رأي تشافيز الصائب في "الربيع العربي" الخائب

30-04-2013

رأي تشافيز الصائب في "الربيع العربي" الخائب

الجمل-  ماكسيميليان فورت- ترجمة: د. مالك سلمان:

يمكن لبعض التوصيفات الموجزة أن تحددَ النغمة الصحيحة للتقدير المناسب للسؤال "من كان على صواب" حول ما يسمى "الربيع العربي". (وقد تعرضت فكرة وجود "ربيع عربي", وهو مصطلح قام بتشكيله لأول مرة المحافظون الجدد الأمريكان من أمثال تشارلز كرراوثامر قي سنة 2005, إلى تأويلات متنوعة بشكل راديكالي, من الإشارة بمفاهيم عامة إلى نوع ما من النضال من أجل "الحرية" و "الديمقراطية" [وكأن هناك نوعاً واحداً من الديمقراطية], إلى آراء تتحدث عن عملية موجهة سرية من التدخل السياسي الأمريكي, والتدخل العسكري المباشر. لكن هذه المقالة موجهة لأولئك الذين لا يزالون مسحورين, حتى الآن, بالهالة الإيجابية لفكرة "الربيع العربي".) وكالعادة, سأركز على ليبيا.

"الربيع العربي": شيء جيد
المرفوض: برنار-هنري ليڤي. كان برنار-هنري ليڤي الفرنسي, والمعروف بالأحرف الأولى "ب. ه. ل." [دعونا نسميه هنا "هُبَل" من أجل السهولة في الطباعة - المترجم], الذي يزعم البعض أنه "فيلسوف", أحد المؤيدين الأعلى صوتاً والأنشط للتدخل العسكري الغربي في ليبيا منذ البداية, وقد لعب دور المستشار الرئيسي, أو المحرض الشخصي, للرئيس الفرنسي, آنذاك, نيكولا ساركوزي. فقد زعم قائلاً, نحن "أنقذنا بنغازي". احزروا من هو الشخص الممنوع من دخول ليبيا الجديدة والحرة الرائعة الآن, والذي تفاخرَ بالمساعدة في تحريرها؟ إنه "هُبَل". فهم لم يعودوا يريدون رؤيته هناك. لماذا؟ لأنه يهودي. فقد اتخذ "هبل" موقفاً دون أن يتوقف قليلاً ليلاحظ أن أن "مقاتلي الحرية" الذين دعمهم كانوا يرشون جدران بنغازي بكتابات تصور القذافي على أنه يهودي (على الأقل جزئياً بناءً على إشاعة تقول إن أمه كانت يهودية), مع رسومات تظهر "نجمة داوود" على صدره. وبين الدبلوماسيين, وعمال الإغاثة الدوليين, والصحفيين, والمسافرين من رجال الأعمال, تحولت عبارة "أنقذوا بنغازي" إلى "أنقذوا أنفسكم من بنغازي". فمن الذي فهم "الربيع العربي" بطريقة خاطئة؟

الحرية, الديمقراطية, وحقوق الإنسان في "ليبيا الجديدة". كيف يمكننا أن نبدأ بوصفَ ليبيا بعد أن أنعشها نسيمُ "الربيع العربي" العليل, بعد تحريرها من قبل حركة (أو شيء من هذا القبيل) يجب ألا يتجرأ أي شخص نزيه أو عاقل على انتقادها؟
ربما يمكننا الإشارة إلى الحرية الدينية في ليبيا, مع احتجاز وتعذيب الأقباط المصريين. وقد جاء ذلك بعد مهاجمة مسلحين للكنيسة القبطية المصرية في بنغازي. أو يمكننا أن نضيف بعض التوازن هنا ونتحدث عن الهجمات المستمرة ضد الصوفيين المسلمين في ليبيا. حتى أن هناك أخباراً جيدة أخرى, مع تعرض الفتيات الليبيات في المدارس للتهديد والضرب. فالنساء الليبيات لسن الوحيدات اللواتي نلنَ على هذا الاحترام الجديد, بل هناك أيضاً عاملات الإغاثة البريطانيات اللواتي تعرضنَ للاختطاف والاغتصاب.
