ملف عن رحيل صباح

27-11-2014

ملف عن رحيل صباح


الضاحكة
أوصتنا صباح ألا نبكي عليها. ونحن لن نفعل. لم يخطر ببالنا أصلاً أن نبكي، برغم الحزن الكبير. نحزن أساساً على أنفسنا وعلى الزمن الجميل. نحزن لأن الصبوحة عاشت المرحلة الأخيرة من حياتها بصعوبة، على حافة العوز، بين شائعتين عن موتها. نحزن لأن سفيرة العصر الذهبي، عابرة الحقب، مطربة كل العصور من الضيعة اللبنانيّة إلى قاهرة الأربعينيات والخمسينيات، عاصمة النهضة والفن، يعلن رحيلُها نهاية زمن كانت الفنّانة فيه مطربة قبل كل شيء… والباقي كلّه ـــ الجنون والاسراف والاستعراضيّة والحياة الخاصة و«الفضائح» إذا كان لا بدّ منها ـــ يأتي بعد الصوت والموهبة والمراس والمنجز الابداعي.

نحزن كثيراً، لكننا لن نبكي. كيف يبكي المرء الصبّوحة؟ اسمها وحده رديف للفرح والخفّة وحبّ الحياة. ما إن تستعيد صورتها، أسطورتها، حتى تحضر تلك الضحكة الملعلعة التي تميّزها، وتلك البحّة التي تعطي للصوت عمقاً وصدقاً وسحراً وغواية ودلالاً. ضحكة اقترنت بالعفويّة وطيبة القلب، لكنّها أساساً تمرد على القيود، واحتفاء بالحياة وملذاتها، لنقل إن ضحكتها «مانيفستو السعادة». جانيت فغالي، شحرورة الوادي، امرأة المئة فيلم ومسرحيّة، والثلاثة آلاف أغنية، والثمانية رجال، تبشر بالفرح والنشوة والحب والتفاؤل في كل ما غنّت وجسّدت وعاشت. صباح، أو مديح الحواس، بدءاً بحاسة السمع. إنّها أكثر من رمز نسوي قبل الأوان، وهمزة وصل بين اللون الجبلي والثقافة الريفيّة، والطرب العربي والثقافة المدينيّة التي «ضيّعت فيها قلبها». هذه المرأة التي صنعت من حياتها كل ما تريد، وعاشت أعماراً كثيرة حتّى لا نكاد نصدّق الرقم الرسمي (٨٧ عاماً)، هي الشاهدة على حياتنا أيضاً، هربت بها خارج الميثولوجيا والشطحات المثاليّة والغيبيّة. مع صباح كل شيء يبدأ بالجسد وينتهي عنده، حتى حب الوطن. كتبت بمسيرتها ذاكرة القرن الماضي، هي التي بدأ نجمها يصعد مع موت أسمهان، ورست على ضفاف النيل، على خطى لور دكاش، وقبل سعاد محمد ونجاح سلام… وأخرجها السنباطي من قوقعة الضيعة، فجمعت في مسيرتها الغنائيّة بين زكي ناصيف وفلمون وهبي والرحابنة ووديع الصافي ووليد غلمية وحليم الرومي وعصام رجي و... نجيب حنكش من جهة، وكمال الطويل ومحمود الشريف وبليغ حمدي وسيد مكاوي والقصبجي والموجي وفريد وعبد الوهاب من جهة أخرى… والقائمة تطول. إنّه تاريخ الأغنية العربيّة مجسّداً في امرأة. إنّه تاريخنا الثقافي والسياسي والعاطفي والحميم مجسّداً في صوت. مضت صباح وبقي صوتها. نسمعها تردد كلمات صلاح جاهين على لحن سيد مكاوي «أنا هِنا يا ابن الحلال/ لا عايزة جاه ولا كتر مال/ بحلم بعش/ أملاه أنا سعد وهَنا/ أنا هِنا يا ابن الحلال». تنظر إلى زمننا الأبكم و… تضحك.

بيار أبي صعب- الأخبار

لبنان يودعها الأحد: ديفا علمتنا (معنى) الشغف
ذات صباح عاصف، رحلت صباح (10 نوفمبر 1927 - 26 نوفمبر 2014). الشحرورة، والأسطورة، حاملة الآمال الشتى، والآلام المنكفئة خلف الابتسامة الساحرة، ارتقت أمس إلى سدّة الذكرى المضرجة بالألق. في مقر إقامتها في «فندق برازيليا» حيث أمضت سنواتها الأخيرة، رحلت «أم الغميزات»، البنت الجريئة التي كانت الدهشة أحد أسماء دلعها الحسنى. ذهبت ضاحكة كما كانت دوماً، متعالية على خيباتها الكثيرة، غادرت دنيا ملأتها شغفاً ذات عمر صاخب بعدما أوصت بالأغنية والدبكة والفرح العنيد المكابر الذي يهزأ بالوجع مهما أوتي من كيد ومكر. لم يتعب الموت أحداً كما فعل مع جانيت جرجس فغالي، فكثيرة هي الشائعات التي استعجلت رحيلها قبل حلول الموعد.

