الأزمة السورية في ضوء الانحطاط الأوروبي

05-06-2013

الأزمة السورية في ضوء الانحطاط الأوروبي

الجمل - ديميتري مينين- ترجمة: د. مالك سلمان:

ما هو الشيء المشترك بين تشريع "الزيجات" المثلية في فرنسا, والذي لم تتمكن من إيقافه أفعال يائسة مثل انتحار دومينيك ڤينير في كاتدرائية نوتردام دو باري, والحرب الأهلية في سوريا؟
العامل المشترك هو أنه في كلتا الحالتين يمكننا أن نرى ملامحَ عقدة التدمير الذاتي التي تلتهم أوروبا. فقد وصل "انحطاط أوروبا", الذي تنبأ به أوزوالد شبنغلر منذ أكثر من 100 عام, أعماق إنكار ليس فقط جذورها الثقافية والتاريخية, بل إعادة إنتاج الحياة نفسها.
فالغرب, وكأنه مسكون ﺑ "رغبة الموت" الفرويدية, يحاول بنوع من العمى الهستيري أن يدمرَ الإرث المسيحي, وبالتالي الأوروبي, القديم في سوريا. ويدمر نفسَه بالطريقة ذاتها رويداً رويداً عبر موقفه من مؤسسة العائلة و قضية الإيمان.
إنه نوع من مسرح العبث وسخرية من الحس السليم عندما تصبح أنظمة استبدادية مثل السعودية وقطر, حيث لا توجد ولو نسبة ضئيلة من الحريات والتسامح الديني الذي تميز به المجتمع السوري منذ زمن طويل, حليفة لأوروبا في القتال "من أجل الديمقراطية" في سوريا. فتبعاً للمنظمة الخيرية المسيحية "أوبن دورز" ("الأبواب المفتوحة"), في قطر مثلاً يتحول معتنقو المسيحية إلى أشخاص منبوذين وغالباً ما يكونون ضحايا للعنف. إذ يعيش العمال المهاجرون المسيحيون في "كوميونات للشغيلة" حيث لا يسمح لهم بالتجمع للعبادة والصلاة, وكما كان الأمر في بداية المسيحية, فإنهم يصلون بشكل سري. أما في السعودية, فأي دين باستثناء الإسلام ممنوع بشكل مطلق, وعقوبة اعتناق المسيحية هي الموت.
هناك الكثير من المواطنين المسلمين من البلدان الأوروبية يقاتلون في سوريا إلى جانب الإسلامويين المتطرفين. وليس من الصعب أن نتخيلَ ما سيجلبونه معهم إلى أوروبا. فتبعاً لأرقام دقيقة, هناك أكثر من 100 "متطوع" من إنكلترا يقاتلون في سوريا, ونفس العدد من هولندا, وأكثر من 80 من فرنسا, وعشرات من ألمانيا, ويصل مجموعهم إلى حوالي 600 شخصاً, أو 10% من إجمالي الأجانب الذين يقاتلون في صفوف المتمردين. وتصر لندن وباريس على قرار يسمح بتزويد المعارضة السورية بالأسلحة. لمن؟ لنفس الأشخاص الذين يقطعون الجنودَ البريطانيين بالسواطير في شوارع عاصمتهم نفسها؟ أليست هذه عقدة تدمير ذاتي؟
ولدت الحضارة في سوريا في الألفية الرابعة قبل الميلاد. ودمشق هي أقدم مدينة بين العواصم الموجودة الآن في العالم. كما لعبت سوريا دوراً حيوياً في تاريخ المسيحية. ففي الطريق إلى دمشق اعتنق الحواري بولس الدينَ المسيحي. وفي أنطاكية السورية أطلقت على تلامذة المسيح صفة المسيحيين للمرة الأولى.
من بين سكان سوريا البالغ عددهم 23 مليوناً, حوالي 86% هم مسلمون, و10% مسيحيون. ولدى المسيحيين السوريين محاكمهم الخاصة التي تتعامل مع القضايا المدنية مثل الزواج والطلاق. نصف المسيحيين في سوريا أورثوذكس, و 18% كاثوليك (معظمهم أعضاء في الكنائس السورية الكاثوليكية والشرقية). كما توجد أبرشيات للكنيسة البابوية الأرمنية.
