قراءة في كتاب : الطريق الى دمشق

01-03-2016

قراءة في كتاب : الطريق الى دمشق

كتاب شيق حول العلاقات الفرنسية السورية وضعه (Christian Chesnot and Georges Malbrunot.). الكتاب ملئء بالقصص الممتعة وتحاليل صانعي القرار ومحليلين دوليين كبار. الكثيرين قرأوا الفصل المتعلق بطلب "هولاند" (Hollande) الى جهاز مخابراته مسح أي شيء من تقريرهم يشكك بالاتهامات بأن النظام في دمشق قد استعمل السلاح الكيماوي. قطر الفاحشة الثراء عرضت على كل سفير سوري "ينشق" خمسة ملايين دولار. بينما عرضت على الدبولماسيين الأقل رتبة مليون دولار. السفير القطري بشخصه حاول شراء السفير السوري "الخيمي"، لكن الأخير رفض عرضه,

فرنسا تعرف سورية جيداً. فهي قد اقتلعتها من بقايا الإمبراطورية العثمانية. لكن فرنسا التي عارضت اجتياح العراق عام 2003، راهنت على الطريق الصعب لتغيير النظام في سوريا، وخسرت الرهان. صرح مؤلف كتاب "الطريق الى دمشق" لصحيفة "لوريان لوجور" بأن الأزمة الحالية في سورية تم التعامل معها في فرنسا بانفعالات و لاواقعية سياسية.
مؤلفا كتاب "الطريق الى دمشق" كريستيان شيسنو و جورج مالبرونو (Christian Chesnot and Georges Malbrunot) هما ،على التوالي، مراسل لـ (ر ت إل - RTL) و صحفي لدى (لو فيجارو - Le Figaro). كلاهما أختطف من قبل أحد تفرعات القاعدة في العراق في العام 2004 لمدة أربعة أشهر. كلاهما كان مراقباً حثيثاً للشرق الأوسط والمجموعات الجهادية. وقد ألفا حول العراق وقطر، كما نشر مالبرونو حول فلسطين، و كتب مالبرونو حول الشرق الأوسط في (لو فيجارو - Le Figaro)، وهو المراسل الفرنسي الوحيد الذي قابل الرئيس السوري بشار الأسد في أكثر مراحل الأزمة حساسية في عام 2012. الأسد أعطى مؤخراً مقابلة لـ (الباري ماتش - Paris Match) في كانون الأول 2014، واليوم لـ (الفورين أفايرز - Foreign Affairs).
"الطريق الى دمشق" هو عبارة عن تحقيق في كيفية إساءة باريس لإدارة الأزمة، على الرغم من معرفتها العميقة لسوريا المستندة الى تاريخ طويل من الخصومة والتعاون على المستويين الدبلوماسي والمخابراتي بين البلدين. المصادر الرئيسة للمؤلفين كان الممثلين الأساسيين لهذا التاريخ الطويل. وتلك هي أحد نقاط القوة في هذا الكتاب. الكتاب يضم أيضاً ملحقات عن تقارير مخابراتية وبرقيات دبلوماسية لم يسبق نشرها، وكذلك عن رسائل من "هولاند" الى الملك السعودي مؤرخة في كانون الثاني 2013، تدور حول التمويل السعودي لشراء معدات عسكرية فرنسية مخصصة للبنان وللمملكة.
الكتاب غني بالوقائع التاريخية، ويقدم لمحة عن تاريخ العلاقات الفرنسية السورية في الفترة الممتدة منذ الحوب الأهلية اللبنانية حتى اليوم. يتضمن الكتاب ثمانية أجزاء تتبع تأرجح العلاقة صعوداً وهبوطاً بين فرنسا ومستعمرتها السابقة، وبدقة أكثر "محميتها".
المقدمة هي عبارة عن إيجاز للموضوع الأساسي، بينما تنحو الخلاصة نحو توضيح سلوك فرنسا خلال الأزمة السورية الحالية وأنها مجدداً، قد تسلك "الطريق نحو دمشق" المحكومة من البعث. تقديم الكتاب وضعه الجنرال فيليب روندو (Philippe Rondot)، الخبير لدى المخابرات الفرنسية وفي الوقت ذاته، متخصص في العالم العربي. تقاعد السيد روندو مؤخراً، وأعطى المؤلفين عبر الكتاب رؤية عميقة. لا يقتصر عمق رؤيته على المعلومات المستقاة من تجربته الخاصة، إنما من اسطورة والده في الشرق. بيير روندو (Pierre Rondot) الذي خدم ضمن الجيش الفرنسي في مراكش كما في المشرق، وهو الذي يعزى له تأسيس أجهزة الأمن اللبنانية والسورية. يتمحور الكتاب حول متابعة العلاقات الفرنسية السورية خلال الفترات الرئاسية لكل من ميتيران، شيراك، وساركوزي، (Mitterrand, Chirac, Sarkozy) مع تخصيص القسم الأكبر للأزمة الراهنة.

