دمشق تحتفي بالفنان بهجوري

24-11-2007

دمشق تحتفي بالفنان بهجوري

يقيم الفنان التشكيلي ورسام الكاريكاتير المصري جورج البهجوري معرضاً فنياً في غاليري أتاسي بدمشق هذه الأيام، ضم مجموعة من اللوحات الزيتيتة، تراوحت بين لوحات لوجوه مختلفة، من بينها بورتريه بارز لأم كلثوم، ولوحات لموسيقيين وآلاتهم، بالإضافة إلى لوحة يصوّر فيها أحصنة، ولوحات أخرى سواها، كمجموعة من السجاد التي تنقل بعض رسوم البهجوري بتوقيعه. وقد سجل حضور الفنان علامة بارزة في يوميات دمشق الثقافية، كما جمع الفنان حول معرضه لفيفاً غير معتاد في صالات الفن التشكيلي. منذ أن التقينا الفنان على هامش معرضه الدمشقي كان لا يكف عن الرسم، نقول له «يموت الزمار وصوابعه بتلعب»، فيقول: «الخطّ بَكَرَة خيط، والبكرة فكّت خلاص، ما قدرتش أوقف رسم. عارف لما تضيع البكرة وتروح مئة متر، كلّ ما تزقّها تجري قدامك. الرسم عندي خيط، وخط متواصل. لاحظ أصدقائي أني أنام أحياناً وأنا أرسم، تظل يدي متوقفة عند نقطة محددة. مع طول السنوات صارت هذه عيوبا، لم أعد أعرف الراحة، لا جسمي ولا يدي».
لكن، ماذا ترسم؟ يجيب: «أرسم مشاهداتي وحياتي اليومية، أشتري كراريس بيضاء وأملأها. أكتب الرواية بالرسم، الرواية هي حياتي، لدرجة أن أحد أصدقائي قال لي إنه من الممكن جمع هذه الكراريس لأضعها في خانة الأدب التشكيلي، الأدب المنظور الذي يقرأ بالعين. إنها تحكي الحياة التي عشتها يوماً بيوم كاملة. يمكن أن تصبح مشروعاً، وقد وصل عددها إلى ستمئة كراس أنيق، وفيها طريقة للإخراج بحيث تبدو أثرية كأنها مانيوسكريب مكتوب بخط الثلث أو الرقعة أو النسخ».
لكن، لماذا أنت مهتم بالأدب إلى هذه الدرجة؟ يقول: «أنا تلميذ عفوي، لا أتكلم، أنا فقط أسمع. قرأت شيئاً عن حياة بيكاسو، أنه لا يحب الاختلاط بالرسامين ويفضل فنانين من نوع آخر، لأن للرسامين علاقات سيئة بعضهم ببعض، فلا يوجد رسام يحب الآخر لأنه خصمه، وكل ما يحدث على الظاهر هو نفاق. عين الفنان التشكيلي تنقد الفنان الآخر وتخفي العداوة في داخله، ومن الممكن العودة إلى طبيب نفسي لتأكيد هذه الظاهرة. كان بودلير أعزّ صديق لبيكاسو، عمل له رسوماً كثيرة، كان يسمع شعره وهو يرسم. كذلك بول إيلوار وماكس جاكو وجان كوكتو المسرحي والشاعر. لقد اكتسب عبر علاقته بالأدباء مفاهيم جديدة غيرت مجرى الفن الحديث. الفنان التشكيلي الذي لا يفكر هو فنان ضحل وبسيط. المهم أنني أخذت عنه فكرة أنه لم يطق أن يجلس مع فنان آخر. ولماذا فضل الأدباء والشعراء».
فكيف كان التطبيق العملي لأفكار بيكاسو: «في العام 1960 شاءت الصدفة أن أجد مكتباً فارغاً جانب غرفة الرسامين في مجلة «روز اليوسف»، تركت طاولة الرسم وقعدت على مكتب ضخم جداً تركه صلاح جاهين حينما غادر إلى مؤسسة أخرى هي «الأهرام». وقد فتحت حينها درجاً من أدراجه فوجدت مسودة «الليلة الكبيرة». وكان هناك مكاتب لثلاثة من أصدقاء العمر، كنت حينها في الثلاثين وكانوا هم في الأربعينات، وكان مستواهم الثقافي أكبر، هم رجاء النقاش وصلاح عبد الصبور وعبد المعطي حجازي، وأنا رابعهم. هناك نوع من الغطرسة بين الأديب والرسام في مصر. يعاملون الرسام على أنه ولد صغير، لأن سمعة الرسام أنه لا يفكر وأنه ضحل الثقافة، وكذلك يعاملون الموسيقار والراقص ومغني الأوبرا، وحتى الملحن والخطاط. دائماً لسان حالهم يقول إن هذا رسام نحبّه وله أسلوب، لكن ليس له