ثم هناك حرية الصحافة, التي تمثل هدفاً مركزياً بالنسبة إلى كل من يزعم أنه يسعى إلى تحقيق الحريات المدنية والتحرر من الدكتاتورية: "اقتحمت مجموعة كبيرة من الرجال المجهولين مقرَ تلفزيون ‘الآسمة’, وهي قناة إخبارية خاصة في طرابلس, واختطفوا أربعة رجال, من بينهم مالك المحطة جمعة الأسطة, والمدير التنفيذي السابق نبيل الشيباني, والصحفيين محمد الهوني ومحمود الشركسي."
في ليبيا الجديدة, يتلقى المواطنون الذين هجرتهم الحرب احتراماً شديداً في حالة "خروقات خطيرة ومستمرة لحقوق الإنسان ضد سكان بلدة طويرغة, الذين يتم النظر إليهم كمؤيدين لمعمر القذافي. إن التهجير القسري لحوالي 40,000 شخصاً, والحجز التعسفي, والتعذيب, وعمليات القتل منتشرة على نطاق واسع, وهي منظمة بما يكفي لترتقي إلى مستوى جرائم ضد الإنسانية ويجب على مجلس الأمن في الأمم المتحدة أن يدينها." إذ يبدو أن ليبيا الجديدة قد وضعت الاعتداءات العرقية في متحف "حقوق الإنسان". كما يبدو أن جميع أولئك الذين غسلوا أفواهَهم بمصطلحات مثل "منع الإبادة الجماعية" قد اختفوا عن الأنظار. فمع ظهور ليبيا الجديدة, ظهرت قوانين تهجئة جديدة: فالطريقة الصحيحة لتهجئة "القمع" هي الآن التحرير. فأي جزء من هذا "الربيع العربي" تؤيدون؟
"لا خجلَ ولا عرفان بالجميل في ليبيا المتحررة من أي قانون". إن تعليق صحيفة "صندي ميل" (5 آذار/مارس 2013) لاذع بشكل خاص بطريقة كان يتميز بها الكلام عن القذافي, لكن بشيء من الندم الآن: "لم تُنتهَك حرمة المقبرة طوال سنوات العداوة بين بريطانيا ونظام القذافي. لكن الأشياء مختلفة الآن في ليبيا الجديدة." ثم يتابع محررو الصحيفة لاستخلاص بعض "النتائج المزعجة" – بشكل متأخر, مرة أخرى – مثل: "أصبحت ليبيا بعد سقوط القذافي مكاناً جامحاً لا قانون فيه حيث يمكن ارتكاب الفظائع بكل صفاقة من قبل من يملك السلاح الكافي. ثانياً, ليس هناك عرفان بالجميل بين أولئك الذين ساعدناهم. ثالثاً, ثبت أن أولئك الذين حذرونا أننا لا نعرف من ندعم, ولا نكترث بذلك, كانوا على صواب وبرهنوا على صحة رأيهم بطريقة مشهدية ومروعة ... يجب على قادتنا, وعلى إعلامنا, ألا يتحمسوا بشكل غبي لاحتضان ودعم كل حركة ثورية تظهر في العالم العربي. المستبدون سيؤون, لكن خصومهم ليسوا أفضلَ منهم بالضرورة." ومرة أخرى, من كان مخطئاً حول "الربيع العربي"؟
واهبو الحرية الغيريون. تبينَ أن الأشخاص "المصيبين تاريخياً" (وهو مجاز متمركز حول الفكر الأوروبي يرفض الرحيل حيثما يكون الجهل قريباً) قد تورطوا في الاستغلال الإنساني, أو ربما الإنسانوية التجارية, إن شئتم. فقد اتضحَ أن الحكومة الكندية التي يرأسها ستيفن هاربر "شنت هجوماً تجارياً شاملاً قبل شهر كامل من انتهاء الحرب على ليبيا في 2011 لكي نضمنَ ‘عوائدَ تدخلنا واستثماراتنا’, كما تبين وثائق نشرت مؤخراً." ربما لم تقرروا بعد من أصابَ بشأن "الربيع" العربي, ولكن ليس هناك شك في ذلك الذي كان يراقب اﻠ "تشا-تشينغ" العربي!