يعكس الكتاب الترابط والنوعية التي يتضمنها ما يعرفه الفرنسيون حول سوريا، وهذا ما يسلط الضوء على السؤال المحوري الذي يركز عليه الكتاب : كيف أمكن للفرنسيين ارتكاب خطأ بهذه الجسامة حول سوريا مؤخراً؟ هذا يوضح أن الكتاب يحاول الإجابة على هذا السؤال الملح.
الحرب الخفية
يبدأ الكتاب بتفصيل الحرب الخفية التي شنتها فرنسا وسوريا على بعضمها البعض خلال الحرب الأهلية اللبنانية، حيث كان الصراع يدور حول من له التأثير الأكبر في لبنان. كانت هذه الحرب الخفية قد بدأت باغتيال السفير الفرنسي في بيروت في أيلول عام 1981، في تلك الفترة التي اعتبرت الأكثر حساسية في الحرب الأهلية اللبنانية. أول ما وقع الاتهام على إيران بهذا الاغتيال، إلا أن فرنسا كانت تشك بسوريا. كان هناك علاقات. فقد انفجرت قنبلة في المبنى الرئيس لحزب البعث في دمشق راح ضحيته 43 شخصاً. وفي العام 1983، بعد دقائق قليلة من الهجوم على جنود البحرية الأمريكية، قتل 58 جندي فرنسي من قوات الأمم المتحدة بتفجير ثكناتهم في بيروت. وهو ماعرف بتفجيرات ثكنات بيروت. في العام 2008 وأثناء زيارة بشار الأسد الى باريس، تظاهر بعض الفرنسيين احتجاجاً على الزيارة مستذكرين الهجوم على الجنود الفرنسيين، إلا أن مصدر في الإليزيه (Elysee) قال لصحيفة لوموند (Le Monde) أن فرنسا اتهمت سوريا باغتيال السفير الفرنسي، لكن إيران هي من وقف خلف تفجير ثكناات بيروت.
سنوات الحرب الأهلية اللبنانية الحرجة، التي خلصت الى انسحاب منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت، ومجزرة صبرا و شاتيلا، والاحتلال الإسرائيلي ومقتل جنود البحرية الأمريكية وجنود الأمم المتحدة الفرنسيين، أقنعت المجتمع الدولي بأن الوضع في لبنان لا يمكن أن يدار إلا من قبل سوريا. بعدها استقبلت فرنسا قائد الجيش اللبناني المتمرد الجنرال ميشال عون، الذي قاتل الجيش السوري، وارست السلام مع دمشق. وكانت تلك بداية الطريق نحو اتفاق الطائف والحقبة السورية في لبنان التي دامت 15 عاماً ما بين 1990 و 2005.
ساد بعد تلك الحقبة مرحلة من العلاقات الجيدة نسبياً بين باريس ودمشق. لكن الفرنسيين لم ينتظروا حتى نهاية الحرب الأهلية اللبنانية لإعادة العلاقات مع دمشق. فرانسوا ميتيران (François Mitterrand) قام بزيارة دمشق في تشرين الثاني من العام 1984. أشخاص مقربون من ميتيران أخبروا مؤلفي الكتاب أن ميتيران، في وقت الزيارة، كان يكره طرائق حافظ الأسد، إلا أنه كان يكن له كل الاحترام، وأنه معجب به.
كان لدى العواصم الغربية أملاً في أن تؤثر على سوريا من جديد بعد وفاة حافظ الأسد. إلا أن العلاقات الفرنسية-السورية بلغت أوجها حينما خلف بشار الأسد والده في الرئاسة. وفاة حافظ الأسد كانت متوقعة لدى باريس، عندما أصبحت أخبار صحته المتدهورة معروفة بعد أن استطاعت أجهزة المخابرات الإسرائيلية والأردنية أخذ عينه من بوله خلال زيارته الى الأردن لتقديم واجب العزاء برحيل الملك حسين. حافظ الأسد كان يخشى تمكين تطلعات اللاعبين الإقليميين والدوليين للتأثير على مستقبل سوريا لاحقاً في عهد بشار الأسد. فرنسا، كغيرها، وربما أكثر من غيرها كانت متحمسة ومستعدة للتغيير في سوريا.

