غازي أبو عقل : نقد "النقد الذاتي بعد الهزيمة" (3-4)

27-06-2007

غازي أبو عقل : نقد "النقد الذاتي بعد الهزيمة" (3-4)

الجمل ـ غازي أبو عقل :

 نظرية شردنا بعرضنا :
استعان مؤلف النقد الذاتي بدراسة صدرت في 1968 عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية حول النازحين وأسباب نزوحهم، عالجت تأثير القيم القبلية على سلوك الإنسان العربي في مواجهة الحرب والخطر جاء فيها: (لقد كان للإرتباطات العشائرية والقبلية والعائلية المذكورة وقيمها التي لا تزال تسيطر على عقلية العربي وتتحكم بأنماط سلوكه، تأثيراتها السلبية الخطيرة أثناء الحرب وبعدها على نفسية الإنسان العربي العادي وعلى نزوحه من الأراضي المحتلة وعلى ردود فعله المشتَتَّة في وجه الغزو الصهيوني... إن عدداً كبيراً من النازحين تركوا خوفاً على بناتهم ونسائهم وأطفالهم وشبابهم وليس خوفاً على أنفسهم. الواقع أن مفهوم العرض عند العرب لعب دوراً هاماً في عملية النـزوح. ويقول نازح قابلناه في مخيم زيزياء معبراً عن هذا الدور بالشكل التالي: شردنا بعرضنا... إننا نقرّ واقعاً مؤسفاً فقط يتلخص في أن مستوى النضج الاجتماعي والوطني عند الإنسان العربي، حتى في البلدان العربية الأكثر تقدماً، لم يبلغ بعد الحد الذي يجعله يتخطى مستوى الولاءات العائلية والعشائرية وقيمها التقليدية، والذي يجعله يدرك أن الحروب كثيراً ما تؤدي إلى الاحتلال والاعتداء على الأعراض ووجود الجيوش الدخيلة على أرض الوطن، بدون أن ينتج عن ذلك بالضرورة شرود المواطنين بأعراضهم ونزوحهم وتركهم الارض خالية من السكان تماماً كما يريدها العدو) - النقد الذاتي ص 34 وما بعدها-.
غرابة هذا المنطق واضحة، وبعده عن الواقع أكثر بكثير من بعد مقاهي بيروت (في حزيران الذي أصبح بعيداً) عن المدن والقرى التي اجتاحها الغزاة الذين زرعهم (الآخر) في أرضنا لتنويرنا وتطويرنا وإنقاذنا من تخلفنا. (الآخر هي الكلمة التي أحلها مثقفونا المعاصرون في محل كلمة المستعمر وهي لم تكن معروفة في حزيران المعروف). ونستميح أصحاب نظرية شردنا بعرضنا عذراً لتوجيه سؤال بسيط إليهم: ألم يشاهدوا – ولو عَرَضاً – أي فيلم تسجيلي عن الحروب التي دارت على كوكبنا في القرن العشرين حصراً؟ ألم يقرؤوا أي كتاب أو مجلة مصورة عن حروب هذا القرن؟ يبدو أنهم لم يفعلوا لأن (المهتمين بالبحوث التجريبية العلمية المعتمدة على مناهج بحوث الميدان والمسح الاجتماعي) – كما جاء في البحث الذي نقل عنه النقد الذاتي نظرية شردنا بعرضنا، لا ينبغي لهم النزول إلى سوية هذه "الوثائق الوهمية". غير أن المتفرغ لصغائر الأمور مثلي شاهد مجموعة كبيرة من الأفلام التوثيقية عن مآسي حروب هذا القرن وهي تُعلِّم من لا يريد أن يتعلّم أن النزوح عن ميادين القتال والشرود بالعرض وبأشياء أخرى، ليس إرثاً تراثياً عربياً – حتى لا نقول إسلامياً – فلقد نزح الفرنسيون العلمانيون والتنويريون بالملايين عن مدنهم وقراهم قبل وصول جيوش النازيين إليها. وكان رئيس وزرائهم من المبادرين إذ حمل معه عشيقته في سيارته محاولاً عبور الحدود إلى اسبانيا ولكنه اعتقل على الطريق. أليست عشيقته عرضه؟ ولا يعترض معترض بأنه ترك زوجته للألمان لأنه كان عازباً على ما سمعت . (وإنصافاً للواقع حمل معه صندوق المصاريف السرية أيضاً بعد أن أعطى مبلغاً منه إلى صديقه الحميم الجنرال دوغول في بوردو قبل أن يصطحبه الجنرال سبيرز البريطاني اليهودي إلى لندن لقيادة المقاومة الفرنسية الحرة. نسيت أن أذكر أن اسم رئيس الوزراء هو: بول رينو). لقد شرد البولونيون والسلوفاك والروس بأعراضهم على دروب أوروبا الشرقية. وعبر الموسرون من غرب اوروبا وشرقها المحيط إلى الولايات المتحدة وكندا وأمريكا الجنوبية، ومعهم الموسرات من بنات عائلات  أوروبا الثرية – والأقل ثراء – منذ أن لاحت نذُر الحرب. ومنهم الكاتب المتنور التقدمي أندريه مالرو، الذي شرد هو الآخر لا بعرضه – لأن عرضه كان معه في لندن التي شرد إليها من فرانسا مبكراً – بل على ثروة أهله أصحاب معامل النسيج في فرانسا.
كثيرات من سيدات المجتمع ونساء الطبقات الأخرى وممثلات المسرح والسينما والروائيات وغيرهن، ممن رباهن المجتمع المادي العلماني غير المتدين، شردن بأعراضهن قبل الحرب وأثناءها. إلى أن جاء دور الألمان أبناء فلسفة كانط وهيغل وماركس، وعندما بدأ الروس باحتلال الرايش الثالث، تسبقهم كما سبقت غيرهم قصص الاغتصاب. فكيف يفر الرجال والنساء من العقلانيين والعقلانيات والعلمانيين والعلمانيات ومن المنتمين والمنتميات إلى المؤسسات والأحزاب التي تشد الروابط الاجتماعية في اوروبا – هذه المؤسسات التي افتقدها عرب فلسطين وغيرهم منذ 1948 كما جاء في النقد الذاتي – كيف فرَّ هؤلاء جميعاً دون الانتباه إلى أن الشرود بالعرض من ساحات المعارك، وقف على العرب المتخلفين القابعين في ماضيهم الظلامي الذي بلغ طوله أربعة عشر قرناً أو تزيد قليلاً...
أريد أن أذكّر أصحاب نظرية الشرود بالعرض وترك الأرض خالية من السكان كما يريدها العدو بتناسيهم بدهية بسيطة، وهي ان الجيوش المتحاربة في أوروبا أيام النازية لم تكن مهتمة بإفراغ الأرض من سكانها لأن أهدافها الاستراتيجية كانت مختلفة. ومع ذلك شرد السكان. في حين كانت قوات المشروع الصهيوني المسلحة لا تهدف إلاَّ إلى إخلاء الأرض وإفراغها من سكانها لأن ذلك كان أول أهدافها الاستراتيجية . فكيف يسمح المنظرون اللاواقعيون المتمَتْرسون في مقاهي بيروت وغيرها من العواصم، كيف سمحوا لأنفسهم بلوم الشعب على الشرود بعرضه؟ في حين تستسلم أكثرية المنظّرين الساحقة قبل أن تلوح بوادر الخطر في أي مكان. ويسارع أفرادها ليشاركوا في مراكز البحوث العلمية الموضوعية حول المجتمع العربي، وفي اللجان التي ترتب شؤون هذا المجتمع تمهيداً لإدخاله إلى المستقبل المشرق  الذي يعبر فيه عن رأيه بحرية تجعله يتخلص من براغيث تاريخه المتخلف.