مع هذه التلميحات, على المرء أن يسأل: كيف يمكن للتشكيك في الربيع العربي أن يكون أكثر من شعور بالإنصاف والفخر؟ ولكن هناك تأكيد ثانٍ: أن هوغو تشافيز لم يكن مشككاً في "الربيع العربي", لكنه خسر الدعمَ والمصداقية بسبب ذلك, وأنه ولدَ امتعاضاً شديداً بسبب المواقف التي أخذها.

تشافيز "خسر الدعم" بسبب "الربيع العربي"؟ نقاشات ضد الدلائل
رداً على العدد الأخير, سارع الكثير من وسائل الإعلام الإخبارية إلى التأكيد أنه على الرغم من كل إنجازاته, سوف يذكر التاريخ دائماً أنه كان مخطئاً بخصوص "الربيع العربي", تاركاً بذلك مذاقاً مراً في أفواه "الكثيرين" في الشرق الأوسط. وهكذا, فقد تأثرت سمعة تشافيز بشكل كبير في الشرق الأوسط, مما أدى إلى خسارته لمؤيديه. دعونا نلق نظرة سريعة على بعض الأمثلة:
أوين جونز, يكتب في "الإندبندنت" البريطانية مقالاً قوياً يتجاهل فيه إنجازات تشافيز الكثيرة, ويقدم هذا النقد:
"ومن ثم هناك مسألة علاقات تشافيز الأجنبية المزعجة. فعلى الرغم من أن حلفاءَه المقربين كانوا من الحكومات اللاتينية يسار-الوسط المنتخبَة ديمقراطياً – التي دافعت كلها تقريباً عن تشافيز بحرارة ضد الانتقادات الأجنبية – إلا أنه كان يدعم الطغاة المتوحشين في إيران وليبيا وسوريا. ومما لا شك فيه أن ذلك لطخَ سمعته."
إذا تركنا جانباً الطريقة التبسيطية في تسمية الناس ﺑ "الطغاة المتوحشين", على طريقة جورج بوش الابن وخلفهِ, والتي تنتج ذلك النوع من سياسة "البوب" العبثية التي يتميز بها العالم المسطح الذي تصفه وسائل الإعلام الرسمية, كان على جونز أن يجيبَ على سؤال في غاية البساطة. أمام أي جمهور لطخ تشافيز سمعته؟ إذ يمكن لجونز أن يتحدث باسمك, لكنه لا يتكلم باسمي أنا, كما لا يتكلم باسم الكثيرين ممن أعرفهم. إن التعبير عن التأويل الذاتي لبعض الأشخاص, وكأنه حقيقة عامة وموضوعية, لا يتعدى كونَه ضرباً من المنطق الصبياني التافه.
أما "فرانس 24" فقد كانت مقتنعة بشكل لا يداخله الشك أن تشافيز "قد لطخ سمعته في المنطقة عندما تفجر الربيع العربي في سنة 2011", بسبب دعمه للقذافي والأسد. لكنهم يعتمدون على كلام مصدر واحد هو عالِم سياسي في باريس. يبدو أن الصحافة والدليل قد تطلقا بشكل بشع؛ إذ يرفضان التحدث مع بعضهما البعض في العلن حتى ولو من باب المجاملة الشكلية.
ومن جهة أخرى فإن داني بوستل, المدير المشارك ﻠ "مركز دراسات الشرق الأوسط" في "مدرسة جوزف كوربل للدراسات الدولية" في جامعة دنڤر, يتذمر في "صالون" أنه ليس هناك قدر كبير من الصدق في المديح اليساري لسجل تشافيز حول الطريقة التي يحتضن بها "الطغاة". ومرة أخرى, يأخذ تأويله بمثابة التحليل الوحيد المبني على الحقيقة الموضوعية, أو كأنه الحقيقة بعينها. فيما يتعلق بليبيا, حاولوا أن تجدوا أين يمكننا أن نرى برهاناً يدل على خطأ تشافيز في دعمه للقذافي:
"لقد عبر عن رأيه الصريح في دعم معمر القذافي وبشار الأسد. كان تربط تشافيز صداقة حميمة مع الزعيم الليبي قبل الانتفاضة التي قامت ضده في 2011: ففي سنة 2009 قام بتقليد القذافي نسخة عن سيف سيمون بوليڤار, كما منحَه ميدالية ‘وسام المحرر’ التي منحها من قبله لأحمدي نجاد. وقد أعلن تشافيز أن ‘ما يمثله سيمون بوليڤار بالنسبة إلى الشعب الفنزويلي هو ما يمثله القذافي بالنسبة إلى الشعب الليبي.’ ومع تنامي التمرد الليبي واستمرار القذافي في ذبح شعبه, كان تشافيز واحداً من حفنة من قادة العالم الذين وقفوا إلى جانبه: ‘نحن ندعم الحكومة الليبية.’"