عند تسلم بشار الأسد السلطة بعد رحيل والده، أصبح هناك أمل في البلد وخارج حدوده. تمثل الأمل داخل البلد بالإصلاح، وفي فرنسا وبقية الدول الغربية بأن سوريا القوية التي بناها بسطوته واحترامه حافظ أسد، لن يتمكن ابنه من المحافظة عليها. فرنسا أرادت تحجيم تأثير سوريا في لبنان. لبنان كان ومازال مصدر توتر كبير بين البلدين. في حين كان التعاون بين دمشق وباريس على الصعيدين الاقتصادي والأمني مستمراً، كان التوتر يتفاقم بين البلدين في لبنان، ويعود الفضل الأكبر في ذلك الى رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري.
رفيق الحرير عمل يداً بيد مع السوريين والفرنسيين، ومفهوم أن الحريري هو من قابله شيراك في العام 1981 في احتفالية المانحين بعد إخفاقه في سباق الرئاسة الفرنسية، وهو من اقترح على شيراك حينها "العناية بالشاب بشار". دور الحريري موزع في مجمل الكتاب، وهو سوف يسعى لتحرير نفسه من العلاقة مع سوريا مستفيداً من علاقته الشخصية مع شيراك. هناك قصة حول زيارة شيراك الى دمشق خلال جنازة حافظ الأسد. فقد قام بزيارة الى السفارة الفرنسية حيث قابل الحريري بشكل سري واستقبله على الدرج مرحباً به كما لو أنه صاحب الدار الحقيقي. هذه الحادثة البسيطة تعبر عن العلاقات بين الرجلين. سياسة شيراك الشرق-أوسطية أصبحت مختطفة من قبل رفيق الحريري، الذي قدم المشورة لشيراك في كل ما يتعلق بالشرق الأوسط، الى خيبة الأمل الكبرى في وزارة الخارجية الفرنسية (Quai d’Orsay)، وأجهزة المخابرات الفرنسية، التي رأت في ذلك صبغ سياسة فرنسا الخارجية في المنطقة بالطابع "الحريري".

