الجمهورية التركية: من الحداثة الكمالية إلى الأصالة المشرقية

17-05-2009

الجمهورية التركية: من الحداثة الكمالية إلى الأصالة المشرقية

الجمل: وصل يوم أمس السبت إلى العاصمة السورية دمشق الرئيس التركي عبد الله غول في زيارة وجدت الكثير من الحفاوة والترحيب. هذا وبرغم أهمية هذه الزيارة لجهة تداعياتها على ملف علاقات خط دمشق – أنقرة فإن هذه الزيارة ستكتسب أهمية تاريخية كبيرة لأنها ترتبط بالعديد من التحولات الجارية في مجرى السياسة الداخلية والخارجية التركية.
* اللحظة الدمشقية: ماذا تقول المعلومات؟
تطرقت جميع التقارير والتحليلات السياسية التي قدمتها الصحف والإذاعات والمحطات التلفزيونية إلى زيارة الرئيس التركي عبد الله غول إلى العاصمة السورية دمشق وعلى أساس اعتبارات علاقة الزيارة بملف المفاوضات السورية – الإسرائيلية وملف العلاقات الثنائية السورية – التركية ولكننا في موقع الجمل قررنا أن نبحث عن هذه الزيارة عبر ملفات السياسة الخارجية التركية وعلاقاتها بالبيئة الجيو-سياسية التي توجد ضمنها تركيا.
جاء الرئيس غول إلى دمشق ولكن لحظة تواجده فيها تزامن مع التطورات والوقائع الآتية:
• تقدمت المفوضية الأوروبية بشرط تعجيزي جديد لتركيا يتضمن مطالبتها بالالتزام بالحد من دور المؤسسة العسكرية في السياسة وأشار الطلب الأوروبي إلى ضرورة أن يتم إلغاء مشاركة الجيش التركي في صنع القرار السياسي بشكل نهائي بحيث تصبح المؤسسة العسكرية خاضعة للسيطرة المدنية بشكل تام وفقاً لمعايير الاتحاد الأوروبي وإلا فإن تركيا سوف لن تحظ بالقبول في عضوية الاتحاد.
• برزت المعالم الرئيسية لحملة المرشحين الأوروبيين الذين سيخوضون انتخابات البرلمان الأوروبي القادمة وتشير التقارير إلى أن ملف عضوية تركيا أصبح من بين الملفات الهامة المستخدمة في عملية التسويق السياسي الانتخابي وحالياً تطرح الحملات الانتخابية الأوروبية المزيد من العداء لتركيا وبكلمات أخرى يقدم المرشحون في انتخابات البرلمان الأوروبي الوعود القاطعة للناخبين بالالتزام بعدم قبول تركيا في عضوية الاتحاد.
• نشر الموقع الالكتروني الخاص بمؤسسة جيمس تاون الاستخبارية الأمريكية خبراً أشار إلى أن الرئيس الفرنسي ساركوزي عقد مؤخراً اجتماعاً ثنائياً مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أكدا فيه على عدم جدوى مفاوضات انضمام تركيا لعضوية الاتحاد الأوروبي وبالتالي فمن الأفضل إنهاء المفاوضات وعدم تقديم الوعود بضمها طالما أن القرار النهائي سيتضمن رفض عضويتها.
وعلى هذه الخلفية فإن زيارة الرئيس التركي لدمشق ستمثل اللحظة الدمشقية التي سيشير إليها تاريخ السياسة الخارجية التركية بأنها لحظة الانقلاب الكبير في توجهات تركيا الاستراتيجية وتأكيداً لذلك نلاحظ أن الكثير من المقالات والتحليلات بدأت تظهر في الصحف التركية والتي سعت إلى محاولة حسم انتماء تركيا من خلال المفاضلة بين خيار الهوية التركية الشرق أوسطية وخيار الهوية التركية القوقازية.
* من تركيا الكمالية إلى تركيا الشرق أوسطية:
تقول التحليلات الغربية والأمريكية والإسرائيلية أن صعود حزب العدالة والتنمية التركي إلى السلطة هو السبب المباشر في توتير علاقاتها مع أمريكا وإسرائيل والغرب بما سيترتب عليه تقويض وإفشال مساعي تركيا للانضمام إلى عضوية الاتحاد الأوروبي، ولكن ما يتوجب الإشارة إليه أن هذه التحليلات الغربية والأمريكية والإسرائيلية سعت منذ البداية إلى مقاربة صعود حزب العدالة والتنمية وفقاً لمعطيات نظرية المؤامرة وبكلمات أخرى لم يصعد الحزب من الفراغ فقد حصل على ثقة الناخبين الأتراك وتأييد الرأي العام التركي في مواجهة القوى السياسية التركية الحليفة لأمريكا والغرب وإسرائيل والتي يقودها حزب الشعب الجمهوري وحلفاءه واللذان برغم الدعم الغربي خسرا ثقة الناخبين الأتراك وكان طبيعياً أن يخسروا نتائج الانتخابات التركية البرلمانية والمحلية.