إضافة إلى العطل الإسلامية, فإن عيدي الفصح والميلاد عطلتان تعترف بهما الدولة السورية. وفي دمشق هناك عدة أحياء مسيحية (باب توما, والقصاع, والغساني) والعديد من الكنائس, بما في ذلك كنيسة القديس بولس القديمة. إن تعايش الأديان العالمية جنباً إلى جنب هنا, والذي يمكن أن يشكل أنموذجاً يحتذي به الشرق الأوسط كله, بارز بشكل خاص في "الجامع الأموي" الشهير في دمشق. ففي قاعة الصلاة في المسجد يوجد ضريح يوحنا المعمدان (يحيى) الذي تم قطع رأسه بناءً على أوامر الملك هيرود. ويقدس المسيحيون والمسلمون على السواء هذا الضريح. كما أن إحدى مآذن الجامع الثلاث تحمل اسمَ عيسى ابن مريم. وتبعاً للتقاليد المحلية, سوف ينزل السيد المسيح من السماء إلى الأرض عبر هذه المئذنة قبل "يوم الحساب". والجامع مفتوح لكافة الناس من جميع الأديان طيلة أيام الأسبوع باستثناء يوم الجمعة.
المنظمة المسيحية الرئيسة في البلاد هي "الكنيسة الأرثوذكسية الأنطاكية ", والتي تحتل المرتبة الثالثة في "دبتك" الكنائس المحلية المستقلة. وقد تأسست حوالي سنة 37 بعد الميلاد في أنطاكية من قبل الحواريين بطرس وبولس. وقد أنتجت أبناءَ متميزين مثل القديس جون كريسوستوم, والقديس جون الدمشقي, وآخرين. وفي سنة 1342 تم نقل البطرياركية إلى دمشق, ولا تزال فيها حتى يومنا هذا. تضم الكنيسة الأرثوذكسية الأنطاكية حوالي 2 مليون عضواً يعيش منهم مليون في سوريا (5% من عدد السكان) ويعيش 400,000 منهم في لبنان (10%). كما يعيش مئات الآلاف من أتباع هذه الكنيسة في الولايات المتحدة والبلدان الغربية الأخرى. وتقام الصلوات باللغتين اليونانية والعربية.
من الميزات الهامة التي تتمتع بها الكنيسة الأرثوذكسية الأنطاكية هي قرب الهرمية الدينية من الناس. ففي سنة 1898, أصبح العربي ميليتيوس دوماني بطريرك أنطاكية. ومنذ ذلك الوقت, عملياً, كان جميع أساقفة الكنيسة الأرثوذكسية الأنطاكية من العرب, على عكس بطرياركية القدس – مثلاً – التي تخدم الفلسطينيين الأرثوذكس؛ فمعظم أساقفتها يونانيون, مما يخلق مسافة معينة بينهم وبين الناس العاديين.
الكنيسة الثانية من حيث الأهمية في البلاد هي "الكنيسة الأرثوذكسية السريانية", وهي إحدى الكنائس الأرثوذكسية الشرقية الست (بالإضافة إلى الكنيسة القبطية, والكنيسة الأرمنية البابوية, وكنائس أخرى). ويبلغ عدد أتباعها في سوريا حوالي 690,000.
كما أن سوريا هي المكان الوحيد على وجه الأرض الذي لا يزال الناس فيه يتحدثون اللغة الأرامية, وهي اللغة التي كان يتكلمها السيد المسيح ويبشر بها, وبشكل خاص بجوار الكنيسة الأرثوذكسية "القديس ثكلا عدل الحواريين" بالقرب من مدينة معلولا.
لكن كل هذا يمكن أن يتعرض للدمار في غمضة عين, ويمكن للغة مخلص العالم أن تموت وتندثر إلى غير رجعة. إن الغرب يغض النظر عن حقيقة أن أول ضحايا للمتمردين السوريين الذين يدعمونهم هم, في الغالب, من المسيحيين المحليين. فهل هذا قصر نظر, أم ضرب من الخيانة؟ أم هل أن الأرثوذكسيين, الذين يشكلون أغلبية المسيحيين السوريين, لا يزالون "منشقين" عن الكنيسة في عيني أوروبا, كما في عهد الصليبيين؟ إن وضعهم في المناطق التي يسيطر عليها المتمردون الإسلامويون يذكرنا بوضع الصرب الأرثوذكس في كوسوفو.
يكتب المؤلف الفرنسي ألكساندر ديل ڤال أن الغرب "ما بعد – المسيحي" لم يحاول قط "الدفاع عن مسيحيي مصر, والباكستان, ونيجيريا أو السودان, الذين تعرضوا للاضطهاد على يد السنة ... وغالباً ما أرسلت قوى الناتو, التي لا تزال تنظر إلى روسيا بصفتها العدو الشيوعي في مرحلة الحرب الباردة, ومنذ 1990 جنودَها للقتال ضد الأنظمة الموالية لروسيا (صربيا بقيادة ميلوسوفيتش, والعراق بقيادة صدام حسين, وليبيا بقيادة القذافي, إلخ), وذلك ‘تضامناً’ مع ‘حلفائها’ النفطيين في الخليج الفارسي