دبلوماسية دمشق والتطور النوعي في قمة الأسد – ساركوزي

14-11-2009

دبلوماسية دمشق والتطور النوعي في قمة الأسد – ساركوزي

الجمل: شهدت العاصمة الفرنسية باريس يوم أمس انعقاد قمة الأسد – ساركوزي، والتي وصفها الخبراء والمراقبون بأنها سوف تشكّل نقطة ارتكازٍ محورية في التطور الإدراكي – السلوكي لمفاعيل دبلوماسية إدارة الصراع العربي الإسرائيلي.
* بيئة قمة الأسد – ساركوزي:
ارتبطت قمة الأسد – ساركوزي، شأنها شأن ظواهر العلاقات الدولية المعاصرة، بأنها لم تكن قمة تدور في الفراغ، وإنما دارت مجرياتها ضمن مناخ الحراك دبلوماسي – سياسي مليء بالتفاعلات والتحرّكات التي أثرت من جهة، وتأثرت من الجهة الأخرى بهذه القمة:
• سعت دبلوماسية تل أبيب إلى التأثير على دمشق من خلال:
- زيارة كل من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى كلٍّ من واشنطن وباريس.
- زيارة الرئيس شيمون بيريز إلى البرازيل.
- تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك القائلة بأن السلام مع سوريا يمثّل عنصراً استراتيجياً لاستقرار الشرق الأوسط.
• سعت الإدارة الأمريكية – على غير العادة – إلى التزام الصمت إزاء تحرّكات نتانياهو – بيريز، وهو صمت يبدو أنه ينطوي على الخلافات وليس على التوافق.
جاء نتنياهو، بعد أن أنهى زيارة واشنطن، على عجل، مستبقاً زيارة الرئيس السوري إلى باريس، وبعد لقاءٍ مقتضب جمع بين نتنياهو وساركوزي، أعلن نتنياهو استعداده لإجراء المفاوضات المباشرَة مع سوريا، مشترطاً، أن تكون هذه المفاوضات مباشرة دون وسيط، وبدون شروطٍ مسبَقَة.
* دمشق، وتغيير قواعد اللعبة:
درجت تل أبيب على اعتماد قواعد لعبة دبلوماسية تقوم على أساس نقل مضمون مفاوضات السلام من نقطة التركيز الأساسية التي تشكّل جوهر الصراع المتمثلة بإعادة مرتفعات الجولان إلى سوريا، باتجاه نقطةٍ هامشية غير أساسية، تتمثل في إثارة الخلافات حول كيفية التفاوض، والترتيبات الإجرائية التفاوضية، وما شابه ذلك من الجوانب التي تجعل من الخلافات مجرّد خلافاتٍ إدارية تتعلق بطبيعة أسلوب ونمط العلاقات العامة المتعلقة بالتفاوض وبالمفاوضات.
رد الفعل السوري كان واضحاً هذه المرّة ومباشراً، لجهة الإمساك بالمتغيرات الأساسية وحصرها ضمن الثوابت السبعة الآتية:
• طبيعة هدف ومسألة المفاوضات: ويتمثل حصراً في رد الحقوق وفقاً لمبدأ الأرض مقابل السلام.
• ضبط الوضع التفاوضي: ويتمثل حصراً في التأكيد على استمرارية الوساطة التركية، مع إعطاء الفرصة لفرنسا لجهة المشاركة كطرفٍ ثالثٍ إضافي.
• ضبط متغيرات صنع واتخاذ القرار: ويتمثل حصراً في التأكيد على عدم وجود أي تعددية في عملية صنع واتخاذ القرار، فقد سبق أن وافقت تل أبيب على  الوساطة التركية، ووافقت دمشق على ذلك أيضاً، وبالتالي لا يوجد أي مجالٍ جديد لحراك خارجي بهدف الالتفاف والمناورة على موافقة الطرفين المسبقة بالوساطة التركية.الرئيس الأسد والرئيس ساركوزي في باريس 2009
• تمكين ثقافة التفاوض: وتتمثل في التأكيد على ضرورة الاستمرار وفقاً لمبادئ ثقافة التفاوض وسلوكياته المتعارف عليها، وبالتالي، لا مجال لاستدراج المزيد من الأطراف الخارجية الجديدة، لكي تقوم بدور الطرف الثالث، فقد سعت تل أبيب الى استدراج أذربيجان، ثم استدراج مولداڤيا، ثم استدراج باريس، قبل إكمال ما بدأت فيه من قبل، وهو الوساطة التركية التي ما زالت دمشق متمسكةً بها ليس لمجرد التمسك بالعلاقات مع تركيا، وإنما للتمسك بالقواعد والأعراف الحضارية المتَّبَعَة بين الأمم وشعوب العالم.
