لماذا يُقال «لا حلّ عسكرياً للحرب السورية»؟

17-09-2016

لماذا يُقال «لا حلّ عسكرياً للحرب السورية»؟

جاء الاتفاق الأميركي - الروسي في جنيف مفاجأةً لكثيرين. والغالب أنه لم يكن مفاجأةً سارةً لأطراف الحرب في سوريا. دوافع الأميركيين والروس متباينة: أوباما وكيري يريدان أن يُنهيا حياتهما السياسية بوضع إحدى القضايا المزمنة على طريق الحل، وموسكو تريد تجنّب التصعيد إذا ما وصلت هيلاري كلينتون إلى البيت الأبيض. ولكن مهما كانت دوافع الطرفين للاتفاق، تبقى الحقيقة هي أنه لا حل عسكريا للحرب السورية. تختلف أطراف الحرب السورية في فهمها لهذه العبارة؛ «المعارضة» تفهمها على أنها اعتراف بأنه لا يمكن إنهاء وجودها بالطرق العسكرية، فيما تفهمها دمشق على أنها اعتراف بأنه لن يكون هناك عمل عسكري خارجي ضدها. ويفهم بعض المراقبين هذه العبارة على أنها إشارة فقط لمساوئ الحل العسكري. في المقابل، يقول الواقع والتاريخ إنه لا حلّ عسكريا للحرب لأن الحل العسكري غير ممكن، إن لم يكن مستحيلاً تماماً وفق الظروف الراهنة. من المفهوم أن وجود الجيش الروسي في سوريا اليوم يجعل سقوط دمشق أمراً مستحيلاً، ولهذا من المفهوم أن انتصار «المعارضة» عسكرياً هو مستحيل. ولهذا لا نحتاج هنا لتقديم الكثير من الشرح حول هذه النقطة. ولكن لماذا من غير الممكن أن يحصل العكس؟

بعض الأمثلة من التاريخ
 تنطلق الصراعات الأهلية المسلحة لأسباب متنوعة. وفي كثير من الأحيان يصبح إنهاء هذه الصراعات مرتبطاً بعوامل أخرى لا علاقة لها بأسباب اندلاع الصراع. في حرب لبنان، على سبيل المثال، كان أحد الأسباب الرئيسية لاندلاع الحرب هو الخلاف حول الوجود الفلسطيني المسلح. ولكن هذا العامل لم يعد مهماً في السنوات الأخيرة للحرب، التي بات حسمها مرهوناً بحصول توافق دولي وصفقات إقليمية.
فلكل صراع أهلي مسلح مكوناتٍ وعوامل تأزيم داخلية وخارجية، تتطور وتتغير خلال الصراع. وليس من المفاجئ أن تدعم بعض القوى الخارجية أحد أطراف الصراع الأهلي لأسبابها الخاصة التي لا تتطابق دائماً مع دوافع المقاتلين على الأرض. وفي كثير من الأحيان يصبح انتهاء تلك الأزمة المسلحة أو الحرب الأهلية مرهوناً بوقف عوامل التأزيم الخارجية، أكثر مما يرتبط بانتهاء عوامل التأزيم الداخلية. هذا على الأقل ما تظهره لنا معظم الأمثلة التاريخية.
إضافة إلى مثال الحرب الأهلية اللبنانية، يمكننا أن نأخذ مثال الحرب بين بغداد والأكراد في شمال العراق، كمثال على صراع مزمن لم يكن من الممكن إنهاؤه لأسباب خارجية. حظي الأكراد في شمال العراق، خلال صراعهم مع الحكومة المركزية في بغداد، بدعم العديد من القوى الخارجية، عربية وأجنبية، وكان لكل من هذه القوى دوافعه الخاصة. ولكن الداعم الأهم، لاسيما في ذروة الصراع في السنوات الأولى من سبعينيات القرن الماضي، كان إيران. حاولت بغداد أكثر من مرة التوصل إلى اتفاق مع الأكراد المطالبين بالانفصال، وقبلت الكثير من المطالب الكردية. وفي آذار 1970، وقّعت بغداد والزعيم الكردي مصطفى البارزاني اتفاقية الحكم الذاتي التي كانت بمعايير عديدة جيدةً جداً، وقبلت بها شريحة كبيرة من الأكراد العراقيين. لكن كل هذا لم يضع نهايةً للحرب؛ فقد شجع الدعم العسكري الإيراني الأكراد على رفض عروض بغداد والمطالبة بالمزيد. فتفجر الصراع في آذار 1974.
قدمت طهران للأكراد دعماً عسكرياً قُدّرت قيمته، في العام 1974، بحوالي 300 مليون دولار. وشمل الدعم الإيراني أكثر من مئة مدفع «هاوتزر» ثقيل وصواريخ مضادة للطائرات من طراز «رابير» بريطانية الصنع، إضافة إلى صواريخ مضادة للدبابات وسوى ذلك. وبرغم أن الجيش العراقي تقدّم بشكل ملحوظ في البداية، إلا أن الأكراد، بعد تلقيهم دفعات إضافية من الدعم الإيراني، تمكّنوا من وقف تقدم الجيش العراقي وتكبيده خسائر فادحة.
أيقنت بغداد في النهاية أن إنهاء الحرب غير ممكن إذا لم توقف طهران دعمها للبارزاني. نظرياً كان هناك خياران لدى بغداد لدفع طهران لإنهاء دعمها للأكراد. الأول هو تهديد طهران بالحرب، والثاني هو عقد اتفاق يقدم لطهران تنازلات مُرضية. عملياً، كانت طهران متفوقةً عسكرياً بشكلٍ واضح، وكان الجيش العراقي منهكاً بسبب الحرب الطويلة مع الأكراد. ففي العام 1974 كانت ثماني فرق كاملة، ونصف دبابات الجيش العراقي، منشغلةً بالحرب مع الأكراد.
بدا أن الخيار الوحيد أمام بغداد هو عقد صفقة مع طهران. كان لطهران دوافعها الخاصة لدعم الأكراد، ولعل أهمها هو إنهاء الخلافات الحدودية مع العراق، لاسيما في منطقة «شط العرب». اضطرت بغداد لقبول شروط طهران حول ترسيم الحدود، وهو ما حصل في «اتفاقية الجزائر» في 6 آذار 1975. في المقابل قبلت طهران التوقف عن دعم الأكراد. كان ذلك ثمناً كبيراً اضطرت بغداد لدفعه كي لا تخسر الحرب. فبرغم غنى العراق بالنفط، إلا أنه لم يعد قادراً يومها على تحمّل كلفة الحرب وعلى إعادة ملء مخازن جيشه بالذخيرة. يزعم الباحث الروسي دينيس كوماروف أن صدام حسين قال إنه لم يبق في مخزون سلاح الجو العراقي، في آذار 1975، سوى ثلاث قنابل فقط («البارزاني ونضال الأكراد الجنوبيين»، الصفحة 100 في النسخة المترجمة إلى العربية). بالطبع، قد يكون هذا مجرد مبالغة كبيرة من جانب صدام لتبرير التنازل عن أراضي العراق، لكن الأكيد أن كل من أرّخ تلك المرحلة ذكر تفاصيل مشابهة.
مثال آخر يمكن التطرق إليه هو الحرب بين أنقرة و»حزب العمال الكردستاني». في العام 1998، وجدت أنقرة، بعد حوالي 14 عاماً من الحرب، وحوالي أربعين ألف قتيل، أن دعم دمشق لـ «حزب العمال الكردستاني» هو ما يمنع حسم الحرب. لكن أنقرة في ذلك الوقت لم تكن في مثل وضع بغداد في منتصف السبعينيات، ولهذا كان «اتفاق أضنة» 1998 مختلفاً تماماً عن «اتفاق الجزائر» 1975.