صعد حزب العدالة والتنمية الإسلامي إلى السلطة بسبب عزوف الرأي العام التركي عن تأييد حزب الشعب الجمهوري وهذا العزوف يعود إلى تداعيات السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط والانتهاكات الإسرائيلية العدوانية المستمرة والتأييد الأوروبي المستمر لتوجهات واشنطن – تل أبيب إزاء المنطقة ويمكن الإشارة إلى المفاعيل التي حرضت الرأي العام التركي لمساندة حزب العدالة والتنمية على النحو الآتي:
• غضب الرأي العام التركي كثيراً بسبب السياسة الخارجية الأمريكية إزاء العراق وقبرص والأزمة الفلسطينية.
• غضب الرأي العام التركي كثيراً بسبب التوجهات العدوانية الإسرائيلية إزاء بلدان المنطقة.
• غضب الرأي العام التركي كثيراً بسبب مماطلة الاتحاد الأوروبي إزاء ملف انضمام تركيا إلى عضويته.
• غضب الرأي العام التركي كثيراً بسبب ضغوط الأزمة الاقتصادية التركية التي ظلت مستمرة طوال عامي 2000 و2001 دون أن تتحرك الأموال الأوروبية والأمريكية لدعم تركيا التي ظلت على مدى أكثر من نصف قرن حليفاً لأمريكا والغرب.
لذلك، فقد شكلت معطيات الغضب التركي المفاعيل الحقيقية التي حركت الشعور في أوساط الرأي العام التركي باتجاه إدراك مدى أهمية إنهاء اغتراب تركيا عن بيئتها الإقليمية الشرق أوسطية بما يؤدي إلى إعادة إدماجها ضمنها. وهو ما كان يطالب به حزب العدالة والتنمية وبالتالي لا يمكن القول أن الحزب هو المسؤول عن تدهور العلاقات مع الغرب وإسرائيل طالما أن الأخيرين هم المسؤولون عن إحراق رهاناتهم أمام الرأي العام التركي.
* رهانات ما بعد اللحظة الدمشقية: أنقرة وإشكالية إعادة التوجيه الاستراتيجي:
ظلت تركيا تمثل شريكاً أمنياً – عسكرياً فائق الأهمية لأمريكا وإسرائيل والغرب ولكن هؤلاء الشركاء لم يهتموا كثيراً لتفضيل الشراكة مع تركيا بحيث تتضمن السياسة والاقتصاد. وبكلمات أخرى حصل الشركاء من تركيا على المزيد من التفضيل الأمني – العسكري على مدى الستين عاماً الماضية ولكنهم بالمقابل لم يقدموا لتركيا المزايا الاقتصادية والمزايا السياسية.
وعلى خلافية فراغ المزايا ذاك بدأت الساحة التركية تشهد التحولات الآتية:
• تحول رئيس في شكل القوى السياسية المسيطرة على أنقرة أخذ شكل هبوط في وزن حلفاء الغرب وصعود وزن الشرق أوسطيين.
• تحول رئيس في روابط السياسة الخارجية التركية بحيث من جهة تدهورت علاقات تركيا مع حلفائها الرئيسيين أمريكا وإسرائيل وغرب أوروبا، ومن الجهة الأخرى ازدهرت علاقات تركيا مع جيرانها الشرق أوسطيين: سوريا وأرمينيا وأذربيجان والعراق وإيران.
• تحول سلبي في توجهات دول الاتحاد الأوروبي إزاء ضم تركيا للاتحاد بما أدى إلى تحول سلبي في أوساط الرأي العام التركي إزاء جدوى الانضمام للاتحاد الأوروبي والتحالف مع أمريكا وإسرائيل وغرب أوروبا بما أدى إلى تزايد الشعور التركي العام بضرورة السعي لإدماج تركيا ضمن بيئتها الإقليمية الشرق أوسطية.
شكلت هذه التحولات الثلاثة الوقود المحفز الذي بدأ يدفع القاطرة التركية باتجاه بدء رحلتها الجديدة من الكمالية الأوروبية إلى الأصالة الشرق أوسطية ولو نجحت رحلة هذه القاطرة فإنه سيترتب عليها انقلاب جيو-سياسي كبير في خارطة توازن القوى الإقليمية والدولية.
برغم ذلك، ما تزال الولايات المتحدة وإسرائيل تحاولان التشبث بقوة لمنع القاطرة التركية من إكمال رحلتها وتقول آخر المعلومات أن زيارة الرئيس الأمريكي الأخيرة لتركيا هدفت إلى بدء المساعي لإعادة الحيوية لتفاهمات خط واشنطن – أنقرة بما يتضمن عرضاً أمريكياً لتركيا بأن تقوم بدور الوكيل الأمريكي في المنطقة والذي سيشرف مستقبلاً على إدارة وقائع خارطة علاقات التعاون والصراع الخاص بالمنطقة إضافة إلى القيام بدور الشرطي الإقليمي المسؤول عن حماية المصالح الأمريكية الشرق أوسطية ولكن المشكلة الكبيرة تتمثل في وجود المشروع الإسرائيلي الذي يتعاكس مع توجهات تركيا إضافة إلى رفض الأوروبيين لعضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي.

 

الجمل: قسم الدراسات والترجمة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...