لم يكن للفرح أن يكون قضية تستحق النضال لأجلها لولا صباح. كانت موهوبة في انتزاعه من براثن الجشع والحقد والضغائن المتراكمة. كانت تردّ على مكائد الحياة بأن تزداد توهجاً وتنهض من ركام الفجيعة مترعة بالثقة ثم تمضي نحو موعد إضافي مع الروعة النقية والصخب الجميل. مهما يكن ذلك الذي منح البنت الآتية من وادي شحرور (قضاء بعبدا) نحو طقوس الشهرة لقب صباح، فهو كان مبدعاً. الأرجح أنه استشف باكراً تلك القدرة الفائقة على الانبعاث التي تمتلكها.
فطرتها الاستثنائية التي تجعلها أشدّ حماسة للنهوض بعد كل كبوة، والأهم: ذلك الثغر المتقد الواعد دوماً بموسم جديد من البهجة الخالصة. خطواتها الفنية الأولى لم تكن تخلو من صعوبة لكنها كانت واثقة إلى حدود بعيدة. سرعان ما استرعت اهتمام المنتجة اللبنانية الأصل آسيا داغر التي كانت تمتلك حضوراً على الساحة المصرية التي مثّلت ما يمكن وصفه بـ “هوليوود العرب” لوقت طويل.
سرعان ما طرق قيصر يونس، وكيل آسيا في لبنان، أبواب عائلة فغالي في وادي شحرور ليخبرهم بنيّة المنتجة ذات الباع الطويل التعامل مع “جانيت الشحرورة” كما كانت صباح تدعى حينها. ذهبت الشحرورة إلى مصر برفقة والدها، حيث كان عليها أن تخضع لتدريب موسيقي على يد الملحن رياض السنباطي. ساعدتها تلك المرحلة على اكتساب مرونة في الأداء لم تتأتّ لسواها. إلى جانب اللون الجبلي الذي كانت تتميّز به، امتلكت صباح مقدرة التعامل مع الموسيقى المصرية السائدة آنذاك، التي تميّزت بخصوصية يصعب تجاوزها. سنوات قليلة كانت كافية لتحقيق انطلاقة فنية متميزة، وكان لافتاً أن تمتلك الفتاة الآتية من منطقة لبنانية ضيقة الأفق نسبياً تلك السطوة والحضور في المحيط القاهري الزاخر بأعلام اللحن والغناء والتمثيل.
من المهمّ هنا الإشارة إلى أن براعة الشحرورة في تجسيد الأدوار السينمائية لم تقل عن مثيلتها في تأدية الغناء المتمكّن. عرفت بأسلوب ينطوي على مزيج من البساطة والتفرّد. من منصة القاهرة، أمكن لصباح أن تنطلق في عالم الأغنية والصورة، إذ سرعان ما افتتحت مسيرة إبداعية مثيرة للاهتمام تمخضت عن إنجازات يندر تحققها في ظروف مشابهة. والنتيجة 83 فيلماً، 27 مسرحية وأكثر من ثلاثة آلاف أغنية، وإطلالات مشعّة على أرقى مسارح العالم في «الأولمبيا» الباريسي، و«الأوبرا» الأسترالي، و«الفنون» البلجيكي، و«ألبرت هول» البريطاني... بمحاذاة الزحمة الفنية التي تتماهى مع حواري القاهرة وأزقتها وشوارعها، شهدت مسيرة الصبوحة احتشاداً عاطفياً قلّ مثيله، فتزوّجت ثماني مرات، آخرها بفادي لبنان الذي أمضت معه ما يزيد على 17 عاماً. طال عمرها لفرط ما كانت تليق بها الحياة، هي التي رفضت البقاء على رصيف العيش، فانغمست بكل شغفها الطفولي في تفاصيل القلب: أحبّت كما لو أنها خلقت لذلك. غنّت كما لو أنها تفعل ذلك للمرة الأخيرة.
مثّلت كما لو أنها تعيد صياغة الواقع والوقائع. ثم رحلت كما لو أنها تنشد أغنيتها الأخيرة. يمكن للمتأمّل في حياة الأسطورة أن يرصد قدراً من التواطؤ تعمّده القدر ليمدّ الحياة بمقومات الغرابة. حكاية طفلة شهدت المعاناة في البيت العائلي تتحوّل نجمة متفردة، ثم تصير أنثى مُضرجة بالخيبة، لتعاود رحلتها السيزيفية نحو أمان مفقود، فتدركه تارة وتخطئه طوراً، وتحلّق واثقة في سماء المجد ويكون عليها أن تعاقر الوحشة، لكنها تبقى في كل تحولاتها أيقونة متمنعة على أي انضواء.
قيل فيها الكثير واختلف بشأنها الناس، وطبعت لأجلها الكتب، وكتبت من وحيها المسلسلات آخرها «الشحرورة» (2011 ـ تأليف فداء الشندويلي وإخراج أحمد شفيق وإياد صلاح) الذي لم ينصفها، وتآمر عليها منحازون للعتمة، وبقيت صباح: شعشاعة، بسامة، براقة، رقراقة تمشي واثقة على ماء العيون المنبهرة، ثم تنهمر كمعجزة جميلة. بعد غيابها الذي لن تخصص له الدولة يوم حداد طبعاً، ستكتب عنها الأقلام كثيراً وستهطل الذكريات كمطر يوم الرحيل، وسيبحث عنها المحبّون في قصائد العشق، ستفتقد طلّتها المسارح وتشتاق إليها الكلمات، وستظلّ الصبوحة لغزاً عصياً على الأذهان.

* يسجّى جثمان صباح عند الساعة الحادية عشرة من قبل ظهر يوم الأحد المقبل في «كاتدرائية مار جرجس المارونية» (وسط بيروت)، ويحتفل بالصلاة لراحة نفسها عند الساعة الثانية من بعد ظهر اليوم نفسه في مأتم شعبي، وتوارى الثرى في مسقط رأسها في بدادون (جبل لبنان). تقبل التعازي في يوم الوداع، ويومي الاثنين والثلاثاء في الكاتدرائية المذكورة من الساعة الحادية عشرة قبل الظهر حتى السادسة مساء.
علي العزير - الأخبار

الصبيّة الجامحة غنّت موّالها... وأطربت!
حيوية شخصيتها واستقلالها لم يجعلاها تكتفي بدور مؤدية فقط. صباح «مطربة» بامتياز، لم تنجح معها الطريقة المستحدثة من المدرسة الغربية التي أعطت الملحن معظم (إن لم يكن كل) المساحة للخلق. لقد كانت خارج القولبة. رغم نجاح السنباطي المؤقت في تطويع صوتها الجبلي والبلدي المنتمي إلى بلاد الشام ليشبه الأداء المصري، أعادت الشحرورة شخصية حنجرتها إلى كل لحنٍ وكلمة. لقد «ابتكرت» صوتاً من صوتها، جبلته ليجمع بين شخصيتين كادتا أن تكونا متناقضتين في تلك الحقبة: استعراض أنثوي لقدرات صوتية جدية. كانت تغرف من تراث يحوي قساوة بلدية في تقنيات عالية تنبع من شموخ أرز لبنان لتنساب منها غنجاً وجرأة في جو اجتماعي محافظ يكاد يفقد صوابه لسماع جملة «يا إمي طلّ من الطاقة... غمزني وفلّ يا إمي». من خلال صوتها، نجحت في إظهار جموح الفتاة العفوية بأداءٍ يحترم تراثاً قديماً ويضيف إليه ما يليق به. لقد قطفت أجمل الألحان من أعظم موسيقيي مصر ولبنان وسوريا منذ فيلمها الأول «القلب له واحد» المأخوذ عن قصة سندريلا. جمعت شحرورة المجد من الثلاثي: زكريا أحمد (حيرانة يا ربي)، محمد القصبجي (يا بحر جينا) ورياض السنباطي (بشويش على عقلك).

