ويكيليكس آل سعود: نعي الثقافة والسياسة في العالم العربي

27-06-2015

ويكيليكس آل سعود: نعي الثقافة والسياسة في العالم العربي

التستّر على وثائق «ويكيليكس» السعوديّة لم يكن حكراً على الإعلام العربي: الإعلام الغربي، والأميركي تحديداً، تواطأ هو الآخر في مشروع خدمة دعاية آل سعود في التقليل من شأن تسريب هذه الوثائق. وكما أن خروقات حقوق الإنسان في دول الخليج لا تحظى بتلك التغطية التي تحظى بها صفعة لمعارض في كوبا، أو حتى كتابة شعارات شيوعيّة على حائط معارض في هافانا، حيث أفردت «نيويورك تايمز» قبل سنوات نحو نصف صفحة لتغطية الحدث الجلل، فإن تسريبات الوثائق الجديدة لم تحرّك المراسلين الغربيّين (والمراسلات) في المنطقة العربيّة. نذكر كيف حظيت تسريبات رسائل إلكترونيّة شخصيّة من بشّار الأسد بتغطية عالميّة واعتُبرت المراسلات الشخصيّة بأنها فتح في الحرب الدعائيّة ضد النظام السوري.

أما وثائق تتعلّق بسياسات وحروب النظام السعودي في المنطقة العربيّة فهي غير ذات أهميّة. كانت معظم الردود من نوع: لم تأتِ بجديد، كما كتب مراسل «نيويورك تايمز» في بيروت، بن هبرد. أما الزميل مارك لينش من جامعة جورج واشنطن فقد خالف الانطباع العام في مقالة في «واشنطن بوست» وأقرّ بأن الوثائق هذه سيكون لها تأثير كما كان للوثائق الأميركيّة في ويكيليكس من حيث «تخفيض القدرة على النفاق»، كما قال هنري فريل ومارثا فنمور، لكن لينش قال إن الحكومة السعوديّة على حق عندما شكّكت بصحّة بعض الوثائق مع أنه لم يسبق أن نشرت «ويكليكس» أية وثيقة ثبتَ تزويرُها. إن توثيق السيطرة السعوديّة الأخطبوطيّة على الإعلام العربي حول العالم يعزّز من الشكوك التي اعترت الرأي العام العربي والإسلامي لعقود طويلة حول شراء الكتّاب والضمائر والفقهاء والساسة حول العالم أجمع.

هناك من الظرفاء الذين كتبوا في الدفاع عن الوثائق أنها لا تحتوي على أوامر تفجير
لكن صمت الإعلام العربي كان مدويّاً. الأوامر كانت صارمة: التجاهل التام في المطبوعات السعوديّة والحريريّة (جريدة آل الحريري، «المستقبل» نشرت في اليوم التالي مقالة طويلة عن جوليان أسانغ و«ويكليكس» لكن من دون الإشارة إلى الوثائق السعوديّة، أما «السفير» فهي أيضاً لم تتطرّق بكلمة - حتى الآن على الأقل - إلى الوثائق). قد يكون جهاد الخازن هو الوحيد الذي ردّ على تسريب الوثائق على طريقته قبل أيّام عندما كتبَ: «أنا أعمل في جريدة تتمتّع بأوسع نسبة حريّة صحافيّة في العالم العربي كلّه»، والناشر (أي خالد بن سلطان) يحمي هذه الحريّة». فات الخازن تلك الوثيقة من حزمة التقارير السعوديّة الذي نشرها موقع «ويكليكس» والتي تضمنّت محضراً لـ «لجنة تنسيق الإعلام التابعة للحكومة السعودية («فرع الإعلام الخارجي») والتي تحدّثت عن «الشرق الأوسط» و«الحياة» كـ«أدوات إعلاميّة» للنظام السعودي. أما الإعلام اللبناني فقد اختلف بين الإعلام الموالي لآل سعود (الذي التزم الصمت المطبق) وبين الإعلام الموالي للنظام القطري (الذي نشر أخباراً عامّة عن الوثائق، لكن من دون إحراج نفسه أو حليفه). الصمت كان سيّد الموقف باستثناء قلّة. أما على مواقع التواصل الاجتماعي فقد وجد أنصار 14 آذار ضالتهم في وثيقة يطلب فيها نعيم قاسم تأشيرة حج لشقيقه. وأصبحت هذه الوثيقة كأنها الوثيقة الوحيدة الدامغة والمُدينة بين كل وثائق «ويكليكس»، أو أنها غطّت على باقي الوثائق. لكن ما هي الفضيحة في أن يطلب نعيم قاسم مجرّد تأشيرة حج لشقيقه؟ هل أن حزب الله مُطالب مثلاً بالسعي لنقل الكعبة إلى النجف أو إلى الضاحية الجنوبيّة كي لا يمرّ الحج عبر آل سعود؟ ولماذا تصبح هذه الوثيقة أهم من تلك الوثائق التي طلب فيها ساسة وإعلاميّون مالاً مقابل طاعة واعتناق مواقف بالأجرة، أو مقابل محطة تلفزيونيّة تضخّ كراهية ضد الشيعة، كما في حالة مصطفى بكري في مصر - والرجل تحوّل إلى وليد جنبلاط مصر في تقلّباته وبهلوانيّاته وانعدام مبدئيّته.
