مستقبل العلمانية في الوطن العربي (2-2)

13-07-2006

مستقبل العلمانية في الوطن العربي (2-2)

مؤشرات التأسيس للعلمنة
 إن نظرة إلى مآل المؤسسات التعليمية والإعلامية والتشريعية واتجاه تطورها ذات دلالة أكيدة في ما نحن بصدده.
التعليم:
فالنظام التعليمي الحديث والمدرسة العصرية يتوطدان في جميع البلدان العربية ويخلقان أجيالاً جديدة ويعيدان إنتاج وتوسيع القاعدة الاجتماعية كطرز تفكير ومفاهيم وسلوكيات عصرية يتساقط منها باستمرار بعض ما بقي مما هو قديم وتقليدي مع كل جيل جديد، بينما يتراجع التعليم التقليدي بمضمونه الديني. لقد انتبه (محمد عبده) منذ ثمانينيات القرن الماضي إلى قوة تأثير التعليم الجديد في الدين والعقيدة(5) وأكد (وحذّر) من قوة التعليم الحديث في المدارس الرسمية والأهلية، وأثره في دفع الطلاب إلى تبني العلم الحديث يقول: «أما المتعلمون في مدارس رسمية... فهؤلاء ينشأون على شيء من المعارف في الفنون المختلفة، وتقرر لهم حقائق في الكون السماوي أو الأرضي أو في الاجتماع الإنساني، ومن عرف شيئاً انطلق لسانه بالخوض فيه وقد يسمعه متنطع ممن يلبس لباس أهل الدين... فيلوم المتعلم ويوبخه ويرميه بالمروق من الدين، هذا والمتعلم لا يشك في قوة دليله... فينفر عن دينه نفرته من الجهل، ولو قال له قائل: ارجع إلى كتب الدين تجد فيها ما يسرك وينفرك على نفسك وعلى خصمك، حار لا يدري إلى أي كتاب يرجع، ولم يسهل عليه فهم تلك العبارات التي ورثها القوم، على ما فيها من تشتيت وتقعيد وأبقوها كما ورثوها، فيعود إلى النفور من الدين نفور طالب الفهم مما لا يمكنه فهمه»(6).
كان ذلك تأثير التعليم الحديث على قلته في ثمانينيات القرن التاسع عشر، فما بالك بتأثيره في آخر القرن العشرين؟ أي بعد أكثر من قرن من توسع التعليم الرسمي الحكومي العصري والعلماني، توسعاً كبيراً؟؟
وأغامر بالقول إن المدرسة الحديثة والعصرية في الوطن العربي قد تقبلت وتبنت العلم الحديث ونظرياته مع الحد الأدنى من المعارضة أو الرفض. ولذلك قصة:
إن نظريةً كالدراوينية، مثلاً، مثلت نموذجاً للتفكير المنهجي العلمي، في أواخر القرن الماضي، وجدت طريقها إلى برامج التعليم الحديث في الوطن العربي /وللمفارقة/ بمقاومة أقل مما حصل في الولايات المتحدة مثلاً. فباستثناء الجدالات في بداية هذا القرن، والتي لم تتجاوز نخبة النخبة في مصر بين مؤيد ومعارض، لا نجد أي مقاومة تذكر لتدريس النظرية فيما بعد، حيث أدرجت في مناهج تدريس العلوم دون ضجة تذكر. بينما بقيت المسألة في دولة علمانية كالولايات المتحدة بين مد وجذر حتى الثمانينيات من هذا القرن، دون أن يلقى تدريسها القبول تماماً.