من يهتم بالتفاصيل ؟
يبدو كتاب النقد الذاتي بعد الهزيمة، لمن يقرؤه قراءة معاصرة، كأنه مرافعة (وكيل نيابة) ضد ملايين من المتهمين، أي هذا الحشد الداشر بين المحيط والخليج، الذي اقتصر دوره على القيام بمهمة شاهد الزور، نتيجة لوجوده في ميدان الهزيمة، كي لا يُقال الجريمة، رغم أنفه ربما. ولكي يُقنع وكيلُ النيابة القضاة أو القراء المحتملين، بذل جهداً مشكوراً في حشد التفاصيل التي تسوّغ لائحة الاتهام التي أعدَّها. لن أتوقف هنا عند تفاصيل مثل صيام رمضان ودوام الموظفين وبروتوكولات حكماء صهيون واحتكار الأغذية أيام الحرب وفكرة المؤامرة العالمية، وغيرها كثير، لضيق المجال أولاً، ولأن المؤلف وظّفها بطريقة تخلخل الادعاءات كلها. بل سأتناول تفاصيل أخرى تلقي الضوء على منهج الكتاب الذي لا يدقق في نوعية الحطب الذي يريد إشعال النار فيه.
يناقش الدكتور العظم في الصفحة الأربعين، موضوع قوة إسرائيل الذاتية وغير الذاتية، وذلك في سياق نقده محاضرة ألقاها في تلك الأيام العميد الركن حسن مصطفى. ويعتبر الدكتور العظم، وهو محق في ما ذهب إليه: (أنه لا قيمة على الإطلاق عملياً للتفرقة بين قوة إسرائيل الذاتية وقوتها غير الذاتية في أية معركة تخوضها مع العرب (كان ينبغي له القول ضد العرب) لأن طاقتها الذاتية هي مجموع القوى التي باستطاعتها أن تقذف بها في حلبة الصراع مهما كانت مصادر هذه القوى، أي أنه لا فارق في ذلك سواء كانت نابعة من رقعة الأرض الفلسطينية المحتلة أو من سفينة ليبرتي في عرض البحر)... يتجلى هنا نقص المعلومات الذي يؤدي إلى توظيف "التفاصيل" في غير محلها. رغم صحة قوله بعدم التفرقة بين قوة إسرائيل والمساعدات التي تحصل عليها، كما أسلفنا. إلاَّ أن زجّ السفينة ليبرتي كمثال على "الدعم" الخارجي لإسرائيل، ينهار عندما لا يقدم المؤلف، ولا يتعرض نهائياً لأسباب قيام الإسرائيليين بقصف السفينة لإغراقها. فهل من المعقول لمن يقاتل أن يدمر "المساعدات التي يحصل عليها"؟... هنا أجد نفسي مضطراً إلى التوقف من أجل دعوة النقاد إلى تمحيص -  التفاصيل – قبل زجها في المعركة.. صحيح أن قصف السفينة بقي ميداناً للسجال مدة طويلة، وحاولت السلطات في الولايات المتحدة وإسرائيل التعمية على الموضوع، إلا أن عملية القصف تمت في الثامن من حزيران 1967، بينما صدرت الطبعة الأولى من النقد الذاتي في أيلول سنة 1969، والطبعة الثانية في آذار 1969، والثالثة في آب 1969، والرابعة في أيار 1970. وأنا هنا أنقل عن صفحة غلاف الكتاب الداخلي الصادر عن دار الطليعة في بيروت ضمن سلسلة المفكّر العربي. أما كيف يكون ايلول قبل آذار وقبل آب، فهذا مؤشر آخر على عدم الاهتمام بالتفاصيل... آسف لهذا الهذر وأعود إلى السؤال: لماذا لم يشر النقد الذاتي إلى أن إسرائيل حاولت إغراق سفينة "الدعم الأمريكي ، ولم يهتم بالبحث عن أسباب المحاولة؟ ينبغي القول إن ذلك بسبب نقص المعلومات حتى ذلك الحين، لذلك كان على المؤلف الانتباه إلى هذه الثغرة والبحث عن مثال آخر...
باختصار كثير، كانت سفينة الرصد الإلكتروني – ليبرتي – التي أُمرت بالتوجه إلى المتوسط الشرقي، تقوم بمهمتين، يعرف قائدها إحداهما، أي التنصت على الاتصالات كلها في تلك المنطقة وتزويد من أرسله بما يستخلصه منها، والثانية، غير المعروفة، تغطية وجود غواصة نووية أمريكية تحمل صواريخ بولاريس، مكلفة بمهمة حساسة جداً وخطيرة ذات صلة بتجنب المجابهة مع الاتحاد السوفيتي بأية وسيلة.