أخذت من فريد الأطرش بعض الألحان مثل «أكلك منين يا بطة»، «عالصورة امضيلي»، و«حبيبة أمّها».
أما الأشهر، فكانت «يا دلع يا دلع» التي نافست يومذاك «عالضيعة يامّا عالضيعة» من ألحان عبد الوهاب، تلك التي خلق فيها الموسيقار لحناً لبنانياً بامتياز. أما مع بليغ حمدي، فلا شك أنها نجحت في معظم ما غنت له، مثل «يانا يانا»، و«عاشقة وغلبانة»، و«زيّ العسل»، و«يا حبيبي يا حياتي». في اللحن، ابتعدت عاشقة الحياة عن شجون الشروقي، بينما انتقت من فنون الزجل ارتجال الميجانا والعتابا وأبو الزلف، فكانت قمة تألقها في «مهرجانات بعلبك»، حيث تفوقت إلى حد التحديث وإضافة بصماتها الثابتة إلى هذه القوالب القديمة، ليشهد لها عاصي الرحباني بأنها «تعيد بناء قلعة بعلبك بموّالها بعد أن يهدمها وديع الصافي بصوته». بعد مسرحيات «موسم العز» و«دواليب الهوا»، «القلعة» و«الشلال»، جنت صباح أعمالاً كرمتها لحناً وكلمة. إلى جانب «عالندا الندا»، «عتيمة عالعتيمة» «ع الليلكي»، خلدت «الصبوحة» لقبها في أغنيتي «جيب المجوز» و«يا طير الزعرورة» بفضل الرحابنة. أنصفت صباح معظم ملحني أعمالها بأدائها. عبرت في «أخدوا الريح» عن كل ما تضمره جمل المبدع مطر محمد اللحنية من ألم وحزن ووحدة. أما في أغانٍ مثل «يا إمي طل من الطاقة»، و«واقفة ع راس الطلعة»، و«جوزي ما بيلفي عالبيت»، و«يا ربّ تشتّي عرسان»، و«عالعصفورية»، فتقمصت ابنة الجبل الشخصية الهزلية لعبقري الفطرة فيلمون وهبي.شهد لها عاصي الرحباني
بأنها تعيد بناء قلعة بعلبك

كان له قسط كمي ونوعي من أرشيفها، إذ أعطاها إلى جانب الأغاني الهزلية إبداعات مثل «راجعة على ضيعتنا»، و«يا إمي دولبني الهوى»، و«دخل عيونك».. غنت أيضاً لإيلي شويري («عامر فرحكم عامر»، «تعلا وتتعمر يا دار») واشتهرت «أهلاً بهالطلة» لزكي ناصيف.
لكن النجاح اللافت كان بغزارة أعمال نتجت من تعاملها مع الراحل وليد غلمية الذي انصرف لاحقاً عن التلحين الشعبي مع خلود «درجي»، «دوسا»، «دوبارا»، «قلعة كبيرة»، «مرحبا يا حبايب»، «مسّيناكم»، «يسلم لنا لبنان»، «يا مسافر وقف عالدرب». أعطت صباح لهذه الأغاني روحها الإيقاعية الغنية بالزخرفة اللحنية، حتى في أكثرها هدوءاً، مثل «شو بدي أعمل قلي» التي امتازت بمقام اللامي الذي أبدع ملحنها بحجب الحس الحزين لهذا المقام العراقي...
ربما كانت من القلائل الذين انعكست شخصيتهم بصدق على ممارساتهم الفنية. ابنة شقيق شحرور الوادي التي أتقنت العديد من أنواع الزجل «غنت موالها» الخاص. عاشت لنهارها، لا بفساتينها وزيجاتها فحسب، بل بفنها الذي عكس على المستمع بساطة غير متوقعة من أداءٍ وتنويع لقوالب جدية.
لارا ملاعب - الأخبار

مرجع في الفولكلور والغناء الجبلي
طبعاً زمن الصبوحة لا يشبه زمننا. هذا طبيعي، لكن ما هو غير طبيعي أن المعايير التي ضبطت الفن العربي تراجعت على نحو هستيري. بمعنى أن التحرّر التي عُرِفَت به صباح قبل عقود ترافق مع صوتٍ قدير واستثنائي، فكان جسر عبورها إلى الناس قبل الطلّة والغنج والاستعراض. ما نشهده اليوم هو موجة من أشباه الفنانات اللواتي ورثن عن الشحرورة كل شي ما عدا الصوت. كان ضرورياً التعويض عن نقص العنصر الأساسي (هل يوجد أهم من الصوت في الغناء؟!) بدفع ما بدأته الراحلة في مجال الجرأة في إظهار الأنوثة بشقها اللعوب، إلى ما بعد «المقبول».

الجسد هو السلاح الأوحد اليوم. أما صباح فكان سلاحها الأول، لا الأخير، الصوت. سلاحٌ سمح لها بأداء أنماط غنائية متباعدة إلى حدّ كبير. في الفولكلور اللبناني/ المشرقي والغناء التراثي الجبلي، هي مرجعٌ وعلمٌ استطاع الوقوف أمام الراحلَين نصري شمس الدين ووديع الصافي وغيرهما من رجال «القول» في لبنان. وهنا يجب القول إن التعويل الدائم على الـ «أوف» الشهيرة عند صباح للدلالة على قدراتها الصوتية في هذا اللون الغنائي هو نوع من الاختزال والتسخيف لمساهمتها في الفولكلور. فبمَ تتميّز هذه الـ «أوف» بغير النفس الطويل وبعض العُرَب في هامش محدود في كل أبعاده، إلاّ في الطول؟ في اللون المصري، لم تستطع صباح تخطّي عمالقة الغناء الذين عاصرتهم، وهذا طبيعي، فالصوت ابن لغته وبيئته ومناخها ومياهها وتربتها أيضاً (هل تستطيع أم كلثوم منازلة الشحرورة في العتابا؟)، لكنّها على الأقل خرقت الوسط الفني المصري وكانت على قدر المسؤولية الفنية لناحية إعطاء الأعمال حقّها. في الأغنية اللبنانية التي كانت معاصرة آنذاك، أي تلك التي وضع أسسها الأخوان رحباني، صنعت صباح مجدها الأكبر. هذا اللون ترتاح له وتبرع فيه، وتحديداً عندما يأتي وقت الرقص والفرح والدبكة والرشاقة. أما الأغنية الحديثة (ومنها الرومانسية) التي عُرِفَت بها في سنوات نشاطها الأخيرة، فكانت الأسهل بالنسبة إليها. صوتها/ الجرس أكبر من هذا اللون، وبالمناسبة أساء إليها المنتجون (واضعو قالب الأغنية) في بعض ما قدّموه إليها من أغنيات هابطة، لم تكن لتليق بها، فكيف إذا أضفنا عنصر العمر المتقدّم؟ رحلت صباح أمس وكثيرون يعتقدون أنهم ورثوها فنياً، لكن وريثتها قد تكون فتاة بريئة تعمل في الزراعة ولا أحد يعرفها، تنتظر خبيراً بالغناء يمرّ بالمقرب من حقلها وتصدف أن يسمعها تنشد لجمهور من المخلوقات الساكنة في التراب.
بشير صفير- الأخبار

يوم وقفت أم كلثوم دفاعا عنها
 بين مشهد وقوف صباح أمام سامية جمال في فيلم «الرجل الثاني» (1959) مع رشدي أباظة وصلاح ذو الفقار، وهما تتنافسان على رجل واحد في محاولة لإثبات أنّ الجمال اللبناني يتفوق على المصري، ومشهد الهتاف ضدها في نقابة الموسيقيين، كان مشوار صباح الفني. «أخي، جاوز الظالمون المدى. جاءت صباح بعد نور الهدى».
هكذا هتف المطربون والمطربات من أعضاء نقابة الموسيقيين اعتراضاً على وصول المطربة اللبنانية الشابة في الأربعينات من القرن الماضي. ظلت الأصوات تتعالى داخل النقابة حتى تدخلت «الست» أم كلثوم. نقيبة الموسيقيين آنذاك قالت بحسم «مصر بلد الفن ومفتوحة للجميع، ولن نقف ضد أي موهبة». بعد هذا الموقف، سكتت كل الأصوات المعارضة لصعود الصوت الشاب إلى خشبة الحياة الفنية في مصر.
عند وصولها إلى القاهرة، كان في استقبال «الشحرورة» آسيا داغر التي أقنعتها، بأهمية المجيء إلى مصر. اصطحبت معها المخرج المبدع هنري بركات، لتبدأ النجمة الشابة أولى خطواتها في السينما المصرية.

