غازي أبو عقل ونبيل سليمان يتخاصمان على حجر السرائر (3)

08-05-2011

غازي أبو عقل ونبيل سليمان يتخاصمان على حجر السرائر (3)

وصلنا من الأديب نبيل سليمان الرد التالي:
الأستاذ نبيل صالح، تحية طيبة: آمل نشر السطور التالية، مع الشكر:
"تعليقاً على ما نشره غازي أبو عقل حول روايتي (حجر السرائر)، آمل أن أنشر ردي في الوقت المناسب، إذ من المؤسف والمخجل أن يخوض المرء في مثل هذا الأمر، بينما بلادنا على ما هي عليه منذ 15/3/2011م"

نبيل سليمان

الجمل ـ غازي أبو عقل: حجر السرائر سياسياً وتاريخياً
لستُ في صدد العثور على تصنيف دقيق لرواية الأستاذ نبيل سليمان- حجر السرائر- هل هي رواية تاريخية تلتزم أحداثُها وشخصياتها "الواقع" جملة وتفصيلاً، أو ما هو قريب منه. وذلك لفرط إعجابي بما قاله الفيلسوف الدانماركي سورين كيركيجارد 1813-1855: "للخديعة ذيلٌ طويلٌ يُدعى التاريخ"، فأين ينبغي وضع "الرواية" التاريخية التي تعتمد التخييل؟
يلجأ الروائي إلى اللغة ليحمّلها عبء نقل ما يريد إلى القارئ. فيذكرني بما كتبه عن جان جُنيه، الأديب الإسباني ب ج فيرّير Pere Gim Ferrer في نص نقدي لرواية جنيه "يوميات اللص"، أول أعماله المترجمة إلى الإسبانية في 1976: "عند جنيه اللغة نفسها، حتى اللغة، عاجزة عن التعبير عن الواقع وترجمته كما هو". ولئن قبلنا منطق الروائيين التاريخيين غير الحريصين على التعبير عن الواقع التاريخي وترجمته كما هو، برغم تحليهم بالرؤية الشاملة والواضحة للتاريخ، فهل لهم أن يقبلوا منا هذه "الحكمة": " التاريخ هو ما يرغب الحاضر في الاحتفاظ به من الماضي"...
أيكون في وسع كتّاب الروايات والدراما التاريخيين التنكّر لما عوّدونا عليه من "انتقائية" في هذا المجال، وإخفاء ما يريد حاضرُهم طمسًه من معالم التاريخ، حتى وهم يؤكدون قلّة اهتمامهم بنقل أحداث التاريخ...بأمانة؟ ذلك أن "الخيانة" التاريخية" في هذه الأعمال أكثر شيوعاً ممّا هي عليه في العلاقات الحميمة بين البشر.
أودّ بسذاجة طرح هذا السؤال: لماذا لا تكون الرواية التاريخية رديفاً لكتب التاريخ الأقرب إلى الموضوعية، على غرار الكتب التي يقدمها مؤرخو مدرسة المراجعة التاريخية، فتركّز اهتمامها –بأسلوبها الفني الممتع- على إنارة الزوايا المعتمة وكشف ما أُخفي أو أُهمل سهواً أو عمداً من أحداث التاريخ، كما جرتْ في "الواقع" وهو كما نعرف أغرب من الخيال؟
أيكون "التخييل" في أذهان كتّاب الروايات التاريخية هو الاكتفاء بما يُسمّى "الّسبرجَة" في التعامل مع الأحداث الفعلية، كي ما تستحق أعمالهم الترحيب في وسائل نقل المعرفة إلى الناس؟ بخاصة عندما يصوم هؤلاء عن الطعام...قبل إفطارهم على مآكل دسمة ومسلسلات بلا دسم.