• تأكيد البعد النفسي ومهارات التفاوض: ويتمثل في رفض التشتت، واحترام الذات من خلال الانسياق أو المسايرة للتقلبات المزاجية الإسرائيلية، والتي تعكس قدراً كبيراً من «العجرفة» الإسرائيلية وسلوكيات عدم احترام تقاليد المجتمع الدولي.
• ضبط تدخّل الأطرف الثلاثة: ويتمثل في التمسّك بما تم التوصل إليه في جولات المحادثات الخمسة غير المباشَرة السابقة، مع التأكيد على إمكانية المضي قُدُماً، دون التخلي عمّا سبق، و بالتالي، من غير المقبول القبول بوساطة طرفٍ ثالث جديد يسعى لتأسيس نموذج تفاوضي جديد يلغي ما تم التوصل إليه من قبل.
• ضبط هامش المساومة: ويتمثل في اعتماد المساومة ضمن حدود نطاق ما تمّ في جولات المحادثات غير المباشرَة الخمسة، التي سبق أن تمت برعاية تركيا، وبالتالي، لا مجال لفتح هوامش المناورة الجديدة، غير الموجودة بالأساس.
تحدث الرئيس السوري بشار الأسد على خلفية لقاء قمة دمشق – باريس الذي جمعه مع نظيره الفرنسي نيكولاس ساركوزي، مؤكداً الآتي:
- التمييز والفصل الواضح بين الحقوق والشروط، وذلك على أساس اعتبارات تمسّك دمشق باسترداد الجولان، هو تمسّك بالحقوق، ولا يندرج بأي حالٍ من الأحول ضمن الشروط المسبَقَة.
- إن تمسّك دمشق بالوساطة التركية، ليس من قبيل انطلاق أو انكفاء دمشق على أنقرا، وإنما لجهة التأكيد على إمكانية المزيد من الانفتاح إزاء الحلول والأطروحات الجادة أياًً كانت، طالما قناة الحوار والتفاهم والتفاوض موجودة.
وإضافةً لذلك، فقد تضمنت تصريحات الرئيس الأسد، توجيه الرسائل والإشارات الآتية:
• مطالبة إدارة أوباما بوضع وتقديم خطة عمل واضحة حازمة لجهة تجديد وإحياء محادثات السلام السورية – الإسرائيلية.
• وصف تل أبيب بعدم الجدّية، وبعدم القابلية والأهلية لجهة القيام بدور الشريك الجاد من أجل التوصّل إلى تحقيق السلام.
• رفض إجراء أي مباحثات مباشرة مع تل أبيب، إلا إذا تمت ضمن إطار الوساطة التركية، وبوجود ضامن حقيقي للمفاوضات.
ردود الفعل الإسرائيلية عكست قدراً كبيراً من الاضطراب وعدم التوازن، وذلك من خلال عبارة الرئيس الأسد التي كان لها فعل الصدمة على إدراك النخب الإسرائيلية، التي تعوّدت على تجاوب إدراك النخب العربية، بشكل «سائل» سهل الانقياد لتل أبيب. وفي هذا الخصوص، فقد تلقت النخبة السياسية الإسرائيلية رسالة دمشق، من خلال التقاط الإشارات التي حملتها تصريحات الرئيس بشار الأسد، وعلى وجه الخصوص النقاط الآتية:
- رفض عقد أي محادثات مباشرَة مع إسرائيل.
- إن المحادثات يجب أن تكون حول إعادة الأرض إلى سوريا.
- إن القيام بمحادثات حول إعادة الأرض إلى سوريا يتطلب التعامل معه تحديد السياق والآليات والمفاوضين المختصين.
