غازي أبو عقل: معول الحافر في حجر السرائر (2)

05-05-2011

غازي أبو عقل: معول الحافر في حجر السرائر (2)

الجمل ـ غازي أبو عقل: خامساً، هل من مماثلة بين الرواية وبين نشرة الأخبار؟
لم أَسْتَسِغ الطريقة التي عالجت فيها الرواية مسألة الاعتداء على الكنيس اليهودي في دمشق، في عهد الشيشكلي، وفي سياق محاولة اغتياله (الصفحات 223 و226). مرَّتْ الرواية على هذا الحدث الخطير، مرور مُقدم نشرة الأخبار على ما يرد فيها. فضيَّعت فرصة "تنوير" قرائها من أبناء الجيل الجديد.
جاء في الرواية أن تنظيماً مسلحاً اسمه كتائب الفداء اتُّهم بإلقاء قنبلة على الكنيس اليهودي (أيها ففي الشام وضواحيها أكثر من كنيس؟) مما أسفر عن مقتل ثلاثة عشر شخصاً وإصابة عشرين آخرين. وأضافت أن التنظيم نفسه اتُّهم أيضاً بإلقاء قنبلة على المفوضية البريطانية وتفجير مؤسسة غوث اللاجئين. تُنوّه الرواية بأسماء بعض أفراد هذا التنظيم، ومنهم جورج حبش وهاني الهندي.
أسهبت الرواية في سرد تفاصيل محاولة اغتيال أديب الشيشكلي، بدءاً من تناوله الغداء في مطعم سقراط، إلى مغادرته مطعم الأمير سعيد في الربوة بعد منتصف الليل، ثم كيف تحركت سيارة "التنظيم" ومتى أُطلقت النار، ومن انبطح في سيارة الشيشكلي ومن لم ينبطح، وكيف جرى نقل الجرحى، وهذا الإسهاب واضح الأسباب.
أما كان الأجدى ذكر نبأ محاولة الاغتيال، ثم التوقف لتحليل الخلفيات والدوافع؟ حتى نعرف كيف نستفيد من "تجسيد المشهد السياسي حينذاك، وتحويل دلالاته غير الواضحة، إلى معطيات جلية ملموسة المعالم والمواقف" كما كتب السيد نواف يونس في "مبدعاً وناقداً". ألا يشير التساؤل اهتمام الروائي "بالحادث المثير" وإقدامه على "أَكْشَنَتِهِ" (هذه مفردة جديدة بدأت تحتل مكانها على الشاشات) وعزوفه عن التحليل والشرح، مع أنه يمتلك الرؤية الشاملة والواضحة؟.
ضاعت في هذا الزحام- غير الضروري روائياً- الجريمة الأكثر خطورة، ألا وهي تفجير الكنيس اليهودي. ذلك أنه منذ تلك الأيام كان مثار شبهة، ثم بات مؤكداً أن الأمن الإسرائيلي كان الفاعل الخفي، بعد أن بدأت إسرائيل منذ سنوات برفع السرية عن بعض وثائقها. ذلك أن يهود بلدان المشرق العربي من اليمن إلى العراق وسوريا ولبنان، وحتى إلى مصر، ترددوا في الالتحاق بكثافة بفردوس أرض الميعاد، فرتّب الأمن الإسرائيلي الاعتداءات على الكُنُس، مما دفع مواطنينا اليهود إلى الهجرة. تمت هذه العمليات باختراق تنظيمات محلية- مثل كتائب الفداء- أو باختراع تنظيمات يوجهها عملاء الأمن الإسرائيلي.
التحق ألوف من يهود البلدان العربية بإسرائيل، ووفرتْ هذه الهجرات اليد العاملة الرخيصة، التي وُضعت بعد خروجها من "المعبروت" وتطهيرها بالمساحيق المبيدة للقمل والبراغيث، في خدمة السادة الأوربيين البيض أبناء الخزر المتهودين بالأمس القريب.