ينبغي أن أنوّه قبل الاسترسال في هذه الخلوة الحميمة بحجر السرائر، بخطّة وضعتها لها...فكما سبق لي القول بأنني أوقفتُ صفحات القسم الأول من "اهتمامي غير البريء" بالرواية، على "الشكل". ثم خرجتُ بقسم ثانٍ، إثر قراءة أكثر رزانة لما ظننته تأريخاً لأحداث وقعتْ، برهنتْ الرواية، بواسطتها، عن تأثرها بالحكمة التي سلف ذكرها من أن التاريخ هو ما يرغب الحاضر في الاحتفاظ به من الماضي...
ينصبّ هنا الاهتمام على أربعة أحداث استخْلصتُها وجعلْتُ كلاً منها محوراً يدور حوله موقفي الشخصي من كيفية معالجة الرواية لتلك الأحداث وهذه عناوينها:
أولاً- القول بانكسار العسكر مع العدو وانتصارهم في الأوطان.
ثانياً- إشكالات تسليح الجيش السوري بين جلاء الفرنسيين وحرب 1948 في فلسطين. كما أوجزتْها الرواية في صفحتها الثامنة والثمانين.
ثالثاً- الانقلاب العسكري الأول بقيادة حسني الزعيم، ومعضلة السلام مع "الدولة اليهودية".
رابعاً- جريمة اغتيال العقيد محمد ناصر في صيف 1950.
ولا أذيع سرّاً إذا قلتُ بأنني وضعتُ هيكلاً لبناء مبحث ثالث عنوانه: المسكوت عنه في حجر السرائر. أما المبحث الرابع والأخير، فأوقفته على ما جاء في صحيفة "الكلب" المحتجبة عن هذه الرواية. اكتفيت بهذه الفصول الأربعة التي نقّبتُ فيها حجر السرائر.
لن أضيف جديداً إذا قلتُ بأنني لم أتوقف، أثناء الحفر، إلا عند الحوادث التي خُيّل إلي أنها تشير إلى قضايا تتيح فرصاً تُعرّف القارئ "بتلك الرؤية الشاملة والواضحة لمرحلة مهمة من تاريخ سوريا"، كما جاء في مقدمة ناشر الرواية. وتفاديتُ المكوث مع ما تضمنتْه الرواية من علاقات العمل والتجارة، وعلاقات الحب واهتمامات بعض الحقوقيين بميلاد قوانين الطوارئ، وأساليب التخاطب بين ناس الرواية، وهي الأمور التي تصنع البيئة التي يعيش فيها أولئك الناس.
بي رغبة في أن أضيف إلى ما سبق من هَبْرَمةٍ بعض التعالمُ. ذلك أنني كنتُ سمعتُ عَرَضاً بالمسائل التي تثيرها الصلةُ بين المؤلفين- الروائيين- بعامة وبين القراء. وأوشكتُ ذات يومٍ أن أفهم ما قيل عن موت المؤلف، وعن استبداد القارئ بالنص، تأويلاً وتفسيراً، وما تفرّع عنهما من مقولات. فحدّثتني الأمّارةُ بالسوء بأن أجرّب هذا النهج الطريف على قراءتي لحجر السرائر.
 ولما كنت غير ضليع في تلك المسائل النظرية، وأرغبُ في تعزيز موقفي كقارئ، جرّدتُ من نفسي –كأي شاعر جاهلي- أو كأي ناقد جاهل تنقصه عدّةُ النقد وأدواته، جردتُ ثلاثة قرّاء: عجوزاً وشابةً وشاباً لأحقق القاعدة الأولى التي تضمن "نجاح الهجوم" كما تعلمتها في الكلية...العسكرية، قاعدة تفرض الحصول على التفوق – العددي- على الأقل في قطاع الهجوم أمام العدو. صحيح أنها قاعدة عتيقة جدّاً، صالحة لحروب الرّدة، مثلاً، ولكن مازال حلف الأطلسي يحاول تحقيقها عبثاً في أفغانستان اليوم، برغم أسلحته المنتمية إلى جيل ما بعد الحداثة، وهو سيُهزم لا محالة إن لم يحشد هناك مليون جندي، ولن يفعل...
