البحث عن هوية غير عربية لمصر

13-09-2006

البحث عن هوية غير عربية لمصر

الجمل:  تمثل السياسة الخارجية استراتيجية الدولة في معاملاتها الخارجية العابرة للحدود في البنية الدولية، وعادة ما تتلازم وتتناسب السياسة الخارجية لأي دولة مع سياستها الداخلية، فالدول التي تسعى من اجل البناء الاقتصادي تركز سياستها الخارجية باتجاه الحصول على الموارد الاقتصادية، والدول التي تسعى من أجل تعزيز قدراتها الدفاعية تركز سياستها الخارجية باتجاه الحصول على الأسلحة والعتاد العسكري الذي يعزز قدراتها العسكرية، وهكذا، لكل سياسة خارجية هدف تسعى لتحقيقه.
كذلك تتعاون قدرة السياسة الخارجية في التأثير على البنية السياسية والدولية، بين كل دولة وأخرى، وذلك بحسب الوزن ومركز الثقل الإقليمي والدولي الذي تتمتع به كل دولة، ويتفاوت الوزن ومركز الثقل هذا أيضاً بين دولة وأخرى، وبتطبيق هذا المنطق على الحالة المصرية نلاحظ الآتي:
- تحتل مصر موقعاً استراتيجياً هاماً على خارطة العالم، وذلك بسبب وجود قناة السويس التي تربط القارات الثلاثة: أوروبا، أفريقيا، وآسيا، والتي يتدفق عبرها 60% من إجمالي حركة التجارة الدولية بما في ذلك كل حركة الصادرات النفطية الخليجية إلى أوروبا، وكل تجارة جنوب وجنوب شرق وشرق آسيا مع أوروبا.
- تمثل مصر أكبر كتلة سكانية ديموغرافية في العالم العربي، ويوجد فيها ما يقرب من ثلث إجمالي عدد سكان العالم العربي.
وعلى هذه الخلفية، فقد استطاعت مصر في الفترة من لحظة قيام ثورة 23 تموز العربية التحررية بقيادة جمال عبد الناصر، وحتى لحظة توقيع اتفاقيات كامب ديفيد أن تكتسب دوراً هاماً في البنية الإقليمية والدولية، وذلك بسبب الآتي:
- الخطر الكبير الذي شكلته القوة العسكرية المصرية ضد إسرائيل والمصالح الأمريكية والغربية.
- القوة الاقتصادية الكبيرة التي تميزت بها مصر بسبب بناء السد العالي، والاستقلال الاقتصادي الذي أدى إلى استقلال قرارها السياسي.
- القوة القومية الكبيرة التي اكتسبتها مصر على النحو الذي جعل من مصر مركزاً رئيساً لاستقطاب القوة القومية العربية.
بعد رحيل جمال عبد الناصر، وبعد حرب تشرين، بدأت النخبة السياسية المصرية بقيادة أنور السادات، وبطرس بطرس غالي.. التحول باتجاه انتهاج طريق آخر، يتمثل في التحالف مع أمريكا وحلفاءها، ومن ثم وقعت مصر اتفاقية كامب ديفيد، وتحولت السياسة الخارجية المصرية باتجاه الاندماج الكامل ضمن المشروع السياسي الإسرائيلي- الأمريكي في المنطقة.
تأسيساً على قاعدة توازن الدول والمكانة في السياسة الخارجية، فقد تغير دور السياسة الخارجية المصرية، من الـ(استقلال)، الى الـ(تبعية) ومن أبرز المؤشرات والوقائع التي تدل على ذلك مايلي:
• الخروج عن الإجماع العربي، عن طريق توقيع اتفاقية سلام مع إسرائيل، علماً بأن القوة العسكرية والاقتصادية التي تمتعت بها مصر آنذاك كان مصدرها الدعم العربي، ولكن تجاوز نظام انور السادات ذلك، وتنكره بعد اتهامه العرب بالتقصير، أعلن عن استعداده للتخلي عن العروبة نفسها، وذلك في كتابه الذي حمل عنوان (البحث عن الذات)، والذي كان محاولة للبحث عن هوية غير عربية لمصر.