هنا يكمن الفرق بين الرواية وبين نشرة أخبار الإذاعة، أما إذا وضعت الروايات نصب أعينها التحول إلى مسلسلات عبر علكة العين – التلفزيون- فلا مناص من تفضيل "الأكشن" على التفكير والتحليل. أما كان من حق قراء مطلع القرن الحادي والعشرين اصطحابهم في جولة قصيرة إلى ما وراء الأخبار، قبل أن نشرح لهم كيف انبطح شلّيطا الثالث على الأرض وهو يطلق النار؟
سادساً، ليلة الإثارة...في "نايت كلوب" النَّظَارة
أنا على يقين من أن الرواية لا تحب ترك الملل يتسرب إلى القارئ أولاً، وربما إلى المشاهد أيضاً. من هذا القبيل، جاء "المشهد" الذي بدأ التمهيد لتقديمه منذ الصفحة 42 واستمرت حرارته تتصاعد حتى أدركت ذروة الإثارة في الصفحتين 47 و48.
كانت الست افتخار زوجة الدكتور- الحقوقي- عبد الواسع الكهرمان، شقيق رمزي "أبو الدستور" الذي دست له زوجته دُرّة السُمّ وتوفي في 1929، قد شاركت في مظاهرة تطالب بحقوق المرأة منذ 1934، وقضت ليلة في النَّظَارة. وبعد أكثر من عشر سنوات شاركت ابنة الأستاذ رمزي في تظاهرة مماثلة في دمشق، تلقت على أثرها خيزرانة على رأسها. لكن الرواية شاءت جمع الاثنتين في النظارة طوال ليلة واحدة، لا مع زميلاتهن من النساء اللواتي شاركن في المظاهرة، بل مع الجانحات البائسات ممن تمتلئ بهن "مخافر الشرطة" كل ليلة.
 برغم استغرابي من بقاء سيدتين من بيئة "بورجوازية" دمشقية محافظة، رهن الاعتقال في نَظَارة الشرطة، مع نسوة "الطبقة الدنيا" من سارقات أو بنات هوى ممن جرت العادة على استضافتهن في مثل هذا المكان، لم يتدخل أحد للإفراج عن افتخار ونديدا، لأن "الواسطة" كانت غائبة في تلك الليلة على ما يبدو. ونكاية باستغرابي المتزايد، فقد استقر المقام بهن جميعاً في النظارة، تحقيقاً لنوايا الرواية المنصبة على مكافحة الملل. وبعد أن أصبح مسرح نايت كلوب النظارة جاهزاً "فإذا بواحدة من الموقوفات تفحّ: أمها (أي أم نديدا) درة حفظي. أمها يَتَّمَتْها...فسألتها موقوفة أخرى: وأختها...ومن كلمة إلى كلمة قالت امرأة ما: لا بدّ أن يأتي يوم تعرف فيه البنت أن أمها قاتلة، والقتيل من؟ أبوها الله يرحمه. يا لطيف تلطف...
وعلا صوت من أقصى النظارة: بلا هالسيرة حاجتنا هَمّ وغمّ. يالله ردوا ورايي، وأخذت تشدو على ورق الفلّ دَلّعني  ما بطيق الظلم حلّ عني....بعد قليل قاطعَتْها جارتها بصوت أعلى وأكبر غنجاً: يالله بنا يا حلو نلعب في رياض الياسمين...وهكذا تحولت "النظارة"، وجوها الخانق، وقذارتها المعهودة، وتنافر الموقوفات فيها، إلى "ستوديو الفن"...حتى صوت افتخار تسلل ليندغم مع الأخريات وصدحت جارة الست افتخار: يا قضامة يا قضامة شوف عيني شوف...وهنا قفزت الرواية إلى ذروة الإثارة حين " وقفت المرأة تغمز وتلوي خصرها وتزمّ شفتيها، فتضاعف هياج الأخريات، وغنّت المرأة: جاب لي المشط بالورقة..وقال لي تسرّحي يا شبئة....
