غسان الرفاعي: الكتاب الأمريكي الأحمق والعالم الجديد

02-05-2011

غسان الرفاعي: الكتاب الأمريكي الأحمق والعالم الجديد

-1-
الكتاب الجديد الذي هبط بالمظلات على مكتبات في باريس, الأسبوع الماضي, سلعة فكرية خبيثة, من تأليف فيلسوف الصقور الجديد (روبرت كاغان), اسمه «الأقوياء والضعفاء: الولايات المتحدة وأوروبا في النظام العالمي الجديد». ‏

لقد خرج علينا (فوكوياما), بعد تقوض النظام الاشتراكي, وسقوط جدار برلين بنظرية «نهاية التاريخ» وأتحفنا (صموئيل هنتنكتون) عام 1996 بنظرية «صراع الحضارات», وهاهو (روبرت كاغان) يقصفنا بنظرية «القوة والضعف», في كتيب صغير نشرته مؤسسة بلون للنشر, بعد أن مهدت له بدعاية لا تليق إلا بالسلع الاستهلاكية الفاخرة. اللافت أن (روبرت كاغان), الملقب بشيخ الليبراليين الجدد أمريكي متفولذ ولكنه يعيش عند الضعفاء, في ضاحية من ضواحي بروكسل, وهو عضو في «مؤسسة كارذجي» التي تعمل رسمياً من أجل السلام العالمي, وفعليا من أجل تثبيت هيبة الـ C.I.Aفي العالم. ‏

يقول (جاك جوليار), المفكر الفرنسي «المعربد» كما تصفه الأدبيات الأمريكية في مقاله الأسبوعي في مجلة «لونوفيل اوبسرفاتور»: «قد يتوجب علينا, نحن الأوروبيين, أن ندخل في المفرمة الأمريكية كل أربع أو خمس سنوات, لا في الميدان الاقتصادي أو العسكري فحسب, وإنما في الميدان الفكري أيضاً, حيث يبدو أنه من الأفضل لنا أن نخطئ مع الأمريكيين على أن نكون على صواب مع أنفسنا ويتململ (جوليار) من فقرة وردت في مقدمة كتاب (كاغان): الأوروبيون يتصايحون, ويراوغون, وينفشون ريشهم كالطواويس, ولا يتوقفون عن الحديث عن المبادئ والشرعية ولكن هذه لغة الضعفاء المسحوقين, وقد يكون أفضل ما يمكن أن نقدمه لهم لإثبات تعاطفنا معهم هي الشفقة والدعوة لهم بالهداية..». ‏

-2- ‏
ما يقوله (كاغان) في كتيبه الصغير يمكن تلخيصه في ثلاث جمل دون الاتهام بتقليص محتواه إلى كاريكاتور: الخلاف بين الولايات المتحدة وأوروبا- وقد تفجر بسبب المسألة العراقية ومسائل أخرى في العالم- بسيط للغاية: كل طرف يدافع عن أفكار تتناسب مع حجمه وقوته. إن الولايات المتحدة, الواثقة من قوتها وجبروتها, لا تخشى من استخدام عضلاتها, غير عابئة بالرأي العام, ولا بالمنظمات الدولية, في حين تتسلح أوروبا الضعيفة المنقسمة المتناحرة, بالفضيلة, والحقوق, والحوار, والأمم المتحدة, ثم إن الولايات المتحدة تتحمل وحدها ما يسمى بـ«عبء الإنسان الأبيض» وفق نظرية (هوبز) القائلة بأن الإنسان ذئب على أخيه الإنسان, وأوروبا تدخل فردوس ما بعد التاريخ, عالم السلام والحقوق, وفق تصور الفيلسوف الكبير (كنت) عن السلام العالمي. ‏

الخلاف بين القارة القديمة والقارة الجديدة لا يقتصر على الشرق الأوسط ولا على المصالح, ولا على اقتسام النفوذ, إنه خلاف حول دور القوة العسكرية السافرة في السياسة العالمية. وإذا كان الأوروبيون يميلون إلى الاعتقاد بأن الإنسان قد حقق تقدما ملحوظاً, وهو يستحق نظاماً عالمياً يقوم على المؤسسات, وعلى مفهوم الحق والشرعية فإن الولايات المتحدة تشكك في إمكانية قيام نظام دولي مسالم, مشابه للنظام القائم في الاتحاد الأوروبي, ولابد من فرض نظام عالمي بالقوة, مادامت هناك دول مارقة لا يمكن تدجينها إلا بالصفع واللكم. القول اليوناني الشائع «يأتي الرجال من كوكب المريخ, وتأتي النساء من كوكب الزهرة» يمكن تطبيقه على الواقع الحالي: «الأمريكيون ينحدرون من المريخ وينحدر الأوروبيون من الزهرة»!. ‏

-3- ‏
يطمح (روبرت كاغان) أن يتسلح الأمريكيون بكتابه الصغير المختصر كما تسلح الصينيون بالكتاب الأحمر لـ(ماوتسي تونغ), إنه يأمل أن يهبط كتابه من رفوف المكتبات الخاصة ليصبح «سلعة متداولة» بين الناس, وفي قناعته أن الأفكار البسيطة الواردة فيه تصلح لأن تكون «دليل عمل». ‏

