعينيات كانت موظفة لربط فضاءين رئيسين هما الخشبة والصالة، بينما وظيفتها على مشارف الألفية الثالثة هي ربط فضاءين أكثر أولوية وهما الفردي والجمعي أو الخاص والعام. ‏

لقد تحرر المثقف والمسرحي في سعد الله ونوس من سلطة الصالة ومن سلطة الجمعي والشعبوي. إن وظيفة الأراجوز في «الأيام المخمورة» هي أن يضع تلك السرديات أو الحكايات الصغيرة والمبعثرة في سياق السردية أو الحكاية الكبرى لمجتمع يتغير بعنف وسرعة. إن مهمة الأراجوز درامياً ـ كما يؤكد هو نفسه، هي أن يظهر أن تلك الحكايات الصغيرة إنما هي حكاية ككل الحكايات في المدينة. وما يجعل من جمعها في سيرة مليئة بالتناقض والتعدد وذات معنى هو علاقتها بسياقها.

د. علي أحمد سليمان- تشرين 

حلم بـ «مسرح عربي جديد»... وواجه الهزيمة بالكتابة

قبل عشر سنوات، خسر سعد الله ونّوس معركته الأخيرة... أغمض عينيه ومضى، تاركاً بلاده في قلب الدوامة، والأفكار التي آمن بها على محك التساؤل وإعادات النظر. أين هو المسرح البديل الذي عمل على بنائه هذا المسرحي السوري المجدد؟ ونّوس الذي دخل دائرة الضوء بعد النكسة بمسرحيّة شهيرة هي «حفلة سمر من أجل 5 حزيران» (1968)، خرج من الحلبة كما يليق بمحارب ساموراي، وقد انتهر العالم: «إننا محكومون بالأمل... وما يحدث لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ».
إنه ينتمي إلى سلالة من المؤلفين المعاصرين ــــ بينهم يوسف إدريس، وكاتب ياسين، وألفريد فرج، وعصام محفوظ... ــــ الذين ميّزوا بين الأدب والمسرح، بين السرد والفعل، بين لغة الكتابة ولغة الحياة. أراد ونوس أن يخرج المسرح من خزانة الأدب، والفرد من قطيع الجماعة، والمتفرّج من سلبيّة المتلقّي إلى فعل الشريك الحقيقي في اللعبة المشهديّة. في احدى مقالاته النظريّة انتقد مسرح «التفريغ» لدى دريد لحّام، واضعاً في مقابله «مسرح التحريض» الذي يصدم المتفرّج، ويدفعه إلى الوعي بظروف استلابه السياسي وقهره الاجتماعي، كي ينتفض على أسباب الهزيمة.
يكاد ونّوس يكون مؤرّخ الهزائم العربيّة بامتياز... استعادها على طريقته من «حفلة سمر» إلى «طقوس الاشارات والتحوّلات» (1994) التي قدّمتها نضال الأشقر. فيها يعود بلغة المجاز إلى هزائم قديمة من تاريخنا، تاركاً للفرد أن يحتل مكانته الأساسيّة، ويتحمل مسؤوليته التاريخيّة، وهي من سمات مسرح ونّوس في مرحلته الأخيرة: الانتقال من الوعي الجماعي... إلى التمرّد الفردي.
ينتمي هذا الكاتب إلى جيل آمن بالإصلاح واتخذه منهجاً، وقرن الفن بالالتزام، فانبرى لمواجهة مشاكل زمنه ومجتمعه، قضاياه الانسانية والوطنيّة. لكن همّه الاساسي كان البحث عن القوالب الفنية الملائمة، والأشكال البديلة التي تمهّد لتحوّل في مسار المسرح العربي... ولعل هذا الهاجس لم يفارقه، بدليل التحولات التي شهدها مسرحه بين السبعينات والتسعينات. صحيح أنّه «وضع المسرح في مواجهة الواقع، في عالم عربي يبحث عن نقاط ارتكاز ثقافية وتاريخية جديدة»، بتعبير علي الراعي، لكنه منذ البداية تعامل بحذر مع «المسرح السياسي»، مسرح التحريض والحشد والشعار واللفظ، داعياً في «بيانات من أجل مسرح عربي جديد» (1988) إلى مسرح «التسييس» الذي يوحّد الخشبة بالصالة، في علاقة تفاعليّة تفترض الحوار الحيّ، ومتعة الفرجة الشعبيّة... كان همّه الاساسي أن يقرب مسرحه من المتفرّج.