كل ما نقرأه هنا هو "استمرار القذافي في ذبح شعبه" – وكأنه كان يحارب أطفالاً بريئين يلعبون بطائرات ورقية. ومرة أخرى, هناك صمت مطبق حول الرجعيين الإسلامويين العنيفين الذين كان القذافي يقاتلهم والذين كانوا قد تورطوا مراراً في أعمال عنف ضد حكومته, وكيف قامت قوات المعارضة للقذافي باستهداف وقتل العشرات من الليبيين السود البريئين والعمال المهاجرين الأفارقة خلال انتفاضتها الديمقراطية المزعومة.
إن هذا اليسار "النقدي" و "الحساس" بحاجة إلى يبدأ في معالجة نقاطه العمياء العرقية إذا كان يتوقع هؤلاء الكتاب الأوروبيون والأمريكيون أن يأخذهم القراء على محمل الجد مرة أخرى. والأسوأ من كل ذلك عندما يقدم بوستل دليلاً عبر هذا المثال من المبالغة العبثية, الذي يدمر بشكل كامل أية مصداقية متبقية لديه – وقد قصدَ تقديمه كتدليل على الأطروحة القائلة إن موقف تشافيز كان مكلفاً ومحرجاً بالنسبة لحلفائه اليساريين في حكومات أمريكا اللاتينية ... ولا حظوا أيضاً غياب أي ذرة من الدليل لتدعيم الزعم المقدَم. والسبب بسيط: إن هذا الزعم مزيف.
ولكن ليس الكتاب الأوروبيون والأمريكيون الشماليون هم وحدهم الذين يوجهون مثل هذه الانتقادات إلى تشافيز. إذ كان من الأسهل تجاهلهم لو لم ينضمَ إليهم عدد قليل من كتاب الشرق الأوسط الذين أسبغوا نوعاً من "الشرعية العربية" على مثل هذه الاتهامات.
وهكذا يقول علي هاشم في نهاية مقالته في "المونيتور":
"قبل ‘الربيع العربي’ كان الليبراليون المؤيدون للغرب هم الذين يتجاهلونه. ولكن بعد الانتفاضة, غيرَ الكثير ممن كانوا يتغنونَ باسم تشافيز من مواقفهم. إذ إن دعمَه للقذافي والأسد, بعد أن وجها أسلحتهما ضد شعبيهما, أدى إلى تقسيم الرأي العام حوله. فقد نظر تشافيز إلى الانتفاضات بصفتها جزأ من خطة إمبريالية للإطاحة بالقادة المناوئين لأمريكا في المنطقة. واتهمه الثوريون العرب بتجاهل معاناة أولئك الذين أعجبوا به فيما مضى وتغنوا باسمه. فبالنسبة إليهم, أصبحَ قائداً مغروراً آخرَ اختارَ مصالحَه الخاصة ومصالحَ المستبدين فوق مصالح الشعب."
