نجاد النووي مأزق بوش الأكبر

02-09-2006

نجاد النووي مأزق بوش الأكبر

المعادلة الاستراتيجية الجديدة لم تعد سراً: المشروع الأميركي لإعادة هيكلة الشرق الأوسط حرّر ايران الخمينية من خصمين شرسين هما نظام «طالبان» في افغانستان ونظام صدام حسين في العراق. وصعود القوى المناهضة لهذا المشروع في المنطقة حوّل بدوره الديمقراطية الأميركية الموعودة الى مهزلة سخيفة, بصورة خاصة في العالم العربي الذي لم «ينعم» من مآثر هذه الديمقراطية سوى بدمار لبنان, واستمرار الاحتلال في فلسطين, وإلحاق العراق بإيران بعد تفتيت مقوماته البنيوية واغراقه في الفتنة الداخلية.
اليوم تقف الولايات المتحدة في التعامل مع الملف النووي الايراني امام خيارين: الأول مواجهة مع «المهدوية النووية» تبدو شبه مستحيلة, والثاني في تكريس طهران لاعباً اساسياً في المنطقة ورفع سقف طموحاتها الاقليمية والدولية في ما يشبه الانقلاب الاستراتيجي على المعادلة التي حكمت المنطقة طوال العقود الستة الاخيرة, كيف؟

سنة مضت على انتخاب محمود احمدي نجاد تحت عنوان برنامج نووي طموح ورفع سقف المواجهة مع الولايات المتحدة واسرائيل. والخطاب التعبوي الذي حمله الى سدة الرئاسة لا يزال على حاله, والرئيس الايراني لا يخفي التزامه العملي بنظام ولاية الفقيه وشعارات الأيام الأولى من قيام «الجمهورية الاسلامية». وبعد مرور عام اطلق الرئيس الايراني موقعه الشخصي على شبكة الانترنت, وزينه بدعاء الفرج للإمام المهدي المنتظر وهو «اللهم عجّل لوليك الفرج والعافية والنصر واجعلنا من اعوانه وأنصاره والمستشهدين بين يديه», وهو الدعاء نفسه الذي ألقاه في الأمم المتحدة العام الفائت, وأثار جدالاً داخل إيران لم يهدأ بعد.
وقليلون ربما يذكرون ان احمدي نجاد زار اثر عودته من نيويورك منزل آية الله جوادي آملي الذي كان الإمام الخميني قد حمّله رسالة الى غورباتشوف €آخر رئيس للاتحاد السوفياتي السابق€ حذّر فيها من انهيار الاتحاد وتكسّر عظام الشيوعية عارضاً عليه الاسلام. وقد أخبر نجاد مضيفه جوادي آملي قصة «غريبة» قال انه شاهد هالة نور تحيط به أثناء ألقائه خطابه في نيويورك, وأن الحاضرين من رؤساء ومندوبين كانوا مبهوتين وهم يستمعون الى ديباجته عن المهدي المنتظر من دون ان يرف لهم جفن بسبب الهالة النورانية. هذه القصة أثارت ضد نجاد حملة داخلية لم تصل اصداؤها الى الخارج, وأبرز من انتقدوه محمد علي ابطحي نائب الرئيس الايراني السابق محمد خاتمي, الذي تناول اخيراً في موقعه على الانترنت, وبشيء من التعريض, اطلاق احمدي نجاد موقعه الالكتروني على الشبكة العنكبوتية, متوقفاً عند اعتقال السلطات والده وشقيقيه لنحو شهرين, بتهمة الترويج لفكرة المهدوية.
والمفارقة التي لم تستوقف احداً ربما هي ان احمدي نجاد الذي يقرن الهالة النورانية بالطموحات النووية يشعر­ تماماً كالرئيس الأميركي جورج بوش­ ولو من موقع مختلف حتى التناقض بأن من أهم مقومات التحضير لعصر الظهور هو إعداد القوة. وهو هنا يتلاقى مع الرئيس الأميركي­ على غير موعد­ في تكريس نفسه أداة لهذا الاعداد, وكأنه مكلف بمهمة تاريخية بإلهام ديني. ولعل الفارق الأساسي بين نجاد وبوش هو ان الأول زاد رصيده الشعبي بعد سنة على انتخابه, فيما خسر الثاني معظم رصيده بعد عامين على تجديد ولايته, بسبب الحماقات السياسية التي ارتكبها في «الشرق الأوسط الكبير». وفي السنة الأولى من الحكم ظل نجاد قريباً من الجمهور الذي انتخبه, وقد تحوّل لباسه التقليدي الى رمز تعبوي للشبان الايرانيين الذين يستمعون منه الى خطابات لم يألفوها في عهد الاصلاحيين, وهي خطابات تتكرر بوتيرة عالية وتستقطب قادة الحرس الثوري وقيادات قوات التعبئة وزعماء المؤسسة الدينية بطبيعة الحال.

