تأميم الثقافة العربية

28-03-2008

تأميم الثقافة العربية

مثقفون مصريون: التأميم باطل لكن رعاية الدولة واجبة والخصخصة ليست حلاً

إذا بقيت عندنا النماذج الأخيرة للدولة المحتكرة للمرافق الاقتصادية والسياسية والثقافية، فإن النموذج يتكيف بدرجة او بأخري علي المستوي الاقتصادي مفسحاً لرأسمال فردي واستثمارات فردية بعضها يخرج من عباءته، لكن السياسة تبقي محتكرة وكذلك الثقافة. الي أين صارت الحال بالثقافة وهل ما زال التأميم حامياً من احتكار التجار ام سبيلا الي نوع آخر من الرخص والاتجار. هل غدا التأميم بابا الي ثقافة في اسفل الدرك وهل يكفي رخص الثمن لفتح الثقافة علي الجمهور أو لترسيخ الثقافة في الحياة الاجتماعية. هل الخصخصة هي الحل أم انها في بلدان عانت من احتكار الدولة ونمو رأسمالية طفيلية خطر آخر قد لا يكون أقل. أين هو الحل اذاً. سؤال حملناه الي مثقفي بلدين لا يزال احتكار الثقافة فيهما قائما: مصر وسوريا. وكان بوسعنا طرحه علي مثقفي بلدان أخري عربية وغير عربية. غير أن في سوريا ومصر الكفاية.
المثقفون المصريون لا يترددون في نقد التأميم. البعض يذهب بعيداً. البعض لا يدين التأميم باطلاق، لكنه ايضا لا يطالب بالخصخصة، فالأمر يحتاج الي توازن والي تدريج والي جمع بين نظامين.

الكاتب يوسف زيدان مدير مركزي المخطوطات ومتحف المخطوطات بمكتبة الإسكندرية: هذا السؤال ملتبس من عدة وجوه! وبالتالي فكل الإجابات عنه ستكون ملتبسة، فأولا لا بد من أن ندرك أن الثقافة هي بحسب التعريف المشهور والأكثر تداولا: نمط من حياة جماعة من الناس، بكل ما يشتمل عليه هذا النمط من فكر وعقائد وعادات وتقاليد موروثة... إلخ، ولذلك فإن الالتباس الأول يأتي من الخلط بين مفهومي (الثقافة) و(الانتاج الفكري والفني)، وفي حقيقة الأمر فإن هذا غير ذلك ولا يجوز إطلاق أحدهما علي الآخر، ولا عليك من الخطأ المشهور في لغتنا المعاصرة، حين نشير إلي الكاتب أو الأديب بلفظ (المثقف) فهي دلالة حديثة واستخدام جديد يعود إلي مئة عام فقط، وطيلة تاريخنا كان لفظ (مثقف) يستخدم للإشارة المجازية إلي قوام المرأة الرشيقة، وقد ورد اللفظ بهذا المعني في ما لا حصر له من نصوص عربية وأشعار قديمة.
هذا هو الالتباس الأول، أما الالتباس الثاني فهو ناشئ من (التقليد) الجديد الذي انتهجته الحكومات الشمولية مع بدايات القرن العشرين وتحديدا مع استقرار أمر الحكم في روسيا وما حولها من مناطق، بيد البلاشفة (الماركسيين) الذين أقروا نظامهم السياسي بقتل وتشريد مليوني شخص من مواطنيهم ! وبالتالي ليس غريبا علي مثل هذا النظام الذي سارت علي منواله كثير من حكوماتنا العربية (الثورية) أن يتم تأميم كل شيء، كأن الثقافة من الأمور المادية المحسوسة الأرض والمصانع والأموال وأموال الناس التي أمموها باسم الشعب، أو باسمهم هم باعتبار أن الحاكم هو الشعب، وهكذا كان تأميم الثقافة باطلا، من فوقه باطل، ومن تحته باطل، والسؤال عن مشروعية هذا التأميم الثقافي هو أكثر بطلانا بطبيعة الحال، وإلا: متي تم تأميم الثقافة أصلا؟ إن ما حدث هو تمويل إنتاج فكري معين يخدم أصحاب السلطة وفي الوقت ذاته قمع الفكر المعارض للحاكم. وما تأميم الثقافة في واقع الأمر إلا التمويل من جهة والقمع من جهة.

الكاتب عماد أبو غازي نائب الأمين العام للمجلس الأعلي للثقافة: تأميم الثقافة ضار باستقلال المثقف والمبدع وباستقلالية العمل الثقافي العام. للدولة دور في الحياة الثقافية يتمثل في إنشاء البنية الأساسية للعمل الثقافي: المكتبة الوطنية، الأرشيف الوطني، المتحف الوطني، لكن يظل دائما الإبداع والإنتاج الفكري عملا ينبغي أن يكون مستقلا بالكامل حتي يحافظ المبدع والمثقف علي استقلاله عن السلطة، هذا لا يمنع أن تقدم الدولة دعما للأنشطة الثقافية الأهلية بشرط ألا يؤثر هذا الدعم علي استقلالية المبدعين.
وتاريخ الحركة الثقافية في مصر منذ نشأتها في القرن الـ 19 شاهد المسارات المتوازية: قيام الدولة بأعباء إنشاء المؤسسات الكبري وقيام المثقفين والمبدعين بتأسس جمعياتهم وروابطهم وتجمعاتهم المستقلة إلي جانب الثقافة التي يساهم فيها القطاع الخاص مثل صناعة السينما وصناعة الكتاب، وكانت هذه التجربة ناجحة وأنتجت حركة ثقافة متوازنة حتي بدأ طغيان المؤسسات الرسمية في الخمسينيات والستينيات علي العمل الثقافي، وفي السنوات الأخيرة شهدت درجة من درجات عودة التوازن من خلال أنشطة المجتمع المدني والأنشطة الرسمية والأنشطة الخاصة.
مصطلح خصخصة الثقافة غير سليم، ينبغي ترك الأمور تسير بشكل طبيعي، تقوم الدولة بدورها في العمل الثقافي شرط ألا تمارس حجرا أو رقابة علي العمل الثقافي في المستقبل، وفي نفس الوقت من حق القطاع الخاص أن يباشر دورا في الثقافة، ووجود الدولة كمنافس في بعض هذه الصناعات يساعد علي ضبط السوق الثقافية.