• محاولة شق الصف العربي، عن طريق تعميق القطيعة والخلافات بين الصف العربي، وقد نجحت السياسة الخارجية المصرية في دفع نظام الرئيس جعفر النميري الى السير في ركب السياسة الخارجية الأمريكية، ومشاركة مصر في تنفيذ الأجندة الإسرائيلية، وكان من أمثلة ذلك عملية ترحيل اليهود الفلاشا إلى إسرائيل، وتصفية جبهة التحرير العربية الأرتيرية، ودعم حركة أسياس أفورقي بدلاً عنها، الأمر الذي ترتب عليه في نهاية الأمر قيام دولة غير عربية، في أرتيريا البلد الذي أغلبية سكانه من العرب ويتحدثون اللغة العربية.
• القضاء على مصداقية العرب في علاقاتهم الدولية السياسية الخارجية، وذلك لأن نكران الجميل الذي تعامل به النظام المصري مع دول أوروبا الشرقية، قد جعل هذه الدول تتردد في معاملاتها الداعمة للعرب بشكل عام خوفاً من تكرار المشهد المصري.
• أدت السياسة الخارجية المصرية إلى توريط الاقتصاد المصري في الديون الخارجية، على النحو الذي أدى إلى جعل الاقتصاد المصري يقع بالكامل ضمن شروط التبعية الاقتصادية للغرب.
• الوقوع في التبعية العسكرية، وذلك بسبب الاعتماد على مصادر السلاح الغربي، والانكشاف العسكري بسبب إجراء المناورات والتدريبات وغيرها من الإجراءات العسكرية مع الجيش الأمريكي وحلفائه.
بعد أن أدت السياسة الخارجية المصرية إلى هذه الوقائع، يقول الكثير من المختصين في الشأن المصري، بأن مصر لو اكتفت بالانسحاب والخروج من معركة المصير العربي، لكان ذلك أفضل، لأن ما هو أسوأ قد حدث بسبب  إصرار النخب المصرية على الاستمرار في عملية القيام بـ(دور) في حل الصراع العربي- الإسرائيلي.. وفي هذا الصدد فقد لعبت السياسة الخارجية المصرية دوراً سلبياً خطيراً، وبالذات في قيامها بإقناع زعيم منظمة التحرير الفلسطينية الراحل ياسر عرفات، على النحو الذي أفضى به إلى الوصول إلى طاولة المفاوضات في النرويج والتوقيع على اتفاقية أوسلو، على أمل أن تقوم الدولة الفلسطينية، والتي تحدد لها –تحت إشراف السياسة الخارجية المصرية- أن تتضمن رقعتها الضفة الغربية وقطاع غزة، ولكنها بفضل جهود السياسة الخارجية المصرية، انتهى أمر السلطة الفلسطينية إلى حصار دبابات شارون لياسر عرفات في مكتبه برام الله، والتخلص منه في نهاية الأمر..
كذلك شكلت السياسة الخارجية المصرية خطراً مباشراً ضد السودان، فقد قدمت لحركات التمرد خلال حرب الجنوب الأهلية، دعماً هائلاً، وكانت المكاتب الرئيسة لحركة التمرد في القاهرة، وكل اتصالاتها مع القوى الأجنبية تتم في القاهرة.
وما هو مؤلم ويبعث على الدهشة أن التمرد عندما اندفع في جنوب السودان بقيادة جون قرنق، كان مطلبه الأساسي هو: إلغاء اتفاقية التكامل بين مصر والسودان، وإلغاء اتفاقية  الدفاع المشترك بين مصر والسودان، وإلغاء مشروع قناة جنقلي بين مصر والسودان، والذي يوفر لمصر 5 مليارات متر مكعب من المياه، وقد رفض الرئيس نميري آنذاك هذه الشروط، الامر الذي ادى إلى استمرار التمرد.
