"الثعلب والقنفذ": الولايات المتحدة إزاء الأزمة السورية (1 من 4)

29-04-2017

"الثعلب والقنفذ": الولايات المتحدة إزاء الأزمة السورية (1 من 4)

ننشر فيمايلي دراسة مركز دمشق للأبحاث حول الأهداف الإستراتيجية للضربة الأمريكية لمطار الشعيرات في سورية على أربع حلقات :

الجمل ـ د. عقيل سعيد محفوض:

مقدمة

بين الثعلب والقنفذ ديناميات صراع مركبة، لدى أحدهما طرقٌ عديدة للاستهداف، فيما لدى الآخر طريقة واحدة ناجعة، وهذا ما بدا أنه ينطبق على سياسة الولايات المتحدة إزاء الأزمة السورية، وخاصة بعد حادثة/ذريعة خان شيخون والاعتداء على قاعدة الشعيرات الجوية، ويزيد على ذلك أن الطرق العديدة مقيدة بإكراهات إقليمية ودولية تعوق عمله، فيما لدى صاحب الطريقة الوحيدة، عوامل تعزيز واحتواء تمارس تأثيراً نشطاً في مسارات الأمور.

يُشبه الاعتداء الأميركي على مطار الشعيرات جنوب شرق حمص (7 نيسان/أبريل 2017) تخريجات "فقه الحيل"، فهو "يفي بالغرض" إذا كان المقصود منه مجرد الاستجابة العاجلة والمنفردة لحادثة "خان شيخون". وطالما أن الولايات المتحدة قررت سلفاً –ومن دون أي تحقيق– من هو الفاعل، فقد كان من المتوقع أن يكون للاتهام ما بعده، إما: الضغط باتجاه صفقة ما على غرار نزع السلاح الكيماوي بعد حادثة الغوطة بريف دمشق (آب/أغسطس 2013)، أو: القيام بإجراءات عسكرية مباشرة،لكن محدودة بحكم تعقيد المشهد وخطورة التورط في مواجهات مفتوحة.

قامت الولايات المتحدة بالاعتداء على قاعدة الشعيرات الجوية جنوب شرق حمص، بإطلاق 59 صاروخاً من نوع "توماهوك" فجر الجمعة (7 نيسان/أبريل 2017)، بعد اتهامها الجيش السوري باستخدام السلاح الكيماوي ضد أهداف غير عسكرية في خان شيخون بريف إدلب. وهذا ثاني اعتداء مباشر تقوم به على منشآت عسكرية سورية، الاعتداء الأول كان على مواقع بجبال الثردة قرب مطار دير الزور (17 أيلول/سبتمبر 2016). وقد أثار الاعتداء على الشعيرات موجة تقديرات وتأويلات وتساؤلات مُفرِطة بين حدين أو مستويين، الأول: هو هل أن الهجوم مجرد "فشة خلق" وتوتر عابر وسوف تعقبه عودة لمسار التفاهمات؟ الثاني: قدَّرَ أنه مؤشر على تحول كبير في موقف الولايات المتحدة أو إدارة ترامب ليس تجاه الأزمة السورية فحسب، وإنما تجاه الموقف الدولي ككل، وخاصة العلاقات الأمريكية -الروسية، وبالأخص العلاقات بين ترامب وبوتين.

يبدو أن الإعداد لحادثة خان شيخون (4 نيسان/أبريل 2017) وصولاً إلى الاعتداء على قاعدة الشعيرات تما على عَجَل، وفي سياق التورط الأمريكي في الأزمة السورية، وخارج سياق (بل بالضد من) التفاهمات المعلنة وغير المعلنة بين الولايات المتحدة وروسيا حول تسوية سياسية للأزمة وضبط أي تطورات "غير حميدة" في الموقف بين موسكو وواشنطن في إطار الأزمة السورية.

وهكذا فقد جاء الاعتداء من باب الذريعة والمَسْرَحة الفائقة للموقف! وكان من الواضح أن شيئاً ما سوف يحدث بعد التهويل الإعلامي والمبالغة في كيل الاتهامات للحكومة السورية، ورفض فكرة التحقيق في الحادثة، وجاء ذلك مُعزّزاً لتقديرات شبه يقينية لدى الحكومة وحلفائها من أن جهات استخباراتية دولية كانت شريكاً في الإعداد لحادثة خان شيخون، ولم تكن الحادثة مجرد توريط لها.