مثال من الحاضر
 ولكن حتى لو أردنا أن نضع جانباً مسألة العامل الخارجي، ما هي كلفة الحرب؟ لنتحدث هنا عن الكلفة المادية المباشرة، وليس عن الكلفة الإنسانية أو عن كلفة إعادة الإعمار أو الخسائر الاقتصادية. في السنوات السابقة لظهور تنظيم «داعش»، كان الإنفاق العسكري العراقي يعادل حوالي 3 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، أي حوالي 6 مليارات دولار في العام 2012. أدّت الحرب مع تنظيم «داعش» إلى تضاعف هذه الأرقام. فبحسب «معهد استكهولم الدولي لأبحاث السلام»، تجاوز الإنفاق العسكري العراقي، في العام 2015، 13 مليار دولار، أي أكثر من 9 في المئة من إجمالي الناتج المحلي. وبحسب وزير المالية العراقي، هوشيار زيباري، فإن الإنفاق العسكري في العام 2016 سيحظى بحوالي 20 في المئة من الميزانية البالغة نحو 95 مليار دولار، أي حوالي 19 مليار دولار. بحسبة بسيطة نجد أن الحرب مع «داعش» كلفت العراق 24.5 مليار دولار – هي قيمة الزيادة في الإنفاق العسكري في الفترة 2013-2016، مقارنةً بالسنوات السابقة. أما كامل الإنفاق العسكري العراقي خلال هذه السنوات الأربع فهو 49.5 مليار دولار. لنتذكر أنه في حالة العراق، لا توجد قوى خارجية تمول تنظيم «داعش» بشكل صريح.
وحتى في الحالة السورية، كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد أعلن، منتصف آذار، أن كلفة العمليات العسكرية في سوريا بلغت ما يعادل 481 مليون دولار. وهذه الكلفة، كما قال، لا تشمل كلفة الصيانة أو كلفة تعويض الذخائر. يمكن القول بثقة إن كلفة العملية الروســية الآن قد تجــاوزت مليارات عدة. وقد يكون هذا أحد الأسباب التي تدفع موسكو لتكرار القول إن الحل السياسي هو الوحيد الممكن.

الخاتمة
 ظهر بشكل واضح خلال الأيام الماضية أن اتفاق وقف الأعمال القتالية في جنيف، وإعلان موسكو وواشنطن عن ضرورة الإسراع بالحل السياسي لإنقاذ سوريا، لم يُعجب الكثيرين ممن يُصرّون على أن الحل العسكري هو الأفضل أو الأوحد. أعتقد أن إلقاء نظرة واحدة إلى خريطة الصراع المعقدة، سواء في الشرق الأوسط أو في سوريا، ومراجعة تفاصيل السنوات الست الماضية، ومراجعة الأمثلة المذكورة أعلاه، أكثر من كافٍ لكي يدرك هؤلاء أن إنقاذ سوريا، وشعبها، وإبقاءها موحدة، لا يمر إلا بالحل السياسي. لهذا فإن «اتفاق جنيف» وتطوير الهدنة الحالية إلى وقف إطلاق نار دائم هو أمر إيجابي للغاية، وأكثر واقعية من الرهان على حل عسكري شبه مستحيل ومكلف للغاية.

محمد صالح الفتيح

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...