الأطفال وقود الحرب السورية

24-12-2016

الأطفال وقود الحرب السورية

أدوات عديدة يستخدمها الإعلام للترويج للأفكار وترسيخها، خاصة في الحرب. صناعة الرأي العام وحشده ودفعه بما يتوازى مع الأهداف السياسية عملية تحتاج إلى نفس طويل وعمل دؤوب؛ لتتلاعب بالعقول لا بد من أن تستحوذ عليها أولا. وأخطر الأدوات الترويجية في الحروب هم الأطفال، وهو ما يمكن أن تكشفه تفاصيل الحرب السورية.
مع انطلاقة الأحداث في سوريا عام 2011، برز الأطفال في ساحات الاعتصامات والتظاهرات. حُمّلوا لافتات لا يدركون محتواها. رفعوا شعارات لا يعرفون منها شيئا، وربما لا يعرفون تفسير حروفها. أمعن الإعلام في استخدام هذه الصور لترويج فكرة «الحرية» وربما المستقبل الأفضل لهؤلاء الأطفال. تمكنت هذه الصور من الاستحواذ على قلوب المتلّقين وعقولهم، خصوصا عندما أضيفت إليها بعض الدماء، لتصبح قضية أطفال درعا الخمسة قضية رأي عام عالمي. دارت رحى الحرب. تطور دور الأطفال تدريجيا. اتخذ منحيين اثنين، الأول عاطفي، والثاني ذو قالب «جهادي» هدفه تحويل المسلحين من الأطفال إلى «مثل يحتذى» في أوساط الحلقات المتشددة حول العالم. عملت التنظيمات «الجهادية» بمختلف مسمياتها وراياتها على استثمار الأطفال. زجّت بهم في معسكرات التدريب، ونزعت من عيونهم البراءة وزرعت بدلا منها نظرات انتقام مخيفة. قَتل الأطفال في تلك المعسكرات وولدت كائنات غريبة يوحي تطورها بانفجار كبير. بموازاة ذلك، تابعت وسائل الإعلام استثمار الأطفال، صور الضحايا، أطفال بدماء، عمران المصاب داخل سيارة الإسعاف، إيلان الغريق على سواحل تركيا وغيرها.
في الآونة الأخيرة برزت صورتان تحاكيان قضة استغلال الأطفال بشقي الاستغلال الذي جرى اعتماده. الصورة الأولى للطفلتين فاطمة وإسلام، حيث فخخ والد فاطمة ابنتيه وأرسلهما إلى الموت انتحارا، والثانية للطفلة بانة العابد ابنة مدينة حلب، التي شغلت العالم بتغريداتها على مواقع التواصل الاجتماعي.
أثار المشهدان خليطا من الآراء والمشاعر المتضاربة، خصوصا مع انتشار صور لوالد الطفلة بانة وهو يحمل السلاح ويقاتل صحبة التنظيمات المتشددة، قبل أن يستقبل الرئيس التركي رجب طيب اردوغان كـ «إنجاز» صالح للتسويق الإعلامي لتلميع صورة القيادة التركية.
انهالت الشتائم على فاطمة وإسلام تارة، وتعاطف آخرون مع الطفلتين على اعتبارهما لا تفقهان ما تفعلانه. أثارت صور الطفلتين المفخختين هلع المجتمع السوري، بات الطفل مخيفا في مجتمع تآكل بفعل الحرب. تضارب المشاعر والأفكار ظهر أيضا في قضية الطفلة بانة، كثيرون تعاطفوا مع الطفلة، سواء ممن يؤيدون المعارضة أو يعادونها، ربما لاعتبارات تتعلق بكونها طفلة، وآخرون راحوا ينكشون تاريخ أبيها، ويوزعون صوره على اعتباره مجرما لا يستحق التعاطف.
استغلال الأطفال في الحرب السورية وصل إلى مراحل خطيرة. لم يعد مجرد صور للاستهلاك الإعلامي، أو لحشد عواطف المتابعين فحسب، بل تجاوز ذلك بمراحل عديدة، أصبح الطفل بيدقا في الحرب، شاء ذلك أم أبى.