"الكثير". "بالنسبة إليهم". "تقسيم الرأي العام". وحتى نهاية هذا المقطع, يقوم هاشم بإطلاق أحكام عشوائية دون أن يحدد هؤلاء الناس الذين يتحدث عنهم, وأين, وكم عددهم (وكيف عرف بذلك), ودون ذكر أي شيء عن أولئك الذين أخذوا ينظرون إلى تشافيز بهذه الطريقة السلبية. وحتى في النهاية, كل ما نحصل عليه هو إشارة غامضة إلى "الثوريين العرب". فإذا أخذنا بعين الاعتبار ما فعله هؤلاء الثوريون العرب في ليبيا – وهو أبعدُ ما يكون عن أي جمهورية اشتراكية, أو ديمقراطية, أو مستقلة, على المرء أن يسأل: لماذا كان على تشافيز أن يهتمَ بآرائهم؟ هل قام قط بالتزلف لأولئك الرجعيين والعرقيين المدعومين من واشنطن والذين أطاحوا واحدة من الحكومات العلمانية الاشتراكية القليلة في العالم العربي؟ بمقدور المرء أن يتخيل التفكير بجدية أن تشافيز قد أهانَ هذا النوع من المؤيدين – لكن هؤلاء لم يكونوا من بينهم في المقام الأول.
ولا يثير دهشتنا أن إيمان الشناوي قد كتبت مقالة في صحيفة العائلة المالكة السعودية, "العربية", بسخرية كبيرة عن دعم تشافيز للقذافي (حيث عملت على تقليص التحليل إلى مجرد ذكر لأسماء شخصية, دون التطرق إلى المواضيع الهامة). ويجب على نفس الكاتبة أن تحاول كتابة بعض العبارات النقدية حول نظرة البحرينيين لأسيادها السعوديين, حيث شارك السعوديون ودول خليجية أخرى, بشكل كبير ومباشر, في قمع الاحتجاجات الشعبية هناك, وهو جزء من "الربيع العربي" يتظاهر الإعلام المدعوم من السعودية بأنه لم يحدث قط.
وليس من المدهش أيضاً أن تقوم صحيفة أخرى ينشرها بلد خليجي استبدادي آخر, "أخبار الخليج" عبر ليالي سعد, بالتأكيد أن "الكثيرين من العرب فقدوا احترامَهم للرئيس الفنزويللي بعد دعمه للحكام المستبدين خلال الانتفاضات العربية." ومن ثم تستنتج الكاتبة: "كره الكثير من العرب القائدَ الذي بدأ يكشف عن معاييره المزدوجة حول قضايا إنسانية. ومن غير المحتمل أن يعبر العالم العربي عن حزنه لموته اليوم." معاييره المزدوجة هو ... التي تختلف عن معايير "مجلس التعاون الخليجي" حول البحرين! كانت "الثورة" في ليبيا عبارة عن استثمار بالنسبة إلى الدول الخليجية – لقد شكلَ تشافيز تهديداً لمصالحها في السيطرة على ليبيا, كما أنها تكره تشافيز لهذا السبب. وأشك أن آراء هذه البلدان كانت ستدهش أو تهم تشافيز, بما أنها لم تكن صديقة أو حليفة له قط.
ومن ناحية أخرى, تنتقل "البوابة", في مقالتها "الشرق الأوسط يتوق إلى البطل ‘العربي’ تشافيز", إلى تقويم أكثر إيجابية لتشافيز في الشرق الأوسط, لكنها تؤكد أن "دعمه للقادة المستبدين من معمر القذافي في ليبيا, والرئيس بشار الأسد, ونظام آية الله في إيران سبب تراجعاً في شعبيته خلال ‘الربيع العربي’." ومرة أخرى, لا نرى أي دليل, أو استفتاء, لا شيء سوى ما تقوله هذه الصحيفة. كيف يعرف هذا الكاتب أن شعبية تشافيز قد تراجعت؟ إنها عبارة تدل على الكمية, لكن الكاتب لا يقدم أية أرقام أو دلائل.
وفي الصحيفة الإماراتية "ذَ ناشنل", جمعَ عبد الحفيظ الزويتني عدة آراء من صحف المنطقة. وإذا افترضنا أن هذه الآراء تمثل الرأي العام بشكل أو آخر, فإن معظم الآراء لا تهاجم تشافيز لدعمه للقذافي والأسد ولا توحي بأنه فقدَ شعبيته في الشرق الأوسط. إذ إن هناك رأياً سلبياً واحداً فقط يتعلق بدعم تشافيز للقذافي.