تساءلت رغم استغرابي، لماذا لم تبق كاميرا ستوديو الفن البوليسي طوال ليلتها في النظارة، لترصد لحساب "البصاصين" ماذا جرى بعدئذ...كما عودتنا نصوص أخرى للروائي، وصفت خفايا النظارات الأخرى، في عصور أخرى طبعاً؟ لماذا فِعلاً...
سابعاً، الدُّعاء...وفص العقيق:
 كم مرة قرأتُ ما أفتى النُقّاد من ذوي الأدوات الناقدة المضبوطة على معايير القبان المركزي المحفوظ في مكان لا أعرف أين يقع، من أن الكلام الذي يوضع على لسان اللاعبين في الروايات، ينبغي ألا يتنافر أولاً، مع السويات الفكرية المفتَرضة لأمثالهم في دنيا الواقع ولا مع طبيعة أدواتهم ونمو شخصياتهم وتطورها.
راقبتُ باهتمام مراعاة هذه القاعدة كلما تفوه لاعبٌ بجملة مفيدة في سياق حجر السرائر. لسْتُ في مجال الحكم على كل شخصية، إلا أنني وجدْتُ لزاماً علي التوقف عند الدكتور عبد الواسع الكهرمان القانوني المرموق، شقيق القانوني الآخر "أبو الدستور" كما لقبوه قبل أن يموت مسموماً. الدكتور عبد الواسع إذن رجل عصري ومثقف تقدمي، ويملك بالوراثة، الصندوق الذي يضم الحجارة الكريمة، التي لم أفهم مغزى وجودها، لا في الصندوق بل في الرواية. ما ذنب الروائي إذا لم أفهم؟
قرأْتُ في الصفحة 141 "...وكان صوت الدكتور عبد الواسع قد جاء راجفاً!...في حديث للرسول صلّى الله عليه وسلّم، أن الله يحب أن تُرفع إليه يدُ بالدعاء فيها فَصّ عقيق؟"
قلتُ في سرّي، لماذا اختار الروائي شخصية الدكتور عبد الواسع للتذكير بهذا الحديث؟ هذا القانوني العقلاني الحائز دكتوراه في الحقوق من فرانسا، كما فهمتُ من سياق الرواية. أما راودتْ الروائي خِشيةً من أن يرفض الدكتور هذا التكليف، لمعرفته بكون أكثرية المسلمين الساحقة من الفقراء لا من تجار قريش؟ فيطلب من الروائي تكليف شخصية أخرى مناسبة، ولتكن الست افتخار زوجته، لأنها لن يتبادر إلى ذهنها امتناع فقراء المسلمين عن التزود بفصوص العقيق إرضاء للخالق قبل رفع الدعاء.
جاءني من مكان ما صوتٌ غامضٌ يقول: لقد اختلط عليك الأمر، هذه ليست رواية "النجوم تحاكم القمر" التي سمحتْ ديمقراطية مؤلفها بتمرد الشخصيات التي خَلَقها عليه، إنها حجر السرائر الحريص مؤلفها على الانضباط، وعلى التحكم بالأحداث التاريخية قبل التحكم بشخصياته الروائية. قلتُ برغم هذا: لو أنني في مكانه لكلفتُ زهور السوداء، إن رفضَتْ الست افتخار أداء هذا الحديث، ولانصرفتُ بعدئذ إلى إعادة قراءة كتاب "من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث" أحدث ما نشره جورج طرابيشي.  
ثامناً، "غنيّ لي شْوَيّ شْوَيّ":
لم يعودنا نبيل سليمان على الإفساح في المجال أمام فن الموسيقى والغناء في ما نشره من روايات. هذا العنصر الفنيّ الذي ينبغي التنويه به لاستكمال رسم " جدارية" المشهد الروائي في زمن ما. ظهر اهتمامٌ بهذا الفن على صفحات حجر السرائر، فكيف حدث ذلك، وهل نجحت الرواية في تجسيد بيئة الغناء في دمشق الفيحاء في منتصف القرن العشرين؟
تجلَّتْ الإرهاصات الأولى للغناء الشامي في حجر السرائر، في ما شدتْ به موقوفات "ستوديو الفن " المُرْتجَل في نظارة الشرطة.