لقد بدأت القصة منذ بدايات هذا القرن. فعقب الحرب العالمية الأولى كانت عدة ولايات، وبخاصة في الجنوب، قد اتخذت، وبتأثير جماعات «التزمتيين» - وهم بمعنى ما أصوليون مسيحيون - إجراءات من أجل استبعاد الداروينية من التعليم العام. وكانت ولاية (تينيسي) تبنت قانوناً ينص فيما ينص على أنه «ليس قانونياً من جهة مدرس في الجامعة، أو في مدرسة معلمين، أو في أية مدرسة عامة أخرى أن يدرس نظرية تنكر نظرية الخلق الإلهي للإنسان بالشكل الذي ورد في الكتاب المقدس» وحينما قام مدرس شاب في مدينة (دايتون) في الولاية بتحدي ذلك وتدريس الداروينية، قدم إلى المحاكمة. وتمت المحاكمة فعلاً ما بين 10 - 21 تموز 1925، وكانت المحاكمة نوعاً من الاحتفال الشعبي حضره العديد من الداعين والمبشرين متبوعين بجمهرة من الفضوليين والصحفيين، وحكي عنه فيما بعد مرات ومرات، واعتبرت المحاكمة معركة بين أنصار نظرية الخلق وأنصار نظرية التطور الداروينية، واعتبرها بعضهم معركة بين بطل الظلامية، ممثلاً بمحامي نظرية الخلق، الذي مات بعد بضعة أيام من نهاية المحاكمة، وبطل العلم ممثلاً بمحامي الدفاع عن الأستاذ الشاب (جون سكوبس) مدرس الداروينية؟ وانتهت المحاكمة وأُدين (جون سكوبس) وغرم بمئة دولار. ولكن بعد عامين في كانون الثاني 1927 قررت المحكمة العليا في (تينيسي) أن قاضي (دايتون) كان مخطئاً. اعتبر عدة مؤرخين أن العلم قد كسب الجولة بينما رأى آخرون في القضية فشلاً أو يكاد، بخاصة أنه وبعد القضية عدلت عدة كتيبات عن الداروينية، بل كادت الداروينية تختفي تماماً في بعض الأحيان، وبعد عام 1925 كاد اسم داروين وكلمة التطور أن يختفيا من الكتيبات، وتم استخدام مفهوم النحو باعتباره أكثر تحفظاً. وظلت الحالة على هذا المنوال حتى بداية الستينيات.
تأملوا الآن السؤال التالي الذي طرح في الولايات المتحدة في بداية الثمانينيات: هل من المناسب أن نخصص للنظرية الداروينية في التطور مكاناً في العلوم المدرسية؟؟ كان جزءاً من إجابة (رونالد ريغان) في حملته الانتخابية التالي: «في كافة الأحوال، إذا ما تقرر تعليمها في المدارس، أعتقد أنه يتوجب أيضاً تعليم شروح الكتاب المقدس عن الخلق».
في (سان دييغو) وفي عام 1981 تقدم أنصار نظرية الخل بدعوى ضد حكومة ولاية كاليفورنيا، لأنهم اعتبروا أن التطورية بالشكل الذي تدرس فيه في المدارس العامة تسيء للكتاب المقدس وتعتبر انتهاكاً للحريات الدينية. وصدر الحكم في 6 آذار 1981 في (سكرمنتو) ببطلان الدعوى، ولكن مع تذييل قرار الحكم بتحذير للأساتذة من أية دوغمائية في تدريس نظرية التطور الداروينية، أو من أي إيحاء بأن الشرح التوراتي أو سفر التكوين يقدم لنا معلومات خاطئة. وبدا أن قبول الداروينية في التعليم بعيد عن أن يكتمل. ويحاول الضغط الاجتماعي لحجم تعليمها بل ودفعها إلى التراجع. فمنذ عام 1980 اتخذت مبادرات في (19) ولاية أمريكية من أجل تدريس الشرح التوراتي لأصول الحياة في المدارس على قدم المساواة مع نظريات البيولوجيا الحديثة(7).
طبعاً لم تتوقف مسيرة العلم وكانت أقوى من كل هذه التخرصات والمشاكسات، كما هي دائماً وفي أي مكان على هذه الأرض ولكن لننتبه إلى أن القصة في أكبر دولة علمانية، وذلك لنشير إلى أن المجتمع العربي الحديث والمعاصر قد تقبل ويتقبل أحدث النظريات العلمية ليس في البيولوجيا فحسب، بل وفي الأخطر منها، في الفلسفة وعلم النفس والسوسيولوجيا، ويدمجها في البرامج التعليمية المعاصرة، دون ضجة كتابات ومع الحد الأدنى من المقاومة والرفض إن وجد. وذلك يؤسس حتماً لآفاق أرحب من علمنة الفكر والعلاقات في المجتمع العربي مع معارضة أقل فأقل.
هكذا وحين نضع في حسابنا حقيقة أن المجتمع العربي مجتمع فتي، حيث تشكل فيه نسبة الفئات العمرية دون سن (25) أكثر من (70%)، وهي فئات المستقبل، الفئات المقبلة على التعليم الرسمي العصري والوعي والقيم الأكثر انفتاحاً ومعاصر، ونمو رفض كل ما هو تقليدي وقديم، مع طموح وتوق متزايد إلى ما هو جديد، إلى الحداثة بكل مظاهرها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، حتى بغض النظر عن شكلانيتها ومثالبها المصاحبة.