أما بالنسبة إلى فقدان الدعم في صفوف الحلفاء, تشير "غلوبل بوست", عوضاً عن ذلك, إلى استمرار تشافيز في تلقي الدعم القوي من أولئك الذين عملَ على كسب دعمهم, مثل الحكومة السورية. كما تحيلنا "ديلي ستار" اللبنانية مرة أخرى إلى الأطراف الإقليمية التي تدعم تشافيز كبداية – وهذه هي نقطة البداية المنطقية لأي نقاش يركز على فكرة فقدان تشافيز لشعبيته بين أصدقائه:
"توحدَ الفلسطينيون في غزة والضفة الغربية في حزنهم يوم الخميس لموت الرئيس الفنزويللي هوغو تشافيز, الذي قاده دعمه المتواصل لقضيتهم إلى شن هجمات شرسة على إسرائيل. كان الرئيس الفنزويللي, الذي توفي يوم الثلاثاء عن عمر 58 سنة بعد عامين من الصراع مع مرض السرطان, يتمتع بشعبية كبيرة بين الفلسطينيين لدعمه العلني لقضيتهم. ‘إنها خسارة كبيرة لنا,’ قال الرئيس محمود عباس أثناء المكالمة التي أجراها مع المكتب الفنزويللي التمثيلي في رام الله."
وأشارت "بي بي سي نيوز" إلى أن شعبية تشافيز مستمرة بعد وفاته, وبعد "الربيع العربي".
عندما يبحث المرء عن أية دلائل ملموسة يتم بناء الآراء عليها, لا يجد أي دليل يدعم الزعمَ القائل إن تشافيز "خسر الدعم" الذي كان يتمتع به في الشرق الأوسط لرفضه القفز على عربة التدخل الإنساني الذي يقوده الناتو ووزارة الخارجية الأمريكية. ففي نهاية المطاف, لم يكن بمقدوره أن يخسر أي دعم لم يكن يتمتع به في المقام الأول.

معرفة تشافيز المناوئة للإمبريالية
في الأنثروبولوجيا [علم الأناسة], عندما يتم تدريب الطلاب على الطرق الميدانية, وما نقرأه حول إجراء أبحاث إثنوغرافية ميدانية, هناك تركيز خاص على مصادر رئيسية: أي, أولئك الذين يتمتعون بمعرفة متقدمة ومتراكمة عن ثقافتهم ويشكلون دليلاً قيماً للباحثين الأجانب الذين يسعون إلى فهم ثقافتهم بشكل أعمق. وعادة ما يكون هؤلاء الأشخاص من كبار السن, وزعماء القبائل, والحكماء, إلخ.
في السياق الأمريكي – اللاتيني, اكتسب بعض القادة معرفة متقدمة ومتراكمة حول الإمبريالية الأمريكية, من خلال مواجهتها بشكل مباشر أو غير مباشر, ومن خلال التجربة الشخصية. وينطبق ذلك على دانييل أورتيغا في نيكاراغوا, والذي قادَ قوات "الساندنيستا" في الثمانينيات من القرن الماضي في حربها ضد الرجعيين المموليم من قبل "سي آي إيه", وكان عليه التعامل مع مؤامرات "سي آي إيه" والمؤامرات الأمريكية الأخرى, مثل تلغيم موانىء نيكاراغوا البحرية ودعم الإعلام المحلي والمجموعات المعارضة. يقود دانييل أورتيغا نيكاراغوا مرة أخرى, وقد دعم حكومة معمر القذافي بقوة. يعرف أورتيغا جيداً الطريقة التي تعمل بها الإمبريالية الأمريكية.
الرئيس الكوبي فيديل كاسترو ناجٍ على عدة مستويات. فقد نجا من أكثر من 600 محاولة اغتيال أجنبية, بما في ذلك بعض المؤامرات الغريبة على يد "سي آي إيه", والتي لو لم يتم إثباتها لكان الناس يشيرون إليها اليوم بصفتها نظريات مؤامرة جنونية. تعرضت كوبا للغزو من قبل قوات مدعومة من الولايات المتحدة في عهد الرئيس جون كيندي, كما عانت من محاولات زعزعة الاستقرار لعقود طويلة. وإن كان فيديل خبيراً في أي شيء, وهو خبير في أشياء كثيرة, فإنه خبير في الإمبريالية الأمريكية والطرق التي تعمل بها. رفض أورتيغا وكاسترو التدخلَ في ليبيا, ولم ينجذبا بغباء إلى معارضي القذافي, كما عبرا عن دعمهما للحكومة الليبية.