ومنظمة المؤتمر الإسلامي, الذين طالبوها بحماية البوسنة والهرسك, وكوسوفو, والكويت, والإسلامويين الليبيين والإسلامويين السوريين الآن." وتبعاً لمعطيات ديل ڤال, غادر حوالي 80,000 مسيحي حمص باتجاه دمشق وبيروت, كما أن ثلث مسيحيي البلاد قد هربوا منها إلى الخارج. كما فرَ أهالي العديد من القرى المسيحية الواقعة في مناطق الحرب خوفاً من القتل والاضطهاد بعد وصول المتمردين المسلحين, كما قالت آنا نايستات, المديرة المساعدة ﻠ "هيومان رايتس ووتش", بعد زيارتها لسوريا.
تبعاً للجنة تحقيق دولية مستقلة حول سوريا, يعاني المسيحيون (الذين ينتمون في الغالب إلى الطبقة الوسطى) من الهجمات وعمليات الخطف. "وبمقدور المرء أن يسوق بعض الأمثلة: الرهائن في معلولا في كانون الأول/ديسمبر 2012؛ والمسيحيون الذين تعرضوا للاختطاف في القصير في تموز/يوليو 2012؛ الكاثوليك الكلدانيون الذين اختطفوا في الحسكة ثم أجبروا على إرسال أولادهم للانضمام إلى التمرد؛ قتل 12 مسيحياً في جرمانا في أب/أغسطس 2012؛ التفجير في ... الحي المسيحي التاريخي في دمشق, باب توما, في 21 تشرين الأول/أكتوبر (ذهب ضحيته 15 مسيحياً)؛ قتل 8 مسيحيين آخرين ... في 28 تشرين الثاني/نوفمبر ... بالإضافة إلى حادثة القس الأرثوذكسي فادي جميل حداد الفظيعة ... في قطنا, الذي تم سلخ جلدة وجهه وإعماؤه لمحاولته تحرير أحد المختطفين المسيحيين".
عندما هاجم المتمردون الديرَ الأرثوذكسي القديم, النبي إيليا, بالقرب من مدينة القصير, والذي يبعد 20 كلم عن الحدود اللبنانية والذي حررته القوات الحكومية مؤخراً, قاموا بتدمير الدير بشكل كامل؛ حيث سرقوا الأواني المقدسة, وفجروا برج الجرس, ودمروا المعبد وجرن المعمودية, وحطموا تمثال الرسول إيليا المقدس في سوريا من قبل المسلمين والمسيحيين على حدٍ سواء. ويبلغ عمر هذا الدير أكثر من 1500 سنة, وهو تحت حماية الدولة بصفته صرحاً معمارياً. وخلال السنتين الماضيتين, تم تدمير عشرات الكنائس في سوريا, معظمها في حمص وحلب. كما تم تدمير كنيس قديم في جوبر, أحد أحياء دمشق.
في 22 نيسان/إبريل 2013, في إحدى قرى محافظة حلب, تم خطف المطرانين بولس (الكنيسة الأرثوذكسية الأنطاكية) ويوحنا (الكنيسة الأرثوذكسية السريانية) من قبل مسلحين. كما تم إحراق منزل المطران يوحنا. وقد أصدرت وزارة الأوقاف السورية بياناً قالت فيه إن المطرانين قد اختطفا من قبل مرتزقة شيشان ينتمون إلى المجموعة الإسلاموية المتطرفة "جبهة النصرة". ولا يزال المطرانان قيد الاختطاف حتى الآن.
قال بطريرك القسطنطينية بارثولوميو في مقابلة مع الصحيفة الكاثوليكية الميلانية "آفينير" إن "العنف الديني والكراهية وغياب التسامح تجاه المسيحيين مستمر في البلدان التي حصلت فيها الثورات". ومن وجهة نظره, فإن حياة المسيحيين مهددة في سوريا يومياً.
إن سقوط النظام السوري سيكون نهاية تاريخ المسيحية في الشرق الأوسط. ولن يستطيعَ الموارنة في لبنان تحمل الضغط من الإسلامويين السوريين, أو سيل اللاجئين المتدفقين إلى لبنان. كما أن هجرتهم من البلاد, التي تتنامى سلفاً, ستتحول إلى هروب جماعي. إن الأقباط في مصر هم الوحيدون الذين يمتلكون فرصة البقاء نتيجة أعدادهم الكبيرة, لكن وضعهم يصبح أكثر صعوبة كل يوم.
هذا الجرس لا يقرع للشرق الأوسط فقط؛ لكنه يقرع لأوروبا أيضاً.

تُرجم عن ("ستراتيجيك كلتشر فاونديشن", 29 أيار/مايو 2013)

الجمل

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...