كانت الغواصة المسماة أندروجاكسون مكلفة بمهمة قصف قواعد الصواريخ والمطارات الإسرائيلية إذا اضطرت إسرائيل إلى اللجوء إلى صواريخها أو طائراتها التي تحمل أسلحة غير تقليدية، في سياق الحرب، رغم تأكد الولايات المتحدة أن إسرائيل ستنتصر بنسبة 90% ومع ذلك فإن نسبة العشرة بالمئة لا يمكن الاستهانة بها. وكان الاتحاد السوفيتي قد أعلم الولايات المتحدة، أنه سيتدخل بأسلحة غير تقليدية إذا قصفت إسرائيل أهدافاً مدنية عربية استراتيجية – كبعض العواصم العربية – في حال جرت أحداث في غير صالحها. لذلك وضع الأمريكيون خطة: "تقضي بأنه إذا سارت الحرب باتجاه يشمل استعمال الصواريخ فنحن، كأوصياء على إسرائيل، سوف نقوم بتدمير جميع قواعد الصواريخ الإسرائيلية وقواعد القاذفات الهجومية، وحتى القاذفات نفسها لمنع السوفيتيين أنفسهم من اتخاذ هذا الاجراء، هكذا نتجنب المجابهة". يضاف إلى ما سبق أن ليبرتي كانت أول من سَجَّل الاتصالات الدائرة بين الإسرائيليين قبيل – وأثناء – إعدام أربعمئة أسير مصري في العريش. كما بدأت تكشف الاتصالات المتعلقة باحتلال الضفة الغربية، هذا الأمر الذي ما كانت تريده الخارجية الأمريكية، على نقيض وكالة المخابرات المركزية. ولربما كانت هناك أسباب أخرى، حين أصدر الجنرال دايان أوامره إلى الطائرات (والزوارق) لقصف ليبرتي وإغراقها، وهي في المياه الدولية - تقريباً.
في هذا المثال إشارة مهمة إلى تشابك المصالح حتى التناقض أحياناً، وبوسعي الاستفاضة لو كان المجال متاحاً، فأكتفي بهذه العجالة نقلتها من كتاب (مؤامرة الصمت) بقلم أنتوني بيرسن A. Peerson، الذي ما كان قد صدر عندما كتب الدكتور العظم نقده الذاتي، [فهل أخذه بالاعتبار في الطبعة الخيرة الصادرة بعد أربعين سنة على الهزيمة، أم أنه ما زال مصرّاً على عدم طرح سؤال على نفسه: لماذا قصف الإسرائيليون "ليبرتي"... ألأنهم يكرهون "الحرية" فحسب؟]
أؤكد على هذه النقطة التفصيلية لأقول: هل نُسجّل الحدَث في جانب "عدم التفرقة بين قوة إسرائيل وقوة أمريكا"، أم نسجّله في جانب "تضارب المصالح. بين الحلفاء"؟ هنالك فارق بين المنطقين، أترك القرار فيه إلى الناقد الذاتي. لأنتقل إلى "تفصيل" آخر...
نقرأ في الصفحة السادسة والأربعين: (إن هذه الأساليب في تبرير الفشل العربي والتملّص من مسؤولياته وتبعاته قد كلفنا غالياً في السابق والحاضر، وأعني بالتحديد أن التطهيرات التي شهدتها بعض الجيوش العربية بعد الخامس من حزيران، وخاصة جيش الجمهورية العربية المتحدة (مصر) كان يجب أن تتم بعد حرب السويس 1956...)