الناقد مصطفي الضبع رئيس قسم البلاغة والنقد بكلية دار العلوم جامعة الفيوم: للإجابة عن السؤال علينا أولا الاتفاق علي ان الحديث عن التأميم هو حديث عن المؤسسة الثقافية تلك المعنية بتقديم العمل الثقافى، وثانيا فحص المعطيات المتاحة. لدينا مؤسسات ثقافية حكومية في حاجة إلي إعادة تأهيل لتصلح لتقديم ثقافة لها طابع متطور وإن حافظت علي تقاليدها العريقة. ولدينا مؤسسات ثقافية أهلية أفقدها الأشخاص الباحثون عن أدوار والباحثون عن مكاسب خاصة دورها ففقدت كل إمكانياتها، ولدينا مؤسسات ثقافية خاصة تمتلك إمكانيات تمكنها من الإنجاز لكن باعتمادها علي بعض هؤلاء المتاجرين تحولت إلي مؤسسات دعائية ولم تنج من ذلك إلا بعض المؤسسات التي كانت علي وعي من البداية ـ أو أنها نجحت في تطوير أدائها ـ فتخلصت من عناصر المتاجرين.
علي المستوي المصري لم تقدم المؤسسة الخاصة عملا ثقافيا يمثل إضافة للمؤسسة الرسمية لسبب بسيط أنها أغرقت نفسها في رؤية ضيقة أعني رؤيتها للعمل الثقافي من نافذة الجوائز وهو ما يكون له صبغة دعائية فحسب، وتركت المؤسسة الخاصة الفرصة التي منحتها المؤسسة الرسمية إياها حيث تخلت المؤسسة الرسمية عن دورها في القيام بمشروعات ثقافية من النوع الثقيل، وكان علي المؤسسات الخاصة ألا تتوقف عند الجوائز (التي إن حمدت للمؤسسة الخاصة تقديمها فلا أراها كافية لتقديم دور ثقافي مؤثر) المشروع الثقافي الذي يخدم كل المستويات الاجتماعية ويكون له دوره على مستوى المستقبل هو ما أعنيه هنا لدينا الكثير من المشروعات الثقافية المعطلة، هل فكرنا في جمع تراث أكتوبر مثلا، وهل فكرنا في أعمال ببليوغرافية تواكب روح العصر وتحمي التراث من الزوال. كم شاعر مصري فقدنا أعماله، وكم روائي مصري ضاع تراثه، وكم رجل علم مصري ضاعت مكتبته بين ورثته، وكم، وكم ... ستطول القائمة بالفعل، ومثل هذه الأعمال في حاجة إلى مؤسسات لا أفراد (رغم ذلك فالغريب أن أفرادا تصدوا لتقديم أعمال ببليوغرافية ناجحة فما بالنا بالمؤسسات تلك التي تقاعست عن القيام بهذا الدور)، لذا أثمن هنا دور ثلاث من المؤسسات ذات التأثير في العمل الثقافي وهي من النماذج الباقية التي يمكن التعويل عليها: أولا نموذج الهيئة العامة لقصور الثقافة التي وضعتها سلاسل النشر في مقدمة المؤسسات المصرية والعربية عبر مشروع النشر أولا وعبر مشروع أطلس الفولكلور ثانيا وعبر المؤتمرات الباقي أثرها عبر نشر أبحاثها (فالأبحاث هي الأثر الباقي من المؤتمر) لتبقي المؤسسة الأكثر قدرة على تقديم واحد من أهم مشروعات النشر في الوطن العربى، ثانيا: المجمع الثقافي في أبو ظبي ويكفي الإشارة للموسوعة الالكترونية للشعر العربى، ثالثا: مؤسسة البابطين الكويتية عبر مشروعها الببليوغرافي لشعراء العربية القائم على المسح المعلوماتي.
بناء على ما تقدم أرى الجمع بين إمكانيات المؤسسة وفكر الأفراد فالمحاذير التي أشرت إليها واقعة لا محالة في التأميم وباقية لا محالة في حال ترك العمل الثقافي بالصورة القائمة.

كرمة سامي أستاذ الأدب الإنكليزي ورئيس قسم اللغة الإنكليزية كلية الألسن ـ جامعة عين شمس: العراق يشتعل وغزة تحترق ولبنان بلا رئيس وسوريا تتعرض للتهديد. قلوبنا مع أشقائنا العرب في بؤر التوتر والصراع والاحتلال، لا نملك لهم سوى الدعاء. تصبح ثقافتنا وإبداعنا وعلمنا ترفا عندما تعجز أن تحرر وطنا أو تنقذ طفلا أو تمنع قصفا. لكنها وحدها الثقافة هي القادرة على تشكيل هوية الشعوب.. إيقاظهم ولم شملهم تحت راية واحدة متجهين صوب هدف واحد، لكيلا نتحول إلى أمة منقرضة ليس لنا بد من ثقافة مقاومة تستوعب الفرد والأمة وتذيبهما في كيان واحد متجانس. فهل هذا هو الوقت الذي نتحاور فيه حول أيهما أكثر نفعا للمواطن العربي: ثقافة الفرد أم ثقافة الدولة؟
كنا نسمع عن تجربة ماضية قامت فيها الدولة بالاشراف والتخطيط والتنفيذ للعديد من المشاريع الثقافية النهضوية التنموية، وما زلنا حتى الآن نتغنى بما قدم من أعمال مسرحية وسينمائية خالدة وما طبع من من نصوص أدبية لكبار الكتاب وشباب مبتدئ أصبح الآن من أبرز الأسماء الرائدة على ساحة الثقافة العربية. ماذا يتبقى لنا من ذاكرتنا الثقافية إذا محونا منها أعمالا خالدة نذكر منها «ياسين ولدي» و«ليلة مصرع جيفارا» و«وطني عكا» و«الأرض» و«البوسطجي» و«الحرام»؟
انغمسنا في قراءة مكتبات كونها آباؤنا من كتب طبعتها الدولة وكثيرا ما كان سعر طبعات هذه الكتب النفيسة مثار ضحكاتنا ونكاتنا. لدي طبعة نادرة من «كليلة ودمنة» لابن المقفع بثلاثة قروش فقط! يا بلاش!! أرفف كاملة تزدان بأعداد سلسلة المسرح العالمي الكاملة بغلافها البني الذي يحمل على قمته قناعي المسرح التي لولاها لما اتجهت بعد ذلك إلى دراسة المسرح. أفكار معاصرة لأحمد بهاء الدين طبعة كتاب الهلال بتاريخ ابريل 1970 بثمانية عشر قرشا، العدد 169 من المكتبة الثقافية هو كتاب اليهود أنثروبولوجيا للدكتور جمال حمدان بثلاثة قروش صدر في 16 فبراير .1967 كانت المكتبة الثقافية هي كما أريد لها أن تكون «أول مجموعة من نوعها تحقق اشتراكية الثقافة، تيسر لكل قارئ أن يقيم في بيته مكتبة جامعة تحوي جميع ألوان المعرفة بأقلام أساتذة ومتخصصين.» لم تكن المكتبة الثقافية هي الوحيدة بين سلاسل الإصدارات الثقافية ومنها تكونت مكتبات كاملة أصبحت ذخائر للمثقفين في مصر. وبفضلها كان على المثقف أن يصبح مثقفا حقيقيا.
وفي ذات الوقت قد يتسبب تدخل الدولة في الثقافة في تدهور الثقافة. ومثال ذلك الفترة المكارثية نسبة إلى سناتور جوزيف مكارثي (1908ـ1957) الذي حول الوسط الثقافي في الولايات المتحدة إلى محرقة للمثقفين في الفترة من 1950 إلى 1954 بدعوى انتمائهم إلى التيار الشيوعي، وبعد ذلك ما يجري الآن من «بركات» قانون المواطنة الذي اخترعه المدعي العام في الفترة الأولى من حكم جورج بوش جون آشكروفت وحول الولايات المتحدة من بلد حر إلى سجن كبير يحوطه جدار فصل عنصري!!
للفرد الحق في التعبير عن ثقافته وللأمة أو الدولة أن ترعى الإنتاج الثقافي الذي يجري داخلها كي يصب في مجرى مشاريعها الثقافية الكبرى. ورسولنا الكريم علمنا أن الحرام بيّن والحلال بين، أي أننا لا بد لنا من التمييز بين ما نتبعه وما نتجاهله، فإذا كانت الدولة هي الراعية لمشاريع تدفع بالأمة إلى الأمام يتعين على المثقف أن يصبح جنديا في موقعه الثقافي، وإن كان المثقف شاة شاردة فعلى الدولة الذود عنها ورعايتها وحمايتها. أما إن كانت الثقافة التي ترعاها الدولة هي ثقافة استهلاكية امبريالية تطمس الهوية فعلى المثقف الفرد أن يقبض على ثقافته كالجمرة حتى يخوضوا في حديث آخر، والأمر لله من قبل ومن بعد.