يبدو لي أن حشد أكثر من قارئ في مواجهة مؤلف واحد، كفيل بضمان تفوق نسبي. ولما كنتُ قد تعلّمتُ في الكلية إياها، أهمية استيعاب دروس التاريخ الذي يساعد على تلافي ثغرات الخطط وأخطاء الماضي، فإنني استَرجعتُ أسباب هزيمة الروائي المجرّب الأستاذ حنا مينة في" النجوم تحاكم القمر" يومَ حكم على نفسه بالفشل سلفاً، قبل وصوله ذات مساء شتوي إلى بلدة كسب على سفح الجبل الأقرع- لكي يواجه شخصيات رواياته- التي خلَقها- فتمردت على خالقها وراحت تُحاكم تجربته الروائية الطويلة. استثمر أبطال الروايات فرصةَ تفوقهم العددي ووضعوا- خالقهم- في قفص الاتهام، وجلسوا مكان القضاة على قوس المحكمة، فوجدَ نفسه وحيداً عاجزاً عن الدفاع فأعلن استسلامه، فأطلقوا سراحه بكفالة بعد تعهده بحسْن معاملة مخلوقاته في رواياته القادمة.
القارئ الأول الذي جَرَّدتهُ وجنَّدتْهُ لمواجهة مؤلف حجر السرائر كان فتاة ولدت في 1983، أي أن عمرها ربع قرن يوم ابتاعتْ الرواية وقرأتها، مكونةً انطباعات شتّى أتاحتْها لها تربيتها البيتية والمدرسية والجامعية. لكن القارئة الشابة أصرّت على اصطحاب زميلها الذي وُلد قبلها بثلاث سنوات، ورضيتُ بما طلبَته. وولّدتُ القارئ الثالث في أوائل ثلاثينات القرن العشرين ليكون قريب العهد بأحداث 1949 وما تبعها. وقررتُ ألا أجمع بينهم إلا في مرحلة لاحقة، بعد قراءتهم الرواية، استعداداً لمواجهة "الراوي" إنما على صفحات معول الحافر دون السماح لهم بالانفراد بالروائي...القارئة الأولى منهم بشكل خاص...    
 أولاً- القول بانكسار العسكر مع العدو وانتصارهم في الأوطان.
قلت في مطلع البحث أنه في الثامن عشر من تموز يوليه 2010 نشرتْ  أخبار الأدب القاهرية تحت عنوان: حجر سليمان، هذا الخبر: "انتهى الروائي نبيل سليمان من رواية جديدة بعنوان حجر السرائر. تدور أحداثها في عامي 1949 و1950، وهما العامان اللذان شهدا انكسار العسكر مع العدو وانتصارهم في الأوطان. وفي تشرين الأول أكتوبر، وزّعت دبيّ الثقافية مع عددها الصادر في ذلك الشهر الرواية المنوه بها. يمكن فهم جملة "انكسار العسكر مع العدو" بمعنى انكسار الجانبين معاً على أساس الصيغة اللبنانية، لا غالب ولا مغلوب. غير أن هذا التفسير لا ينسجم ومنطق الرواية. فهي دانت العسكر بالتخاذل في الحرب في 1948، مما يشكّل حكماً ظالماً من وجهة نظري على الأقل.
لن أظلم أحجار السرائر برغم ظلمها للعسكر، فهي حاولتْ "إنصافهم" عبر التنويه بدور الأحزاب في جر العسكر من ميدان القتال إلى ميدان الانقلابات التي يدبرها السياسيون الحزبيون. تقول المحامية الأستاذة ملك: "شهية الضباط مفتوحة على الحكم حتى لو لم يستمر مسلسل الانقلابات (ص171) هذا الاتهام يختلف جذرياً مع ما كتبه الصحافي رباح أبو شلة إلى زوجته السابقة نديدا:" قد تقولين هذا هو حزب البعث العربي والحزب العربي الاشتراكي والإخوان المسلمون، كلها أحزاب مدنية وإن يكن لها أذرع عسكرية...هل أستطيع أن أقول إن تلك الأحزاب هي التي ألهمت العسكريين الانقلاب بعد الانقلاب، مثلما استلهمتْ هي نفسها فكرةَ الانقلاب من ثقافتها الغربية أو من الشيطان الرجيم؟" (ص195).