وقد عزَّزَ الاعتداءُ على سورية والتداعيات التي أعقبته التقديرات بأن ترامب ربما بدأ جدياً وفعلياً بتبني خيارات تجنح نحو التطرف والعنف في التعاطي مع العديد من ملفات السياسة الدولية، بدءاً من الأزمة السورية، وساعد موقفه في "التخفيف" من مخاوف متزايدة لدى حلفائه، بل إلى تغيير المدارك تجاه ترامب بصورة كلية تقريباً، وبدء موجة تفاؤل كبيرة بأنه يقطع بهذا الموقف مع سياسة "التردد" التي قيل: إنَّ باراك أوباما كان ينتهجها تجاه سورية. والواقع أن موقف "ترامب" ربما أدى إلى ما يشبه الصدمة لدى بعض خصوم واشنطن الذين تفاءلوا به نسبياً، كرهاً بـ “هيلاري كلينتون" أو توجساً منها. ويبدو أن ترامب "أزال" بضربة واحدة التقديرات السلبية في الولايات المتحدة نفسها وأوربا ومناطق أخرى عنه وعن شعبويته ولا عقلانيته، وتحول بين ليلة وضحاها إلى رجل أمريكا، بل رجل العالم القوي والعقلاني والحاسم!

تتناول الدراسة موقف الولايات المتحدة من الأزمة، بالتركيز على حادثة "خان شيخون" والاعتداء على "قاعدة الشعيرات الجوية"، من جوانب عدة، مثل: استخدام السلاح الكيماوي ذريعةً، لممارسة الضغوط على سورية وحلفائها، وثمة "أنماط تكرارية" للسلوك الأمريكي بهذا الخصوص، واتجاه الولايات المتحدة لاستهداف سورية من أكثر النقاط ضعفاً، وهو "المذهبة" من جهة، وذريعة الكيماوي من جهة ثانية، وكذلك استهدافها من أكثر نقاطها قوة وهو الضغط على "روسيا" و"إيران" لوضعهما في سياق يضطرهما –وخاصة روسيا–للتخلي عن دعم سورية. وتركز الدراسة على أنماط التدخل الأمريكي في الأزمة السورية، ودوافع انقلاب الموقف من قبل "إدارة ترامب"، ولماذا بدا الاعتداء "ضرورة" لها، وما هي دلالاته، ودور الاعتبارات النفسية والإدراكية في ذلك.

تمثل الاستعارات المفاهيمية واللغوية والتعبيرية أحد المداخل التي يمكن استخدامها في تحليل الحدث السوري والعالمي. وتحاول الدراسة "تجريب" أو "اختبار" استعارات عديدة من الأسطورة الإغريقية، مثل: "الثعلب والقنفذ" و"كعب أخيل"؛ ومن الألعاب كـ لعبة الشطرنج، ومن العلوم العسكرية، مثل: تكتيكات الحرب، والاحتواء، ونقاط الاستهداف ونقاط القوة ونقاط الضعف، ومن عالم الميديا والابستمولوجيا، مثل: الإدراك، والفهم، وسوء التقدير، وتغيير الرؤية، والمدارك المسبقة، أو: المدارك القصدية، في اختلاق واقع افتراضي لا يلبث أن يصبح "واقعاً مُتعيّناً" و"حقيقياً" أكثر من الواقع نفسه[1]، وغيرها.

تتألف الدراسة من مقدمة وثمانية محاور، الأول في مقاربة الحدث، ويتضمنُ "تدبيرَ الحدثِ"، و"الاستعاراتِ القاتلةَ"، و"أنماطاً تكرارية"؛ والثاني: سورية والولايات المتحدة: العلاقة المستحيلة؛ والثالث: هيا نضرب كيماويّا!؛ والرابع: عبء ترامب؛ والخامس: استهداف نقاط القوة-نقاط الضعف ويتضمن "كعب أخيل" و"كش ملك!"؛ والسادس: تطورات كاشفة؟؛ والسابع: العم "أبو إيفانكا"؛ والثامن: الإشارات والتنبيهات، وأخيراً الخاتمة.