أراد شيراك لعب دور المرشد بالنسبة لبشار الذي منح عقود لمستشارين فرنسيين وشركات فرنسية في عرض لإصلاح أجهزة الدولة على المستوى الإداري وفتح الاقتصاد أمام الاستثمارات الخاصة والخارجية. تحدث المؤلفان في الكثير من المناسبات عن رغبة بشار الصريحة لتمييز إدارته عن إدارة والده، إلا أنه واجه مقاومة في وطنه من قبل بعض أجهزة وإدارات الدولة، وكذلك من قبل رفاق الحكم القديمين مثل عبد الحليم خدام الذي غادر سوريا لاحقاً الى منفى "الحريري" الذهبي في فرنسا. رغبة بشار لإصلاح الدولة تضمنت العديد من الخبراء ورجال الأعمال والأكاديميين الفرنسيين، المتنقلين بين فرنسا ودمشق، الذين تمت دعوتهم للتقييم وعرض الشراكات والحلول، بما في ذلك تأسيس مدرسة وطنية للإدارة وفق النموذج الفرنسي، التي تخرج موظفي خدمة مدنية بكفاءة عالية ورسميين مختارين. روى المؤلفان قصة الأكاديمية الفرنسية المسؤولة عن ـتأسيس المدرسة السورية للإدارة، عندما زارت رفيق الحريري في بيروت لتعرض عليه ذات المشروع بتوجيه من شيراك الذي أراد إرضاء صديقه. وأضاف المؤلفان أن الحريري لم يكن راغباً في ذلك. فقد استقبل الأكاديمية في غرفة نومه مرتدياً "بيجاما"، وقال لها أنه راغب أكثر في خلق فرص عمل وليس في الإدارة.

انتعاش هستيري للتعاون في الاستثمارات في مجالات التعليم والثقافة والأعمال في عهد ساركوزي ما بين 2008 و2011، بعد برود شديد ما بين 2005 و 2008 على خلفية اغتيال رفيق الحريري. وضعت سوريا في قفص الاتهام باغتيال الحريري، إلا أن المجتمع الدولي لاحقاً تخلى عن ذلك موجهاً أصابع الإتهام الى حزب الله.
تبني الحريرية في السياسة الخارجية الفرنسية تعني أن فرنسا كانت تنظر الى المنطقة من خلال عدسات الإسلام السني السياسية على اعتبار أن مرجع الحريري هو ملك العربية السعودية. ربما يكون ذلك قد أدى الى تفاهم بحكم الواقع بين فرنسا والولايات المتحدة التي كانت أيضاً قريبة من العربية السعودية عندما تعلق الأمر بتمكين سياساتها في لبنان وسوريا.

إلا أن فريق الحريري كان محبطاً في الفترة ما بين 2000 و 2005 تجاه بشار لأن الأخير منع الحريري، الذي كان رجل أعمال أكثر منه سياسي، من وضع يده على الاقتصاد السوري الواعد، وبشكل خاص قطاع الاتصالات، الذي اعتبره البعث قطاع ذو أهمية استراتيجية ولا يجوز تسليمه للغرباء.
تغيير السلطة
كان الحريري خلف قرار الأمم المتحدة رقم 1559 الذي رعته فرنسا ونسقت من أجله بشكل مكثف مع الولايات المتحدة بهدف المطالبة بسحب كافة القوات الأجنبية من لبنان. ذلك كان في مقدمة السياسة الفرنسية في المنطقة، بعد أن كانت لها في السابق سياسة متمايزة عن سياسة الولايات المتحدة. وهكذا بعد ما اعتبر وكأنه المحاولة الأخيرة للتعاون مع بشار، بدأ القرار بتغيير مباشر للنظام ينضج في أذهان السياسيين الغربيين ما بين 2008 و 2011، حينما بدأ "الربيع العربي" يطرق أبواب سوريا في درعا، وهو ما حرضت عليه قطر ونفذه ساركوزي. وفي مقابلة لاحقة لبشار الأسد مع "الباري ماتش" أكد أن مبادرة ساركوزي لإعادة العلاقات الجيدة مع دمشق أتت بناء على طلب من قطر. من المعقول الاعتقاد بأن الفرنسيين كانوا متفاجئين بما حدث في درعا. كان الأسد يستعد للقيام بزيارة على مستوى عالي الى باريس، بعد ظهوره المدوي خلال زيارته عام 2008 والتي حضر فيها عرض يوم الباستيل. بين عامي 2008 و 2011 قام الأسد على الأقل بثلاث زيارات لباريس، إثنتان منها بصفة رسمية وواحدة بصفة شخصية مع عقيلته. "اتكالية" ساركوزي كانت مفيدة لفرنسا. ما بين عامي 2008 و 2011 كانت نخبة النخبة من الشركات الفرنسية " La crème de la crème " توقع العقود مع الدولة السورية ورجال الأعمال الفرنسون يرسون الأعمال في سوريا. إلا أن الأعمال في سوريا لم تكن سهلة بالنسبة للشركات الأجنبية بسبب معضلة الفساد في الدولة.