وفي حوار بين الضابط سنان وبين نديدا نقرأ في الصفحة 226: "من دون العسكرية، من دون الجيش لا تقوم للدولة قائمة، لا في هذه الأيام ولا في أي يوم من الأيام."
  وفي حوار آخر بين نديدا- المحامية- والتاجر غزال نقرأ "...لا يمكن أن يكون الجيش كله على الجبهة، المهم ألا يكون فوق قبة البرلمان أو فوق القصر الجمهوري..ومع ذلك ها هم أمامك: شلّيطا الأول وشلّيطا الثاني وشلّيطا الثالث، حوّلوا الهزيمة في فلسطين إلى انتصار ولكن على مَن؟ (ص 231)
شرحتْ الرواية معنى كلمة شلّيطا السريانية الأصل، أي الأحمق الظالم. اكتشفها الروائي لأول مرة في روايته دلعون 2006، ويبدو أنها أعجبَتْه فأعاد استعمالها هنا، مما أوقعه في مساوئ التعميم، بإلغاء الفوارق الكثيرة بين دوافع الضباط الثلاثة وشخصياتهم وسياساتهم. أما إذا حسبنا مدة بقاء الانقلابيين الثلاثة في السلطة لوجدناها أقل من خمس سنوات، مما لا يؤهلهم لإتقان تنفيذ المهمة التي يشير إليها معنى الكلمة السريانية، أي الحاكم المتسلط مجازاً...بخاصة إذا خطر في بالنا مضاهاتهم بالمغفور لهما سالازار وفرانكو، إن لم نضعهم وجهاً لوجه مع شليطا دلعون. الذي سيسخر منهم لعدم جدارتهم بحمل مثل هذا اللقب السرياني العريق.
أما القول بأن الثلاثة "حوّلوا الهزيمة في فلسطين إلى "انتصار" فهو غير مقبول، لأنهم لم ينهزموا في فلسطين عام 1948، ولم يفرّوا من ميادين القتال على الأقل، بل بادر شليطا الثالث إلى استباق حرب 1948 وتطوع منذ عام 1947 للقتال في فلسطين.
 ويأتي التساؤل (إلى انتصار) ولكن على من؟ لكي لا تختلط الأمور بلا أي مسوّغ، وتجعل الكتابة نوعاً من السَّبرجَة، وهي مفردة ليس لها أصل سرياني في حدود علمي، لماذا لا تجيب الرواية عن هذا السؤال الخطير؟ كانت محاولة الإجابة ستكلفها كثيراً من البحث "التاريخي" النزيه، وقد تعطي العسكر الحق – ولو مؤقتاً – لقلب الحكومة التي أضعفت الجيش وقبلت في اللحظة الأخيرة تنفيذ أوامر الجنرال البريطاني غلوب باشا، قائد جيش الملك عبد الله، الذي نصبّوه قائداً عامّاً للجيوش العربية في أيار 1948، فألغى إلى محور هجوم القوات السورية التي وضع قادتُها خطةً عملية ممتازة لاحتلال الجليل، والدخول من اتجاه محور مرجعيون إلى فلسطين للقاء مجموعات جيش الإنقاذ، مما كان سيغير مصير الحرب.