تبعَتْ هذا التّجلي دندنة المحامية نديدا ومعها المحامية مَلَك، في البيت الفسيح العتيق، دندنتهما مع رفيق شكري: بالفلا جمّال ساري (ص 50). إلى أن تظهر على الصفحة 73، ذكريات طفولة نديدا "التي كانت تَتَندَّر بصوت افتخار وهي تدندن: لاموني ع الليموني شامي والله. فيدندن الراديو في برنامج " من نشوة الماضي" حبيبي غاب وأنا قلبي داب. فتدندن نديدا: يغبوني ع اليغبوني واش لك يا زين. تذكرتُ فنَّ اللصق collage السائد في الرسم المعاصر لأنني شعرتُ بأن الغاية من هذا "التعداد" إضفاء سِمة "غنائية" على حجر السرائر، غنائية وغير غنية. وشعوري لا يُلزِم أحداً غيري...
لما وصلتُ إلى الصفحة السادسة والسبعين، وقرأْتُ اسم زكية حمدان التي كانت تغنّي في "العباسية" تفاءلتُ، وقلتُ لنفسي ها قد بدأتْ سويّة تذوّق الرواية لنوع من الغناء الجيّد ترتفع، ولكن سرعان ما خاب ظنّي بعد أن عادت الخطيئة التي ارتُكبِتْ مع زجلية عمر الزعنّي، كما أسلْفتُ، كأن ناشر الرواية يصر على إفساد متعة القارئ بالاطلاع على كلمات الأغنية، لأن الرواية الصائتة لمّا تظهر بعد. وقرأْتُ: " وكفعلِ السحر كان فعل اللحن والشعر وصوت زكية في الجميع، وبخاصة في سِنان وغزال عندما صدحَتْ:
   غداً لما أموت وأنت بعدي           قفي بجوار قبري ثم قولي
   خدعتك في الحياة ولم أغالي    تطوفين القبور على تأنّي
   أيا من كنتُ منكَ وكنتَ مني      وخنتك في الغرام ولم تخنّي

وبسيارة غزال، أخذ وسنان يترنمان بالبيت الذي كررته المطربة والتهبت له الأكف:
    كأني ما لثمت لها شفاهاً         كأني ما وصلتُ ولم تصلني"
انتهى الاقتطاع.
لا تقلْ لي بوسع القارئ الفطن إعادة ترتيب أبيات القصيدة التي شوهتْها قلة الاكتراث بالقراء. فهذا ما لن أدخله في حسابي. ما يهمنّي هذا التنويه: "كفعل السحر كان فعل اللحن والشعر وصوت زكية" – ترتيب جيد للدعامات الثلاث اللازمة لنجاح الأغنية. ممتاز، ولكن من هو واضع الموسيقى ومن هو الشاعر؟ ولماذا تجاهلتْهما الرواية ولم تكتشف إلا سحر صوت المطربة، خاصة وأن هذه القصيدة ما زالت تُسمع إلى اليوم؟ وهكذا تمّت التضحية باسم الشاعر، الأستاذ نوفل الياس، ابن بانياس، وبالموسيقي خالد أبو النصر، ابن حمص. على أي مذبح؟ أنا لا أطالب الرواية بذكر المقام الموسيقي الذي اختاره الملّحن، مقام النهاوند ذو الإمكانيات اللحنية الفسيحة، فأنا لا أعرف ولكني سألتْ. وإنما الاكتفاء بالتنويه بدعامة واحدة من دعامات الأغنية، لا يسهم في استكمال رسم صورة الغناء في الفيحاء، وبخاصة وأن هذا التجاهل هو القاعدة.