وإذا كان ونّوس غرف من التراث، في زمن مسكون بهمّ «تأصيل المسرح العربيط، فقد قدّمه من خلال قراءة نقديّة، مستحضراً الأمثولة البريختيّة القائمة على التغريب، تاركاً مسافة نقدية بين الحدث والمتلقي. هذا ما فعله في «الفيل يا ملك الزمان» (1969)، «مغامرة رأس المملوك جابر» (1970)، و«سهرة مع أبي خليل القباني» (1972)، وصولاً إلى «الملك هو الملك» (1977)، و«رحلة حنظلة من الغفلة إلى اليقظة» (1978)، حيث تتخذ الحكاية الشعبية، بعداً جدلياً يغرف من تقنيات المسرح الملحمي. إنها أساسات «الاحتفاليّة» في المسرح العربي، التي ستعرف عصرها الذهبي في المغرب، مع الطيب الصديقي وعبد الكريم برشيد، وستبلغ أوجها مع عز الدين علّولة في الجزائر، وفرنسوا أو سالم («الحكواتي» الفلسطيني)، وطبعاً روجيه عسّاف («الحكواتي» اللبناني)...
وإضافة إلى احاطته بالتراث العربي، واكب ونوس كل المدارس والاتجاهات المعاصرة في المسرح الغربي... منذ أيام الدراسة الباريسية. لم يكن غريباً عن مسرح بيسكاتور السياسي، كما كان على إلمام دقيق بتجربة بيتر فايس صاحب «مارا ـــ ساد» في المسرح التسجيلي، من دون أن ننسى كل جماليات «المسرح داخل المسرح» وشكل «الارتجال» كذريعة دراميّة كما نقع عليهما في مسرح لويجي بيرندللو. وكلها انعكست في نصوصه. كما اكتشف في باريس «مسرح الشمس» وآريان منوشكين، هو الذي استعار أبرز شخصياته وأبطاله من القصص الشعبي والتراث، وتوسّل (مثل منوشكين أيام مسرحية 1789) المادة التاريخيّة لمقاربة الراهن السياسي.
في أواخر السبعينات (1978) صمت سعد الله ونّوس كما هو معروف عقداً كاملاً. كانت الأزمنة قد بدأت تتغيّر في اتجاه الانحطاط الذي نعيشه اليوم. راجع الكاتب تجربته، وحاول أن يفهم سر ذلك الأفق المسدود الذي يحاصر المسرح العربي، ومشاريعه البديلة، مثلما يحاصر الأحلام التقدميّة والطليعيّة الساعية إلى تحقيق الديموقراطيّة والتنمية والتطوّر. اكتشف ربّما أنه بقي كاتباً نخبوياً. لكن كيف يكون الكاتب المسرحي العربي غير ذلك؟ عندما سيعود الى الكتابة، سيكون جدد لغته ومصادره الإبداعيّة وأدواته الجماليّة... وراح يفرد حيزاً واسعاً لضمير المتكلّم على حساب ضمير الجماعة...
عاد إلى الكتابة بعد رحيل شريك تجربته فواز الساجر، مع «الاغتصاب» (1989) التي قدمها جواد الأسدي وشكلت خطوة نوعيّة في مساره الابداعي. وتبعتها مسرحيات عدّة أبرزها «يوم من زماننا» (1993)، «منمنمات تاريخية» (1995)، «ملحمة السراب» (1995)، «بلاد أضيق من الحب» (1996)، الذي ضمنه كتابه «عن الذاكرة والموت»، وأخيراً «الأيام المخمورة» قبيل رحيله.
في تلك المرحلة التي كان يقاتل فيها المرض ــــ كمجاز عن اليأس السياسي والهزائم المتواصلة ــــ بدا ونوس أكثر عفوية وطلاقة في تصور البناء الفني والقالب الدرامي. وبدا مشغولاً ببلوغ أقصى درجات الصدق مع الذات، بعيداً عن جدران الايديولوجيا العازلة... وركّز بجرأة مفاجئة على المحظور الاخلاقي، والمسكوت عنه في المجتمعات العربية.
شباب آخر، شباب أخير... آخر انتفاضة في وجه اليأس والاحباط والموت، هو الذي طالما استل سلاح الكتابة في مواجهة الهزائم الفرديّة والجماعيّة، الذاتيّة والسياسيّة...