مدهشة هذه المعالجة المتسرعة والسطحية لموضوع خطير جداً عانت منه جيوش عربية (لا جيش ج ع م وحده). ومؤسف أن يسوّغ مفكر تقدمي وعلماني مبدأ "تطهير الجيوش" بالأسلوب "العربي" المعروف الذي لا يأخذ بالاعتبار إلاّ نوعية الولاء السياسي والانتماء الضيّق" دون الاهتمام بتحديد مسؤولية كل (مُطَهَّر) بطريقة موضوعية، ودون انتهاك القوانين الناظمة لقواعد خدمة العسكريين. إنه لأمر مريع ألا يهتمّ المفكر التقدمي العربي إلاَّ بمواعيد التطهير – قبل الحدث الفلاني أو بعده – وألا يقيم لمسألة الولاء للوطن – لا للأشخاص – أي وزن، وألا يكون قد سمع بالتطهير على طريقة (ابطحوه) قبل الهزيمة بأربع سنوات وشهرين في جيوش دول ثورية بمفهوم الناقد الذاتي. وألا يتطرق إلى الأسباب ولا إلى النتائج وهي وحدها التي تشكل عامل الإقناع الوحيد بفائدة "التطهير". إن موضوع "تطهير" الجيوش العربية بوسعه إضاءة المشهد جدياً، شرط توفر المعلومات والموضوعية بعيداً عن الاكتفاء بمواعيد التطهير الموسمية...
ومن الصفحة التاسعة والأربعين هذه النظرية: (لا تمتاز القدس القديمة عن أي شبر آخر من الأرض العربية المحتلة على الإطلاق... من المعقول أن نتوقع بعض الكسب الدعائي الأجنبي بسبب وضع القدس الديني... كذلك فإن قضية النضال في سبيل رفع الاحتلال عن فلسطين لا تتلخص في استرجاع مساجد وكنائس تجذب السواح).
إذا اتفقنا مع الدكتور العظم أن القدس القديمة لا تمتاز عن غيرها من الأرض المحتلة، فهل يضمن لنا إقناع الصهيونية العالمية وسكان إسرائيل بأنها ليست أفضل من غيرها؟ لقد كانت القدس بالذات – وكنائسها ومساجدها التي تجذب السياح – منطلقاً لصراعات عنيفة، ولست أدري كيف تناسى المؤلف تمايز الأمكنة عن بعضها لألف سبب وسبب. أما إذا كانت المساجد والكنائس في نظر الناقد الذاتي ليست إلاَّ معاقل التراث المتخلف والفكر الظلامي اللاعقلاني، إلا أنها بنظر آخرين غير ذلك تماماً . وهو بلا شك يحترم الرأي الآخر كثيراً. وبعد هذا أود أن أسأل الدكتور العظم – بعيداً عن اللاعقلانية والميتافيزيك – ما إذا كان يحب صوت فيروز ويستمع إلى ما تغنّيه؟ ألا يختلف الشعور الذي يلمّ به وهو يستمع إلى شوارع القدس العتيقة، (يا صوتي ضلّك طاير زوبع بها الضماير) عن شعوره وهو يستمع إليها وهي تغنّي يا عاقد الحاجبين مثلاً؟. كي لا نقول (ع هدير البوسطة)... أم أن الإشكالية كلها تكمن في وجود الجوامع والكنائس وعدم العثور على الهيكل المزعوم إلى اليوم رغم تفاقم أعمال التنقيب من أجل إضافته إلى التراث الظلامي طمعاً بالمزيد من الحُجَّاج ؟...
يُصدر الدكتور العظم في الصفحة الحادية والستين حكماً قاطعاً: (بشأن سيطرة اليهود على الاقتصاد الأمريكي وهيمنتهم على المجتمع وتحديدهم لسياسة البلاد فهي أقرب إلى الأسطورة منها إلى الحقيقة.. إنها الحكاية التي تلَهّى بها العرب ليفسروا كل ما لم يعجبهم في قوة إسرائيل... إن المصالح اليهودية لا تسيطر إلاّ على بعض النواحي المحدودة في الاقتصاد الأمريكي الواقعة ضمن القطاع الأوسط!... فما دون من النشاط الاقتصادي العام في البلاد... ولا يوجد أدنى شك في أن اليهود لا نفوذ لهم في هذا القطاع الاقتصادي الرئيسي ولا يسمح لهم بالاقتراب منه أصلاً فكيف بالسيطرة عليه. الفئة المهيمنة على الاقتصاد الأمريكي هي فئة البروتستانت البيض كما يدعونهم في الولايات المتحدة. ويسمونهم أيضاً بالزنابير WASP وهي الأحرف الأولى من كلمات White Anglo-Saxon Protestant ومهما بحثت فإنك لن تجد لليهود (وحتى للكاثوليك) أي نفوذ او تأثير حقيقي يذكر على المراكز الحساسة والقيادية في أي من المؤسسات والشركات التي ذكرتها) ص 64 أيضاً.