هذا، وبرغم حديث الرئيس الفرنسي نيكولاس ساركوزي، الذي أكد فيه وبكل وضوح أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، قد أخطره بضرورة إبلاغ دمشق بأنه يريد السلام مع سوريا، فإن مكتب نتنياهو، وبمجرد ما سمع من تصريحات الرئيس الأسد، سارع إلى إصدار تصريحاتٍ تنفي وتنكر ما قام به نتنياهو بتكليف ساركوزي بإبلاغ السوريين بأنه يرغب في عقد مفاوضات سلام مباشرة مع سوريا!!!
* دبلوماسية دمشق: التطور النوعي الجديد في قمة الأسد – ساركوزي:
تشير معطيات الخطاب الدبلوماسي المعاصر، إلى وجود نوعين من الدبلوماسية، الأول يتمثل في الدبلوماسية العلاجية، والتي تسعى إلى معالجة المشاكل بعد وقوعها، والثاني يتمثل في الدبلوماسية الوقائية، والتي تسعى لمنع وقوع المشاكل..
ولكن، ما هو جديد في دبلوماسية قمة الأسد – ساركوزي، يتمثل في أن دمشق، قد جمعت الدبلوماسية الوقائية والدبلوماسية العلاجية ضمن إطارٍ موحد، ويمكن توضيح ذلك من خلال الآتي:
• الترتيب الدبلوماسي العلاجي: وضع حد لأزمة مصداقية دبلوماسية تل أبيب من خلال وصفها بعدم الشريك الجاد من أجل السلام، وما هو جدير بالملاحظة هذه المرّة، هو اقتناع باريس بالطرح السوري، وهو اقتناع بدا واضحاً من خلال عدم الرد أو الإلحاح الفرنسي.
• الترتيب الدبلوماسي الوقائي: عدم إفساح المجال أمام النوايا الإسرائيلية الساعية إلى توسيع دائرة التملص والمراوغة من خلال «حملة العلاقات العامة» التي بدأها نتنياهو وشيمون بيريز خلال الأيام الماضية.
وبالنتيجة، فقد نجحت دبلوماسية الرئيس الأسد، في لقاء قمة دمشق – باريس الأخير، لجهة تحقيق انقلاب حقيقي في معادلة توازن القوى الدبلوماسية على خط دمشق – تل أبيب، وذلك بما يترتب عليه الآتي:
- إمساك دمشق بزمام المبادرة، وذلك من خلال التأكيد الواضح على أن دمشق سوف تتفاوض هذه المرّة وفقاً لحساباتها، وليس وفقاً لحسابات الآخرين.
- تقدم دمشق باتجاه السيطرة على مفاعيل المفاوضات، من خلال التأكيد الواضح على ضرورة التمييز بين الحقوق والشروط.
حتى الآن، لم تتضح بعد معالم وخطوط سيناريو رد الفعل الإسرائيلي، وبرغم ذلك، تشير إلى أنه، لقد درجت القاعدة على استخدام تل أبيب لسيناريو التصعيد الدبلوماسي والعسكري عندما تنجح مشكلة نتنياهو سوف تكون أكثر تعقيداً هذه المرّة، طالما أن التصعيد لن يكون خياراً مأموناً يمكن أن يلجأ له.. وبكلماتٍ أخرى، فإن العدوان ضد جنوب لبنان  سوف يكون محفوفاً بالمخاطر واحتمالات الهزيمة، بما يمكن أن يعرّض حكومة نتنياهو لفضيحة «تقرير فينوغراد» جديد وهو أمرٌ لن يستطيع نتنياهو تحمّله. وخيار العدوان ضد قطّاع غزّة سوف يكون محفوفاً بالمخاطر واحتمالات عدم النجاح، بما يمكن أن يُعرّض حكومة نتنياهو لفضيحة «تقرير غولستدون»، وهو أمرٌ لن يستطيع نتنياهو تحمله أيضاً.. وبالتالي، فإنه لا بدّ من أنقرا، وإن طالت جولات دبلوماسية نتنياهو وشيمون بيريز.
 

الجمل: قسم الدراسات والترجمة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...