بيار أبي صعب- الأخبار

سيرة:

ولد سعد الله ونوس في قرية حصين البحر في محافظة طرطوس عام 1941. درس الصحافة في القاهرة وتخرّج عام 1963، وعمل محرراً للصفحات الثقافية في صحيفتي «السفير» اللبنانية و«الثورة» السورية. كما عمل مديراً للهيئة العامة للمسرح والموسيقى في سوريا. في أواخر الستينيات، سافر إلى باريس ليدرس فنّ المسرح.
اكتنفت مسرحياته نقداً سياسياً اجتماعياً للواقع العربي بعد صدمة المثقفين إثر هزيمة 1967 وتوقف النقاد كثيراً عند مسرحيته «حفلة سمر من أجل 5 حزيران» التي اعتبرت نقطة تحول رائدة في المسرح الواقعي.
في أواخر السبعينيات، أسهم ونوس بإنشاء المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق. كما أصدر مجلة «الحياة المسرحيّة»، وعمل رئيساً لتحريرها. من العام 1978 حتى 1988 اعتصم ونّوس، ليعود إلى الكتابة في أوائل التسعينيات.
توفي في 15 أيار (مايو) 1997، بعد صراع خمس سنوات مع مرض السرطان.
استسلم في يوم الذكرى الـ49 لنكبة فلسطين، رحل كي لا يشهد على احتفاء جديد بألمنا كما كان يردّد.

 

-«كان موته أشبه بالخيانة» هكذا وصف سعد الله ونوس رحيل صديقه وشريكه في الحلم المسرحي فواز الساجر (1948ـــ 1988). فالمخرج السوري وجد فيه ونوس نصفه المسرحي الآخر. أسسا معاً فرقة المسرح التجريبي في دمشق لتكون انعطافة مهمة في تاريخ المسرح السوري بعروض لا تزال ماثلة في الذاكرة من «يوميات مجنون» إلى «سكان الكهف». النص كان أشبه بمرثية شخصية للساجر. يقول ونوس مستذكراً النقاشات الحادة التي جمعته بالساجر: «كان فواز يلح على مفهوم الحب، فيما ألححتُ على مفهوم الحرية. وما كان المفهومان يتعارضان، بل يتكاملان في حوار انقطع فجأة».

 

 مزاجي جنائزي، سنبدأ حديثنا عن إسرائيل
في عام 1971، توجه عمر أميرالاي مع سعد الله ونوس إلى قرية سورية نائية تقع على تخوم نهر الفرات لإنجاز فيلم تسجيلي، بعيداً من النظرة الفولكلورية للريف. هكذا، كانت أول تجربة سينمائية سورية مشتركة لرصد الواقع كما هو. هناك، عاش الاثنان أشهراً لمعاينة الحياة الريفية عن كثب، فكان فيلم «الحياة اليومية في قرية سورية».
كان الشريط قاسياً ومؤلماً في تشريح واقع مهمل وفضحه على الملأ، فوجدت فيه الرقابة الرسمية خطاً أحمر. هكذا مُنع الشريط من العرض، لكنه بقي إحدى أبرز علامات السينما التسجيلية في سوريا حتى اليوم.
بعد سنوات طويلة، سيلتقي الصديقان مجدداً في ظرف مختلف: قبل رحيله بأشهر، وقف سعد الله ونّوس أمام عدسة عمر أميرالاي ليروي سيرته ومكابداته وشقاءه في مواجهة المرض العضال في فيلم «هناك أشياء كثيرة كان يمكن أن يتحدث عنها المرء» (1996).
في هذا الشريط، طغى حديث الهزيمة والموت على ما عداهما. اللقطة الأولى أرادها أميرالاي أن تبدأ بحقن المصل في وريد سعد الله وهو شاخص يرقب تدفق القطرات في جسمه المنهك، إلى أن يأتي صوته ليكسر إيقاع الصمت: «مزاجي جنائزي، ليس بسبب المرض، بل بسبب أشياء كثيرة. سنبدأ حديثنا عن إسرائيل». هكذا يختلط لدى سعد الله ونّوس، الشخصي بالعام على الدوام، فتصير هزيمة حزيران 1967، هزيمة شخصية له. وكانت زيارة السادات إلى إسرائيل ذروة محنته: «في تلك الليلة أقدمت على محاولة انتحار جدية».
وعندما وقعت حرب الخليج (1990)، عدّها صاحب «الاغتصاب» (1990)، الضربة الأخيرة الموجعة. ويقول معلّقاً «أشك معها في أنها كانت السبب المباشر لإصابتي بمرض السرطان، وليس مصادفة أن يبدأ الشعور بالإصابة بالورم أثناء الحرب والقصف الوحشي الأميركي على العراق».
في نهاية الفيلم، يطرح عمر أميرالاي وجعاً مشتركاً «سنموت في يوم ما وفينا العلة التي اسمها إسرائيل». يزفر مضيفاً «أعتقد أن جيلنا كله سيمضي إلى مثواه الأخير وفي رأسه ظلال هذه الخفقة السوداء الشبيهة بعلامة هي بالضبط علامة العمر الذي عاشه، لأن إسرائيل ستكون باقية حين يذهب جيلنا إلى نهايته». ويستدرك أخيراً «هناك أشياء كثيرة كان يمكن أن يتحدث عنها المرء».