الشاعر والمترجم طلعت شاهين مدير إدارة الإعلام بالهيئة العامة لقصور الثقافة: الثقافة خدمة وطنية يجب توفيرها للمواطن تماما كالتعليم والرعاية والصحة، ومن هنا لا بد من دور فاعل للدولة في الثقافة سواء من خلال وزارة الثقافة أو مؤسسات ثقافية أخرى تعمل على توفيرها والمساعدة على التثقيف لأن المواطن الصالح الذي يشعر بالانتماء لا يكون ذلك إلا بالثقافة، والأمم العريقة تعرف هذه القيمة العليا للثقافة لا فرق فيها بين نظام وآخر، فنجد ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وغيرها من الدول الأوروبية الأخرى التي تنتمي إلى العالم الرأسمالي لديها وزارات ثقافة وتشجع على انتشار ثقافتها عبر العالم من خلال المنح والمساعدات التي تقدمها للأجانب الراغبين في تعلم لغاتهم أو ترجمة أعمال من تلك اللغات.
وفي الوقت نفسه تترك مجالا واسعا للمبادرة الفردية ووجود ظاهرة المؤسسات غير الحكومية في المجال الثقافي في تلك الدول يرجع في المقام الأول إلى إحساس المؤسسات الاقتصادية ورجال الأعمال فيها بالمسؤولية تجاه وطنهم ومواطنيهم، وهنا لا يجب القياس على الولايات المتحدة فهي لا تعتبر أمة بالمعنى الحقيقي لتلك الكلمة وهؤلاء الذين يعيشون في تلك البلاد المسماة بالولايات المتحدة ما هم سوى أحفاد شذاذ الآفاق الذين جاءوا من كل صوب وحد بحثا عن الثروة، وان كان بعضهم بدأ يلتفت إلى الثقافة ويحاول تعويض ما تفتقده المؤسسة الحاكمة من إحساس تجاه الثقافة.
في رأينا لا يجب تخصيص الثقافة كما يريد البعض بادعاءات واهية وفي الوقت نفسه يجب فتح الباب أمام المؤسسات الخاصة والأفراد للمشاركة من خلال تدعيم الثقافة في بلادنا، وربما كانت دعوة الدكتور أحمد نوار رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة التي أعلن عنها في مؤتمر صحافي قبل أيام قليلة جاءت لتصب في هذا الاتجاه ولذلك لا بد من دعم مثل هذه المبادرات ولكن أيضا المطالبة بالإبقاء على دور الدولة في صناعة الثقافة مع تصحيح هذا الدور والقضاء على السلبيات التي تشوبه.

الشاعر فارس خضر رئيس تحرير مجلة «شعر»: إذا ذكرت كلمة ثقافة تحسسوا مسدساتهم، لهذا ينبغي على العروش الخائرة أن تضمن انحطاط وعي أبنائها، وتدني مستوياتهم الثقافية إلى درجة البله المنغولي، حتى ليصبح قارئ الجريدة الرسمية بينهم مصدر إقلاق، لأنه مُعرَّض لأن يفهم، ويكتشف، وقد يحفزه هذا الأمر على البحث وراء المسكوت عنه. لهذا لا يسمح إلا في أضيق الحدود أن تخرج الجماعة النخبوية التي اصطلح على تسميتها بالمثقفين، على ألا يخرجوا من قبضة التأميم القسري.
فخصخصة الثقافة هي حل أمثل للمثقف، لكنه سيظل محروماً منه، لأن هذه الخصخصة تستلزم وجود أولا: سلطة ديموقراطية، تؤمن بأن الارتقاء بوعي المواطنين يدعم شرعية وجودها ويقويها، وتستلزم كذلك وجود رأسمالية وطنية، لا تتاجر في دم الشعوب.
وبما ان الحال علي ما هي عليه في معظم بلدان العالم الثالث، فالفكرة غير واردة من أساسه، وستظل هذه البلدان متحكمة وحاكمة للأمر بالقدر الذي تستطيعه، كي تضمن ولاء المثقف. وليس معنى هذا أن الدولة حين تدفع لتطبع أعمالا إبداعية أو فكرية لمؤلفين ربما لا يدينون للسلطة الحاكمة بالولاء المطلق، أن ينبطح هؤلاء المثقفون تحت سقف الرؤى الواطـئة لهذه السلطة أو غيرها، لكنهم بالتأكيد سيكونون حريصين على عدم تجاوز حدود الخطوط الضمنية المفروضة عليهم.
أذكر أن مناضلا قديماً امتدت إليه يد السخاء الحكومي قالها صراحة لعدد من المبدعين، ممن اعترضوا على طغيان الرقابة على أعمالهم، قال لا فض فوه: من لا يعجبه الأمر فلينشر أعماله على نفقته!
إلى أين يهرب المبدع إذاً؟ للجنة المسوَّرة للسلطة، أم للجحيم الأبدي لدى أصحاب دور النشر الخاصة ومن على شاكلتهم؟
ناهيك بأنه كلما فتح الله على أحد من أصحاب اللحى المسيَّسة، فقرأ كلمتين في قصيدة، أو تصفح كتاباً لا يبرهن صاحبه بين كل سطرين على أنه مؤمن وموحد بالله، أقول كلما ارتكب أحدهم هذه الجريمة خرج علينا شاهراً لسانه، مزبداً ومرغياً، وباكياً على أموال دافعي الضرائب التي أهدرتها الدولة في ما لا يفيد، كأن الخلل يكمن فحسب في أن هذه الأموال هي أموال الشعب، وكأن بوسع أي فرد يملك مالاً خاصاً أن يفعل به ما يشاء، يأتي بحمام ليطيَّره، أو يكتب أدباً يكسر من خلاله تابوهات الدنيا، أو يجترئ كما يشاء على من يشاء. لأن الخلل يكمن في القراءات العمياء للأعمال الإبداعية، وفي عدم وجود عائد اقتصادي للمثقف بحيث يفلت من هذه الدائرة، مما يجعله يقبل بالوقوف بين بين، فلا هو قابل بالأسقف الواطئة ولا بقادر على التخلي عن الدعم الحكومي الهزيل الممنوح له.
إن أفعالاً ابتزازية كهذه التي يمارسها المراهقون السياسيون تندرج تحت بند الحماقات، لأن أصحابها لا يؤمنون بحرية الإبداع، وأشك بأنهم لا يؤمنون بحرية الفرد أصلاً.
وهكذا رضي المثقف بالتأميم، وحماة التأميم الشعب لم يرضوا عنه، ولا توجد رأسمالية على درجة من النضج بحيث تفتح له الأبواب المغلقة... ربنا يسدها في وجوههم. ودمتم.