ولا بد من الإشارة إلى أن الدراسة إذ تنطلق من حدث طارئ ومفاجئ، فهي لا تتناوله بوصفه موضوعاً تاماً، وإنما منطلقاً أو مناسبةً لمقاربة سياسة الولايات المتحدة إزاء الأزمة السورية، بكل الدلالات الرمزية والواقعية التي مثَّلَها الحدث، ومن ثم فالدراسة تدرك حدود ما يمكن أن تقوم به، وقد حاولت أن تقاوم المدارك والتقديرات المتداولة في حالات الأزمة (الاعتداء على الشعيرات) بأن تموضع الأزمة في سياق السياسات طويلة الأمد، لا أن تخلع معنى الأزمة المذكورة وظرفيتها على الحدث السوري والإقليمي والعالمي ككل.

وهكذا تحاول الدراسة أن تستخدم أو تجرب مداخل مختلفة في التحليل، بما يمكن أن يساعد في إضاءة الحدث أو تفسيره، وكذلك الأمر بالنسبة للاستجابات الرئيسة له. وتحديداً ما تضمنته الاستعارات الرئيسة الخاصة مثل: "الثعلب والقنفذ" التي تدور حول الخيارات والبدائل أمام الولايات المتحدة الأمريكية وسورية، وسلطة المخيال والمدارك المخيالية وتوظيف الميديا في اختلاق وقائع افتراضية لتُبنى عليها وقائع مادية ومدارك جديدة، إلخ.

 

أولاً-في مقاربة الحدث                        

يمثل الاعتداء الأمريكي على "قاعدة الشعيرات الجوية" حدثاً كاشفاً للتجاذبات والرهانات الدولية حول الأزمة السورية، ذلك أن ما يظهر للعلن من عناوينَ وتبريراتٍ وذرائعَ لا يمثل بالتمام حقيقة الأمور، وما أن تجتمع فواعل السياسة حتى "تنزع أقنعتها"، ذلك ينطبق على مَنْ تتخفى منها خلف قناع، واحدةً بعد أخرى، لتكون المُنازَلَة والمُساوَمَة والمُفاضلة بين الخيارات والإمكانات، بما يضمن أكبر قدر ممكن من المكاسب وأقل قدر ممكن التكاليف.

وهكذا فإن الدراسة تقارب موضوعها من خلال تشكيل منهجي أو معرفي مركب، متواشج، مستعيناً باستعارات تفسيرية وتحليلية مختلفة، بقصد تفكيك دوافع ومحددات القرار الأمريكي بالاستهداف المباشر لـ “قاعدة الشعيرات الجوية"، والمنطق العميق الذي صدر عنه ذلك القرار، والأنماط التكرارية في مدارك وسلوك الولايات المتحدة تجاه الأزمة السورية.

1-    تدبير الحدث

في الوقت الذي لم تتمكن فيه النظريات الكبرى في العلاقات الدولية من التوصل إلى "تفسير مستقر" للحدث السوري، فقد حاول المشتغلون بالعلم والتحليل العلمي تقديم أنماط من الاستجابات التي تميزت بقَدْرٍ متفاوت من الجدة والقدرة على التحليل، وجلاء أو فتح الجوانب المستغلقة في فهم أو تفسير الأزمة. ولو أن الأزمة تشهد بين لحظة وأخرى تطورات غير متوقعة، من قبيل التقلبات في مواقف عدد من فواعلها، والخروج عن التوافقات المعلنة أو المضمرة، وتفاوت إيقاع العمليات العسكرية، إلخ.

لعلَّ التطور الأبرز في الموقف الأمريكي من المشهد السوري هو –كما سبقت الإشارة–إظهار الولايات المتحدة أنها مستعدة لنوع من "القطيعة" في الموقف، والانتقال من سياسة (تخالطها العسكرة) إلى عسكرة (تخالطها السياسة)، وتدبير ذرائع مختلفة من أجل ممارسة المزيد من الضغوط العسكرية والسياسية على النظام العالمي من بوابة المشهد السوري[2].

سوف تركز الورقة على حادثة الكيماوي في "خان شيخون" بريف إدلب (4 نيسان/أبريل 2017) بوصفها ذريعة استخدمتها الولايات المتحدة وحلفاؤها للاعتداء على قاعدة الشعيرات الجوية (7 نيسان/أبريل 2017) والعمل على إحداث تغيير في المشهد الإقليمي والدولي من بوابة الأزمة السورية.