لماذا لم تَجُد الرواية بسطرين إضافيين على أغنية كان لها فعل السحر في نفوس بعض أشخاص الرواية، في حين جادت بمئات السطور على الحجارة؟... حتّى عنوان الأغنية غاب: سليمى. ومطلعها:
   أرى سلمى بلا ذنبٍ جفَتْني    وكانت أمس من بعضي ومنّي
   كأني ما لثمتُ لها شفاهاً       كأني ما وصلْتُ ولم تَصِلْني
   كأني لم أداعبها لعوباً            ولم تَهْفُ إليَّ وتَسْتَزدني
   كأن الليلَ لم يرضَ ويروي        أحاديث الهوى عنها وعنّي
سليمى...من عَبدْتُكِ بعد ربّي
هذه القصيدة التي صدحتْ سوريا كلها بها، وليس الشام وحدها، لا زجلية ع الهوب الهوب، والتي كانت جواز مرور ملحنها خالد أبو النصر، إلى لبنان وغير لبنان من الإذاعات.
هكذا شرب القارئ "مقلبين" في أقل من عشر صفحاتٍ، دون أن يعرف هل هما بفعل المؤلف أم الناشر. ولئن بالغتُ في الاهتمام بسليمى، فما ذاك إلا لوجود سببٍ قد أعود إليه فيما بعد.
مرّت هدنة طويلة مع الغناء السائد يومئذ، استمرت من الصفحة السادسة والسبعين إلى الصفحة الثانية والعشرين بعد المائة، حين نعثر على نديدا الصغيرة تزاحم غيرها من الصغار أمام صندوق الدنيا. ونستمع إلى صاحب الصندوق يهزجُ أو يصدحُ أو يشدو: تعا تفرج يا سلام على عبلة أم سنان....الأركيلة كهرمان والتخت من ريش النعام. تتبعها "أهزوجة" الجدّة لحفيدها ابن نديدا وهما يزقوان: أنا الزنبق لوني أبيض..لا اعتراض على تذكير القارئ بأغنيات طفولته.
نتوقف بعدئذ في الصفحة 136 مع إذاعة الشرق الأدنى (B.B.C) وهي تقدّم: ياريتني أخطر على بالك، غناء أماني، دون أن نعرف المجهولَين الآخرين، برغم أن تلك الإذاعة كانت الوحيدة التي تنوه بأسماء الجميع. وفي الصفحة 137 تراءى لنديدا أنهم يزفونها، في الخيال. مما قدّم ذريعة لتذكير المتابعين بزغرودتين مهمتين، الأولى للعريس: شب الظريف إن عبق  عبق العطر بالدار (أظنها إن عَبَر) وزغرودة للعروس: يازهرة الآس نيال اللي ضمّك. لا بد لهاتين الزغرودتين من إثارة عواطف القراء العجائز.
بعد نحو أربعين صفحة تُطلّ علينا نهوند (المطربة لا المقام الموسيقي) وهي تنشد من الإذاعة: يا روابي القدس نادي وانشدي لحن الجهاد. دون الاسمين الآخرين طبعاً. ومع ذلك شكرْتُ الرواية لأنها عرّفتني بمثل هذا العمل لنهوند، لأنها لم تُعرف إلا بأغنيتين: يا فجر لما تطّلْ ملّون بلون الفل. والثانية أنا عصفورة بقلب الوادي أي مكان في الدنيا بلادي. ووراءها مباشرة تطل سلوى مدحة التي جاء ذكرها في الرواية بمناسبة إذاعة قصيدة: "كم لنا من ميسلون نَفضتْ". لم يأت ذكر المطربة وحدها بل دار حوار بين والد سنان ومطيع ونديدا وغزال، عن امرأة تحض النساء على التطوع في الجيش لأجل تحرير فلسطين...فقالت نديدا: أنا سمعتُ مثل ذلك وكان رجلاً، وبعده أنشدت سلوى مدحة:" كم لنا من ميسلون نفضَت" هذه الأغنية ساحرة. نشيد ساحر. قال أبو سنان بأناة وتلذذ مكملاً ما بدأته نديدا عن جناحيها غبار التعب. قال رباح: الله يرحمك يا طارق مدحة، أبو سلوى، استُشهد وهو يدافع عن البرلمان. قال غزال: طارق مدحة أفضل من سمعتُه يعزف على الكلارينيت في الشام.