 

محمد الحمامصي

 

مثقفون سوريون: تتلاقى مصالح التاجر الثقافي والمؤسسة الرسمية

المثقفون السوريون ليسوا أكيدين من المخرج. هناك هجاء مر للتأميم الثقافي، لكن قلما يصل الأمر الى دعوة للانفكاك أو الخصخصة، يبقى مصير الثقافة ملتبسا والحل غامضا.

يقول الروائي نبيل سليمان: «يحتاج تأميم الحكومة للثقافة كما عشناه في سوريا أو مصر أو العراق والجزائر وتونس وليبيا... إلى قراءة نقدية جديدة، وعلينا أن نضيف إلى ذلك تأميماً آخر هو غير حكومي، أو بالأحرى هو حكومي بالإضافة إلى غير حكومي، أي القطاع المشترك، وأعني تأميم الجهات الدينية المجتمعية شبه الرسمية للثقافة، وبالتعاون مع بعض الأنظمة. ربما كان الحسم في هذا التأميم الأخير هيناً، حيث لا يخفى شره المتفاقم ولا أذاه العميم، مما تستّر بالدين أو التراث أو الأصالة. أما الحسم الأول الملفوف بسيلوفان القومية والثورة والاشتراكية والعصرية فهو أعقد. فمن جهة أولى حقق هذا التأميم فوائد هامة، من بناء القاعدة الثقافية التحتية (مراكز ومعاهد ومطابع ومؤسسات سينمائية ومسارح...). وحسب المرء أن يذكر فورة المجلات الثقافية المصرية أو العراقية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. حسب المرء أن يذكر فورة مشروع مكتبة الأسرة والقراءة للجميع في مصر. ولكن ثمن ذلك كان فادحاً في سيرورة الدولة الناصرية أو البعثية وما شابهها، من حيث تطويب الثقافة وهيمنة الأحادية الحزبية والإيديولوجية، والتسطيح الذي فشا متستراً بالجماهيرية». ويتابع سليمان ما آلت إليه الأمور، ويرصد واقع الحال: «بعد كل هذا العمر التعيس الطويل مع ثقافة رسمية كهذه، بدأت حركة جديدة. بدأ بعض الحراك الثقافي للقطاع الخاص، كالمساهمة في تمويل مهرجان أو تكريم فنانين أو تمويل الإنتاج التلفزيوني أو إصدار دوريات ثقافية، وهذا كله جديد في سوريا، وترى الناس فيه حيارى، بين من لا يرى في هذه الحركة الجديدة إلا غسلاً للأموال، ومن يرى فيها البشرى بالخلاص من الهيمنة المعمّرة الرسمية، ومن هو خائف من الثقافة التي يشيعها المناخ الجديد بدعوى الحداثة وما بعدها». ويبدو سليمان هنا حائراً هو الآخر، في بحثه عن طريق بين التأميم والخصخصة: «إزاء كل ذلك، يبدو لي أن ليس من حل قريب، ولا من أفق واضح. وربما كان ذلك جزءاً من مهمة المستقبل على كل مستوى. إزاء كل ذلك، يبدو أن لا مناص من البحث عن طريق ثالث، تتحمل فيه الدولة مسؤولياتها الثقافية بعيداً من التطويب القومي أو الديني أو أي تطويب. وفي هذا الطريق الثالث لا بد من أن يكون للقطاع الخاص والمجتمع المدني مساهمتهما الفعالة في الحياة الثقافية. ولعل العنوان الأكبر هنا هو تحقيق مدى أكبر فأكبر من الديموقراطية ومن الإصلاح، وبهذا، وبصريح العبارة، ترانا نعود إلى السياسة، والعياذ بالله».