خروج المسلحين من مدينة حلب وعودة المدينة لقبضة الحكومة السورية كشفا خللا كبيرا في التكوين المجتمعي لمن يعيش في ظل الفصائل المسلحة؛ مئات الحالات لأطفال لا يعرفون آباءهم زادوا من تعقيد المشهد، عشرات الحالات لقاصرات زُوّجن واغتُصبن، آلاف الأطفال خارج مقاعد الدراسة، أو على مقاعد مدججة بالسلاح، كل ذلك يبشر بمستقبل مظلم ينتظر المجتمع حتى مع نهاية الحرب.
منظمة «ذير وورلد» العالمية، المعنية بمساعدة الأطفال في العالم، ذكرت في تقرير لها أصدرته مطلع العام الدراسي الحالي أن نحو مليون طفل سوري خارج مقاعد الدراسة هذا العام، في ظل تعرض نحو 4 آلاف مدرسة ومنشأة تعليمية للتخريب والدمار جراء الحرب، بالإضافة إلى وجود نحو 2.5 مليون طفل سوري في مخيمات اللجوء في دول الجوار (لبنان، تركيا، الأردن، العراق).
تسرب الأطفال، وخروج مناطق عن سيطرة الحكومة، وتوزع قسم كبير من الأطفال على مراكز للجوء، مهّد الأرض تمهيدا كبيرا لتدخل أطراف الحرب السورية، والمستفيدين من بقائها، حيث تعج مراكز اللجوء بنشاط جمعيات ذات توجهات متشددة تتلقى دعما وتمويلا كبيرا من دول خليجية. تعمل هذه المنظمات على تقديم تعليم نوعي للأطفال، يقتصر على تلقينهم الفكر المتشدد. فيما نشطت عشرات الجمعيات في الداخل السوري وقامت بمهمة تعبئة الأطفال إلى مقاعد بديلة من الدراسة، قوامها الرئيسي هو «التشدد».
من الملاحظات التي دوّنها ناشطون إغاثيون في ما يتعلق بمدنيّي حلب الذين جرى نقلهم إلى مراكز إيواء خاصة في منطقة جبرين شرق المدينة، أن قسماً من الأطفال أقرّ بتلقّيه التعليم، إلا أنهم أكّدوا أن التعليم اقتصر على شؤون الدين والفقه فقط. ولاحظ الناشطون أن غالبية الذكور من الأطفال رفضوا الاختلاط بالإناث، حيث ذكرت نساء عدّة أنهن منعن بناتهن من الخروج من المنزل خشية الاغتصاب أو التزويج القسري.
في مدينة إدلب شمالا، الخاضعة لسيطرة «جبهة النصرة» («جبهة فتح الشام» وفق المسمى الجديد)، تنشط ايضا عشرات الجمعيات ذات الطابع الإسلامي المتشدد، أبرزها «منظمة دعاة الجهاد» التي يديرها السعودي عبدالله المحيسني. عملت المنظمة على جمع مئات الأطفال وإلحاقهم بمراكز خاصة بالتعليم الديني، بالإضافة إلى تعليمهم فنون القتال تحت مسمى «الجهاد»، وكذلك الحال بالنسبة لمناطق سيطرة «جيش الإسلام» في ريف دمشق، أو مناطق سيطرة تنظيم «داعش» أيضاً، الذي أنشأ عشرات المعسكرات التدريبية الخاصة بالأطفال، وصدّر للعالم تسجيلات مصورة لأطفال ينفذون عمليات ذبح وتمثيل بالجثث.
لم تعد الحرب لعبة الكبار فقط، أصبحت منهجاً فكرياً وعملياتياً يستحوذ على جميع من كان في دائرة المعارك، أو كان قدره أن يولد على أرض مضرجة بالدماء. في ظل المشهد القاتم، لم يعد ممكناً التكهن بنهاية المأساة حتى لو وُضع السلاح جانبا، إذ لم يعد الأطفال أدوات فحسب، بل قد يصبحون صنّاعا لموت تمكن أخيراً من خلق موارد مستدامة له.

علاء حلبي

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...