أليست مدهشة هذه التعابير القاطعة: أقرب إلى الأسطورة – لا يوجد أدنى شك، لا يسمح لهم بالاقتراب... هل هي التعابير الملائمة في بحث يفترض أنه من طبيعة غير مطلقة، بحث في السياسة والاجتماع والتاريخ، لا في العلوم الرياضية ولا في الكيمياء.
لن أدخل في جدل مع هذا اليقين الميتافيزيكي، بل سأجعل شاهداً من أهله يحكي للدكتور العظم حقيقة النفوذ اليهودي في الولايات المتحدة. ففي العام 1960 وبعد سنوات من الاتصالات السرية ونصف العلنية بين الوكالة اليهودية والمنظمة الصهيونية وبين ألمانيا، والتي لم تنقطع منذ أيام هتلر. وبعد اتفاقية التعويضات الألمانية لضحايا النازية من اليهود، واتفاقية بيع الذخائر والأسلحة الإسرائيلية إلى ألمانيا – في الخمسينات – قرر بن غوريون وأديناور أن يلتقيا في أكبر مدينة يهودية في العالم : في نيويورك. وجرى اللقاء في فندق والدورف استوريا في الرابع عشر من أيار 1960. أما المهم في الموضوع فهو أهداف اللقاء كما حددها بن غوريون وهي ثلاثة: أولها خلق جو متعاطف مع ألمانيا لدى الجالية اليهودية هناك – وثاني الأهداف فتح أبواب عالم المال والأعمال – أي البزنس – أمام ألمانيا. وأخيراً تجنيد وسائل إعلام الولايات المتحدة لتكون إيجابية مع ألمانيا.
هذه المعلومات موجودة في مذكرات بن غوريون وفي كتب كثيرة عالجت العلاقات الإسرائيلية الألمانية وكان آخرها كتاب المليون السابع، للمؤرخ والصحافي الإسرائيلي توم سيغيف وفي الصفحة 377 من الطبعة الفرنسية.
والأمر الأكثر أهمية الذي تناساه النقد الذاتي،  هو ما هية الفرق بين مفهوم الزنابير البروتستانتيين البيض ونظرتهم إلى أرض الميعاد وإلى إسرائيل وبين نظرة غلاة الصهيونيين والمتعصبين اليهود. كلنا نعرف مدى تطابق النظرتين فلماذا المكابرة. حتى التواشيح الدينية لزنوج أمريكا المعروفة باسم: Negro spiritual لم تنج من ذلك التأثير. لأنه عندما تفضل السادة البروتستانت البيض وجعلوا "زنوجهم" يعتنقون البروتستانتية وغيرها، وأقاموا لهم معابد ليصلّوا فيها، كتب أولئك "الزنوج" أناشيدهم الدينية – التي أعطت موسيقى الجاز بعدئذٍ – كتبوها متأثرين بالعهد القديم. فلا نجد فيها إلاَّ ذكر فرعون وموسى والخروج ونهر الأردن والقدس أورشليم (القدس فقط دكتور لايافا ولا حيفا ولا بيروت ولا القاهرة) والمناداة بعودة الشعب المختار إلى أرض الميعاد. وعلى كل حال فأنا أظن بأن اليهود من مصرفيين ورجال أعمال وصناعيين، قد قرؤوا النقد الذاتي، وقرروا دخول عش الزنابير عنوة، والنتيجة ماثلة أمام العالم كله.

الجمل

غازي أبو عقل : نقد "النقد الذاتي بعد الهزيمة" (1 من 4)

غازي أبو عقل: نقد "النقد الذاتي بعد الهزيمة" (2-4)


 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...