على الرغم من الصعود والهبوط، وحتى الانتفاضة، كتب المؤلفان أن التعاون الأمني بين فرنسا وسوريا لم يتوقف، حتى بعد اغتيال رفيق الحريري. فخّم الفرنسيون عقودهم بأنهم سيسلمون طائرتي هليوكبتر الى بشار الأسد للاستخدام الشخصي وذلك في حزيران 2005، أي بعد أربعة أشهر على اغتيال الحريري. شركة "الكاتل" بنت على جبل قاسيون شبكة اتصالات محمية يستخدمها الأعضاء الأربعون في المواقع العليا لحزب البعث الحاكم. وهذا على الرغم من مشاركة فرنسا القوية في العملية القضائية الدولية التي اتهمت سوريا باغتيال الحريري. عملاؤها كانوا قبل غيرهم متواجدون في موقع الانفجار الذي قتل الحريري وأعضاء موكبه. كما أن فرنسا تورطت في انتاج شاهد فقد مصداقيته فيما بعد. بالإضافة الى أن فرنسا استضافت على أراضيها بسرية عالية إعادة تركيب انفجار بيروت من أجل المحكمة الدولية، وقبل يومين من بدء إعادة التركيب لم تسمح سوى للطيران الإسرائيلي بالتحليق فوق الموقع. لقد تم ذلك حتى بدون إعلام أجهزة الأمن المحلية بخصوص تحليق الطيران.

وقعت أحداث درعا. وبدت فرنسا وكأنها تعلمت الدرس وغدت حريصة على عدم معاودة ارتكاب ذات الخطأ بالوقوف في الجانب الخاطئ كما كان الأمر مع الثورة التونسية. بالإضافة الى أن فرنسا كانت حينها تشعر بالقوة والحيوية على إثر المغامرة الليبية.
ربما كان مخطط تغيير النظام في سوريا مجرد فكرة تفتقر الى التخطيط الجاد والتنسيق، تبلورت عبر ارتجالات موجة "الربيع العربي". كان لحرب تموز 2006 في لبنان التي قدمت فيها سوريا دعماً وسلاحاً الى حزب الله لمواجهة العدوان الإسرائيلي تداعياتها الوازنة في قرار تسريع التدخل في سوريا. هذا جعل حزب الله وحلفاءه السوريين والإيرانيين أقوياء وجعل كسر هذا التحالف أمراً ملحاً.
إلا أن الانتفاضة السورية بدأت تتشكف على أرض الواقع بشكل مختلف عن ما وصفته وسائل الاعلام وتصريحات وزارة الخارجية الفرنسية. كتب المؤلفان أن أعلا رقم للمحتجين المدنيين اللاعنفيين وصل الى 400000 من أصل 22 مليون نسمة. عملاء المخابرات الفرنسية الذين تواجدوا على الأرض في درعا وفي أماكن أخرى شهدوا محتجين عنيفين إسلاميين منذ البداية. علمنا، مثلاً، أن مخبرين فرنسيين كانوا في بابا عمر في حمص عندما تم إجلاء الصحفية الفرنسية إيديت بوفير (Edith Bouvier)، ووجودهم كان السبب في رفض إيديت بوفير للإجلاء بواسطة الهلال الأحمر السوري. منذ البداية لم تكن الهتافات "سلمية" أي (نحن نريد الحرية)، بل كانت (نحن نريد إسقاط الأسد). منذ البداية، كان الإسلاميون المنظمون والمدعومون من الخارج، مسلحون على الأرض. منذ البداية، كذبت وسائل الاعلام. السفير الفرنسي في سوريا حينها إيريك شيفاليه (Eric Chevalier)، الذي ذهب الى حماه بمبادرة ذاتية برفقة روبرت فورد (Robert Ford) عندما اندلعت الاحتجاجات هناك، وجه اللوم الى قناة فرانس 24 (France24) لتغطيتها المتحيزة، والتي لم تكن حسب رأيه تقارب الواقع في سوريا. شيفاليه كان يردد بتعنت أن تغيير النظام في سوريا لن يكون سهلاً وأن الأسد لن يسقط.