إن اعتداء الولايات المتحدة على سورية، والتصعيد اللاحق، ليسا نتيجة حسابات عقلانية لمدارك تهديد أو أولويات أمن قومي فحسب، ولا مجرد تتابع عشوائي أو ارتباط مُؤَهِّب بين مُدخلات ومُخرجات، أسباب ونتائج، مما تحاول تفسيره نظريات السياسة في عالم اليوم، وإنما هو موقف أو حدث يتطلب تدبيره رؤى جديدة أيضاً، من قبيل دور الحمق، أو الكذب، أو التضليل، أو الوهم، أو المخيال في السياسات، إذ إنه متداخلٌ مع مُحددات وفواعل كثيرة، رؤى تتقصى الفوضى في قلب النظام، والنظام في قلب الفوضى في عالم اليوم. وبالنسبة لـ ترامب فقد كان ثمة صعوبة في توقع أولوياته وسياساته، ربما بقدر ما كان صعباً توقع فوزه في الانتخابات.

2- الاستعارات القاتلة

يقول ج. لايكوف «إننا نحيا بالاستعارة»، وهذه العبارة هي عنوان أحد كتبه الشهيرة، ذلك أن جزءاً من مداركنا وتجاربنا وسلوكنا "استعاري"، وكذلك هو الأمر مع "نسق القيم" و"التصورات" والخبرات الذهنية والسلوكية. وهكذا فإن الاستعارات نحيا بها فعلاً لأنها "تتحكم في تفكيرنا"[3]، وخاصة منها: استعارات الحرب واللعب، وحتى الجنس التي تستخدم على نطاق واسع في عالم اليوم.

لم يكن التدخل الأمريكي في الأزمة السورية بالسلاح فقط، بل كان بالصورة، والتقنية الرقمية والرمزية، ووسائط الميديا، والحملات الإعلامية، والحرب النفسية، أو: ما يعرف بـ "الحرب الهجينة"، وفي الوقت الذي كانت إدارة أوباما فيه تقول: إنها سوف تقدم مساعدات "غير قاتلة" للجماعات المعارضة، كان قد سبق ذلك تقديم مساعدات فائقة القتل والتدمير، تمثلت بــ هندسة الخطاب والسلوك ليس لجماعات المعارضة السورية فحسب، وإنما لكل فواعل الأزمة السورية أيضاً، وصولاً إلى مدارك واتجاهات الرأي العام حول العالم.

وهكذا فقد كان الإعداد لحادثة خان شيخون "استعارياً" وجزءاً من ديناميات الحرب، ذلك أن تهيئة الذريعة والتعاطي معها بوصفها حدثاً من فعل الخصم، هو فعل قصدي استعاري، وكذلك الأمر بالنسبة لأنماط الاتهام القطعي ورفض التحقيق، ثم تحميل طرف مسؤولية الفعل ومسؤولية ردود الفعل عليه، هو عمل استعاري أيضاً، لكنه من نمط إعلان الحرب، ذلك أن خلق الذرائع والتبرير والتسويق لمدارك معينة، ليس مقدمة للحرب، وإنما هو كشف عن أنها حاصلة بالفعل. هذه هي "الاستعارات القاتلة".

وفي الاستعارات أيضاً، أن "ترامب" يريد أن يعيد "أمريكا قوية ثانية"، وكيف يكون ذلك، أليست مؤشرات الحرب هي أقصر الطرق لتحقيق ذلك الهدف، وأنه (أي ترامب) ليس ألعوبة بيد بوتين. وكيف يكون ذلك، إن لم يعلن الحرب على حليف بوتين (الرئيس بشار الأسد) وعلى خيارات وأولويات بوتين في سورية، ويريد الحفاظ على صورة أمريكا في العالم، وأخلاقيتها، وكيف يكون ذلك، إن لم يكن بالدفاع عن "ضحايا هجوم كيماوي" و"معاقبة الجاني"؟!