هل قال واحد من أولئك "الشّليطات" أنه انتصر في فلسطين؟ تمنيت لو أن حجر السرائر قرأتْ المقدمة التي كتبها الأستاذ عصام محايري لمذكرات المقدم حسين الحكيم وعنوانها "لعنة الانقلابات": "وينقل لنا المقدم الحكيم في السياق نفسه ما قال له أديب الشيشكلي العائد هو أيضاً من جيش الإنقاذ حزيناً كسير الفؤاد، يا حسين، حافظ على نفسك لأن كل تضحياتنا ستذهب هدراً ولن تؤدي إلى نتيجة. إنها مؤامرة دنيئة شارك فيها حكامنا عن جهل وغباء"...
ناقضت الرواية نفسها حين جعلت العسكر اللاعبين الوحيدين بمصير "الأوطان" فهي أجرت على ألسنة بعض شخصياتها ما يكشف دور الأحزاب والسياسيين "المدنيين" في جر العسكر إلى حمأة السياسة اليومية والانقسامات الحزبية التي لا تضع مصلحة "الأوطان" إلا بعد مصلحة "الحزب". والعسكر في نهاية المطاف نِتاج مجتمع معيّن، له ظروفه الموضوعية التي تيسّر أمرَ من يريد السيطرة عليه، أو تجعل ذلك الأمر عسيراً صعب المنال.
في كتاب "حطام المراكب المبعثرة" وهو حوار بين بعثي قديم نبيل الشويري وصخر أبو فخر، نقرأ في الصفحة 241 إجابة الشويري عن سؤال حول دور الضباط في السياسة": كلا، ليس الضباط بل زعماء سوريا. الضباط ما كان في استطاعتهم تسيير أي أمر لو أن حزب البعث وأكرم الحوراني رفضا ذلك، الحكم كان في يد الأحزاب والضباط يتلقون الأوامر من هؤلاء الزعماء".
لا أضيف هنا شهادتي – كضابط- عن المرحلة التي واكبتُها يومياً من 1955 إلى 1958، حتى لا أُثقل على من قد يقرأ هذا النص، أولاً، وكي لا أُفحم الرواية، ثانياً.
عندما أرفض القول بانهزام العسكر في 1948، أبتغي وضع الأمور في سياقها الواقعي، لا الدفاع عن العسكر ولا تسويغ اعمالهم؟ ذلك أن الجيش السوري لم ينهزم في 1948، برغم الظروف السيئة التي أحاطت بدخوله تلك الحرب. من معاني "انهزم" انه فرَّ، وهذا ما لم يحدث، فقد عبر الحدود التي رسمتها اتفاقية سايكس- بيكو، واحتلّ رؤوس جسور على الجانب الغربي من نهر الأردن، مساحتها أكثر من سبعين كيلو متراً مربعاً. حتى بعد أن نقله غلوب باشا من مرجعيون إلى سَمَخ. أي من جنوب لبنان إلى جنوب الجولان. ألا يُعدّ احتلال سبعين كيلو متراً غرب نهر الأردن نجاحاً بالمعنى (العَمَلاني)- كما يقولون في الجيش اللبناني؟ لا بدّ لي من الإعجاب بمقدرة "حجر السرائر" على تحديد مسرح عملياتها زمنياً بين عامي 1949 و1950، لكي لا تُفضي إلى قرائها بما يُثقل قلبَها من أشجان، في المسألة الفلسفية الخاصة القائلة بانكسار العسكر مع العدو وانتصارهم في الأوطان، مما قد أعود إليه في "المسكوت عنه" في الرواية.
