ذاكرة المسرح السوري: تمايزات وأساليب على امتداد قرن كامل

16-05-2009

ذاكرة المسرح السوري: تمايزات وأساليب على امتداد قرن كامل

كان «ناكر الجميل» هو أول نص مسرحي ظهر في دمشق أواخر القرن التاسع عشر، وحسب فرحان بلبل تُعتبر السنوات السبع الممتدة ما بين الاستقلال من الأتراك وحتى الثورة السورية الكبرى في العام 1925،  مهداً لنشأة ما نسميه بالأدب المسرحي في سوريا، وتبعاً لعادل أبو شنب كان معروف أرناؤوط صاحب الريادة في هذا المجال بظهور نصه «جمال باشا السفاح» في العام 1919، ومن ثم تبعه الشيخ فؤاد الخطيب، خليل الهنداوي، عدنان مردم بك، أحمد تقي الدين وعبد الوهاب أبو السعود. بعدها جاءت مراحل بلورة ونضج تقاليد الكتابة المسرحية، ومن ثم انغماسها بقضايا الصراع الطبقي على يد ونوس وعدوان والماغوط وأمثالهم. لكن قدوم التسعينيات وأوائل الألفية الثالثة حمل العديد من التجارب الشابة التي انفتحت على آفاق جديدة.
ورغم  الأحاديث المطولة حول أزمة النص المحلي، فإن قسطا لا بأس به من هذا النتاج لم ير النور، ولاسيما في ما يخص تجارب الروّاد والكتّاب الشباب، ومن هذا المنطلق بالذات تنبع أهمية سلسلة نصوص «ذاكرة المسرح السوري» التي صدرت العام الفائت بالتعاون ما بين دار ممدوح عدوان والأمانة العامة لاحتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008، فهذه السلسلة تضم عددا من الاصدارات التي لم تُطبع من قبل، كما أنها تعطي فكرة واضحة عن تطور الأدب المسرحي من جيل الى آخر، وعن تمايزات الكتابة المسرحية باختلاف المؤلفين.

تضم سلسلة «ذاكرة المسرح السوري» ستة وثلاثين نصا مسرحيا، تقع في ستة وعشرين كتابا، وتستوعب مراحل نشوء وتطور الكتابة المسرحية منذ فترة التأسيس وحتى الوقت الراهن، ضمن رؤيا متكاملة، ومنهج قائم على التسلسل التاريخي لزمن انتاج النص، وبوجود سيرة مختصرة للمؤلّف على غلاف كل اصدار، باستثناء الأغلفة الخاصة بنصوص الشباب.
وحسب ما هو وارد في مقدمة اصدارات السلسة فإن لجنة القراءة والاصطفاء الخاصة بنصوص الكتّاب المؤسّسين والمكرّسين كانت مؤلفة من: الفارس الذهبي، أمية عبد اللطيف، عدنان العودة وعمر أبو سعدة، وتبعا لمعطيات مقدّمة العودة فإن: «الاستهلال لأبي خليل القباني، الفصل الأول لعبد الوهاب أبي السعود ووصفي المالح وخليل هنداوي وحكمت محسن، وتمر الفصول بالأسماء محمد الماغوط، سعد الله ونوس، ممدوح عدوان وسواهم، وتمر الأسماء بالفصول وليد اخلاصي، فرحان بلبل، وليد مدفعي وسواهم... كوميديات وتراجيديات، مسرحيات قومية عنيفة وأخرى ذاتية، بعضها منشور ومعروض على المسارح من قبل، وبعضها مخطوطات.. وان كانوا قد كتبوها في أربعينيات القرن الماضي».
لكن للأسف لا توجد أي اشارة في مقدّمة الكاتب عن أسماء تلك المخطوطات التي رأت النور للمرة الأولى، ولا عن زمن كتابها، كما تخلو من الاشارة الى وجود نصوص كتبها مسرحيون عرب مقيمين في سوريا من أمثال الكاتب التونسي حكيم مرزوقي، والفنانين الفلسطينيين زيناتي قدسية وعبد المنعم العمايري، ناهيك بغياب أي جهد توثيقي ينضوي على التحقيب والفرز ضمن مراحل زمنية محددة وتواريخ دقيقة، وهذه واحدة من ثغرات السلسلة.
اما لجنة القراءة الخاصة بنصوص الشباب فقد تكونت من د. ماري الياس ووليد اخلاصي وأمية عبد اللطيف، وجاءت النصوص مجموعة ضمن الاصدارين 25و26، وعددها عشر مسرحيات، منها اثنتان مذيلتان بتوقيع المؤلفتين يم مشهدي وليندا الأحمد، ومع هذين العملين مضافا اليهما نص دلع الرحبي الصادر في العام 2008، يكون الأدب المسرحي في سوريا قد احتفى بانضمام أولى كاتبات المسرح الى صفوفه، بعد انقضاء زهاء قرن من تاريخ نشوئه، ويكون الفضل بهذا الاحتفاء عائد الى مبادرة الناشرة الهام صاحبة دار ممدوح عدوان.
حسب تقديم الدكتورة الياس فقد «كُتبت نصوص الشباب في سياقات مختلفة، أغلبها جاء في صيغة مشاريع تخرج لطلاب المعهد العالي للفنون المسرحية، أو ضمن ورش عمل لتشجيع الكتابة المسرحية، وبعضها كتب كنص لعرض مسرحي تم انجازه، أو في انتظار الانجاز، وهي حال نصوص مثل نص كفاح الخوص «حكاية بلاد ما فيها موت» وبشكل أكبر نصوص عدنان عودة «خيل تائهة» و«براونة أو الحرائق» لهوزان عكو»، وهنا أيضا لا توجد أي اشارة لا في المقدمة، ولا في أي مكان آخر من السلسلة حول الزمن الفاصل بين لحظة انتاج هذه النصوص ولحظة صدورها في طبعتها الأولى، وما هي النصوص التي تم عرضها سابقا، والنصوص التي تنتظر فرصة العرض؟