أدخلتها آسيا إلى الوسط الصحافي والفني، بعدما أدركت أنّ تلك الفتاة النحيفة تملك موهبة حقيقية تحتاج فقط إلى من يطلقها ويقف بجوارها. وبالفعل، تبنت آسيا تلك الموهبة بكل ما تملك من قوة ومال وعلاقات، إلى درجة أنّها لم تترك صباح تعيش وحدها في بداية مجيئها إلى القاهرة. سكنت معها في منزلها في مصر الجديدة. وبرغم أنّ ملحنين كثراً وقتها كانوا يرون أنّ صوت صباح طفولي، إلا أنّ آسيا طمأنتها، وكذلك بركات، الذي قال لها «انت مهضومة حتى لو أن صوتك طفولي».
وبالفعل، وقّعت معها آسيا عقداً بثلاثة أفلام. كان الاتفاق يقضي بأن تتقاضى 150 جنيهاً مصرياً عن الفيلم الأول، على أن يزيد الأجر تدريجاً. لا أحد ينسى مشهدها الخالد في فيلم «شارع الحب» مع عبد الحليم

وبدأت آسيا رحلة التحدي مع صباح عندما كلفت الملحن المبدع رياض السنباطي تدريبها فنياً، ووضع الألحان التي ستغنيها في فيلم «القلب له واحد» (1945). في تلك الفترة، اختفى اسم «جانيت الشحرورة»، وحل مكانه اسم «صباح». ويقال إنّ السنباطي لاقى صعوبة كبيرة في تطويع صوتها وتلقينها أصول الغناء، لأن صوتها الجبلي كان لا يزال معتاداً الأغنيات ذات الطابع الفولكلوري الخاص بلبنان وسوريا. في 1945، أدت صباح دورها الأول في «القلب له واحد». كانت هي «الاكتشاف» الغنائي اللبناني الذي أرادت به آسيا داغر أن تنافس نور الهدى، الاكتشاف اللبناني الغنائي الذي قدمه يوسف وهبي في فيلم «جوهرة»، فاكتسح به السينما المصرية عام 1943.
في هذا الوقت، كانت «هوليوود الشرق» تتعافى من أزمتها المالية بعد الحرب العالمية الثانية، وكانت صناعة الترفيه مزدهرة، مما أدى إلى انتعاش سوق السينما.
أدركت آسيا ذلك، فعملت على الدفع بوجوه جديدة إلى الواجهة برغم أن تجربة صباح الأولى كانت متوسطة، حيث ظهرت بشكل فتاة نحيفة وقليلة الحيلة تبذل جهداً في الإمساك باللهجة المصرية. وبعد فترة من الارتباط بالمنتجة آسيا، استطاعت صباح أن تحصل علي مسكنها الخاص في الجيزة على نيل القاهرة. بدأت علاقتها تتسع بأعضاء من الجالية اللبنانية، كانوا ينظمون لها حفلات، وتحديداً في نادي ما يسمى وقتها «نادي الشرق».

في إحدى المرات، صادفت عبد الحليم حافظ الذي كان لا يزال هو أيضاً في بداية مشواره. طلبت منه حضور إحدى حفلاتها، وبدأت علاقتها بعبد الحليم، وفريد الأطرش الذي كان يسكن بجوارها، وأيضاً فايزة أحمد، التي جمعتها بها صداقة عمر، برغم أنّ الغيرة الفنية كانت قائمة. مع زيادة خبرتها الحياتية، نضجت صباح فنياً، على مستوى أدائها، وشكلها، وبدأت الأفلام تنهمر عليها، ومنها «بلبل أفندي»، «بيروت صفر 11»، «باريس والحب»، و«توبة وجوز مراتي»، «الحب في خطر»، و«خطف مراتي»، «الحب كده»، «الرباط المقدس»... وقفت أمام نجوم السينما المصرية، أنور وجدي، وفريد الأطرش، ومحمد فوزي، وفريد شوقي، وعماد حمدي، وعبد الحليم حافظ، ورشدي أباظة، ونجم الكوميديا إسماعيل ياسين. وإذا كانت صباح قد غنت تقريباً لكل ملحني مصر ما عدا سيد درويش، فإنها أيضاً وقفت أمام معظم نجوم تلك المرحلة في السينما المصرية.
مع كل خطوة جديدة، كانت الصبوحة، تتطور وتكتسب مهارات جديدة. بذكائها، أدركت في منتصف مشوارها الفني أنّ الجمهور بدأ ينصرف عن الأغاني الخفيفة التي كانت تقدمها، لذلك، أجرت نقلة نوعية حين لحّن لها فريد الأطرش وكمال الطويل، وبالتوازي صارت واحدة من أجمل أيقونات السينما المصرية. تبدلت ملامحها القروية، الساذجة، ونحافتها إلى جسد ممشوق فائر، صار رمزاً للأنوثة. كانت الصبوحة تتفنن في إظهار مفاتنها، وشياكتها وأناقتها التي أصبحت مثار غيرة نجمات ومطربات كثيرات.
ألهمت الكثير من السيدات في تلك الفترة، بعدما تحولت رمزاً من رموز الموضة والجمال والموهبة. لا أحد يستطيع أن ينسى مشهدها الخالد في فيلم «شارع الحب» (1958) مع عبد الحليم، عندما غنت له أغنية «لا»، والفستان الشديد الرقي الذي كانت ترتديه في فيلم «الأيدي الناعمة» (1963) مع أحمد مظهر. مدفوعةً برغبة في التنوع والتفرد، حرصت على تنويع التعامل مع مخرجين مصريين من مدارس مختلفة، بدءاً من بركات، وأحمد بدرخان، وصلاح أبو سيف في فيلم «مجرم في إجازة» (1958)، وحسن الصيفي في «خطف مراتي» (1954)، وعز الدين ذو الفقار في «الرجل الثاني» (1959) و«شارع الحب»، وحلمي حليم مخرج الرومانسيات، الذي أنجز لها فيلم «كانت أيام» (1970) مع رشدي أباظة وحسين فوزي، والمخرج الكوميدي فطين عبد الوهاب وصولاً إلى آخر أعمالها في مصر مع المخرج الشاب وقتها أحمد يحيى في «ليلة بكى فيها القمر» (1980) أمام حسين فهمي لتشارك في حوالى 70 فيلماً مصرياً. صباح حصلت على الجنسية المصرية في عهد الرئيس السادات، وبعد زواجها بعازف الكمان أنور منسي والد ابنتها هويدا، الذي كان أول أزواجها من المصريين.
بعده، ارتبطت بالإذاعي أحمد فراج، ورشدي أباظة في زيجة قصيرة. هكذا، حملت مصر بداخلها، وعانت حياة مليئة بالمآسي، كانت كفيلة بجعلها تتراجع في مشوارها الفني، أو تتوقف في محطات بعينها، ولكن فنها سواء وقوفها أمام الكاميرا أو وراء الميكرفون كان ترياق الحياة بالنسبة إليها. وإذا كانت أم كلثوم قد دافعت عنها في بداية مشوارها، فان الجمهور المصري رفعها إلى عنان السماء وتوّجها ملكة على قلبه، وعرش فنه، وشاركها الضحك والغناء والحب، والمعاناة وكل المعاني النبيلة التي جسدتها الصبوحة رمز الحياة ومعادلها الذي قلما يتكرر.