وليس صحيحاً أن الوثائق لم تأتِ بجديد (ولم يُنشر منها إلى النذر اليسير بانتظار الإفراج عن المزيد منها قريباً)، إلا إذا لم يكن هناك بجديد في توثيق فساد سعودي يشمل كل دول العالم. إن أهميّة هذه الوثائق تتبدّى على أكثر من صعيد:
أوّلاً، تكمن أهميّة هذه الوثائق في كشف طبيعة عمل أجهزة الحكم السعوديّة حيث تختلط الإدارات وتشتبك: لا يبدو أن هناك فواصل بين أجهزة المخابرات وبين وزارتيْ الداخليّة والخارجيّة. ويُلاحظ ان نظام التدقيق المالي لا يسري إلا على العامّة لا على العائلة المالكة. تنفق العائلة المليارات من دون حساب لكن طلب شراء تأثيث مكتب في السفارة يحتاج إلى موافقة عليا قد تصل الى الملك نفسه.
ثانياً، كشفت الوثائق عن ضعف عمل وزارة الخارجيّة السعوديّة حيث لا تعتمد تقارير السفراء على التحليل السياسي، كما هي الحال في التقارير الدبلوماسيّة حول العالم، بل على الإشاعات و»الخبريّات» والنميمة على أنواعها وأقوال المخبرين. وكما لاحظ الزميل حسن علّيق، أن التقارير الأميركيّة كانت ذات مستوى أرفع لغويّاً وبيروقراطيّاً من الوثائق السعوديّة. إن مستوى عمل الدبلوماسيّة السعوديّة على مدى أكثر من 40 سنة بقيادة سعود الفيصل لا تزال كما كانت على أيّام والده: موغلة في الشخصانيّة والشؤون العائليّة والفضائحيّة والذمّ. ليس من مصلحة حكم العائلة تطوير جهاز دولة مدني عام. تفتقر التقارير إلى معلومات أو آراء خاصّة بالسفير المعني.
ثالثاً، يتضح أن ليس للنظام السعودي ما يعطيه إلا المال، أو النفوذ السياسي، كما في حالة الميسورين من أمثال روجيه إدّه أو نجيب ميقاتي أو محمد الصفدي. لكن حتى في حالة هؤلاء، فإن لكل الأثرياء العرب مصالح ماليّة في دول الخليج، وهي تحرص على تلك المصالح حرص جورج حبش على تراب فلسطين. ليس للنظام السعودي نفوذ أخلاقي أو حتى ديني - بحكم مضغ لقب «خدمة الحرميْن».