يوم الجمعة من الأسبوع الفائت €31 آب€ اغسطس€ انتهت مهلة الانذار الذي وجهه مجلس الأمن الدولي بالاجماع الى طهران, لوقف تخصيب الاورانيوم والتخلي عن المشروع النووي بموجب القرار 1696 الصادر في 31 تموز €يوليو€ الفائت. وقبل ساعات من انتهاء هذه المهلة, اعلن احمدي نجاد ان الشعب الايراني «لن يرضخ للتهديد والغطرسة ولن يتراجع قيد أنملة امام الترهيب». ومن جهته استبق الرئيس الأميركي انتهاء المهلة ليدعو ايران, مرة اخرى, الى احترام الشرعية الدولية مشدداً على أن سلوكها «المتحدي» ستكون له «عواقب». واضاف امام مؤتمر لإحدى روابط المحاربين القدامى «حان الوقت كي تختار ايران. حددنا خيارنا. سنواصل العمل عن قرب مع حلفائنا للتوصل الى حل دبلوماسي لكن يجب ان تكون هناك عواقب لتحدي ايران ويجب ألا نسمح لايران بتطوير سلاح نووي».
وكانت واشنطن قالت ان المجلس قد يجتمع لمناقشة فرض عقوبات على ايران الاسبوع المقبل على اقرب تقدير بينما قال وزير الخارجية الفرنسي فيليب دوست بلازي انه يأسف لرد ايران غير المرضي».
وليس صعباً من خلال قراءة هادئة في الخطابين الاستدلال على حجم الهوة التي باتت تفصل بين طهران وواشنطن وبين ايران والغرب بصورة عامة, في ما يبدو وكأنه مواجهة طويلة ومعقدة, يمكن ان تؤدي الى تفكيك التحالف القائم بين الولايات المتحدة وروسيا والصين في التعامل مع الملف النووي الايراني. وهناك انطباع في الاوساط الاميركية والغربية بصورة عامة بأن الموقف الايراني يزداد تصلباً, مستفيداً من التحديات المتزايدة التي تواجه المشروع الأميركي في افغانستان, ومن الانهيارات التي تتوالى في العراق, اضافة الى الانتصارات التي حققها «حزب الله» في لبنان. أما نقطة الضعف الاميركية الاخرى فتتمثل في عدم وجود اي اندفاع اوروبي لخوض مغامرة عسكرية في ايران فضلاً عن غياب اي قرار جدي في واشنطن باللجوء الى الخيار العسكري في المدى المنظور. في الوقت نفسه يبدو واضحاً ان احمدي نجاد مرتاح الى وضعه ومصرّ على حماية البرنامج النووي الايراني بكل الوسائل المتاحة, وهو يعرض عضلات بلاده العسكرية في كل مناسبة ويمنع مفتشي الأمم المتحدة من معاينة منشأة ناتانز النووية, ويدشن معملاً جديداً لانتاج المياه الثقيلة في اطار مشروع التخصيب ويهدد بالانسحاب من معاهدة الحد من انتشار الاسلحة النووية.
المناخ الاستراتيجي والحال هذه يبدو مواتياً لايران اكثر مما هو مواتٍ للولايات المتحدة وحلفائها, على الأقل في المستقبل المنظور. وشبكة التحالفات القوية التي نسجتها ايران في العراق, مع القوى الشيعية الرئيسية, تضمن لها دوراً رادعاً ضد الاحتلال وقواته بقدر ما تضمن شراكة اساسية في تقرير مصير العراق. واذا ما اضيفت الى هذه المعطيات التغييرات الكبيرة التي تشهدها اسعار النفط, فإن النظام الايراني يبدو متحكماً بمجموعة حلول اقليمية لا يمكن تجاهلها, تهيئه للعب دور اساسي في اعادة تشكيل الجغرافيا السياسية وتوازن القوى.
في هذا السياق يقول فيليب غوردون الباحث في معهد بروكينغز «ان ايران عقب الغزو الاميركي للعراق, حين بدت واشنطن كأنها حققت نصرا استراتيجيا واضحاً, شعرت بالخطر من ان تصير هي الدولة التالية المعرضة لضربة عسكرية, وردت آنذاك بالموافقة على تعليق برنامجها لتخصيب الاورانيوم», ويضيف: «الآن هناك واقع استراتيجي مختلف, ونحن الآن في وضع اضعف, وبينما كان الحديث عن غزو اميركي لايران قبل ثلاث سنوات ربما واقعيا بعض الشيء, الا انه اليوم يبدو منافياً للعقل».
هذا «الوضع الاستراتيجي المختلف» يمكن ان يكتسب مناعة اضافية من خلال الموقفين الفرنسي والالماني اللذين يدعوان الى الاكتفاء بفرض «عقوبات معينة» على ايران من دون الذهاب الى الخيارات العسكرية. لكن الصين وروسيا تمثلان مشكلة أصعب لأنهما لا تميلان الى فرض اي عقوبات, والظن الراجح ان الولايات المتحدة سوف تجد نفسها مضطرة لمراجعة حساباتها اذا هي ذهبت منفردة الى العقوبات أو الى الحرب. والسبب في ذلك أن برنامج العقوبات الأميركي الذي يطبق حالياً ضد سوريا يفتقر الى الفعالية, وأن الضربة العسكرية اذا تقررت تعتبر انتحاراً حقيقياً لكل الرهانات الاميركية في المنطقة. وهامش الضغوط المتبقية ينحصر في القصف الجوي للمنشآت والصواريخ والدفاعات الجوية الايرانية, وهو قصف يمكن ان ترد عليه ايران بقصف مماثل يستهدف القوات الاميركية في العراق وفي افغانستان, اذا قررت القيادة الايرانية الذهاب الى «حرب استنزاف مفتوحة» على طريقة «حزب الله» في الرد على اسرائيل.