الشاعر شوقي بغدادي قال: «صناعة قصيدة أو رواية أو مسرحية ليست بالتأكيد مثل صناعة الملابس أو البطاريات الكهربائية أو علب الكبريت، ومع ذلك فإن «التأميم» يطال الصناعتين بقرار بسيط تصدره عادة الدولة الشمولية القادرة على احتكار السلطة، وعلى أن تجد المسوغات لتبرير قرارها بمنطق مستمد من الأخطاء التي يرتكبها خصومها أحياناً، وليس من الحاجة الماسة لتدخّلها، كأن يقال مثلاً إن المؤسسات الخاصة تتلاعب بإنتاج المبدعين بأن تتهرب من الوفاء بكامل حقوقهم المادية وبغيرها من أساليب ماكرة، وبالتالي تغدو الدولة هي المؤسسة الوحيدة القادرة على حفظ هذه الحقوق، ذلك لأن الدولة شخصية اعتبارية لا تتصرف حسب أهواء اقتصاد السوق، بل حسب القوانين التي تحفظ حقوق الطرفين«. ويعلق بغدادي على هذا الافتراض الذي طرحه بنفسه: »قد يكون لهذا المنطق سلامة ما في حال كون الدولة الراعية ذات نظام ديموقراطي، وليس مجرد تسمية شكلية فارغة، كما هي الحال مع أنظمتنا في الوطن العربي المجيد، ذلك لأن النظام الديموقراطي هو القادر فعلاً على حماية حقوق المبدعين، لا لشيء إلا لأن السلطة القضائية فيه مستقلة ونزيهة يمكن الاحتكام اليها في حال التلاعب بهذه الحقوق».
وأياً كان الأمر، فإن البغدادي يرى «أن «التأميم» يعني إلغاء «الحرية»، أو روح المبادرات الفردية الخلاقة، وبالتالي إمكانات الرقابة على القابضين على أجهزة الحكم الذين أثبتت التجربة الواقعية أن تقيّد هؤلاء الحكام بالعدالة، التي من المفترض أنهم يحكمون باسمها، أمر نسبي جداً، أو بتعبير آخر، متعلق بالضمير الشخصي الحيّ للحاكم أو الموظف، وبهذا المعنى فهو متروك للمصادفة لا لطبيعة النظام، وخاصة حين تضيق الأكثرية «الحاكمة» بصاحب الضمير هذا، إذ تجده عقبة تعرقل تحقيق أطماعها، فتزيحه من طريقها كي يتحكم العسف وحده».

وربما بسبب من المصادفات التي تحدث عنها بغدادي، يؤكد الروائي خيري الذهبي أن »المشكل ليس في التأميم بحد ذاته، بل في القائمين على التأميم، ففي دولة متخلفة الإدارة، كسوريا مثلاً، أمّمنا الثقافة فاستولى عليها نصف أميّ لمدة سبعة وعشرين عاماً، ففرض نصف أميته على الثقافة في بلد بأكمله، وكان هذا كارثة على الثقافة في سوريا. هذه الكارثة اضطرت معظم المبدعين إلى الهرب خارج تأثير هذا الديكتاتور الصغير. ليس ذلك فحسب، فإذا نظرنا إلى الاتحاد السوفياتي الذي أمّم الثقافة كما أمّم كل نشاطات المجتمع، لرأينا أنه، خلال سبعين سنة، هي عمر الاتحاد السوفياتي، لم يستطع أن يقدم كاتباً واحداً بنصف قيمة تورغينيف أو تشيخوف أو تولوستوي، والكاتب الوحيد الذي ظهر خلال فترة الاتحاد السوفياتي كان مغضوباً عليه، وأعني بولغاكوف صاحب الرائعة »المعلم ومارغريتا«. طبعاً هذا الرأي لا يعني أن يترك الأمر إلى عتاة التجارة يتحكمون في المنجز الثقافي ليحيلوه إلى أدب إثارة وعنف ومهيجات. طبعاً هناك حل وسط، كما تقوم به بعض أوروبا الغربية المتنورة لحماية الثقافة الجادة، ليس عن طريق التأميم بل عن طريق تأمين المساعدات التي تمكن الكاتب والمبدع الجاد من الحياة الكريمة، كما نرى ذلك في فرنسا، وبريطانيا إلى حدّ ما، وبعض دول اسكندنافيا. في الستينيات ظهرت محاولة في مصر وأشيع أنها ستقلد في سوريا، عن تفريغ المبدعين للإبداع، وأنا أقول لا سمح الله أن يتم هذا الأمر في سوريا، فإن حدث لن يتم تفريغ إلا المؤلفة قلوبهم والجعجاعون ورجال البروباغندا، وهذا يتبع الفكرة الأساسية في أن خراب الإدارة لا بد أن يستتلي خراب الثقافة المؤممة».
ويسأل شوقي بغدادي: «ماذا يتبقى إذاً من ضمانات العيش في ظلّ نظام من هذا النوع لا يوفرها لأصحابها سوى رضى الحاكم بأمره عليهم، ولكن من يحمي المبدع عندئذ من مخاطر مزاج هذا الحاكم المأخوذ عادة بالشكوك والأوهام وجنون العظمة والقسوة المتوحشة وشهوة السلطة، سوى أن يلجأ المبدع إلى الصمت أو المداورة أو الخضوع الأعمى، وهي حالات لا ترجى معها العافية لأية ثقافة، وقد أساء لها النفاق أو الغباء أو الذعر. إن الشواهد على مثل هذه المناخات في ظل أنظمة التأميم أكثر من أن تحصى، وأقربها إلى الذاكرة ما جرى في دول المنظومة المسماة «اشتراكية»، حين غدا أدباء عظام مثل باسترناك، وسولجينستين، وبولغاكوف، وآخماتوفا وسفيتا بيفا وماياكوفسكي متهمين بالخيانة أو التقصير حين اختلف إنتاجهم عن التعاليم «الجدانوفية» التي وضعها النظام للإبداع الفنيّ عامة، فهاجر منهم من هاجر، أو تخلى عن جائزة كبرى غربية، مثل باسترناك الذي منح جائزة نوبل على روايته «أتن
«الدكتور جيفاكو»، فهُدِّد بطرده من وطنه إذا ما قبل بها، أو انتحر مثل الشاعر ماياكوفسكي الذي تغنّى بالثورة ثم اختلف مع النقاد الرسميين في ما بعد حول إنتاجه الجديد المتهم عندهم بالغموض والمجانية».