رابعاً، كشفت الوثائق الكثير عن حقيقة الإعلام والسياسة في العالم العربي. يمكن التعميم أن الوثائق تصلح لرثاء السياسة والإعلام في العالم العربي. لا يريد النظام السعودي ان يكون هناك تعدّد إعلامي عربي، ليس فقط في العالم العربي وإنما في العالم أجمع. ما معنى مثلاً ان يموّل النظام السعودي مطبوعات ومجلاّت كنديّة يُوزّع بعضها مجّاناً في دكاكين البقالة العربيّة في المدن الكنديّة الكبرى؟ كشفت الوثائق عن معضلة كبيرة حول ان النظام السعودي لا يملك «قوّة ناعمة» إطلاقاً: ليس لديه ما يقدّمه إلا المال (والحروب العلنية بعد أن كان يعمل في الحروب السريّة). لا يأتي أحد ويتقدّم بطلب النصح أو الإرشاد أو الأفكار من آل سعود (ربّما باستثناء وليد جنبلاط). الكل يطالب بالمال، والمال فقط. وحرص النظام السعودي على السيطرة عبر الاشتراكات أو التمويل المباشر على المطبوعات العربيّة في كل أرجاء الكون يدلّ على مأزق كبير: ان النظام السعودي يعلم ان التعبير العربي الحرّ لا يمكن ان يتماشى مع سياسات وعقيدة آل سعود، لهذا فإنه يحرص على نشر المال بين كل تلك المطبوعات وتصنيفها كلّها على أساس الموقف من الحكم السعودي.
ظهر في تصنيفات تقارير السفارة أن ليس هناك من معايير سياسيّة تتعلّق بالمواقف الكبرى، مثل قضيّة فلسطين أو حتى الموقف من الدين الذي لم يتاجر به أكثر من آل سعود، بل أن المعيار المحض هو الموقف من الحكم السعودي. وعليه، فإن كلمة ليبرالي بدت كما هي عارية في تقرير السفير السعودي في لبنان الذي قال عن كاتب في جريدة «السفير» إنه «شيعي ليبرالي» وأنه «يبدي ودّاً نحو المملكة». أي ان الحكم السعودي يعي تعريفات المصطلحات السعوديّة العربيّة، وأن الليبراليّة لا تعني في الثقافة العربيّة إلا «الودّ» نحو النظام السعودي. هذا التمويل الأخطبوطي العالمي يؤشّر على منع آل سعود لإمكانيّة بروز إعلام معارض في العالم العربي. كان العالم العربي ينقسم في تاريخ المعاصر إلى محاور متعدّدة، وكانت أنظمة متعدّدة ومتصارعة تتقاسم النفوذ الإعلامي، وكان النظام السوري يفرض بالقوّة طاعته في إعلام بيروت (ومن دون تمويل وإن كانت أتاحت فرص تجاريّة للأقربين). كان هناك فرصة للمناورة أو التنقّل في وسائل الإعلام، أما الآن فهناك سيطرة واحدة خصوصاً إثر زوال الخلاف بين النظاميْن السعودي والقطري. والحملة السعوديّة على ما تبقّى من إعلام غير موال لآل سعود يهدف إلى فرض ما يسود في المملكة (من رأي واحد) على مجمل الدول العربيّة.
بمعنى من المعاني، كشفت الوثائق الجديدة - أو هي أثبتت - أن لا إعلام في العالم العربي، وتوحّد قيادة النظام العربي الرسمي برمّته بيد آل سعود نفى إمكانيّة صعود إعلام، ولا حتى في الدول التي تتمتّع بهامش من الحريّات ينعدم في معظم الدول العربيّة. وبدلاً من إتاحة المجال امام تعدّد الآراء وإتاحة المجال أمام ما أسماه منظّر الليبراليّة، جون ستيوارت ميل، بـ«سوق الآراء»، فإن آل سعود يتحرّقون من أجل إغلاق أو محاربة الإعلام المعادي لهم، أو حتى الناقد لهم. والصحافي (كان يكتب في هذه الجريدة) الذي طالب بتمويل إضافي جوبه بالرفض لأنه يلتزم بسياسة مهادنة نحو حزب الله. وينقسم الإعلام العربي وفق التصنيف السعودي إلى الإعلام «الموالي» والإعلام المُحيّد (بالمال) - أي الذي يتجنّب نقد المملكة، والإعلام المعادي الذي تجب محاربته بشتّى الطرق (الإشارة إلى «مجموعة شويري» في واحدة من التقارير حيث كتب سعود الفيصل عن محطة «إل. بي. سي» ما يلي: «قد يكون من المناسب الضغط على القناة إذا تمادت في مواقفها ضد المملكة عبر شركة إعلانات «شويري قروب»، وهي شركة إعلانات لبنانيّة لها مصالح واسعة في المملكة، وتتحكّم بجزء واسع من السوق الإعلانية في لبنان»). لا يقرّر