لكن ما هي «الحلول القصوى» التي يمكن ان يلجأ اليها الرئيس بوش قبل انتهاء ولايته في العام 2008؟ €الجواب الأول هو أنه عندما وافقت اميركا على منح ايران المزيد من الوقت لانهاء ازمتها النووية, وأرجأت الى حين احالة الملف على مجلس الأمن, ظل الاصبع على الزناد, واليوم لم يتبدل شيء في المشهد, اما التقارير التي تحدثت عن «صفقة سياسية» لم يكشف النقاب عن تفاصيلها بعد, فانها تعكس قراراً اميركيا سابقاً بالتريث, في انتظار قرار عن مجلس الأمن يصدر باجماع الدول الكبرى, وهذا ما حصل فعلاً. وليس سراً ان واشنطن اقتنعت باعطاء المفاوضات فرصة اخرى, لأن كل المعلومات التي جمعتها تتقاطع على ان ايران تحتاج الى فترة تراوح بين سنتين وخمس سنوات من اجل انتاج قنبلة نووية. ثم ان واشنطن لم تكن مستعجلة على «الضربة» بسبب ورطتها في العراق.
وقد شكل التشدد الايراني الذي تعكسه تصريحات ومواقف نجاد عاملاً مساعداً في اجماع مجلس الأمن على الانذار الأخير, لكن ايران لا تزال تراهن على موقف كل من الصين وروسيا في التصدي للعقوبات المحتملة, على خلفية ان العلاقات التسليحية بين ايران وروسيا ترقى الى بضع عشرة مليارات دولار, وان حجم التبادل التجاري بين ايران والصين في حدود 8 مليارات دولار, وهو رقم مرشح للزيادة مع الارتفاع الكبير في اسعار النفط.
وفي اقتناع الخبراء العسكريين الغربيين, أوروبيين واميركيين, ان ايران يمكن ان تفجر حرباً عالمية ثالثة, ولو أن هذا الاحتمال لا يزال ضعيفاً. والتقارير الاخيرة تتقاطع على ان ايران الخمينية ­ النجادية مهتمة فعلاً بالحصول على قنبلة نووية, وهذا يعني ان المواجهة العسكرية معها قادمة ولو تأخرت لاعتبارات تتصل بالزمن الاستراتيجي الأوروبي من جهة, والأمن الاسرائيلي من جهة اخرى. ذلك ان أوروبا تعتبر نفسها معنية امنياً بالقنبلة الايرانية اكثر مما هي معنية بالقنبلة الكورية, ثم ان حصول ايران على «القنبلة» يشكل خطراً حقيقياً على مستوى تسريع انتشار الاسلحة النووية في بلدان اسلامية اخرى, مما يقلب كثيراً من موازين القوى الدولية.
وفي اي حال لقد استبقت طهران موعد انتهاء المهلة الدولية لوقف تخصيب الاورانيوم, بالاعلان عن قرب بناء مفاعل نووي جديد وبتكريم دفعة من علمائها الذين يعملون في الحقل النووي. وبالمناسبة اكد رئيس منظمة الطاقة الذرية رضا اغازاه ان ايران بعد نجاحها في تخصيب الاورانيوم بدرجة اعلى من 5.3 بالمئة وانتاج الماء الثقيل اصبحت احد البلدان التسعة في العالم التي تملك تقنية نووية متطورة, واسرائيل هي احدى هذه الدول €الى جانب الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا وفرنسا والصين والهند وباكستان وكوريا الشمالية€. وليس سراً ان المفاعل النووي الاسرائيلي في ديمونا بدأ نشاطه الفعلي في العام 1966, وان اسرائيل كانت تملك قنبلتين نوويتين عندما خاضت حرب 1967, وقد استعانت يومذاك بالولايات المتحدة من اجل تزويدها بطائرات قادرة على حمل سلاحها النووي. وخلال حرب 1973 اتخذت غولدا مائير وموشي دايان قراراً مبدئياً باللجوء الى السلاح النووي في ضرب مصر وسوريا, بواسطة صواريخ تحمل رؤوساً تدميرية, لكن الحرب انتهت من دون تمكين اسرائيل من استعمال مثل هذه الصواريخ, وذكر في هذا المجال ان تل ابيب تعمدت تسريب معلومات حول قدراتها النووية على سبيل الردع, وأن القاهرة ودمشق اخذتا بنصائح الاصدقاء السوفيات لتفويت الفرصة على الدولة العبرية.
هل يشهد الشرق الأوسط هذه المرة حرباً نووية طاحنة بين ايران واسرائيل؟
حتى الآن لم تكشف تل ابيب عن حجم ترسانتها النووية, والظن الراجح ان واشنطن تمتنع عن ممارسة اي ضغط لحمل اسرائيل على توقيع معاهدة حظر الانتشار النووي, وفي المقابل تلتزم اسرائيل باضفاء الغموض الدائم حول طبيعة اسلحتها التدميرية. وهناك اقتناع يتلاقى عليه معظم المحللين الاستراتيجيين مفاده ان زمن اوسلو قد انتهى فعلاً, وان مرحلة جديدة من المواجهة ترتسم في الافق الاقليمي بزعامة ايران التي باتت تعتبر «القطب الثاني» النووي في المنطقة, ولو انها تحتاج الى بعض الوقت لانتاج قنبلتها الاولى. والخطر الراهن ينحصر في استعمال الصواريخ البالستية البعيدة المدى, وهي صواريخ تحمل رؤوساً نووية في اسرائيل ولا تحمل مثل هذه الرؤوس في ايران النجادية. وحتى الآن اعدت اسرائيل للمواجهة نوعين من الاسلحة, صواريخ مضادة للصواريخ من نوع «باتريوت» يمكن ان تستوعب الموجة الاولى من الصواريخ الايرانية, وصواريخ تحمل رؤوساً نووية يمكن ان تطلق من الغواصات في رد على اي هجوم ايراني, وقد زود الجيش الاسرائيلي بهذا النوع من الغواصات بصفقة عقدت مع ألمانيا. ويقول الخبراء العسكريون الاسرائيليون ان اللجوء الى الخيار الصاروخي النووي كان حتى الساعة آخر الخيارات, وهو لن يستعمل إلا في حال دخول جيوش معادية الاراضي الاسرائيلية, لكن تزود ايران بالصواريخ البعيدة المدى قد يحمل اسرائيل على اعادة النظر بهذه القاعدة واستعمال صواريخها النووية لردع الهجوم الصاروخي الايراني تطبيقاً لنظرية «الحرب الوقائية».

جاد بعلبكي

المصدر: الكفاح العربي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...