علا الشافعي - الأخبار

إمبراطورة الترف والأناقة والغلامور
ابتكرت صباح ستايلاً خاصاً بها اعتمد على الترف والغلامور والباروك، فظهرت كنجمات هوليوود. طولها ومقاساتها كانت أقرب إلى عارضات الأزياء ما ساعدها على ارتداء كل القصّات والتصاميم حتى السراويل والشورتات مع الجزمات الطويلة. لم تكن تخاف من أي لون، وخصوصاً أنّها كانت تتمتع بسحنة بيضاء صافية وشعر ذهبي. فارتدت كلّ الألوان: الأسود، والأبيض، والذهبي، والزهري، والأحمر، والتوركواز، والأخضر، والأزرق. كما كانت ترتدي الفرو، والريش، والبرق، والكثير من الأكسسوارات الفخمة التي تمنحها تألقاً لافتاً.

استعانت «الصبوحة» بالمصمّم اللبناني جوزف هارون الذي كانت أزياؤه أشبه بلوحات فنية. بعده، صممّ لها وليام خوري على مدى أربعين عاماً أجمل فساتينها البرّاقة والمزخرفة مع الأكسسوارات ذات الحجم الكبير.
أكسسوارات ارتدتها في الأفلام والحفلات والمهرجانات. من أجمل فساتينها التي ستبقى دائماً في الذاكرة، فستان السمكة التي ارتدته في فيلم «إزاي أنساك» (1956 ــ تأليف علي الزرقاوي، وإخراج أحمد بدرخان) مع فريد الأطرش وغنّت فيه «أحبك ياني»، كما فستانها الأبيض العرائسي الذي ارتدته في فيلم «شارع الحب» (1958 ــ تأليف يوسف السباعي، وإخراج عز الدين ذو الفقار) مع عبد الحليم حافظ. كان وليام خوري يختار لها الفساتين الطويلة المُترفة على شكل عباءات شرقية، ويزوّدها بأكسسوارات أو تيجان فخمة لتبدو كالإمبراطورة. ولا يمكن أن ننسى الفستان الأخضر بأكمامه الطويلة المغطّى بالليرات الذهبية الذي ارتدته في «مهرجانات بعلبك الدولية» وغنّت فيه «عالندّا الندّا».استعانت بالمصمّم اللبناني جوزف هارون الذي كانت أزياؤه أشبه بلوحات فنية

وليام خوري الذي ابتكر لصباح ستايل الإمبراطورات وصمّم أيضاً لإمبراطورة إيران فرح ديبا، كان يُدرك أهمية صباح وتميّزها.
لذلك، كانت تصاميمه مزيجاً من الترف والأناقة والغلامور. ومن بين المصممين الذين تعاملت معهم صباح، هناك أيضاً فؤاد سركيس، وزهير مراد، وآخرون.
أما الشعر، فكانت لكلّ مرحلة تسريحتها. فـ«الصبوحة» المعروفة بعشقها للموضة والجمال، لوّنت شعرها بالأشقر الفاقع في مرحلة الستينيات، ما زادها تألقاً وميّزها عن بقية النجمات. في هذا السياق، تعاملت مع جوزف غريب في السنوات الأخيرة، ولناحية الماكياج أيضاً. علماً بأنّ غريب هو أحد أصدقائها المقرّبين.
كانت الأسطورة تعتمد ماكياجاً رومانسياً هادئاً في أفلام الأبيض والأسود يناسب تلك المرحلة. بعدها، اعتمدت الماكياج القوي والألوان البرّاقة، وخصوصاً على العينين لتكبير حجمهما.
أناقة صباح لم تكن تعكس أرستقراطية كلاسيكية كالتي ميّزت نجمات أخريات أمثال مديحة يسري، وليلى فوزي، ومريم فخر الدين. كذلك، لم تكن أزياؤها دليلاً على استعلاء أو أنطواء، بل بقيت قريبة من الناس، وأحبّتهم مثل حبّها للحياة.

حنان الحاج- الأخبار

الصبوحة وأزواجها الثمانية: امرأة ترفض الأوامر
ليست كلمة أسطورة فضفاضة على صباح. هي ليست مجرّد مطربة استنثائية، بل سيّدة لا تشبه الأخريات. لذلك، لم تفارقها الشائعات حتى آخر يوم في حياتها، حتى إنّ تلك المتعلقة بعلاقاتها العاطفية لم تتوقّف إلا قبل سنوات معدودة، خصوصاً أنّها دخلت القفص الذهبي ثماني مرّات. الأولى، عندما كانت في الـ18 من عمرها هربت من تسلّط أبيها فتزوّجت من نجيب الشمّاس الذي أنجبت منه ابنها صباح. غير أنّ الحياة معه لم تكن أسهل.