القرّاء عبر شراء الصحف نسب التوزيع في الأسواق في العالم العربي بل تقرّر ذلك السفارات السعوديّة في العواصم العربيّة (حاول السفير السعودي السابق في لبنان، عبد العزيز الخوجة، التأثير على «الأخبار» في بداية انطلاقتها عبر عروض سخيّة من الاشتراكات مقابل منع الكتابات المعادية لآل سعود). وما الصمت الإعلامي العربي الشامل عن فضيحة ويكليكيس إلا مثالاً عن السيطرة شبه التامّة لآل سعود على أصحاب الرأي (ليس صدفة أن الجوائز الصحافيّة والأدبيّة والفنيّة باتت تتقرّر في عواصم النفط والغاز ووفقاً لأذواق متعدّدي الزوجات، ومُسلّعي ومُشيّئي المرأة العربيّة). آل سعود كما يظهر في التسريبات لا يريدون من الإعلام إلا غرض الدعاية السياسيّة الصفيقة، وهم على دراية ان لا دالّة على الصحافيّين والكتّاب من دون المال، وان علاقة الكاتب بالنظام السعودي هي علاقة إيجار وليس شراء. واحدة من الوثائق تقول ذلك صراحة: «من ناحية أخرى أفاد السفير أنه نمي إلى علمه بأن توقّف الدعم المالي عن الصحافيّين والإعلاميّين ومحطات التلفزة اللبنانيّة يدفع مواقفهم إلى التذبذب، وأن المسؤولين في محطة («إم. تي. في») اللبنانيّة أخذوا في التذمّر من عدم تلقّيهم دعماً من المملكة». أي ان الولاء اللبناني - لا بل العربي - للنظام السعودي رخو للغاية ويحتاج إلى ضخ مستمرّ للمال. وهذا جانب في ضعف الموقف السعودي السياسي، أو في صلابته، على مرّ العقود، وحتى بعد خلو الساحة العربيّة من خصوم لهم.
أما المساحة السياسيّة فهي ميتة هي الأخرى بحكم التدخّل السعودي الصفيق في كل شؤون الدول العربيّة من دون استثناء. بات الشعار الدبلوماسي السعودي عن «عدم التدخّل في شؤون الدول العربيّة» أو «المملكة على مسافة واحدة من الأطراف» في الدولة تلك إلا مضحكة. صحيح ان الشعب العربي كان مُدركاً لطبيعة السيطرة الماليّة السعوديّة لكن درجة السيطرة والتدخّل، والوسائل المُتبعة هي أسوأ بكثير مما ظُن. كيف لا والوثائق لا تتحدّث إلا عن عدوّ واحد (إيران والشيعة، واللغة الطائفيّة الصارخة سائدة في كل الوثائق) ولا يرد ذكر ولو عابر عن القضيّة الفلسطينيّة، ولا عن القدس التي قيل إن الملك فيصل كان يريد ان يصلّي فيها (كان يريد ان يصلّي فيها على طريقة أنور السادات، أي تحت حراب جنود الاحتلال الصهاينة).
يسيطر الحكم السعودي على الأنظمة السياسيّة العربيّة بحسب طبيعة النظام: في الأنظمة التسلطيّة، يموّل النظام السعودي الحاكم وجهاز الحكم مباشرةً (كما هي الحال في مصر أو الأردن أو المغرب). كما ان النظام يعمد أيضاً وبموافقة الحاكم في تلك الأنظمة على شراء - أو تأجير - طبقة رجال الدين والوعّاظ والمثقّفين والإعلاميّين في تلك الدول. أما في الدول ذات الطبيعة الانتخابيّة مثل لبنان أو تونس مثلاً: فإن النظام يضخّ مالاً كثيراً في دعم الجهات السياسيّة الموالية له (مثل 14 آذار في لبنان وحركة إياد علاّوي في العراق أو التيّار اليميني الحاكم في تونس أو عبد ربّه منصور في اليمن، الخ). يستطيع آل سعود بمالهم (ومال حلفائهم في الغرب ودول الخليج) تعطيل أي انتخابات حرّة لصالح وكلائهم وأدواتهم. والمنافسة قد تحتدم ليس بين مرشّحين بل بين المال السعودي والمال القطري أو المال الإماراتي (والمال الإماراتي فعّال في انتخابات فلسطين لصالح الشلّة الدحلانيّة وفي ليبيا في مواجهة الإخوان). لهذا، فإن الدعوات (الشعبيّة أحياناً أو النخبويّة غالباً) الملّحة إلى الديمقراطيّة والانتخابات في العالم العربي هي دعوات إما ساذجة أو خبيثة (كما في لبنان) تهدف إلى تحقيق نتائج الضخ المالي السعودي. وهكذا، يعطّل آل سعود الحياة السياسيّة في كل العالم العربي، في الأنظمة التي تشهد انتخابات وفي تلك التي لا تجرى فيها انتخابات.