لا واقعية وسائل اإلاعلام تجاه الحرب في سوريا.
انتقد المؤلفان وسائل الاعلام عندما كتبا، منقول عن وسيلة إعلام دولية جريئة كانت تغطيتها حول تغيير النظام، لم يشأ النظام السوري أن يظهر تراجعاً تجاه الإصلاحات، لأن في ذلك مخاطرة الظهور بمظهر اللين، وبالتالي خسارة الميدان. كما شرحا بأنه لو كانت الاحتجاجات مدفوعة من الداخل فقط، وللمطالبة بالإصلاحات فقط، لكانت انتهات باعتذار بسيط عن إطلاق النار في درعا. ورد هذا ضمن فصل بعنوان " تلميذ الساحر" الذي شرعن التقييم المبكر للأسد حول الاحتجاجات وأنها صنيعة محركين خارجيين لشن حرب على سوريا. مثلاً، واضح أن اخوان المسلمين قادوا أوائل الاحتجاجات ومعروف أيضاً أن اخوان المسلمين لم يكن لديهم موطئ قدم في سوريا، وانهم منظمة خارجية وليست منظمة سورية على مستوى القاعدة. كما كتب المؤلفان أن الإسلاميين المتطرفين ليسوا متأصلين بالنسبة لسوريا، ولم يريدوا تمرداً سلميا سوف يتركهم على جانب الطريق. لقد جهزوا الميدان لتمرد مسلح باكراً جداً. هناك مؤشرات كثيرة في الكتاب الى أن اللاعبين الخارجيين أرادوا عسكرة الأزمة. نائب رئيس الوزراء السابق عبد الله الدردري كشف سراً للمؤلفين بأنه تم اعتراض اتصال هاتفي لسعوديين يقولون "نريد دماءً". كما كان هناك مكالمات من رجل الدين ابن عبدالله الحسني يدعو الى قتل المسيحيين والشيعة والعلويين، باكراً في آب 2011. رجل الدين ذاته تحدث عن الحاجة لاستدعاء مقاتلين أجانب للجهاد في سوريا، وأضاف، وفق النموذج الليبي، سوريا تحتاج الى تحالف بين الغرب والإسلام المسلح (اقتبست حرفياً بواسطة المؤلفين) . كان ذلك في الوقت الذي اعتقد فيه الغرب بأنه قادر على التحكم بالمقاتلين الإسلاميين واستخدامهم للوصول الى غاياته في ليبيا وسوريا وربما في أماكن أخرى. بناء على هذا النموذج التكتيكي، غضت وسائل الاعلام الغربية الطرف عن عسكرة التمرد وطائفية وتطرف شخصياته، وقدمت تمرداً سلمياً مظلوماً من قبل نظلم شيطاني. فقط بعد أكثر من سنة، أي في بداية 2013 اعترفت وسائل الاعلام بأن هناك شيء من التمرد المسلح في سوريا. فقط حينها بدأت بالحديث عن " تمرد بالأصل مسالم"، من جهة أخرى، كتب المؤلفان أن النظام مقابل التوحش، صعد موقفه بين أول آب 2011 والثامن منه، واعتقل أو اغتال العديد من المسلحين المسالمين المعروفين. قدر سوريا كان مختوماً باكراً في الأزمة.