لن أقاوم إغراء نقل هاتين الحكايتين الشارحتين لمسألة انكسار العسكر مع العدو، لأتوقف عند زيارة رئيس الجمهورية شكري القوتلي، إلى قطعات الجيش التي نُقلت من مرجعيون إلى سمخ. حيث اصطدمت ببعض تحصينات خط إيدن الذي كان البريطانيون قد أقاموه أيام كان المارشال الألماني رومل في العلَمين غرب الاسكندرية أثناء الحرب العالمية الثانية. وبرغم هذا الظرف العسير، الذي لم يدخل في خطة الجيش السوري "إلا أن العسكر السوري احتل سمَخ". فكتب الأستاذ عصام محايري، مقدِّماً كتاب (لعنة الانقلابات) للمقدم حسين الحكيم:" تأخذ نشوة الحماسة فخامة الرئيس وهو يهنئ بسقوط سَمَخ، فيقذف سمعَ الضباط من مستقبليه بفيض من الأوامر والتوجيهات، يا عبد الوهاب بك (العقيد عبد الوهاب الحكيم آمر الجبهة) ألاحظ أن تقدمكم بطيء جدّاً وتحرير فلسطين لا يحتاج إلى كلّ هذا الترتيب، تقدّموا بسرعة أكثر وأرجو أن يصلني غداّ خبر احتلال طبريا، ثم لماذا هذه المدافع باقية هنا ولماذا قيادتكم في أرضنا، تقدموا وأسرعوا. ولا يلتفت الرئيس إلى رأي الكفاءة العسكرية التي تحاول لفتَ نظره إلى أن موقع مدافعنا على هذه المرتفعات أفضل بكثير من نقلها إلى المنخفضات".
و" أما الصفعة التي وجهها دولة رئيس مجلس الوزراء جميل مردم (الحاكم العسكري يومئذ) إلى ضابط كبير الرتبة والمكانة في الجبهة، وعلى مرأى ومسمع من رفاقه الضباط الذين يحملون له كل تقدير على البلاء المميز في إدارة الحرب. وحسبنا من هذه الصفعة الآثار الوخيمة التي ولدتها، ودور هذه الصفعة في جملة العوامل التي أدت إلى مسلسل الانقلابات التي تورط فيها الجيش"، فلا تحتاج إلى تعليق.
ما الذي حال بين حجر السرائر وبين حشر مثل هاتين الحكايتين مع حكايات صندوق الدنيا الذي كانت نديدا تُهرع إليه وهي طفلة في الحارة؟ لو أن الرواية حدثتنا عن "الصفعة"، أما كانت أتاحت لنفسها فرصة "تاريخية" لتوجيه سؤال إلى السيد جميل مردم، مآله لماذا لم يَدخر قواه لصفع ابن عمه المقدم فؤاد مردم، الذي أُرسل للإشراف على شحن آلاف البواريد وذخائرها، فألهاه طيشه وانسياقه وراء غرائزه عن واجبه، مما أدّى إلى وصول الأسلحة مجاناً إلى حيفا لا إلى بيروت؟
لقد هربت حجر السرائر مراراً وتكراراً من نقل " الجو المهيمن" على سوريا في تلك الأيام، دون أن نعرف لماذا؟ فهي حرمتْنا من معرفة أسباب انكسار العسكر مع العدو وانتصارهم في الأوطان. ودوافع الانقلابات العسكرية وتسارع وتيرتها في 1949، ونتائجها الأكثر أهمية على سلوك مكوّنات المجتمع الدمشقي على أقل تقدير، إذا تناسينا حركات الطبقة السياسية المحترفة.
أحاول كلما عدتُ إلى حجر السرائر، تشكيل لوحة جامعة لأكثر ملامح المجتمع الدمشقي، فلا أحصل إلا على ضربات ريشة متناثرة على وجه تلك اللوحة. ربما كان هذا أسلوب الرواية في الرسم، فأين الخطأ؟...
فلنقبل كون حجر السرائر حكايةً لعبَ فيها خيال الروائي الدورَ المعهود في كل رواية، غير أن "التخييل" لا يمكن أن يعمل دون بعض الضوابط، بخاصة عند ملامسته حوادث تُصنّف في الواقع التاريخي. برغم هذا "التحفظ"، فأنا لا اعلّق أهمية كبيرة على طريقة كل رواية في سرد الحوادث أو في تخييلها، لأنه أمر ثانوي، يُخيّل لكتّاب الروايات التاريخية ونقّادها أنه مهم...المهم فعلاً – في رأيي- هو موقف الروائي أو الرواية من "الحادثات"، وموقفه من الدنيا والناس، من حيث منحاه العام "التقدمي" أو النكوصي أو غياب إدراكه لطبائع الأمور.