أن يدخل في وسطنا وليس في مستوانا! أنا قبلت التحدي. كانت حوارات الأدب مستمرة بينهم، ينضم إليهم أحياناً زوار أدباء، فيما أنا وراء لوحاتي لا أتكلم أبداً. فوجدت عبد القادر القط وسعد الدين وهبة يناقش مسرحيته الجديدة ويحرضهم للكتابة عنها. كان ذلك أمراً ممتعاً جداً، بقيت ثلاث سنوات في «كلية الآداب ـ قسم الفلسفة» تلك. قلت نحن على هذا الحال أحباب، لكن لا أدخل معهم في الحديث، ولو تكلمت «حنبقى مهزأة». كانت هذه الحصة الأولى، الدافع الأول. أما الدافع الثاني فكان حين سافرت إلى باريس، بعد أن أعطيت لنفسي منحة. بدأت أعيش فترة جديدة من حياتي. كانت مدينة كلها فن، تمشي على نهر السين تجده كالأزبكية في مجدها أيام زمان، تجد كل أنواع الموسيقى، وكل أنواع ملصقات الرسم من دافنتشي إلى بيكاسو مطروحة على السور بمبالغ زهيدة، بالإضافة إلى أعظم الأعمال الروائية من تولستوي إلى غوغول وبوشكين وتشيخوف الذي أثر فيّ جداً، وكان النقّاش قد أوصاني بقراءة تشيخوف بالذات، ونصحني بكتاب «العالم» الذي هو رسائل نهرو إلى ابنته أنديرا. كل هذا جاء صدفة بدون ترتيب، فيما أنا أمشي بقرون استشعار. باريس كانت ولادة جديدة. الغربة في باريس تعطيك شحنة جديدة. لم يكن معي سوى كراس وقلم جيد (فذلك أمر أساسي) ومعي فقط ثمن القهوة. لم أكن أفكر في الأكل. كنت أحتاج فقط إلى الكتابة والتكلم مع بهجت رفيق العمر، المصري. أما لماذا المصري، فلأن انطباعات مصرية لدي أريد أن أحكيها، أقول له مثلاً إنني تعرفت إلى امرأة قالت لي إنها تشتغل على الرصيف، وكنت أحتاج إليها موديلاً. كان عندي كل يوم تجارب ومصادفات وحاجات خاصة بي، لأن لي قلقي المختلف عن الناس، فأنا لست سائحاً، ولم أجد غير الورق. بدأت أختار وأؤلف المفردات، التي عملتها بتلقائية ومن غير ثقافة مثل عبارة «تلعثمتْ أذني» التي أحبّها البعض. الأدباء لا يريدونني، تقدمت إلى جائزة نجيب محفوظ فرفضوني، أحدهم قال لي وجدناك أكبر من الجائزة. لكنني مصرّ لأتقدم مرة أخرى. هزمتني هدى بركات وعالية ممدوح ويوسف أبو ريّا. شعرت بهزائم كثيرة، وصرت أخجل من نفسي، ولو أنني مستمتع بالهزائم المتتالية، فأنا من الصعيد وأهل الصعيد لديهم العناد الكافي».
وعن المزاوجة بين التشكيل والكاريكاتير قال البهجوري: «درست الفنون الجميلة، وهذا هو الأساس، ثم تجد نفسك تدخل في فرع من الفروع. كان كل خوفي أن أصبح مدرس رسم، مثل كثير من زملائي، فأنا لا أحب التدريس. حينما بدأت بنشر رسومي وأنا ما زلت طالباً التحقت بـ «روز اليوسف»، وكان رئيس التحرير، إحسان عبدالقدوس آنذاك، يعاملني على أني مثله وفي مستواه. أول مرة أرسم في المجلة جاء والبروفة في يده إلى غرفة الرسم، محاولاً أن يشرح فكرة مقاله، ويطلب أن أعبّر عن رأيي حتى لو كان ضده، أو يعارضه. كان درساً في الديموقراطية، وفي التواضع. في تلك الأيام بدأت أفهم أن الرسم يجب أن يكون ملتزماً، بمعنى الالتزام السياسي والاجتماعي، وأن يكون ضد القمع والاستعمار. دخلت مدرسة «روز اليوسف» وتعلمت منها، ولم أكن أفهم في السياسة والرأي. وجدت أن الكاريكاتير سلاح جميل وأن المتعة لا تكفي. أنا سعيد الآن بأنني تحديت السبعين وعجنت هذه العجينة، التي كونها السفر ولقاء رسامين في أنحاء العالم. لا بد من أنني مثل بلح قريتي الذي كان أخضر ثم احمرّ. زادت قراءتي وخبرتي. أنا الآن واحد من مجموعة رسامين سبعة في العالم، نذهب في