وهكذا نأتي إلى هوغو تشافيز, الذي عملت واشنطن على شيطنته لوقت طويل, والذي نجا من انقلاب دعمته الولايات المتحدة, ويتزعم بلده فنزويلا التي شهدت تورط سفارة الولايات المتحدة في التدخل السياسي. وكمثال واحد من بين أمثلة كثيرة, فصلت إحدى البرقيات التي أرسلتها السفارة الخطط التي قامت بإعدادها (والخطوات الفعلية التي تم اتخاذها) في سياق التدخل الأمريكي في فنزويلا, بما في ذلك الأهداف التالية: "1) تعزيز المؤسسات الديمقراطية, 2) اختراق القاعدة السياسية لتشافيز, 3) تقسيم جمهور تشافيز, 4) حماية المصالح الحيوية الأمريكية, 5) عزل تشافيز دولياً." وكان من بين الوكالات الأمريكية التي تسعى لتحقيق هذه الأهداف: "مكتب المبادرات الانتقالية" , وما يسمى "المنظمات غير الحكومية" مثل "الجمعية الدولية للبدائل التنموية", و "فريدوم هاوس" و "سيڤيكوس". فبعد أن شهدَ على ما يجري في فنزويلا, كان من المنطقي, والمبرر, بالنسبة إلى تشافيز أن ينظر بعين الريبة إلى احتجاجات الشارع "العفوية" التي سرعان ما لقيت الدعم الفوري للقوى الغربية التي تهدد بالتدخل العسكري الفوري.
وعلى غرار الكثير من الأمريكيين اللاتينيين الواعين, طلاب التاريخ الأمريكي منذ الاستقلال عن إسبانيا, كان هوغو تشافيز على معرفة وثيقة بالتدخلات الأمريكية في قضايا دول أمريكا اللاتينية خلال اﻠ 200 سنة الأخيرة, كما كان في وضع يمكنه من الحديث عن هذه القضايا بناءً على خبرة تفوق خبرة نظرائه في الشرق الأوسط, أو خبرة بعض المعلقين الأمريكيين الشماليين أو الأوروبيين الذين تنحصر شهرتهم في امتلاكهم لمواقع صحفية إلكترونية. ولسوء الحظ, عندما يتعلق الأمر بالإمبريالية الأمريكية, يعرف معظم الأمريكيين اللاتينيين ما يتحدثون عنه بدقة, على العكس من قناتي "الجزيرة" و "العربية" اللتين تتظاهران بأن الأمر على غرار ذلك.
الفكرة هي أن أشخاصاً مثل تشافيز "تدربوا" جيداً على تمييز الأنماط, وتجميع المعلومات المبعثرة, مما يمكنهم من رؤية الأحداث على الأرض في سياق الأفعال والادعاءات السابقة, ووضع الأحداث التي تبدو عشوائية في صورة متكاملة وواضحة. ففي الحالة الليبية, كان تشافيز محقاً في القول إن الولايات المتحدة تبحث عن أول فرصة لكي تتدخلَ عسكرياً, وكان محقاً في معارضة هذا التدخل, وتمسك بموقفه منذ البداية. كان تشافيز محقاً حتى عندما أكد أولئك الذين يجب أن يتمتعوا بمعرفة ودراية أكبر على أن الولايات المتحدة لن تتدخلَ في ليبيا. لقد قدمَ تشافيز مبادئه وأهدافَه بوضوح شديد منذ البداية وخلال جولاته في شمال أفريقيا والشرق الأوسط: أن فنزويلا لن تؤيد التدخلات المستمرة للإمبريالية الأمريكية, وأنها ستقف إلى جانب من تستهدفهم هذه الإمبريالية, وأنها ستفعل ما بوسعها لدعم القضية الفلسطينية, وأنها ستسعى لبناء تحالف بديل للأمم التي تدعم مبادىء حق تقرير المصير, وعدم التدخل في شؤون الدول الداخلية, وتحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية.


تُرجم عن ("زيرو آنثروبولوجي", 14 نيسان/إبريل 2013)

الجمل: قسم الترجمة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...