في تجربة هيثم حقي، المخرج التلفزيوني والسينمائي، شاهد على ما فعلت ثقافة التأميم، يقول: «حين عدنا من الاتحاد السوفياتي السابق، كمجموعة من متخرجي معهد السينما، كنا نعتقد أن السينما الجيدة والثقافة التي تحمل هموم الوطن والمواطن لا يمكن أن تتحقق إلا بمزيد من تأميم الثقافة. فوجود مؤسسة للسينما إلى جانب إنتاج القطاع الخاص التسويقي، الذي احتوى الكثير من الابتذال والقليل من الفن، جعلنا ننحاز إلى القطاع العام، الذي بدا كأنه يسعى لنشر الثقافة الجيدة، وإتاحة الفرصة للشباب للتعبير عن أفكارهم. لكن ما إن تبدلت الإدارات في «المؤسسات الثقافية»، حتى ظهرت نظرية نصف الكأس الفارغ (وهو ما ننتجه نحن من فن نقدي يسعى لتغيير الواقع الاجتماعي والاقتصادي)، ونصف الكأس الملآن (أي الجانب المشرق والمتقدم من الواقع)، والتي بموجبها تم التضييق والضغط علينا لتقديم ما اصطلح على تسميته (فن يوازن بين الإيجابيات والسلبيات)، بدل فن (البحث عن المزابل) الذي وصمت به أعمالنا».
وهنا يشير حقي إلى بعض ما حققه القطاع الخاص «الآن، بعد مرور كل هذه السنوات، ونجاح القطاع الخاص في مجالات ثقافية عدة منها نشر الأعمال الأدبية المهمة، والفن التشكيلي الذي وصل إلى أعلى مراتبه بواسطة التسويق الخاص، وأخيراً وأولاً صناعة الدراما التلفزيونية، وقريباً الصناعة السينمائية، أجد أننا بدأنا مرحلة جديدة؛ فإلى جانب مؤسسات ثقافية ما تزال عقليتها المسيطرة هي عقلية نصف الكأس الملآن، هناك مؤسسات تنشأ استطاعت أن تزحزح الجدار السميك للرقابة المفروضة على القطاعين الخاص والعام، واستطاعت هذه المؤسسات الخاصة أن تضمن عيشاً كريماً للمبدعين، بعد أن جعلتهم مؤسسات الدولة شبه عاطلين عن العمل برواتب الحد الأدنى من المعيشة. ولكن بالنتيجة الجانب التسويقي لكل عمل خاص سيلعب دوراً مهماً. وستتلاقى مصالح «التاجر الثقافي» مع مؤسسات الدولة الثقافية، والتي تقبل بالإنتاج (الخالي الدسم) لأنه يخلّصها مما يطلق عليه عادة (وجع الرأس)، ويخلصها قبل كل شيء من دفع المال في سبيل الإنتاج الثقافي، لتتفرغ مؤسساتها لثقافة التطبيل والتزمير ووهم الإنجازات، التي تقام لها مهرجانات وأفراح دون إنتاج ثقافي حقيقي».
أما عن الطريق الثالث المنشود، الذي يراه حقي بعيد المنال في عالمنا الثالث، يقول: «نحن بحاجة إلى دعم الثقافة الوطنية على طريقة الأوروبيين، لا على طريقة السوفيات. أي أن تقوم الدولة بدعم غير مشروط للإبداع الوطني، من أجل عدم اندثار الثقافة المحلية. وذلك بأن تقدم المنح وتنشئ الصناديق لدعم الثقافة المكلفة وغير التجارية، من مسرح وسينما وطنية وكتاب وتشكيل وغيرها. وبالتعاون مع القطاع الخاص، الذي سيحصل على هذا الدعم حين يقدم إنتاجاً إبداعياً عالي المستوى، يحمل اسم الوطن ليكون ثقافته. كل هذا مع إتاحة حرية التعبير الكاملة، وأنا أحلم بيوم تلغى فيه الرقابة على الإبداع في كل بلادنا».

الكاتب منذر بدر حلّوم يطرح أسباباً إضافية تؤكد عدم جدوى التأميم في عصرنا الراهن: «يخيّل إليّ أنّه لم يعد بإمكان أحد اليوم أن يؤمم الثقافة، ذلك أن التأميم، وإن سرى على أرض محددة، فمن بإمكانه حصر الثقافة ـ وحتى ما يقال عنها قومية عربية أو روسية أو غيرهما ـ بهذه البقعة من الأرض أو تلك، سواء بمعنى إنتاجها أو تسويقها، ناهيك بإمكانية حصر المبدعين في جغرافيا محددة أو أطر مسبقة الصنع؟ فليس مهماً كثيراً، إلا بمعنى أهمية حاضنة الإبداع وهذا سؤال آخر، أين يعيش الشاعر أو الروائي أو الرسام أو الموسيقي اليوم، بل المهم هو كيف يعيش، خاصة مع الزيادة المتواترة في استخدام شبكة المعلوماتية والإمكانيات التي تتيحها في مجال النشر والترويج والتسويق. وحتى فكرة التأميم في مداها الأقصى الذي بلغته في الاتحاد السوفياتي السابق، لم يكن لها أن تحصر الثقافة (الروسية) بحدود الاتحاد السوفياتي، ولا الستار الحديدي كان قادراً على حجبها. وقد يكون ما أنتجه مبدعون روس في مجال الشعر والرواية والفن التشكيلي والموسيقى في شتاتهم أهم ما أنتجته الحقبة السوفياتية من إبداع. وأمّا سؤال المنفى الإجباري منه والاختياري فسؤال آخر». ولكن حلّوم يطرح سبباً آخر لضرورة تدخل الدولة: «من يدفع يطلب الموسيقى التي يريد! وبالتالي فالثقافة، بما هي إنتاج للآداب والفنون، تتأثر من خلال تغذية راجعة، قد تستبطنها أشكال مختلفة من الدعم، بسلطة رأس المال، أكثر مما تتحدد بالبنى السياسية، على افتراض إمكانية الافتراق بينهما نظريا. ومن المؤسف هنا أنّ الطبقة الوسطى بوصفها المستهلك الأوّل للثقافة قلّما تستطيع دعم إنتاج الثقافة مالياً. فثمة تفارق بين حضور المعارض الفنّية من جهة واقتناء اللوحات الفنية من جهة أخرى، وبين حضور أمسيات شعرية وموسيقية وندوات أدبية هنا وهناك وبين دعم الشعراء والموسيقيين والكتّاب، وإنشاء جوائز محفّزة على الإبداع وقاعات عرض وعزف ودور نشر أهدافها غير ربحية. الأشياء الأخيرة هذه يبدو إطارها الأفضل إلى الآن الدولة. ففي الوقت الذي تجد فيه بين أصحاب رؤوس الأموال من يعنى بإدارة إنتاج رسّام هنا وموسيقي هناك، فعلى الدولة أن تدير أعمال الثقافة ككل وتؤمّن إمكانية مشاركة تنافسية للجميع، يكون لكل فيها القدرة على أن يعرض نتاجه الإبداعي والحق في أن يُسلَّط عليه الضوء كغيره».
ويضيف حلّوم: «من غير المجدي أن تنغلق الدائرة عند حدود مؤسسة (الدولة) الرسمية، بل إن ذلك لا يبدو ممكنا حتى لو أراده أحد ما اليوم. فلم يعد لأحد اليوم أن يحتكر إمكانية الضوء وتسليطه مع كثرة وسائل الإعلام وتنوعها. وأمّا استهلاك المنتج الثقافي فعلى الدولة أن تدخل فيه على قاعدة تنافسية لملء ساعاتها التلفزيونية وأروقة متاحفها وجدران قاعات عرضها وفضاءات دور الاستماع إلى الشعر والموسيقى والقول. وأمّا الاحتكار فوهم قد يسكن رأس جنرال في السلطة هنا وجنرال هناك، وقد يخرج بأشكال عنفية من التقييد والمنع والمصادرة، إلا أنّه يبقى عاجزاً عن بلوغ أهدافه ما لم يلجأ إلى آليات السوق وأدواته. وقد تجد من يعترض هنا على تسليع المنتج الثقافي وإخضاعه لآليات السوق، وقد أكون من بين هؤلاء الذين لا يعجبهم ذلك، إلاّ أن المسألة لم تعد بيد المبدعين اليوم، فما أن ينفصلوا عمّا يخرج من تحت أيديهم حتى يتحوّل إلى سلعة، سلعة قد يكون من المفيد التفكير في الاشتغال على المسافة الفاصلة بين خصوصيتها ومحليتها من جهة وعالميتها من جهة ثانية. وأمّا إذا عدنا إلى السؤال المطروح عن فاعلية الثقافة، بين خصخصة الأخيرة وتأميمها، فقد يكون الفارق بينهما في هامش الحرّية المتعيّن بالتضاد. وعلى العكس من تسليط الضوء، فقد يُسلَّط العتم على محترفات الثقافة الحرّة وتحشر في الظل وفي الأقبية إلى حين، إلا أنّها سرعان ما تخرج إلى الضوء في لحظات تصدّع بنية التضييق والتعتيم والمنع لتقول كلمتها، إن هي عجزت عن إخراجها إلى جغرافيا أخرى قبل ذلك، وهو أمر لا يعجز عنه إلا العاجزون اليوم. ولعل المهمش الذي ينتج في الهامش هو ما يفتح الثقافة على آفاق مستقبلية واعدة. وثمّة كثير يمكن أن يقال، هنا وفي غير مكان، في دور المثقفين الممكن لبقائهم الثقافي وبقاء الثقافة، وكذلك في الفاعليات التي تضمن للمبدعين منهم البقاء إبداعياً. وهي نافذة، للسؤال المطروح فضلٌ في فتحها على الأسئلة. والسؤال دائما جالب نور عكس التسليم».