وكما يقول ميشيل فوكو –يؤيده في ذلك نعوم تشومسكي– من أن الفواعل والمتلقين يمكن أن يوضعوا ضمن شروط تجعلهم يقبلون أحداثاً وتطورات معينة بوصفها "حقائق" و" لا تحتاج الى برهان"، ذلك لمجرد تناغمها مع شيفرة للاعتقاد مكرسة، جماعية، ومدروسة. وثمة فواعل تنخرط في تعزيز مدارك وتوجهات تصب في خدمة "الاقتصاد السياسي للحقيقة"[4]. وهذا ما يضع استهداف سورية في باب الواجبات!

وما تحاوله الدراسة ليس مجرد استعارات لغوية وتعبيرية وتوظيف دلالات رمزية فحسب، من قبيل "الاستعارات القاتلة"، وإنما "إعادة إنتاج" و"تبيئة أولية" لاستعارات أخرى، مثل: "الثعلب والقنفذ"، و"كعب أخيل"، وغيرها، لينسجم مع متطلبات وأغراض الدراسة. ولو أنها لا تذهب بعيداً في "تأصيل" و"تجذير" ما تفعله، الأمر الذي يتطلب حيزاً بحثياً مختلفاً. والواقع أن الاستعارة قد تطال مفاهيم كاملة أو تامة الدلالة تقريباً من مظانها، وسحبها أو إعادة إدراجها، كلياً أو جزئياً، في سياق مختلف نسبياً.

3-  الأنماط التكرارية

مفهوم "الأنماط التكرارية" هو بالأساس مفهوم فيزيائي، وقد سبقت الإشارة إلى بيئته ودلالاته العلمية، وأنه ويتقصّى وجود "أنماط تكرارية" في الظواهر غير المتوقعة أو غير المنضبطة[5].وقد سبقت الإشارة إلى أنه في قلب الفوضى ثمة نمط من النظام، والعكس صحيح، وهذا هو معنى الحديث عن "الأنماط التكرارية"، لـ المواجهات–المساومات بين الفواعل الدولية، والأهم هنا هو ما ندعوه الأنماط التكرارية في سياسة الولايات المتحدة تجاه الأزمة السورية، وخاصة ما يتصل بادعاء أو اختلاق حوادث مثل: الكيماوي، أو: الاستثمار في حوادث من هذا النوع، بغض النظر عمن قام بها، كما هو الحال في استخدام الجماعات المسلحة للكيماوي في "خان العسل" بريف حلب (19 آذار/مارس 2013)، فقد اهتمت الولايات المتحدة بتثبيت الواقعة وتحديد نوع السلاح المستخدم، ولكنها امتنعت ومارست الضغوط من أجل عدم الكشف عنه، مصرة على اتهام الجيش السوري باستخدام السلاح الكيماوي!

هذا النمط تكرر مراراً في حال كانت الجماعات المسلحة أو مشغلوها هم من استخدم السلاح الكيميائي ضد الجيش السوري، أما استخدامات السلاح افتراضيّاً، أو: فعليّاً، من قبل تلك الجماعات، بقصد اتهام الجيش السوري أو روسيا به، فعندئذ تكون الولايات المتحدة جاهزة، إن لم تكن هي من أعد للأمر، أو: أنه تم تحت ناظريها، لتوجيه الاتهامات وممارسة الضغوط على سورية وحلفائها، بقصد تحقيق مكاسب سياسية ورمزية.

إنَّ الحديث عن استخدام الجيش السوري للسلاح الكيماوي ضد أهداف "غير مسلحة"، وترويج هذا الادعاء من قبل الغرب، من دون تحقيق مستقل ومن دون أدلة[6]، يعزز التقديرات بأن الحوادث –ومنها حادثة خان شيخون– تم الإعداد لها من قِبَلِ هذا الغربِ نفسه أو تحت ناظريه وبرعايته، وهذا يعني أنها (حادثة خان شيخون) تم الإعداد لها كمقدمة لما بعدها، وهو ممارسة الضغوط على سورية وحلفائها من أجل تحقيق مكاسب سياسية أو عسكرية أو رمزية، هذا على غرار حادثة الغوطة بريف دمشق (21 آب/أغسطس 2013).

لكن الأنماط التكرارية أبعد من ذلك، إذ ثمة أنماط تكرارية على مستوى الظروف والخطوات المهيئة للحرب، وقد كانت أسلحة الدمار الشامل ذريعة لحصار العراق، ثم احتلاله وتدميره من قبل "التحالف" الذي ضم الولايات المتحدة وبريطانيا وبمشاركة فواعل أو توابع ذيلية أخرى[7].