معلومات قيمة بلا ريب، ولكن الأغنية الساحرة من كتبها ومن لحنها؟ يبدو أن الرواية فضّلت التنويه بالشهيد على التنويه بالشاعر عمر أبو ريشة، فهو مشهور بما يكفي، أما المغمور الآخر الموسيقي السوري طبعاً زكي محمد، فما عليه إلا أن يظل مغموراً إلى الأبد، برغم اضطراره إلى تغيير كنيته لان عائلته نقمت عليه لممارسة الموسيقى، وكانت كنيته زكي حموي. المهم أن نديدا  ورَبعها سحرتهم الأغنية الساحرة، وليذهب "أبوها وأمها" الشاعر والملّحن اعني إلى الجحيم، جحيم النسيان، كما أظن.
ينبغي أن نُسجّل لحجر السرائر رصدها هذه الإشارات الموجزة، إلى جانب من جوانب المشهد الموسيقي في دمشق تلك الأيام. فهي أشارت إلى معهد أصدقاء الفنون لهواة الموسيقى الكلاسيكية، وإلى بعض الألمان العاملين في سوريا الذين شكلوا "فرقة سيمفونية صغيرة بإدارة جاك دورلي". ونوهت سريعا ببعض العازفين- رجب خلقي على القانون، وعمر النقشبندي على العود، وبارسيخ برسيخيان على الغيتار والعازفة (على ماذا؟) نجلاء عيسى، والمغنية دلال صالح؟ والمغنّي مصطفى هلال. "هنا قالت نديدا: أنا جاهلة بالموسيقى الشرقية فكيف بغيرها". صيغة موسيقى شرقية خطأ  شائع يحبونه في لبنان، والشرق أو الغرب اتجاهان جغرافيان، فالموسيقى السورية غربية للناظر إليها من بغداد وشرقية للناظر من بيروت. ينبغي القول: موسيقى عربية، أو تركية أو هندية أو إيرانية...ولكل منها سمات خاصة تبعاً لظروفها، كالفارق بين موسيقى مصر والسودان مثلاً....ما لنا ولهذا، ولنترك نديدا وجهلها.
أضافت حجر السرائر معلومة مهمة جداً إلى بناء الغناء في الشام في تلك الأيام، وذلك بانتقالها في الصفحة 209 إلى غناء "الحور العين"، وتدوينها كلمات أغانيهن، مثل: نحن الحور الحسان، هدية لأزواج كرام. كما نسجل لها اهتمامها بتعريفنا بكيفية إطراب أهل الجنة، برغم منع الموسيقى عندهم، حين قالت، بلسان الدكتور عبد الواسع:" إذا أراد أهل الجنة أن يطربوا، أوحى الله إلى رياح يقال لها الهفافة، فدخلت في آجام قصب اللؤلؤ (سمعت بقصب السكر لا بقصب اللؤلؤ) فحركته، فضربَ بعضُه بعضاً، لتسري في الجنة ألحان كأنما صيغت من سحر. والذي نفسي بيده إن الله ليوحي إلى شجرة أن أسمعي عبادي الذين شغلوا أنفسهم عن المعازف والمزامير بذكري، فتسمعهم بأصوات ما سمع الخلائق مثلها وهي تتخلق في حورية فحورية ينشدن: نحن الخالدات فلا نموت. نحن المقيمات فلا نظعن. ونحن الناعمات فلا نبؤس، طوبى لمن كان لنا وكنا له. طوبى لمن كتبَ هذا الكتاب..."