استهلال
إذا أخذنا أول نص مسرحي من اصدارات السلسلة، وهو «ناكر الجميل» لرائد المسرح في سوريا أبي خليل القباني (1833-1903) فلن نعثر على أي اشارة الى تاريخ كتابة هذا النص، أو تاريخ صدوره في طبعة سابقة، غير أن كل المراجع التي أرّخت لبدايات المسرح السوري تعتبره فاتحة النصوص التي أُلفت وعُرضت في دمشق أواخر العقد السابع من القرن التاسع عشر، فهل هذه هي طبعته الأولى بعد مرور أكثر من قرن، أم ماذا؟ العلم في الغيب... ومع ذلك فإن صدور هذه النسخة ضمن السياق البانورامي العام للسلسلة على قدر كبير من الأهمية، لأنها تعطي فكرة جلية عن هواجس المؤسس الفكرية وأدواته التقنية.
يتوزع النص على قرابة ثمانين صفحة من القطع المتوسط، وعنوانه يكشف عن المضمون الذي يدور حول تيمة الاحسان والغدر من خلال شخصية حليم نجل الوزير اسكندر، ذلك الشاب الشهم والكريم الذي صادف في الطريق الشاب غادر، وكان هذا الأخير فقيرا ومريضا، فآواه وداواه، وأجزى عليه العطاء، وجعله من أقرب أصدقائه، فما كان من غادر الا أن فكر بقتله وقتل والده للاستلاء على الوزارة، وبينما كان يهم بتنفيذ خططه، قتل بالخطأ حبيب ابن الملك قسطنطين، واتهم حليما بالجريمة، ولولا تدخل الأخيار والأقدار، وانفضاح أمر غادر، لكان حليم قد قضى نحبه بالشنق.
المكان متخيل لا يشير الى أي بيئة محددة، والزمن مركب يجمع شخصيات من عصور مختلفة، الملك قسطنطين والوزير اسكندر والشيخ ناصر، ومع أن النص من الناحية النظرية تتوافر فيه أسس الحبكة المسرحية التقليدية من مقدمة وحدث رئيسي وذروة وخاتمة، موزعة على ثلاثة فصول ومجموعة من المناظر (المشاهد)، غير أنها حبكة بسيطة، تفتقر الى مقومات التصعيد الدرامي من أفعال وأحداث مبررة، وبناء محكم للشخصيات، وحوارات رشيقة موظفة بشكل دقيق، لكنها البداية لجنس أدبي لم يكن معروفا في حينه، وهي بداية حاولت التأصيل لهذا الفن الجديد من خلال تأكيدها على العظة الأخلاقية ومنظومة القيم التي أنتجها تراث المنطقة العربية، ومن خلال اعتمادها على اللغة الفصيحة، وبناء الحوارات بأسلوب السجع «إن حسن السيرة دليل على صفاء السريرة» (ص40) الذي يتداخل بأبيات من الشعر العربي القديم: «ازرع جميلا ولو في غير موضعه/ فلا يضيع جميل أينما زرعا» (ص21).
والأهم من ذلك فإننا نجد ضمن قائمة شخوص النص الثمانية الأساسية، نجد أول شخصية نسائية في تاريخ المسرح السوري، هي هازار أم حليم وزوجة الوزير، وفي بعض المراجع اشارة الى أن القباني كان يستقدم ممثلات لبنانيات لأداء الأدوار النسائية في مسرحياته.