هذا إلى أنَّ الأنماط التكرارية في إعداد الذرائع للحرب كانت في ليبيا، وقد كرر الروس أنهم تعلموا جيداً من درس ليبيا، ولذا فإنهم لن يُمكِّنوا الغرب من تكراره في سورية. وقد لمس الروس وحلفاء سورية الآخرون أن الغرب وحلفاءَه في المنطقة يريدون سحب تجربة "شيطنة" و"تأثيم" و"اختلاق الذرائع" تجاه الرئيس معمر القذافي والجيش الليبي، وصولاً إلى الرئيس بشار الأسد والجيش السوري، وأنَّ ادعاء/ذريعة خان شيخون هو مجرد خطوة أخرى في هذا المسلسل المتعثر حتى الآن. وقد عبر المتحدث الرئاسي الروسي "ديمتري بيسكوف" قائلاً: «إنَّ طرح مسألة تخلي روسيا عن دعم الرئيس السوري بشار الأسد أمر سخيف يعادل الدعوات إلى السماح للإرهابيين بالتقدم ضد السلطات الشرعية في سورية»، ذلك أن الأهم بالنسبة لروسيا هو أولاً، "مكافحة "داعش"، وثانياً،"إيجاد تسوية سياسية للأزمة السورية، وليس اللجوء إلى استخدام القوة"[8].



[1] جان بودريار، المصطنع والاصطناع، ترجمة: جوزيف عبد الله، (بيروت: المنظمة العربية للترجمة،ط1، 2008).

[2]تحدث ترامب في حوار مع صحيفة "وول ستريت جورنال" (12 نيسان/أبريل 2017) عن أن الأزمة السورية ليست أولوية لإدارته الآن، إنما الأولوية هي لملف كوريا الشمالية.

[3] جورج لايكوف ومارك جونسون، الاستعارات التي نحيا بها، ترجمة: عبد المجيد جحفة، (الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، ط2، 2009)، ص21. وجورج لايكوف، حرب الخليج والاستعارات التي تقتل، ترجمة: عبد المجيد جحفة وعبد الإله سليم، (الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، 2005).

[4]كريستوفر نوريس، نظرية لا نقدية: ما بعد الحداثة، المثقفون وحرب الخليج، ترجمة: عابد اسماعيل، (بيروت: دار الكنوز الادبية، ط1، 1999)، ص162. وميشيل فوكو، "تدبير الحقيقة"، فكر ونقد، 10 نيسان/أبريل 2017.

http://www.aljabriabed.net/n03_03adelal_tdbir.htm

[5] حول مفهوم "الأنماط التكرارية" في السياسة، انظر: عقيل محفوض، مفهوم الأمن: مقاربة معرفية إطارية، دراسة، (الرباط: مؤسسة مؤمنون بلا حدود للأبحاث والدراسات، 2016)، والحدث السوري: مقاربة تفكيكية، دراسة، (الدوحة: المركز العربي للأبحاث والدراسات، 2012)، وفيه محاولة لصياغة أولية للمفهوم في الدراسات والبحوث السياسية.

[6] جرى حديث كثير قبل ذلك عن هجمات بالسلاح الكيماوي ولكن من دون أن يلتفت الغرب له كثيراً.

[7] وقد تحدث وزير الخارجية الروسي "سيرغي لافروف" في مؤتمر صحفي عقده في طشقند (أوزبكستان) عن الاعتداء الأمريكي على قاعدة الشعيرات قائلاً«إنَّ "هذا عمل من أعمال العدوان يستندُ إلى ذريعة مختلقة... ويذكرني بالموقف في2003 حينما هاجمت الولايات المتحدة وبريطانيا مع بعض حلفائهما العراق». "لافروف: هذا الوضع يذكرنا بعام 2003 في العراق"، روسيااليوم، 7 نيسان/أبريل 2017. https://goo.gl/PWOIsp

[8]"الكرملين: الدعوات لوقف دعم الأسد تعادل وقف محاربة الإرهاب"، روسيااليوم، 12 نيسان/أبريل 2017.

https://goo.gl/5P1AS4

 

الجمل: بالإتفاق مع مركز دمشق للأبحاث (مداد)

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...