كذلك بدعم أمريكي- أوروبي غربي، تم فرض العقوبات الدولية ضد السودان، وذلك على خلفية الشكوى التي تقدّم بها عمرو موسى وزير خارجية مصر آنذاك (وأمين الجامعة العربية حالياً) إلى مجلس الأمن ض السودان، ومن سخرية القدرة، أن عمرو موسى بعد أن أصبح أميناً للجامعة العربية، يطالب مجلس الأمن والحكومة الأمريكية برفع العقوبات، التي طالب هو نفسه بتطبيقها في الماضي.. وأيضاً من سخرية القدر أن تتبنى السياسة الخارجية المصرية حالياً مبدأ الحفاظ على وحدة السودان، وحمايته من خطر الانفصال والتقسيم بوساطة المتمردين الذين قدمت لهم الدعم والتأييد والمساندة.
معادلة خطر السياسة الخارجية المصرية أصبحت أكثر وضوحاً، فالمعونات الأمريكية والغربية التي يعتمد عليها النظام المصري، سوف تنقطع ولن تأتي إلا إذا قامت السياسة الخارجية المصرية بدور نشط وأسهمت بقوة في تطبق المشروع الأمريكي الذي يهدف إلى الآتي:
- دعم ومساندة هيمنة إسرائيل على منطقة الشرق الأوسط والشرق الأدنى.
- حماية أمن إسرائيل من خطر أي مواجهة أو مقاومة عربية.
- إضعاف دول المنطقة الرافضة للمشروع الأمريكي والهيمنة الإسرائيلية.
- إضعاف وجود القوى الكبرى العالمية المنافسة لأمريكا في المنطقة، وبالذات روسيا والصين.
- مساندة الأطراف العربية المؤيدة لمسيرة المشروع الإسرائيلي.
- بناء التحالفات الإقليمية الفرعية، بالاشتراك مع الدول العربية المرتبطة باتفاقيات سلام ولها علاقات دبلوماسية مع إسرائيل والتي تتمثل في: الأردن، تونس، المغرب، وموريتانيا.
- دعم وجود الاحتلال الأمريكي في العراق.
الأداء السلوكي للسياسة الخارجية المصرية في هذه المرحلة يتضمن المسارات الآتية:
• على الصعيد البنائي الهيكلي: تنتشر شبكة السفارات والقنصليات المصرية في شتى بقاع العالم، وبتركيز كبير في المناطق الإقليمية ذات الأهمية للمصالح الأمريكية، الشرق أوسطية.
• على الصعيد القيمي: تركز السياسة الخارجية الأمريكية على ضرورة تعزيز العلاقات العربية الأمريكية وفقاً لتبريرات تقوم على مبدأ القبول بالأمر الواقع، للهيمنة الأمريكية.
• على الصعيد التفاعلي: يمكن القول: إن كل التحركات الدبلوماسية في السياسة الخارجية المصرية تهدف إلى دفع الأطراف العربية باتجاه التعامل مع إسرائيل، وتقديم المزيد من التنازلات عن الحقوق العربية الشرعية لصالح إسرائيل، كذلك تعمل السياسة الخارجية المصرية دور المهدئ للقوى العربية التي مازالت تقاوم المشروع الإسرائيلي، وثمة مثال واضح لذلك يتمثل في الموقف المصري الأخير إزاء مقاومة حزب الله اللبناني للعدوان الإسرائيلي.
بعد حرب لبنان هناك توقعات بأن دور السياسة الخارجية المصرية سوف يضمحل، وذلك لأن استراتيجية استخدام إسرائيل وأمريكا للسياسة الخارجية المصرية كأداة وكوسيلة ضبط للموقف العربي، قد انكشف تماماً أمام الرأي العام العربي، والذي أصبح ينظر للسياسة الخارجية المصرية باعتبارها (حصان طروادة) أمريكي- إسرائيلي، في المنطقة، وعلى الأرجح أن يتحول الدور إلى الأردن، والتي سوف تكون بفضل (خدمات النظام الملكي) بمثابة المركز الإقليمي الرئيسي للمظلة الأمنية العربية الجديدة، والتي سوف تضم أصدقاء إسرائيل في المنطقة العربية، والذين سوف تكون مهمتهم، حفظ  أمن وسلامة إسرائيل أولاً، ثم القضاء على المقاومة العربية ضد إسرائيل ثانياً، ثم الحصول على فتات المعونات الأمريكية ثالثاً.


الجمل: قسم الدراسات والترجمة


 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...