خاتمة
لو تجاوزنا كل العناوين المهمة، والأسماء المعروفة محليا وعربيا، وانتقلنا من الكتاب الأول مباشرة الى الكتاب الأخير من سلسلة ذاكرة المسرح السوري الذي يحمل الرقم 26، ويضم بين دفتيه خمسة نصوص لكتّاب شباب، ولو وصلنا الى آخر نص في هذه المجموعة، وهو بعنوان «قدم الى الأمام قدم الى الوراء» لمؤلفه يامن محمد، وقد ذكر لي: أن النص تم انجازه في العام 2006 في اطار مشروع تخرج لطلبة المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق، ولو عقدنا المقارنة بين نصي الاستهلال والختام، فما هي المتغيرات التي سوف نلمسها خلال فاصل زمني قدره قرابة مئة وثلاثين عاما؟
يتوزع النص على ست وثمانين صفحة في ثلاثة فصول، وعنوانه يشي بموضوعه، حيث يتناول المؤلف بروح انتقادية ساخرة مشكلة الركود الاجتماعي وثبات العادات والتقاليد رغم مرور الزمن ومحاولات التغيير، متخذا من طقوس الزواج وطرائق تكوين الأسرة في قرية من قرى الساحل السوري عيّنة مصغّرة لهذا الركود، وباستثناء التشابه في الطول ودلالات العنوان المباشرة بين النصين، فإن الأخير يجري قطيعة كاملة مع نص الاستهلال.
يذهب المؤلف مباشرة الى خصوصيات البيئة المحلية، ويستنبط منها شخوصه بمجمل أنماط عيشهم وتفكيرهم التي تنعكس في لحظة استعداداتهم المحمومة لعقد قران مريم ابنة الشيخ أبو حسين على محمود، مع أن مريم ذات الخمسة عشر ربيعا لا تدري بأمر عرسها، ولا ترغب في الزواج بمن هو أكبر منها سنا، بل ترغب في متابعة تعلّم الخياطة والرقص والتمريض لدى مدرستها الفرنسية، ومن ثمة مغادرة القرية، وسوف نكتشف فيما بعد أن الرغبة في مواصلة الدراسة والهجرة الى دمشق هو حلم كل شباب قريتها.
الأحداث تجري في مكان ثابت، هو منطقة مقفرة على الطريق مابين قرية أهل العروس «دير ماما» وقرية أهل العريس «عين الكروم»، وفي زمن غير محدد هو على الأرجح أربعينيات القرن العشرين لوجود مؤشرات عدة على الحضور الفرنسي، لكن مع تطور الحبكة تلتبس الأمور، كأن هناك نيّة مبيّتة لدى بعض الأطراف ووالد العروس لاستبدال ابنته الصغرى بأختها بدرية ذات الأربعين عاما، تلك العانس الجميلة التي يهواها الشباب وكبار السن، والتي ظلّت وحيدة نتيجة رفض والدتها كل من تقدّم لطلب يدها، وهنا يلعب المؤلف لعبة ذكية من الكشف والتورية يبقي من خلالها القارئ مشدودا بالسؤال من هي العروس الفعلية، ومن هم الأشخاص العارفين بحقيقة الخدعة؟ وفي كل الأحوال ينتهي الحفل بزواج البنت الصغرى في نهاية المشهد ما قبل الأخير نتيجة الحاح الأم على الأمر، ليُحدث المؤلف بعدها نقلة مفاجئة تحيلنا على الحاضر وعلى صالة أعراس في دمشق، حيث تتزوج حفيدة مريم من شخص يكبرها بكثير بتخطيط وتدبير من أمها، وبمباركة الجدة، لتنغلق بذلك دائرة التخلف على نفسها من جديد، رغم كل متغيرات الزمان والمكان والمستوى العلمي والمعيشي، دائرة مغلقة تتوارثها الأجيال، ترى في الزواج صفقة، وفي الأنثى سلعة يتحدد سعرها بصغر سنها، مع فارق وحيد هو أن المدينة الحلم كانت دمشق، واليوم هي باريس أو أي عاصمة غربية أخرى، ومع امكان تعميم المقولة على البيئات السورية كافة.
وباعتبار أن يامن محمد من خريجي قسم النقد في المعهد العالي للفنون المسرحية، لم تعزّه المعرفة الأكاديمية لبلورة شخصيات حية من دم ولحم، تنطق وتسلك بما ينسجم وبيئتها الاجتماعية والثقافية، أو ابتكار أحداث وأفعال نابعة من منطق الحكاية، لكن اضافته الفعلية رغم  تناوله لموضوع شائع ومقولة معروفة، اضافته كانت ماثلة في أسلوب بناؤه لشبكة ضمنية من الدلالات والروامز أنتجها التفاعل الدينامكي  لعناصر الحبكة المسرحية كافة، كما كانت مائلة في استثمار خصوصيات لهجة أهل الساحل بما في ذلك الشتائم والألفاظ النابية لمصلحة الصدقية وروح السخرية في النص (شحارو ع هالاسم ص316)، الى جانب الجرأة في التطرق الى جسد المرأة وموضوع الرغبة من دون افتعال أو خروج عن المبررات الدرامية.
ويمكننا القول في النهاية أن نص يامن يحمل توجهات جديدة في الكتابة المسرحية، يشاطره فيها عدد من المؤلفين الجدد، كتابة لا تقوم على المفاضلة ما بين مفاهيم الفضيلة والرذيلة، ولا على الصراع ما بين الأفكار والمعتقدات والطبقات الاجتماعية، بل هي تتناول مقطعا من الحياة، وتضعه تحت المجهر، كي تبرز بجلاء مكوناته وسماته وأشكال تفاعله من الداخل ومع المحيط الخارجي، مقطع يكتفي بكينونته الخاصة، غير آبه بالقضايا الكبرى واشكالات الهوية ورسائل التغيير التي كانت موضع اهتمام الكتّاب السابقين، من  دون أن يعني ذلك أنه نمط من الكتابة المجانية، بل ربما هي الرغبة في التعبير الصادق عن حياة تغيب عنها الحريات الفردية، تحت ضغط طواطم تربوية ودينية وثقافية، ماضوية وأخرى مستحدثة، رُفعت الى موضع التقديس.