ويصر«روبرت كاغان» على التأكيد بأن الأمريكيين قد انقلبوا إلى ذرائعيين يفاخرون بسطوتهم, بعد أن أصيبوا بخيبة أمل, على عكس الأوروبيين الذين كانوا دمويين في سطوتهم ثم أرغمتهم الهزائم والإخفاقات وخيبات الأمل على أن يكونوا مثاليين يتحدثون عن السلام والمشروعية الدولية والقانون وحقوق الإنسان, لقد اقتسم الأوروبيون العالم بأسره, واستثمروا شعوبه, ونهبوا موارده, بالاعتماد على النار والبارود, ولكنهم الآن يفضلون الدبلوماسية والحلول السلمية والمفاوضات, بعد أن أصبحوا ضعفاء عاجزين عن فرض إرادتهم.. إنهم يرسلون الوفود إلى الشرق الأوسط, إلى كوريا, إلى المكسيك, بهدف تحقيق تسوية سلمية لمشكلاتها, ولكن مساعيهم لا تؤخذ مأخذ الجد, حتى الفلسطينيون المحاصرون والمهانون ينتظرون تحرك واشنطن لا أوروبا, لعلمهم أنه تحرك غير مجد, وليس أكثر من فقاقيع من صابون. ‏

-4- ‏
إذا كان (روبرت كاغان) قد اكتشف قوة الولايات المتحدة وضعف أوروبا, ونجح في صياغة «فلسفة» تبرر التسلط وتجيز استخدام حاملات الطائرات والبوارج والدبابات وراجمات الصواريخ في مواجهة «الأزمات الإقليمية», من دون غطاء شرعي أو قانوني, على أساس أن الحرب الاستباقية هي الأسلوب الناجع في التعامل مع «محور الشر» فإن حكام أمريكا مزودون بحكمتين اثنتين تفتحان لهم أبواب الشرق الأوسط على مصراعيه: الأولى قدمها له صديقه (جيم هوغلاند) المعلق السياسي في صحيفة الواشنطن بوست وتقول: «مازال العرب وثنيين حتى الآن يفضلون الأصنام على العقل, وينوؤن تحت ثقل التاريخ, ويخافون من المستقبل, لذلك يتوجب تفتيت أصنامهم ورجمهم بالمستقبل». ‏

والثانية قدمها الماكر(كيسنجر), المستشار الدائم لرؤساء الجمهورية, وتقول: «العرب يتعلقون بالأحلام ولا يكترثون بالواقع, ولابد من بعثرة أحلامهم, وإمطارهم بالحقائق الجارحة, حينئذ يصابون بالجزع, ويستسلمون..». ‏

(بانشو) الرسام الكاريكاتوري «الثاني» في صحيفة (اللوموند) كان فطنا أكثر من غيره حينما لخص «الموقف العفوي» من تظاهرات الملايين في العالم, في كاريكاتور نشر على الصفحة الأولى: «الرئيس الأمريكي يقف في شارع محترق من شوارع واشنطن ومن ورائه سحب دخان أسود وقبضات لاعّد ولا حصر لها, وهو يصرخ: «أنا النظام العالمي الجديد»! ولم يكن محرر الشؤون الخارجية في ذات الصحيفة أقل فطنة حينما وضع هذا العنوان لمقاله الافتتاحي: «ضعف الأقوياء». ‏

في تظاهرات فرنسية اعتلت فتاة سوداء ظهر شاب أبيض, وأخذت تنشد بصوت دافئ: ‏

في السماء قوس قزح ‏

أبيض, أسود, أصفر, أسمر ‏

الإنسان واحد واحد ‏

لا شرق ولا غرب ‏

لا شمال ولا جنوب ‏

حرية, كرامة, عدالة, ‏

لا للحرب, ولا للغطرسة, ‏

إن الواقع الفظ يفترسنا ويجرحنا, ولكن لا مندوحة من التعامل معه, وإذا كانت الإيديولوجية محرمة علينا, فلا أقل من أن نجعل الذارئعية أقل بشاعة, وكما قال (غارودي): «لقد صلب المسيح, وقتل ماركس, فلنجعل رئيس أمريكا بلا مخالب أو أضراس». ولكن الكاتب الجزائري (رشيد ميموني) رد عليه: «لن اختار الرئيس الأمريكي, حتى ولو كان بلا مخالب, أفضل عليه طفل الحجارة الفلسطيني, الأول قاتل ولو غمرني بالمساعدات, والثاني بريء ولو قتل جلاده..». ‏

-5- ‏
ويتحدث فيلسوف الصقور عن «حق الأقوياء في فرض نظام عالمي جديد» ويسخر من «استنجاد الضعفاء بالشرعية والحقوق والقوانين» ولكنه يتجاهل أننا سنعيش في عالم مثلوم, مكسور, مشطور: شمال متخم في مقابل جنوب مملق, 80% من الثروات الطبيعية على سطح الكرة مصادرة ومستهلكة من قبل 2% من الأدميين المتخمين, الأغنياء في الشمال يعبثون بـ83%من الثروة العالمية والـ 80% الباقون لا يتمتعون إلا بـ 2%من هذه الثروة. ‏

ويتحدث فيلسوف الصقور عن «تفوق النموذج الأمريكي في التنمية الاقتصادية» أنذكره بما كتب (روجيه غارودي) المنبوذ والمطارد حالياً: «هذا النموذج مجرم قاتل, إنه يكلف العالم هيروشيما جديدة كل يومين على أيدي برابرة مدججين بالآليات الدموية, وكأنهم يعيشون في دغل مأهول بالحيوانات الكاسرة, وهؤلاء لا يفكرون بالله, بالرغم من تمسكهم ببعض الطقوس الدينية والصلوات المزيفة, إنهم يدفعون العالم إلى انتحار كوني يشمل سكان الشمال قبل الجنوب». ‏

لابد من رفض هذه القوى المتسلطة القائمة على الطغيان والتحجر والغطرسة. سنهتف مع (روجيس دوبريه): «كلا, لن نخضع لإرهاب اقتصاد السوق, ولا لإرهاب الجبروت العسكري, ولن نسمح بأن نصلب على صليب مصنوع من الذهب والنفط والهيرويين»!.

د. غسان الرفاعي

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...