كما أن النظام السعودي يعزّز أسوأ في الحياة السياسيّة في العالم العربي من موبقات: فهو يعزّز التنافس الشخصي والطائفي حتى في داخل المعسكر الواحد (أشرف ريفي مقابل نهاد المنشوق)، ويفتح خطوط تمويل متعدّدة لصالح معاركه الخاصّة في كل دولة عربيّة، وحتى من أجل تعزيز كفّة فلان على حساب آخر في داخل المعسكر. وفي الاختيار، كما يظهر في الوثائق، هو يفضّل الأسوأ دائماً. ليس هناك أسوأ من نوري المالكي، ربّما إلا أياد العلاوي، والأخير يحظى بدعم من آل سعود. وليس هناك أسوأ من المالكي ومن علاّوي، إلاّ مثال الألوّسي (الحليف المُعلن للعدوّ الإسرائيلي) وهو يحظى بدعم آل سعود أيضاً.
خامساً، كان ملفتاً تكرار الكثير من الكتّاب اللبنانيّين على وسائل التواصل الاجتماعي مقولة «ان الكل يقبض من السفارات» وأن «لكلٍّ سفارته». ماذا تقول هذه المقولة عن هؤلاء الكتّاب، وعن فهمهم لطبيعة المهنة؟
سادساً، هناك من يقول (أو تقول) إن النظام السعودي ليس وحده الذي يدفع المال وهذا صحيح. كانت الدول ذات النفوذ الإقليمي والعالمي تعمد إلى وسيلة المال لجذب الناس والحكّام إليها. والنظام الإيراني يستعمل نفوذه المالي لدعم حلفائه في المنطقة. لكن ليس هناك من قياس في حجم التأثير السعودي عبر نحو قرن من الزمن على الحياة السياسيّة العربيّة. طبعاً، يجب ان يطمح العالم العربي إلى زمن يتوقّف فيه التمويل الخارجي والتدخّل في مجرى الحياة السياسيّة، لكن الإيمان الأممي (الشيوعي وليس الإمبريالي) لا يعترف بحدود، كما كان القوميّون العرب لا يعترفون بحدود أيّام جمال عبد الناصر، وهذا حسن. هناك دعم وتمويل، مثلاً، للثورة الجزائريّة ولثوّار 1958 في لبنان والمقاومتين الفلسطينيّة واللبنانيّة ضد الاحتلال الإسرائيلي وهناك دعم وتمويل خارجي لأمثال بطرس حرب و«إم. تي. في» وسمير جعجع وخالد الضاهر. لا يستوي الدعمان. إن دعم المقاومات العربيّة ضد الاحتلال الإسرائيلي واجب وهو محمود، لكنه يأتي بشروط. كان النظام السعودي يدعم ويموّل حركة «فتح» من أجل إجهاض ثورتها. لا تستوي كل وجهات الدعم والتمويل: مع أو ضد الاحتلال، مثلاً؟ لكن يستوي التمويل والدعم الخارجي في الانتخابات النيابيّة في لبنان: يجب ان يكون التمويل الإيراني منبوذاً (حتى لو كان حجمه أصغر بالمقارنة مع ضخّ تمويل أنظمة الخليج والغرب) كما التمويل الخليجي. أما تمويل الأبواق والأقلام فهو يستوي أيضاً بين كل الأطراف: لكن المرتّب الذي يتقاضاه المرء من هذا المصدر أو ذاك (سعوديّاً كان أم إيرانيّاً) لا يتساوى مع الذي يعرض نفسه ومواقفه للبيع (كما فعل سمير جعجع بحسب وثيقة) أو مع الذي يقفز بين تمويل وتمويل مضاد، طمعاً بمال أكثر، كما فعل وليد جنبلاط في تاريخه الطويل من العمل السياسي القبيح. (بمعنى آخر، ليس كل من يكتب في صحيفة خليجيّة التمويل أو إيرانيّة التمويل مُدان حكماً).