سلسلة الذاكرة
1-أبو خليل القباني «ناكر الجميل»
2-عبد الوهاب أبو السعود «وامعتصماه»
3-وصفي المالح «طريق النصرط»
4-خليل هنداوي «هاروت وماروت»
5-حكمت محسن «صابر أفندي»
6-مراد السباعي «شيطان في بيت»
7-حسيب كيالي «قارعو الأبواب»
8-سلطان قطاية  «القضية والحل»
9-محمد الماغوط «العصفور الأحدب»
10-وليد مدفعي «وبعدين»
11-وليد فاضل «إيفا»
12-وليد اخلاصي «سهرة ديمقراطية على الخشبة»
13-سعد الله ونوس «طقوس الاشارات والتحولات»
14-فرحان بلبل «الممثلون يتراشقون الحجارة»
15-علي عقلة عرسان «رضا قيصر»
16-مصطفى الحلاج «الدراويش يبحثون عن الحقيقة»
17-عبد الفتاح قلعجي «العرس الحلبي»
18-رياض عصمت «لعبة الحب والثورة»
19-ممدوح عدوان «ليل العبيد»
20-حكيم مرزوقي، عبد المنعم عمايري «حلم ليلة عيد» و«صدى»
21-زيناتي قدسية، موفق مسعود «مجنون يحكي وعاقل يسمع» و«الرجل الدائري»
22-الأب الياس زحلاوي «المدينة المصلوبة»
23-أحمد يوسف داود «الخطى التي تنحدر»
24-شوقي بغدادي «تلك الليلة»
25-الكتاب الشباب ج1
-عدنان العودة «خيل تائهة»
-عمر أبو سعدة «ليلة»
-محمد أبو لبن «آخر العشاق»
-يم مشهدي «باريس في الظل»
-الفارس الذهبي «ريح»
26-الكتاب الشباب ج2
-هوزان عكو «براونة أو الحرائق»
-كفاح الخوص «حكاية بلاد ما فيها موت»
- وائل قدور «الفيروس»
-ليندا الأحمد «الملحق» 
-يامن محمد «قدم الى الأمام قدم الى الوراء».

تهامة الجندي

المصدر: الكفاح العربي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...