عندما تحول الاحتجاجات الى العسكرة، وتبنت القوى الغربية بما فيها فرنسا مقولة "الأسد يجب أن يرحل"، وجيرت إدارة الأزمة الى قطر. الأمر الذي سيندمون عليه لاحقاً. فتحت الاتصالات مع خصوم النظام العلمانيين لدعوتهم للإنضمام الى المعارضة الخارجية، التي كانت بغالبيتها اسلامية، لغاية وحيدة هي إخفاء الصبغة العسكرية والاسلامية للاحتجاجات، لجعلها تظهر وكأنها داخلية، ولتقديم ورقة التين لتغطية الحرب المندلعة على سوريا من قبل قوى خارجية. إلا أن ورقة التين لن تصمد طويلاً، فالشخصيات العلمانية في المعارضة كانت أقلية. في ظل الدعم القطري، فعل الأخوان المسلمون شروطهم، مستغلين العناصر العلمانية دون أن يمنحوهم أي دعم، رافضين اقتراح تشكيل مجلس داخي للمعارضة، الأمر الذي كان ليضعف تأثير الأخوان المسلمين.
في تشرين الأول 2011، خلال مقابلة وزير خارجية ساركوزي آلان جوبيه (Alain Juppé) مع مجلس المعارضة المنتخب حديثاً، وورقة التين العلمانية قضماني وغليون كأعضاء في هذا المجلس، تحدث عن دعم فرنسا للثورة السلمية. لكن "الثورة" كانت حينها قد تعسكرت وتأسلمت برمتها.
الدفع باتجاه حرب واجتياح بقيادة فرنسا والمملكة المتحدة تحت ذريعة الأسلحة الكيميائية.

الفصل المعنون "الحقد" (La haine) كشف عن محاولات قامت بها فرنسا للتحريض على اجتياح سوريا. كل تلك المحاولة كانت تتمحور حول استخدام الأسلحة الكيميائية وكيف حاولت فرنسا تحميل النظام مسؤوليتها على الرغم من حقيقة أنه لا وجود لإثبات دامغ بأن النظام قد استخدم الأسلحة الكيماوية. علاوة على ذلك أهملت فرنسا بوقاحة استخدام المسلحين للأسلحة الكيماوية في ربيع 2013 من قبل المتمردين في حلب. لقد توصل المؤلفان الى الخلاصة ذاتها التي نشرها سيمور هيرش (Seymour Hersh) في تقريريه التحقيقيين حول ذات الموضوع، ونشرا في "ل ر ب" (LRB: London Review Books) هنا وهناك. لقد فصلا تورط الإليزيه في تزييف تقرير حول هجوم كيماوي يقول فيه مصدر المعلومات، أن تسرب الغاز قد يكون ناتجاً عن قصف النظام لمختبر كيماوي سري يعود للمتمردين، ببساطة تم تنقيحه.
قصة أخرى مثيرة هي "التحقيق" المزعوم الذي قادته صحيفة مقربة من خط الحكومة الفرنسية تجاه سوريا "لوموند" (Le Monde) حول استخدام السلاح الكيماوي. ابتداءً من أيار 2013 بدأت لوموند بنشر سلسلة تقارير حول استخدام النظام للسلاح الكيماوي في الغوطة, لوران فاوس (Laurent Fabius) وزير الخارجية في حكومة هولاند (Hollande)، شكر في مقابلة تلفزيونية مع القناة الثانية في التلفزيون الفرنسي اللوموند على "مساعدتهم". إلا أن المؤلفين أظهرا أن مراسلي لوموند الذين حصلوا على النماذج من سوريا، خدموا "كالبغال" فحملوا النماذج التي قدمها لهم أطباء "الجيش السوري الحر"، التي جمعوها من أكثر من موقع لم يكن باستطاعة مراسلي اللوموند التحقق منها. مصور اللوموند ومراسليها أخذوا النماذج وسلموها لعملاء المخابرات الفرنسية في عمان، حيث كانوا متمركزين بعد إغلاق السفارة في دمشق. بعد ذلك تم تسليم النماذج الى السفارة الفرنسية في عمان التي أرسلتها مباشرة بدورها الى المختبر الوحيد في باريس الذي باستطاعته تحليل نماذج من هذا النوع، وذلك بدون علم الخارجية الفرنسية. كانت مفاجأة لدى الخارجية حينما استلمت رسالة من رئيسة تحرير اللوموند "ناتالي نوجايريدي" (Nathalie Nougayrède) تسأل فيها متى يمكنها استلام نتائج التحاليل. ضمن هذه الظروف، كان على الخارجية أن تنشر النتائج بالتوافق مع تقارير سابقة تم وضعها بناء على نماذج جمعتها المخابرات الفرنسية. نتائج التحقيقات الفرنسية أشارت الى آثار لغاز السارين (sarin) المستعمل بدرجة بسيطة. في ذلك الوقت كتب المؤلفان أن باريس ولندن، خلافاً لكافة الدول الغربية كانتا تدفعان الى حرب تدخل في سوريا. الهجوم الكيماوي التالي في آب 2013 أتى بعد أسابيع قليلة وكان متوقعاً أن تكون درجته أعلى.