هذا جهد مشكور، فالتنقيب عن مثل الكتاب الذي نقلتْ عنه الرواية (ما يشبه حديث الإفك موسيقياً) ليس بالأمر اليسير، ولا بدّ (للسميّعة) لا في دمشق وحدها، ولكن في حلب أيضاً من أن يكونوا ممتنين لما حصلوا عليه من معارف.
ويبقى السؤال- لا عن دور هذا الكلام في رواية كاشفة لتاريخ سوريا المعاصر وانقلاباتها العسكرية- بل مِمًّن أرادت الرواية أن تسخر؟ إذا كان من مؤلف الكتاب، كان ينبغي الإشارة إلى رأيها في ما نقلَت.أما إذا كان الهدف أدمغة القراء – لا عقولهم- فإنها أصابت الهدف.
ظننْتُ بعد انتقال حجر السرائر- غنائياً- إلى الحور العين والطرب في الفردوس، أنها أكملتْ رؤيتها للغناء في شام تلك الأيام، لكن الصفحة 229 احتفظت لي بمفاجأة، جاءت في رسالة إلى نديدا من صديقتها المحامية أيضاً، ميريل، التي تزوجت من غير دينها ورحلت إلى اللاذقية: " عندي من الفراغ كثير يا نديدا، أقرا قليلاً وأسمع الراديو كثيراً....جارة من جاراتي مولعة بالراديو مثلي ومنها تعلمت أغنية سمحة العراقية: على سرير النوم دَلَّعني لا تستحي، بعدين أنا لسه عروس. من جارتي تعلمت أغنية فريدة محيش: فين حزامي يا نينة. كل ما تحفظه هذه الجارة هو من هذه النوعية". لن نسأل الأستاذة ميريل لم حفظتْها هي أيضا دون الاهتمام بنوعيتها الهابطة؟.
لم أجد بعدئذ إشارة إلى الغناء- ما عدا السهو واللغط- ومع ذلك لم أخفِ سروري باهتمام الرواية بالغناء في الفيحاء. لستُ أحبَ تنغيص هذا السرور بطرح سؤال أو أكثر على حجر السرائر.
أنواع الفنون وسوياتها المختلفة موجودة في كل بيئة وكل زمان. وأمامنا اليوم غناء كثير أدنى سوية من يغبوني واش لك يا زين. وصرنا نشاهد لا نسمع فقط "التدليع" على الأَسِرّة ونحن في بيوتنا، لأنه من المستحيل وقف مسيرة التقدم، كما يقول المثل الفرنسي. لكنني اعرف أن أعدادا غفيرة من سكان دمشق في أواسط القرن العشرين، كانوا يهرعون إلى مشاهدة الأفلام الغنائية المصرية، التي أُنتجت في ثلاثينات وأربعينات ذلك القرن، حاملة إليهم بالصوت والصورة، محمد عبد الوهاب وأم كلثوم وأسمهان وليلى مراد وفريد الأطرش، حتى "المونولوجيست" شكوكو. فكيف لا تتأثر الأستاذة المحامية نديدا وزميلتها ميريل بواحدة من روائع الغناء الجميل التي جاءت بها تلك الأقلام؟ لماذا دندنت ميريل على سرير النوم دلّعني ولم تتذكر أنا قلبي دليلي (ليلى مراد) وأنا اللي أستاهل لأسمهان، كي لا أعود إلى الثلاثينات وأنوّه بالنوم يداعب عيون حبيبي لأم كلثوم أو أحب عيشة الحرية لعبد الوهاب؟ ألسنا في البيئة "البورجوازية" الدمشقية، والطبقة المتوسطة أو المتعلمة على الأقل؟...فكيف لم تُوصِل الرواية إلى مسامع "أبطالها وبطلاتها" أن عبد الوهاب غنّى الجندول في 1938، والكرنك في 1942 وكليوباترا في 1944، دون الإشارة إلى همسة حائرة مثلاً؟ كانت الإذاعة منتشرة والاسطوانات أيضاً. أنا كنت في دمشق في 1949 وكنت أنتظر إذاعة أمثال هذه الأغنيات. ولو كنت أعرف أن نديدا والست افتخار قد غنّتا في النظارة: "على ورق الفل دلّعني"، وفي البيت: واش لك يا زين لما تأخرتُ  ساعةً في تنبيه السيدتين المحترمتَين إلى تخلفهما الغنائي المريع وغير اللائق "بطبقتهما". صحيح أن البورجوازية الجديدة في دمشق ترقص على أنغام "الحاصودة" وتغنّيها، ولكنها، في الوقت نفسه، تملأ مدرجات الأوبرا للاستماع إلى الفرق الأجنبية والعربية، ، وهي تعزف الموسيقى الكلاسيكية وموسيقى الجاز بأنواعها... ناهيك عن حفلات فيروز وزياد الرحباني وغيرهما كُثر. حتى شبكة روتانا -الهابطة بعامة- أوقفَت على الغناء "الأصيل" قناة تبثّ ليلاً نهاراً أغنيات أم كلثوم وليلى مراد وأسمهان وعبد الوهاب وعبد الحليم وفريد، إلى آخر مطربي النسق الأول والثاني. فما هي الأسباب التي دفعتْ حجرَ السرائر  إلى إفساح أكبر مساحة من " جداريتها" الغنائية أمام تيار هامشي من تيارات الغناء الدمشقي في منتصف  القرن العشرين، متجاهلة ما يدور فعلاً في الأجواء الأكثر "عَصْرَنَة"؟ هذا سؤال روائي على ما أظن لمن جعلوا الرواية ديوانَ العرب اليوم، بعد أن طردتْ الشعر أو كادتْ من سجلّات هذا الديوان. فهل تراها طردتْ مع الشعر عناصر "جمالية" أخرى؟
كان بودّي أن تُلزِمَ حجرُ السرائر بطلتَها نديدا ومعها زهور- الخادمة السوداء- أن تُلزمهما بدندنة "حوّل يا غنّام حوّل"، التي كانت أكثر انتشاراً يومئذ من الحاصودة اليوم. إلا أن صوتاً همسَ في أذني: ألا يكفي أنهما دندنتا: بالفلا جَمَّال ساري؟..يكفي ويزيد.
ملحوظة ذات صلة بما قبلها:
وقعتُ وأنا أعالج الموسيقى والغناء في دمشق الفيحاء كما فعلتْ حجر السرائر، على لقاء بالروائي الجزائري واسيني الأعرج، أجراه نائل الطوخي ونشرتْه أخبار الأدب القاهرية في الثامن والعشرين من تشرين الثاني نوفمبر 2010، متضمناً وقفة مطوّلة عن دور الموسيقى في روايات الأديب الجزائري..اكتفي بالقليل مما ورد فيها...
"....تخترق الموسيقى النّص من أوله إلى آخره...والموسيقى هي أهم ما يعطي للنص روحَه، وإنسانيته بشكل غير مباشر وربما غير مُعلن.... كانت الموسيقى الشعبية في بعض رواياتي هي أساس البُنية، لكنها مع الوقت اخترقَتْ المحلية لتصبح موسيقى عالمية...الموسيقى في الرواية هي حالة وجدانية دائمة، تخترقها غنائية عميقة..."
الموسيقى العالمية عند الروائي الأعرج هي الغربية الأوربية في مرحلتها الكلاسيكية، حيث أشار إلى ضرورة معرفة مقطوعة لموزار، وأخرى لريمسكي كورساكوف، وثالثة لفيردي، من أجل فهم هذه الرواية أو تلك من أعماله...أما موسيقى الشرق الأقصى وشعوب أمريكا اللاتينية، وموسيقى شعوب الشرق الأوسط، فهي خارج نطاق الاهتمام بعامّة، حتى الآن على الأقل باستثناء موسيقى الأندلس والشمال الأفريقي.


* مقالة نقدية من (51) صفحة مخصصة لنقد رواية نبيل سليمان الجديدة «حجر السرائر» ننشرها على حلقات

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...