في إحدى المقابلات، قالت إنّها لم تختر نجيب بل قبلت به، متحدثة عن مشاكل عدّة واجهتها بسبب فارق السن بينهما، مثل غيرته الشديدة عليها. بعد ذلك، تعرّفت إلى عازف الكمان أنور منسي الذي كان يرافقها في حفلاتها، وقرّرا الزواج أثناء عملهما على لحن جديد لأغنية ستؤديها في فيلم «لحن حبي» (1953 ــ إخراج أحمد بدرخان). أما ثمرة هذه العلاقة، فكانت ابنتها هويدا، فيما تردد أنّ أحد أسباب انتهائها كان إدمان الزوج على المقامرة.
التقت صباح الصحافي المصري أحمد فراج أثناء ظهوره في فيلمها «امرأة وثلاثة رجال» (إخراج حلمي حليم)، ليعلنا زواجهما بعد فترة وجيزة. ظهر الاختلاف بين الشخصيتين، وحصل الانفصال بعد ثلاث سنوات.
أشهر زيجات صباح وأغربها هي من النجم المصري رشدي أباظة. الزواج المفاجئ انتهى خلال أيّام، ما طرح أسئلة عدّة ما زالت عالقة حتى اليوم. في حوار نشرته «الأخبار» قبل عامين (الأخبار 20/9/2012)، قالت صباح إنّها تزوّجت أباظة «نكاية بكل النساء. هو كان هدفهن، وفريستهن، ومحورهن ومعشوقهن، دخلت على الخط وفزت به». ولفتت إلى أنّها وافقت بعدما أخبرها بأنّه طلّق الراقصة سامية جمال، لكنه في الحقيقة لم يفعل. وتابعت: «تركت رشدي، لأنّه خلال مشوارنا بالسيارة في منطقة الروشة، قال لي إنّه أهم نجم على الأرض، فقلت له أنا نجمة أيضاً، وطلبت منه أن ينزلني، وعدت إلى البيت. يومها، قررت الانفصال عنه»، مضيفة: «كان يتحوّل إلى إنسان مختلف حين يلتقي بمعجبيه، وما أزعجه وأزعج غيره أنّني أنا من طلب الطلاق. لذلك ظل أميناً على حبي حتى وفاته». وفي مقابلة مع الإعلامي المصري عمرو أديب في 2008، قالت إنّها تركت أباظة عندما علمت أنّه ما زال متزوّجاً من جمال: «ذهبت لأحيي حفلة في المغرب ولم أرجع إليه»، كاشفةً أنّ أحد أسباب فشل العلاقة أيضاً هو أنّه «الرجل الوحيد الذي كان أقوى منّي». بعدها، وقع اختيارها على مواطنه وزميله يوسف شعبان، لتنتهي القصة بعد شهر تقريباً.
النائب اللبناني يوسف حمّود كان الرقم 6 على اللائحة. أمضت معه سنتين، لتتزوّج بعدها من الفنان اللبناني وسيم طبارة أربع سنوات. وعن هذه القصة قالت: «هذا ليس زواجاً عادياً. هي قصة حب لم أستطع أنا ووسيم مقاومتها». أما آخر أزواج صباح، فكان فادي لبنان الذي أمضت معه 17 عاماً، لأنّه كان «صامتاً وجيّداً»، وفق ما قالت لعمرو أديب. وأضافت: «لكن المعادلة تغيّرت عندما أحب امرأة أخرى».
أمام كل هذه الزيجات، يبرز سؤال: ما الذي تحبّه صاحبة أغنية «ألو بيروت» في الرجال وما الذي تكرهه؟ خلال ظهورها في برنامج «نجوم على الأرض» مع الإعلامية المصرية ليلى رستم عام 1966، أكدت صباح أنّ أكثر ما يهمّها هو «شخصية الرجل. وتحديداً الرجولة، والصدق. لأنّه حين يكذب يفقد احترام المرأة». في هذا السياق، قالت في مقابلتها مع عمرو أديب «لا أقع في الحب، بل أعيش قصص حب ولا أعرف من المُخرج. عندما أنتهي من علاقة أنتقل إلى أخرى، وأحاول ألا أندم. أنا لست امرأة متسلطة، لكنني لا أحب أن أتلقى الأوامر من أحد». يومها، لم ترضَ أن تعطي نصيحة إلى النساء، انطلاقاً من أنّها لا تستطيع أن تعمم تجربتها، لأنّ «المشهور يختلف عن الشخص العادي، فهناك من يطمح إلى استغلاله».
نادين كنعان- الأخبار

إذاعات القاهرة: "سلمولي على مصر"
تفتح القاهرة أبوابها دوماً للفنانين العرب، لكن قلة منهم تنجح في الذوبان داخل النسيج المصري أبرزهم صباح. بقيت شائعات وفاتها تنطلق بانتظام خلال السنوات العشر الأخيرة، لكن عندما صعدت روحها إلى السماء، لم يصدق المصريون الخبر. نعتها وسائل الإعلام المصرية بما يليق بمكانتها الفنية في "هوليوود الشرق"، وصَدقت توقعات الجمهور عندما تصدّرت أغنية "سلمولي على مصر" (كلمات حسين السيد وألحان محمد الموجي) قائمة الأغنيات المستدعاة من أرشيف صباح لتتداولها أغلبية إذاعات القاهرة صباح أمس، بعد دقائق من انتشار الخبر المحزن.

استمع المصريون إلى الأغنية مجدداً، لكن باعتبارها رسالة وداع من فنانة لطالما احترمت البلد الذي صنع نجوميتها، ونادراً ما تعامل معها أهله باعتبارها ضيفة، على غرار ما حققته الراحلة وردة الجزائرية، التي جمعت حبّ الشعبين المصري والجزائري. كانت صباح من الوجوه التي لا تخاف غدر الزمن. أعطت جمهورها دروساً في حبّ الحياة.
جاءت إلى مصر في الأربعينات. موهبتها كانت بوابة عبور ملكية التقطتها عين المنتجة المصرية آسيا داغر (1901-1986) وأوكلت للموسيقار رياضي السنباطي تدريبها على غناء كل الأنماط بعدما كانت معتادة فقط الأغنيات ذات الطابع الجبلي. وبعد أول فيلم "القلب له واحد" (اخراج هنري بركات وسيناريو بديع خيري) عام 1945، انطلقت صباح واستمرّ عطاؤها الفني موهبة وإبداعاً حتى عام 2009. ولولا المرض لغنّت لليوم الأخير في حياتها. خلال ستين عاماً، قدّمت الصبوحة عشرات الأفلام ومئات الأغنيات التي بقى الكثير منها شاهداً على موهبة فطرية وكاريزما وفّرت لها مجال جذب واسعا شدّ إليها ملايين المعجبين من المحيط إلى الخليج. ولصباح في "هوليوود الشرق" علامات سينمائية وغنائية بارزة ربما يكون صعباً إحصاؤها، عكس مجموعة قليلة من المسرحيات التي لم تحفظها ذاكرة التلفزيون. من أبرز أفلام الشحرورة في مصر "الرجل الثاني" (1959 ـ إخراج عز الدين ذو الفقار وتأليف يوسف جوهر) مع رشدي أباظة وصلاح ذو الفقار. كما لها علامة بارزة في مشوار الفنان الراحل عبد الحليم حافظ عبر فيلم "شارع الحب" (1958 إخراج عز الدين ذو الفقار وسيناريو يوسف السباعي) وكان من الأفلام التي تأكّد من خلالها ذكاؤها الفنيّ حيث رفضت دوراً آخر بأجر مرتفع كي تقف أمام "العندليب" وخرجت رابحة من المعادلة كما اعتادت دائماً. من أفلامها المميزة أيضاً "خطف مراتي" (1954 ـ سيناريو بديع خيري وإخراج حسن الصيفي) مع أنور وجدي وفريد شوقي، والفيلم الكوميدي "العتبة الخضراء" (1959 ـ إخراج فطين عبد الوهاب) مع أحمد مظهر وإسماعيل ياسين. ومع مظهر أيضاً، قدّمت واحداً من أهم أفلام مصر في القرن العشرين وهو "الأيدي الناعمة" (1963 ـ إخراج محمود ذو الفقار وسيناريو توفيق الحكيم) بمشاركة صلاح ذو الفقار ومريم فخر الدين. وفي مرحلة عمرية أكثر تقدّماً قدمت الفيلم الشهير "ليلة بكى فيها القمر" 1980 (إخراج أحمد يحيى وتأليف عبدالرحمن الأبنودي) مع حسين فهمي، الذي تضمّن أغنيتها المعروفة "ساعات ساعات"، ولم تعتمد صباح أبداً على السينما لتحقيق الانتشار كمطربة. كان لها انتشارها الخاص في حقبة ضمت أصواتا نسائية عظيمة كأم كلثوم وشادية ونجاة وغيرهن الكثيرات، وحفلاتها كانت دائماً كاملة العدد، وخصوصاً أنها اختارت الإيقاع السريع والمبهج لمعظم أغانيها غير القابلة للحصر، التي تبرز منها أغنية كل الأمهات في مصر "حبيبة أمها"، و"علمني الحب" و"يلا نعيش الحياة" و"عاشقة وغلبانة" و"زيّ العسل" و"يا دلع يا دلع" و "أنا هنا يا ابن الحلال".
محمد عبد الرحمن-الأخبار