"الطرق الجديدة الى دمشق"
ينتهي الكتاب بفصل عنوانه "الطرق الجديدة الى دمشق". يخلص فيه المؤلفان الى أن باريس كانت لا بد تعلم مدى الصعوبات المتعلقة بتغيير النظام في سوريا نتيجة قوته. الحكومة السورية ومنذ التمرد الدموي السابق للاخوان المسلمين في الثمانينات، كانت دائماً مستعدة لهكذا تحدي. لقد تنبأت بإعادة العلاقات بين الدول الغربية والنظام الحالي في دمشق، والحاجة الى التعاون الأمني بين سوريا والغرب لمحاربة التطرف الإسلامي.

كتب المؤلفان أن فرنسا تصرفت بانفعال ولم تتمكن من تقييم حقيقة الاحتجاجات بل أرادت أن تتحول رغبتها في تغيير النظام الى واقع. لم ينظر الجميع الى الأمر بهذا الشكل: فقد اختلف فريق وزارة الخارجية حول موقف فرنسا غير الواقعي الذي اتخذته تجاه سوريا، أرسل ساركوزي مبعوثاً شخصياً ليوصل لمن خالفه الرأي رسالة مفردة ليصار الى سماعها واتباعها مفادها : "كان الأسد سيسقط" . وحيثما نشأت آراء مخالفة، تم إسكاتها.
ما رشح من الكتاب هو العلاقة بين سوريا وفرنسا التي أصبحت واضحة، وأضحت خاضعة لرغبات الخليج والولايات المتحدة. شيراك رأى فرنسا من خلال عيني صديقه الحريري والعربية السعودية. بينما انتقل ساركوزي من سياسة شيراك فقط لاتباع سياسة قطر. وفي كلتا الحالتين، فإن الولايات المتحدة بسياساتها في المنطقة المنحازة منذ البداية للخليج، قد ربحت بحثّها على الخيار الصعب في سوريا، وكذلك في كلتا الحالتين، فإن الدبلوماسية الفرنسية المترددة، لم تصبح خارج اللعبة فقط، إنما أصبحت تعمل ضد أهدافها الأساسية عندما ربحت تفويضاً في هذه الدول بعد الحرب العالمية الأولى، وهو حماية الأقليات المسيحية.

خلافاً للظاهر، فإن فرنسا لم تكن تقود خلال الأزمة السورية، بل لم تكن أكثر من تابعة عمياء، وضد فهمها وخبرتها ورغبتها، كانت السياسات توضع في الولايات المتحدة والخليج، وفرنسا تخدم كخط أمامي لهذه السياسات. أفضل برهان على ذلك هو أن ينظر المراقب الى أساس واتجاه ومركز قرار سياسة فرنسا المتعلقة بسوريا، وأن لا يجد شيئاً.


د.علي المير: دمشق الإخبارية

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...