الأخبار


محكومون بالعدم!
أتيتُ إلى دمشق مثل غجري، رمتني (صالحية) العراق إلى (صالحية) دمشق، وحيداً مثل حصان مرتبك ومكسور يبحث عن احتفالات العدم. حطّتني الأيام عند عتبات سعد الله ونوس، على مقربة من جمرة جروحه وعزلته الأكثر ضوءاً من جمهورية مفتونة بالكآبة، التقيته في غرفته بمسرح القباني. وقتها كنت أضربُ المجاديف في يوميات الفتوة والنزق، والبحث عن دروب اللذة في بروفات مسرحية طوفانية، وفي لغات لا تلتفت إلى الخلف. العراق بفراديسه صار أقرب إلى دكّات المذابح، وقبليات الأحزاب ووحشيتها تعلّق العراق بأساطيره وتعلّق جماليات شعره على مقصلة في الشوارع العامة.
هذا هو سعد الله ونوس بعينيه الدافئتين يضع يده على عباءة أمي، يزيح عن كتفها غبار الغرق وعن وجهها نيران التنور وبقايا إعدام ابنها بوحشية فريدة. قال لي بنبرته الحلوة: «يا جواد بيتي منذ اليوم بغدادك، ومسرح القباني بيت بروفاتك». ازدادت فتنتي بنصّه «رأس المملوك جابر»، حرصَ على حضور بروفاتي يومياً. طلاب المعهد العالي للمسرح يرتّبون أجنحة عالية الضربات، مع نص محتشد بالسرد والجمال العفوي. بعد سنة كاملة من البروفات، صنعنا احتفالاً بصرياً، أسعدَ سعد الله. وقتها وضعنا الأساس المهني المتين لشراكنا الروحية والفكرية. وسعد الله ونوس يندر أن تجد له مثيلاً في احتفائه بأصدقائه. كان مسكوناً بفتنة الحوار، واللهفة إلى الكشف.
بعد غيابه الظالم، توحلت علاقتي بالمدنيّة، تسبّب بوحشة لا مثيل لها على صعيد يومياتي بالمسرح. كأني فقدت عشيرة من الطيور المجروحة، بلاداً اختصرها اسمه. صرتُ أمشي في شوارع الشام مثل شجرة رماد. سعد الله لم يعد موجوداً، لا في مسرح القباني، ولا في فندق الشام، ولا في صخب الحوارات، هو ليس في بيته، تلفونه لا...
غاب الكاتب المتمدن، المدني، اغتصب نصّه «الاغتصاب» حفنة من الموتورين، كانت حملة أمّيةً شرسة انعكست على صيرورة إخراجي للنص. سعد الله كان دائماً يشكل هدفاً لمن يقرأونه بضيق أفق. لهذا، كان نادراً، حراً، فارساً يخترق زمانه بجدل فكري ناري. تبلور ذلك عبر مشروعه المسرحي.
أمّا الإنسان، هذا السعد الله ثمرة الألفة، وردة الحنو، ضحكة التمرد، القلق، المتواري، الحاضر، الغائب، الوحيد، المستوحش. إنّه حصان الألفة. بروفات على الشغف. يرفع الستار، سعد الله يتقدم نحو المنصة. الجمهور يصفق. سعد الله يقرأ كلمة يوم المسرح العالمي. الجمهور يسكت. سعد الله يوغل في الكشف عن وجعه، الجمهور يتألم، سعد الله يطلق جملته: «محكومون بالأمل». أقول له الآن وهو محمول على مويجات «حصين البحر»، نعم نحن محكومون بالعدم.

جواد الأسدي- الأخبار
 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...