رحيل الزمن الجميل
ورحلت صباح؛ كأنّما هو أوان رحيل الزمن الجميل بأكمله. لا ندري لماذا، لكن في أسبوعٍ واحدٍ رحلت هي، ورحل قبلها بيومين السوري القدير عصام عبه جي، وقبلهما بقليل كان رحيل مريم فخر الدين. إنها مؤاساة عقدٍ فنّي برمته. الفنانة ذات الشعر الأشقر التي ملأت الدنيا وشغلت الناس بزيجاتها، وبقصص عشقها، وبحياتها الطويلة المليئة بالألم، وبابتعاد الجميع عنها رغم كل الضجّة التي يستعدون لإثارتها حولها، وأخيراً ببكاء الكثيرين عليها، رغم أنّهم هم أنفسهم من كتبوا وسخروا طويلاً من حياتها المديدة.

ترحل صباح بهدوء بعدما تنبّأ أكثر من عرافٍ بأنّها سترحل كل عام. في بداية كل عام، يجلس شخص ما يدّعي معرفة لا يملكها ليخبرنا برحيل فنانةٍ لبنانية كبيرة، والكل يعرف أنّهما وحيدتان لا ثالث لهما: فيروز وصباح، حاميتا الفن الجميل. فيروز المبتعدة عن الإطلالات الإعلامية، وصباح التي عرَّت روحها أمام الإعلام. يشير كثيرون إلى أنّ خطأ صباح هو أنّها أدخلت الإعلام إلى كل زوايا حياتها، ولكنّهم يلومون فيروز بالمقدار نفسه لأنّها لم تفعل. تهوى المجتمعات التلصص، ومعرفة الأسرار، والخبايا، فكيف إذا كان هذا الشخص نجماً، ومرغوباً بشدة؟ كانت صباح إبّان شهرتها واحدةً من أهم نجمات الشرق، لا بل يمكن القول إنّها واحدة من القليلات اللواتي كن نجماتٍ «عربيات» بكل ما في «الجمع» العربي من معنى.
الدلوعة التي «أرّخت» لفكرة «دلع» الفتاة اللبنانية في السينما المصرية والعربية، جمعت في الوقت نفسه صوتاً جبلياً قوياً جعل الجميع يوقنون بأنّها فعلاً «شحرورة» كما لقّبت.
كان ذلك المزج الرائع بين جمال الشكل والصوت مدهشاً لدرجة غريبة، الأمر الذي دفع معظم نجوم المرحلة تلك إلى التقرّب منها، وهي كما كانت تقول دائماً: «أنا قلبي رهيف عالحب». كانت تحب بسرعة وجنون، وتتزوّج وتطلّق بالسرعة نفسها. لامها الجميع على هذا الحب والزيجات المتكررة. كانت صباح شمّاعةً تعلّق عليها الصحافة كل أخطاء الفنانين والفنانات، فإذا ما أراد صحافي التسلّي بقصص المشاهير بحث عنها كي يكتب عن حياتها وكيف أصبحت تعيش في غرفة فندقٍ صغيرة بعد كل المجد إبان عزّها. وإذا ما أراد آخر أن يكتب عن زيجات المشاهير، استحضر قصص زيجاتها، وإذا ما أراد التندر بعلاقات الفنانات مع عائلاتهم أخرج علاقة صباح الملتبسة مع ابنتها هويدا. وإذا ما أراد الحديث عن الفنانات المسنّات اللواتي يتزوجن بشباب أصغرٍ سناً تناول زواجها بفادي لبنان. كانت الصحافة مقتل الشحرورة دائماً؛ وهي كانت أكثر طيبةً من ذلك كلّه.
لا يدرك الناس أحياناً، أن من يرونهم على الشاشات هم بشرٌ مثلهم، يشعرون، ويملكون قلوباً. يتأثرون ويحسّون، ويخطئون أكثر لأنّهم تحت الضوء. هكذا كانت صباح بالضبط. كانت الجميلةُ ذات الشعر الذهبي والثياب المزركشة هي التي أدخلت الفن الاستعراضي بشكله الحديث إلى كثيرٍ من استعراضات نجوم مرحلةٍ ما. حتى في «دلعها» كانت تمارس نوعاً من «التمنّع» المرغوب والمحبب، فلم يحصل أن اتهمت مرّة «بالابتذال». يكفي فقط أن نشير إلى أنّ التلفزيونات المصرية لا تزال تعيد كل رمضان السكتش الرمضاني «يا إخواتي صايم» الذي يجمع الشحرورة بالفنان فؤاد المهندس.
تغيب صباح اليوم في تأريخ جديد لجيلٍ ذهبي لن يعود. المحزن أكثر من أي شيء أنّه ليس هناك من بدائلَ حقيقية مكان الراحلين. لا من ناحية الشخصيات، ولا من ناحية الأداء أو الصوت الجميل. تغيب صباح، وتزداد الأمسيات قتامة.

عبد الرحمن جاسم - الأخبار

فنانو سوريا في رحيل الشحرورة: فقد الفن هرمه الثاني
وحدها صباح كانت كفيلة بسحب الأضواء كاملة من أخبار العاصفة «ميشا» التي تشغل الناس هذه الأيام، وتحتل المساحة الأبرز من فضائهم الافتراضي. كذلك، تراجع الخبر السياسي رغم ثقل وطأته، عندما مرت «الشحرورة» بخبرها الأخير. هذه المرة لم يكن الأمر مزحة سمجة أو شائعة مغرضة.