الكاتب والقاص ابراهيم صموئيل علّق بالقول: «تأميم؟! أول ما أوحت لي به هذه الكلمة استيلاء السلطة على الثقافة بالقوة والقهر، على غرار الاستيلاء على السلطة وعلى ثروات البلاد بما فيها «مادة» الإنسان! فالتأميم، في تجربتنا العربية، وهذا ليس نظرياً، الاستيلاء بالقوة والقهر لصالح الدولة والسلطة والنظام. من هنا لا أرى لتأميم أي شيء أية فائدة ترتجى للناس، وفي الآن نفسه، وعلى قدم المساواة، ووفق التجربة العربية أيضاً، لا أرى في ما يُسمى بالخصخصة حلاً. فالتجّار الباحثون عن المال والربح أولاً وأخيراً يعنيهم الدارج ويعملون وفق منطقه. أي دارج يدرج ويشيع يلهثون خلفه ويعملون على ترويجه ودعمه وحصر الإنتاج به، بحيث لو سألت عن بضاعة ما لقالوا لك: «ما في... لأنو مو ماشي»! الخصخصة تسوق حسب السوق، وتتسلط وتتحكم بدورها أيضاً وأيضاً. والسؤال هنا أشبه بسؤال، في مجال آخر، شاع على الألسن قبل خمس سنوات: هل أنت مع صدام حسين ونظامه وسلطته.. أم مع الأميركيين وغزوهم واحتلالهم؟!» ولذلك اختار صموئيل أن يدلف إلى طريق ثالث: «بلى، بالضبط، طريقٌ ثالث، طريقٌ آخر، في الثقافة وغير الثقافة، يضع الإنسان وثقافته وحريته وكرامته وعيشه في أعلى السلّم، وأرفع الأهداف، وأبعد الغايات. أما كيف؟ فلهذا حديث يطول ويخرج بنا إلى بحث واسع جداً يشمل كل ما يتعلّق بهذا الكائن الذي هو الآن محشور في أسفل درك: من شرعة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، إلى »شرعة« المختار في أصغر حي عربي».

غسان جباعي، المخرج المسرحي وكاتب السيناريو التلفزيوني قال في إجابته: «السؤال الحقيقي الذي ينشأ هو من يملك الحق بتأميم الثقافة والوصاية عليها؟ قتلة الأنبياء الذين قصدهم عيسى ابن مريم عندما قال: «سامحهم يا أبت فهم لا يعرفون ماذا يفعلون»؟ أم أولئك الذين جزّوا رأس الحسين؟ قتلة سقراط؟ أم قتلة حسين مروة؟ أم قتلتي؟ ليس للثقافة أنياب ولا أظافر تدافع بها عن نفسها. ولكنها تملك ما هو أخطر منها بكثير. فالثقافة هي شكل الفكر وهو مضمونها. ولا يمكن الفصل بينهما ولا يجوز. ومهمة الدولة، بما هي مؤسسة، وسواء كانت دولة العسكر الأميين، أو دولة المثقفين والمفكرين، وكونها لا تستطيع أن تقوم أصلاً بمعزل عن الثقافة والفكر، فهي تعمل على تحطيم علاقة الشكل (الثقافة) بمضمونه (الفكر) وإفراغ الثقافة من محتواها كي تتمكن من تدجينها وتحويلها إلى جسر إعلامي يربطها بـ«الجماهير»، وبوق إيديولوجي مهمته الأساسية هي ترويضهم. وهكذا يصبح محتوى الثقافة هو الإعلام، أي أخذ العلم، لا الفكر، أي التفكير المستقل الحر. إن أكثر الناس حرصاً على وضع الضوابط هم الأصوليون والسلفيون، سواء كانوا ديناً أو حزباً أو قطيعاً بشرياً منغلقاً على نفسه يخاف من الآخر. والدولة العربية منذ نشوئها حتى الآن لم تجرب سوى الوصاية والتأميم تحت راية الحرص على ثقافة الأمة. كما لو كانت ثقافة هذه الأمة مجرد ريشة ما أن تهب عليها الريح حتى تتردى وتتلاشى. رغم أننا نعلم جيداً أن هذه الثقافة راسخة كالجبل، مشعة كالضوء، والذي دافع عنها وحماها حتى الآن ليس حرص المتشدقين بالدفاع عنها، بل قدرتها الذاتية على البقاء والإشعاع والتجدد عبر العصور. لذلك أقول دعوا الثقافة تعش بحرية أولاً، فهي قادرة على الدفاع عن نفسها إذا كانت ثقافة حقيقية. أما ما يسقط منها عبر مسيرة التاريخ فهو يستحق السقوط، ولا أسف عليه».