من هذا المنطلق، أجد القولَ بانكسار عسكر سوريا في 1948، هذه السنة التي سبقت الانقلابات، ليس منصفاً ولا ينسجمُ مع واقع الحال. فسوريا "المستقلة" حديثاً لم تتمكن من حشد أكثر من ثلاثة آلاف إلى خمسة آلاف مقاتل فعلاً على الجبهة. هذا الجيش كان عديده، عند جلاء فرانسا، أكثر من عشرة آلاف جندي، ثم أُنقص إلى ثمانية آلاف وخمسمائة في موازنة 1947، وكان الملحوظ إنقاصه في 1948 أيضاً. بينما جرتْ زيادة المستخدمين المدنيين في وزارة الدفاع وفي المدة نفسها من أربعمائة إلى نحو ألف مستخدم مدني، لأسباب "انتخابية" على ما أظن، بالإضافة إلى تسريح الجنود القدماء ووقف التطوع.
الأمر الخطير الذي أسهم في صنع نتائج جولة 1948، هو الاختراق العميق للجسم العربي، إذا استعرتُ ما كتبه الأستاذ الراحل أنطون مقدسي، فقيادة الجيوش العربية كلها عُهد بها إلى عبد الله ملك الأردن، أي إلى الجنرال البريطاني غلوب، الذي ألغى الخطة المحكمة التي وضعتْها هيئة أركان الجيش السوري طوال ثلاثة أشهر، من أجل الدخول إلى الجليل. كما ينبغي ألا ننسى الاختراق البريطاني الصهيوني في قيادة الجيش السوري أيضاً، حيث كان يرتع الكولونيل فوكس، الخبير العسكري البريطاني منذ 1946.
كتب المقدم حسين الحكيم في لعنة الانقلابات:"...ترسختْ قناعتي بأن تغيير خطة جيشنا بناء على أوامر الملك عبد الله كانت ضمن إطار تحطيم قدرات الجيش السوري". وهذا أقل ما يُقال.
لم تُظهر حجر السرائر حرصَها على "رؤيتها الشاملة والواضحة لمرحلة مهمة من تاريخ سوريا"، وإلا فما معنى سكوتها عن هذه الواقعة التي سأحكيها بعد قليل. فهي حاكمت العسكر ودانتْهم، ولكنها لم تأت على ذكر ذيول "انكسارهم مع العدو"، وصمتتْ عن أمر أكبر من أن يُغيّب، فأضاعت حقَّ قرائها الشباب في معرفة تاريخ بلادهم، على ضوء رؤيتها الشاملة والواضحة، وتركتْهم فرائس للروائيين الذين لا رؤية شاملة لديهم ولا واضحة ولا من يحزنون.
ما لم تأت حجرُ السرائر على ذكره بعد انكسار العسكر في 1948، قيام المجلس النيابي السوري بتشكيل لجنة تحقيق نيابية في أوضاع وزارة الدفاع والجيش، برئاسة صبري العسلي، وكان مقرر اللجنة أكرم الحوراني. إن قراءة تقرير هذه اللجنة التي مَثَل أمامها وزير الدفاع وكبار موظفي الوزارة، ورئيس أركان الجيش وقادته جميعاً، كفيل بتعديل صيغة الحكم المُبرَم الذي وضعتْه حجر السرائر في شكل إعلان يُمهد لصدورها ونوّهتْ به في آخرها، وبالذي لا أملُّ من استعادته، وهو انكسار عسكر 1948 مع العدو وانتصارهم في الأوطان...ولكن على مَن؟

* مقالة نقدية من (51) صفحة مخصصة لنقد رواية نبيل سليمان الجديدة «حجر السرائر» ننشرها على حلقات

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...