سابعاً، هناك من الظرفاء الذين كتبوا - في الدفاع عن الوثائق السعوديّة - أنها لا تحتوي على أوامر تفجير أو إرهاب. هذا هو الهزل بعينه. وهل هناك أنظمة (إلا ما فيما يزوّره أطراف الصراع في سوريا) تكتب على أوراق رسميّة ممهورة بتواقيع وأختام رسميّة أوامر بالتفجير والاغتيال؟ هل مَن يظن ان هناك في أوراق «ويكليكس» مثلاً بلاغاً سعوديّاً رسميّاً يؤمرُ فيه أزعر حركة «فتح»، أبو الزعيم، بخطف ناصر السعيد ووضعه في صندوق سيّارة قبل تسليمه إلى السلطات السعوديّة التي عذّبته وقتلته؟ والغاية من الملاحظة هي نفي إمكانيّة أو رغبة النظام السعودي في القيام بأعمال عنف وإرهاب في كل المنطقة العربيّة. وهذا الأسلوب يشبه أسلوب النازيّين الجديد الذين ينفون علم هتلر بالمحرقة بحجّة ان ليس هناك من بلاغ رسمي منه وبتوقيع منه يأمر بها.
ثامناً، لقد ثبتَ بما لا يقبل الشكّ في هذه الوثائق أن منشأ الفتنة المذهبيّة الجارية في العالم العربي هو في مملكة القهر السعوديّة. لم يعد هناك من حاجة للنقاش في هذا الأمر. يظهر في الوثائق ان الكراهية ضد الشيعة هي أصل السياسة الخارجيّة السعوديّة، وهي تتفوّق على معاداة النظام الإيراني. ما معنى ان يفاتح مصطفى بكري السفير السعودي في أمر تدشين محطّة تتكرّس في الضخ الطائفي ضد الشيعة؟ هل مَن يظنّ ان هناك وثيقة تثبت ان النظام الإيراني يموّل محطة تتخصّص في بثّ الكراهية ضد السنّة - هذا من دون نفي العقيدة الطائفيّة للنظام الإيراني؟
تاسعاً، توصّل بعض كتّاب وأبواق آل سعود، ووزارة الخارجيّة السعوديّة، إلى تلفيقة مُضحكة عن موقف المملكة من الوثائق المنشورة. عبّر عن ذلك الليبرالي السعودي (البن لادني سابقاً) جمال خاشقجي على «تويتر» الذي قال إن الوثائق مُحرجة، لكنها لا تخرج عن خط السياسة العامّة للنظام السعودي. لكن، يا جمال: إذا كانت لا تخرج عن الخط السياسي العام فلماذا تكون مُحرجة؟ نحتاج إلى تفسير.
عاشراً، هناك في الوثائق ما يمكن ان يوصف باللا مفاجأة «بنوب». تجلّى ذلك في برقيّة تتعلّق بنقيب الصحافيّين في لبنان، الكاتب والمفكّر المرموق، عوني الكعكي (واختياره من قبل فريق 14 آذار - ومستقلّيه - لعمادة النقابة يلخّص مشروع «العبور إلى الدولة المدنيّة» لهذا الفريق لما يمثّله هذا النقيب من مهنيّة وحرفيّة ومتانة في الإعلام). تبيّن لنا ان النقيب العزيز (الذي يحظى باحترام كل مَن أمسك قلماً في لبنان، خصوصاً أنه انتقل برشاقة شديدة من خدمة النظام السوري في لبنان إلى خدمة «الثورة» ضد النظام السوري) مغرٍ، وهو يتعرّض إلى إغراءات من شتّى الجهات الإقليميّة والعالميّة. أين المفاجأة في هذا؟ نقيبنا مغرٍ، وهذا ليس بمفاجأة لما يتمتّع به من مواهب ومناقب. هنيئاً لنا جميعاً به.

أسعد أبو خليل

المصدر: الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...