رحلات ونتقابل، في هيئة الامم في نيويورك، وجنيف وبروكسل وروما، كي يبقى للكاريكاتير دور في السلام. أصبح لي حضور إذاً كمصري عربي في هيئة الامم. حلم كل رسام كاريكاتير أن يكون رساماً تشكيلياً. النكتة ضد الفن التشكيلي لأنها توصل الفكرة فوراً، والتشكيلي ممنوع عليه ذلك، لأنه يضعف اللوحة، التشكيلي يداعب العين. أنا منذ كنت أرسم في الصحافة كنت أقيم معارض، ولم أكن أهتم بمعارض للكاريكاتير. أنا لدي أبحاثي التشكيلية التي تقوم على الخط. هناك رسام يكتب لا يرسم. وهناك رسام يرسم أفكار كاتب له سطوة على الرسام. التنازع بين الكاريكاتير واللوحة الزيتية أو التشكيلية قائم دائماً لديّ، وكان أصدقائي يستعملون ذلك ضدي. التشكيليون يقولون هذا فنان كاريكاتير ورسامو الكاريكاتير يقولون هذا تشكيلي، بقيت متهماً بين الطرفين. بعد سنوات طويلة دمجت الاثنين، الوحدة المشتركة بينهما هي الخط«. وعلى ذلك كان لا بد للفنان من أن يعلن أنه ضد التجريد «هناك استسهال؛ فنان لم يكوّن نفسه بعد، تجده يعبر عن أحاسيسه بالألوان بهذه السهولة. كان بيكاسو يقول «أريد أن أرسم مثل رافائيل، أن أمسك بقلم رصاص وأرسم رسماً دقيقاً». من يهرب من ذلك يكن قد ضيّع القاعدة».
نسأل البهجوري، الذي وصفه الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي بـ«قمر المنفى»، ما الذي بقي من مبدعين آخرين؟ فيقول: »غالي شكري قال «إنه لا يرسمك، إنه يقول رأيه فيك». كذلك أدونيس قال كلمة حلوة: «رأيت شمس مصر تغطي وجهك بمنديلها». عبدلكي قال «التقيت بطفل عمره ألفا عام». حتى الذين شتموني أحتفظ لهم بما كتبوه، وهي أشياء تجعل القارئ أو المتفرج ينحاز الي مثل من قال «لا أفهم رسوم البهجوري»».
نسأل الفنان البهجوري أخيراً إن كان زعلاناً من مصر فيقول: «مصر لا تفهم البهجوري، لا لوحته ولا كتابته، يشبه الأمر أن يعيش شاب مثقف مع أمه التي لا تعرف شيئاً عمّا يفعله، لكنها تحبه ويحبها، فهل يقرأ لها الشعر؟ إنها تعاملني كطفل معوق، حتى زوجتي تعاملني كذلك». زوجته كانت قالت تعليقاً على البورتريهات التي عملها لها: لقد باعني أكثر من 15 مرة. وإذا كانت مصر تعامله كذلك فأين وجد الفنان تكريمه الحقيقي؟ يجيب «في مطعم شعبي في جنوب فرنسا، حيث دعاني صديقي الفرنسي إلى سوق الهال في وسط السوق المغلقة. هناك حيث ألحق مطعم شعبي. تأكل الطبق الشائع مع النبيذ. حين أدخل يعرفني كل الفرنسيين لأنني أبدأ برسم البنت التي تقوم بتقديم الطبق، يتركون عملهم ويلتفون حولي. أشعر بتكريم هذه البلدة، تكريم بلدة غريبة لرجل غريب. الأردن كرّمني. كذلك معهد العالم العربي في باريس، حين اتصل بي رجل بوليس فرنسي، وقال إنهم يجرون تحقيقاً عن لوحات مسروقة في المعهد، من بينها لوحتان لي. هناك أيضاً لوحات لنذير نبعة وعرابي وحنين والعزاوي ورافع الناصري. لوحات لم يأخذ أصحابها ثمنها. اعتبرت ذلك الاتصال تكريماً؛ أن يتصل بي رجل بوليس يعرف اسمي ويكشف لي عن لوحتين لي كنت قد نسيتهما». لكن الفنان البهجوري يلحّ على الذاكرة ليعدد من كرّمه كما لو أنه يريد إعادة تكريمهم: «سامي كليب الذي احتفل بي في «الجزيرة»، وجوزف عيساوي في «الحرة»، وخلدون الداوود في الأردن. وهناك اسحق عزمي الذي عمل لي متحفاً ضمّ فنانيْن آخرين في الشونة في الاسكندرية. وهناك طبعاً غاليري أتاسي».

راشد عيسى

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...