الروائي ممدوح عزام أجاب بالقول: «عرض اتحاد الكتاب العرب في سوريا منذ الشهر الماضي جميع المجلات الصادرة قبل العام 2002 للبيع في جميع فروعه، أي في كل المحافظات السورية بسعر خمس ليرات للنسخة الواحدة. كما عرض بيع الكتب الصادرة قبل هذا العام بعشرين ليرة لأي كتاب بالوزن. وقد توصل المكتب التنفيذي إلى هذا القرار حلاً لمشكلة تكدس الكتب والمطبوعات الصادرة عن هذه المؤسسة في المستودعات، ومنافذ البيع، وليس من أجل نشر الثقافة بالطبع أو تشجيع القراءة. أذكر هذا النبأ هنا لأقول ان مؤسسة شبه حكومية عجزت طوال أكثر من أربعين سنة عن إنتاج ثقافة يقبل عليها القراء، علماً أن سعر الكتاب لم يكن أبداً هو السبب في ذلك، بل على العكس من ذلك، حاول الاتحاد أن يقدم كتباً رخيصة الثمن نسبياً قياساً لسعر السوق، ومداخيل السوريين، إضافة إلى الحسومات شبه الدائمة في مراكز بيع الكتب التابعة له. ومع ذلك فإن كتبه لا تباع، ولم يحدث سوى مرات قليلة أن نفدت نسخ إحدى مطبوعاته، وكما لم يحدث أن صدر في قوائمه كتاب هام، باستثناء ما قدمه في بدايات مشروع النشر الذي بدأ به. ليست المشكلة في عدد العناوين، أو كمية النسخ، بل في النوعية، أو في مبدأ الثقافة الموجهة التي يمكن نسبتها إلى مبدأ تأميم الثقافة، ففي كل الحالات أو العينات التي عرفها العالم، خاصة في القرن العشرين، حيث الاشتراكية الماركسية وأخواتها من اشتراكيات البلدان التي التحقت بالمعسكر الاشتراكي، من الاستيلاء على السلطة، انزلق التأميم عامة، وتأميم الثقافة خاصة، نحو رذائل البيروقراطية، ومحسوبيات الأفراد المسؤولين، وولاءات السلطة. صحيح أن الجهات المخولة بالإشراف على الثقافة قد تمكنت من إنشاء دور نشر، وإصدار مجلات فكرية، وسياسية، وأدبية، وجرائد، وغير ذلك من وسائل التثقيف، لكنها كانت محكومة دائما بروح النشرة، كما كان الإنجاز شكليا، لا يهم المسؤول المكلف بالإشراف عليها سوى تنفيذ الخطة، حتى بدا أحياناً أنه لا يختلف عن المشرف على مزرعة دواجن تابعة للدولة ذاتها، حيث يمكنه أن يقدم تقرير إنجاز الخطة مرفقاً بالأعداد المطلوبة، والأوزان أيضاً (حدث أن عرضت الأعداد المرتجعة من «الأسبوع الأدبي» للبيع بالكيلوغرام). الأخطر من ذلك ليس أحادية الاتجاه الفكري، المرتبط بالتوجهات الفكرية للنظام الحاكم، بل ارتهان الثقافة المؤممة لشخص المسؤول المشرف على أي مديرية ثقافية، وغياب الحضور المؤسساتي الثابت ذي الأسس الثقافية الواضحة، وقد يحدث، بل حدث بالفعل أن تبدل المنحى الفكري لوزارة كاملة هي وزارة الثقافة السورية، بتغير الوزير فقط، وتغير منحى النشر في الكتاب الدوري من العلمانية إلى الإسلاموية، بتبدل المشرف على السلسلة، كان الإشراف الثقافي عملا حزبيا، لا سياسيا، يتسم بالإكراه والروح الانتقامية، والرغبة في إقصاء الآخر، أو ثقافة الآخر، وطردها خارج الحلبة، واللافت في الأمر أن مثل هذه الثقافة المؤممة لا تعبأ بمطالب القارئ ومشاغله، بل تفرض عليه فرضاً الثقافة التي تناسب فكر المشرف، الأدهى أيضاً أنها تهدر المال العام دون أن تفكر بشروط السوق، ولا يهمها التنوع، والاختلاف».
ويتابع عزام: «لم تكن الثقافة المؤممة اختراعاً اشتراكياً فقط، بل يمكن تنسيب الثقافة الاستعمارية إلى هذا المجال، وقد أوضح إدوارد سعيد في الاستشراق اقتران خطاب السلطة بخطاب المعرفة، حين عمدت السلطات الاستعمارية إلى محاولة فرض ثقافتها، على ثقافة شعوب البلدان المحتلة، لمساندة قهرها لتلك الشعوب. في كل حال لم يحدث أن حمت الثقافة المؤممة الباحث أو الكاتب في بلد من بلدان العالم، بل فعلت العكس في ظل شعار الحماية ذاته، بحيث أوقعتنا، نحن المؤمنين بضرورة إنهاء أي شكل من أشكال الاستغلال، في مأزق، أي بين التأييد النظري لما أثبتت جميع العينات الملموسة فيه أنه لا يحدث أبداً، وبين الرؤية العملية التي تؤكد أن الثقافة الحرة، أو المخصخصة ظلت قادرة دائماً على منح الكاتب مساحة كافية من الحرية الضرورية لشغله، سيختار الحرية إذاً».
شوقي بغدادي اختصر القول أيضاً، وخَتَمَه، بجواب الحرية فـ«الحرية وحدها هي المناخ الذي يبدع الثقافة الحقيقية التي تبقى. وما من ريب في أن المبدعين قد يتعرضون حتى في مناخ الحرية إلى الجحود والنكران والفقر واغتصاب الحقوق وغيرها من ظلامات، ولكن ماذا تريد فتلك هي «الحرية». إنها تفتح الأبواب والنوافذ للريح والشمس والغبار واللصوص، فتعرّض البشر الى مخاطر كثيرة، غير أنها في الوقت ذاته هي التي تمنحهم فرصتهم الحقيقية لاكتشاف أنفسهم، والعالم حولهم، وتفجر طاقاتهم الإبداعية الكامنة لانتزاع الاعتراف بهم عن جدارة. إن الثقافة لا تصنع حسب مخطط مسبق، مثل الخطط الخمسية للتنمية الاقتصادية، ذلك لأن التنبؤ بمسالك الإبداع الفني وصعوباته وتجلياته مسبقاً مطلب مستحيل، فالقصيدة أو الرواية أو المسرحية أو المقطوعة الموسيقية أو اللوحة التشكيلية لا تثبت حضورها إلا بعد إنجازها، وكل حديث عنها قبل ذلك ضرب من الرجم بالغيب، إذ كثيراً ما يأتي العمل الأدبي بعد إنجازه مغايراً للفكرة أو الهواجس التي انطلق منها. هذا هو ثمن الحرية، ولا بد من تأديته كاملاً حتى نخلق ثقافة حقيقية».

 

راشد عيسى

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...