فقد وزعت أوراق النعوة لـ «جانيت فغالي» (اسمها الحقيقي) فكان السفير السوري في لبنان علي عبد الكريم أول الحاضرين لتقديم واجب العزاء، كيف لا، وقد سبق لصباح أن حكت عن المساعدات التي كان تصلها من الرئيس السوري بشار الأسد. وفيما كانت الإذاعات والمحطات السورية تبث أغاني الصبوحة في افضل طريقة لنعوتها، توالى الفنانون السوريون على صفحاتهم على الفايسبوك ليرثوا صاحبة «يانا يانا» ويتذكروها كما لم يفعلوا في حياتها. كتب الممثل والمخرج السوري سيف الدين السبيعي عن والدته الراحلة وكم كانت تعشق صوت صباح، لدرجة أنها أسمت ابنتها الكبرى على اسمها. وتمنى مخرج «طالع الفضة» أن تلتقي الراحلة بوالدته في مكان أفضل من هذا العالم المتعب. أما الممثلة شكران مرتجى، فقد كتبت «الصباح لا يموت بل يرحل. ولى الزمن الجميل ولم يبق سوى زمن التجميل». وعبّر المطرب المخضرم صباح فخري في حديثه مع «الأخبار» عن بالغ حزنه قائلاً: « كانت أحب إنسانة إلى قلبي في سوريا ولبنان، يميّز شخصيتها النقاء، والسعي الدائم لفعل الخير، وقد كانت السبب الحقيقي وراء قدومي وغنائي في لبنان وإحيائي حفلات هنا، حتى أنني شاركتها الغناء مرة واللقاءات التلفزيونية والصحافية مرات عديدة». من جانب آخر، يلفت «بافاروتي حلب» أن ميزة أغانيها التقاط الفرح وأهم ميزة في شخصيتها صراحتها المطلقة. ويضيف: «عندما رحل محمد عبد الوهاب قلت فقدت مصر أحد أهراماتها، واليوم نحن نفقد هرماً ثانياً في لبنان وسوريا».
وما إن أنهى الفنان السوري دريد لحام زيارته إلى مصر وعاد إلى مدينته دمشق عن طريق مطار بيروت، حتى وصله الخبر. يفصح في حديثه معنا «أول فيلم قدمته في حياتي كان «عقد اللؤلؤ» (1964) وهو من بطولة الصبوحة، وكان لطيفاً منها أن توافق على العمل مع دريد ونهاد اللذين كانا في بداية مشوارهما الفني آنذاك. والحقيقة أنها ساعدتني وعلمتني كيف يمكن التعاطي والوقوف أمام الكاميرا. ومن المعروف أنها كانت تحمل مساعي إنسانية مميزة، وربما تكشف قصة بسيطة حصلت معي عن عمق نبلها، إذ دعيتها مرة لتحيي حفلاً في مناسبة وطنية في سوريا، وفي يوم الحفل تساقطت ثلوج غزيرة وقطع طريق «ضهر البيدر». وعندما اتصلت بي لتخبرني، شعرت كم أزعجني الموضوع، فما كان منها إلا أن عاودت الاتصال مرة ثانية، وقالت سوف آتي من طريق «مرجعيون» حتى لو سأدور نصف العلم حتى أصل لن أجعلك تحزن. وبالفعل وصلت مع وقت إحياء الحفل ولم تقبل تقاضي قرش واحد كبدل مادي وهي كانت فعلياً تمنح كل ما تكسبه لمن حولها». من جانبها، تفضي النجمة أمل عرفة لـ «الأخبار» بالقول: «كأننا نفقد البركة من حياتنا مع رحيل هؤلاء الكبار. كانت صباح رمز شباب وحياة وابتسامة لا تغيب، وقد التقيت فيها أكثر من مرة في طفولتي. وأكثر ما يمر في بالي الآن التواضع الذي تحلت به، لكننا لم نتعلمه منها بما يكفي، رحمها الله، ويبقى العزاء بأعمالها الخالدة بدون أدنى شك». من جانبه، يقول الملحن سهيل عرفة في اتصاله معنا: «كان لي شرف التعامل معها في ستينيات القرن الماضي في أغنيتين: الأولى هي« أخد قلبي سكارسا» والثانية هي «ع البساطة» ثم وصل تعاوني معها إلى مجموعة من الأغاني وصل عددها إلى 20 منها للأسطوانات، ومنها للأفلام السينمائية، وهي كانت من المغنيات القليلات اللواتي تحولن إلى حالة فريدة وخاصة لدى عملهن في السينما. رغم أن هناك الكثير من المغنيات البارعات لم ينجحن في السينما، إلا أنّ الوضع مختلف عند صباح. لقد تحولت إلى ظاهرة فنية. أجزم أنه لم يعمل معها شخص إلا واستمتع. كذلك كانت هي ظاهرة إنسانية حقيقية وكان يقول عنها الموسيقار الراحل محمد عبد الوهاب «تعطي الملحن حقه وحبة مسك». وقد عرف كل من تعامل معها مدى طيبتها وعفويتها وإنسانيتها». يطلب عرفة منا الانتظار لحين عبوره حاجز الجيش ثم يكمل قائلاً: «الخبر حوّل الإذاعات السورية لتحيي كرنفالاً عن أغانيها الرائعة، حتى أن وزارة الثقافة السورية كانت تنظم لي حفل توقيع كتاب عن مسيرة حياتي في «دار الأوبرا» وقد تحول الحفل للحديث عن تاريخها وفنها الساطع، ومن الواجب تقديم العزاء إلى سوريا مثلما نقدمه إلى لبنان لأن الراحلة كانت تقول إنّ نصفها لبناني ونصفها سوري»
أما النجم حسام تحسين بيك، فقد فوجئ لدى اتصالنا به بالخبر وقال: «منذ أيام والصبوحة تمر في بالي مراراً، كأنها إشارة على قرب الرحيل الأخير. أشعر أن الحزن غمر قلبي الآن، وأقل ما يمكن أن يقال فيها إن العالم العربي فقد جوهرة ليس فقط على المستوى الفني، بل على المستوى الإنساني لأنها كانت صاحبة أطيب قلب في العالم تحمله بكل تواضع رغم ما تتمتع به من كاريزما خاصة وحضور ملفت وصوت استثنائي وأداء تمثيلي عفوي لا تمتلكه أهم الأكاديميات. كل ذلك جعل منها طاقة إيجابية تمنحها لكل من حولها وأينما تنقلت. وبغض النظر عن هذا الرأي بفنها، فقد لمست كل كلمة أقولها أثناء لقاءاتي المتكررة بها». من جانب آخر، يلفت صاحب «نتالي» إلى أن الراحلة كانت «بمثابة مدرسة. مثلما زرع الرحابنة فنهم في أكثر من جيل، هي تركت إرثاً غنياً سيبقى صامداً مهما طال الزمن: يحق العزاء لكل من عرف هذه الإنسانية الرائعة» فميا يعتبر المغني الشاب أنس صباح فخري بأن صباح كانت صاحبة بصمة خاصة بطرافة وحضور وصوت قوي، وحتى في رحيلها نحكي عنها باسم الدلع لأنها كانت رمزاً للفرح والشباب، ويضيف بالقول: «تجاوزت منطق الزمان والمكان وتحولت لأيقونة وهي من أواخر العباقرة الذين يخرجون عن المألوف ولا يمكن مقارنتهم مع أحد».

وسام كنعان- الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...