حين نضع ذلك في اعتبارنا سنجد في هذه الفئة مجموعة ضغط اجتماعية مستقبلية كبيرة وقوية باتجاه التأسيس للعلمنة وفتح الآفاق أمام سيرورتها.
إن المدرسة الحديثة والتعليم العصري العلماني يجددان العقول والسلوك ويتحول القديم تدريجياً إلى مجرد طقس شكلي، لا علاقة له بما هو معيش، يستمر بفعل التقليد فحسب. أما النزعات الماضوية السلفية الدينية المعارضة لذلك فهي حالة دفاعية، والدفاع يعني أن الهجوم قائم، وهو هجوم العلمنة الظافر والوارث دون ريب، أو حالة ردود فعل تحاول تأكيد الاختلاف والمغايرة، الأمر الذي لم يتحقق إلا برانياً على ما يبدو، أي شكلانياً ودون مضمون حقيقي، من ممارسة الشعائر والطقوس إلى بعض الفتاوى الخاصة بالأسرة والتلفزيون إلى إطلاق اللحى إلى الزي والحجاب الذي أخذت بعض دور الأزياء تتخصص وتتففن في ابتكار الجديد والغريب منه. وبشكل يتناقض في معظم الأحيان مع دخيلة الفرد وسلوكه وحياته اليومية. وهكذا فإن مناهج التعليم الجديدة، وأساليب البحث العلمي، والانفتاح على الإبداع البشري بكلياته والمذاهب الفنية والأدبية والفلسفية المستحدثة كلها عوامل فعالة ومتنامية التأثير، منذ بدايات هذا القرن على الأقل، في فتح آفاق أرحب للفكر والثقافة العربية باتجاه العلمنة.
الإعلام:
لم يعد بالإمكان الآن، وفي أي مجتمع معاصر، زمانياً الحديث عن التغيير والتربية والتنشئة الاجتماعية ومنظومة القيم، أي باختصار كل عناصر تكوين المتخيل الاجتماعي للناس دون الحديث عن دور الإعلام. فالسرعة العجيبة في تطور الاتصال العالمي تقضي على كل انغلاق ثقافي فردي أو اجتماعي: والتلفزيون والفيديو والأقمار الصناعية لا تزال مثابرة بقوة على خلق حاجات جديدة، وعلى عرض وفرض قيم ومفاهيم وسلوكات معاصرة، وتشكيل متخيل اجتماعي إنساني جديد وعالمي لا يعبأ بكل العقائد والأديان، بغض النظر عن الرغبة أو عدم الرغبة في ذلك.
إن البلدان النامية، مثلاً، ومنها وبخاصة البلدان العربية، تعيد بث وإرسال ما نسبة أكثر من (90%) من البرامج الإعلامية الأمريكية والأوروبية والتي تسهر على تسوية بضائع وقيم وأنماط حياة جديدة ومعاصرة ونحن مقبلون على زمن لا تعود للدولة فيه قدرة على الرقابة والمنع، وهو زمن قريب لا ريب فيه. فالثورة الإعلامية المعاصرة الجبارة تقتلع الناس من دعة وبساطة العيش وتنزع منهم الثقة بأسلوب حياتهم، وتلقي بالقرد وقيمه وأخلاقه وسلوكه في لجة العالم، وتصبح المقارنة بفعل ذلك يومية بين الأنا والآخر، بين جماعتي والجماعة الأخرى، وتضمحل تدريجياً نزعة التمركز على الذات، لفسحة المجال للمقارنة بعادات وأخلاق وقيم ومفاهيم الآخرين ومعروف ما للمقارنة من دور مهم كبداية لكل انفتاح ولكل تفكير عقلاني وعلمي أعم وأشمل.
القانون:
يعطي القانون والتشريع مؤشراً أكيد الدلالة على اتجاه التغيرات في البنية الاجتماعية العربية وتأثيرها في مستقبل العلمنة.
نجد في جميع دساتير الدول العربية، تقريباً، نصاً على أن الإسلام دين الدولة وأن الشريعة بصدد التقنين ولكن في صيغة لا تدل على أكثر من كونها إيماءة نحية (من بعيد) للإسلام، واعتذاراً في الوقت نفسه عن عدم تطبيق الشريعة الإسلامية إذ نلاحظ أن التشريعات الوضعية الغربية يزداد تغلغلها باستمرار على حساب التشريعات الإسلامية، حيث تزداد هيمنة التشريع الغربي على نظام القضاء وعلى تنظيم التجارة وتنظيم الأراضي والتنظيم الجنائي إلى حد يدفع أحد أبرز رجال القانون العرب (عبد الرزاق السنهوري) إلى القول: «يمكن القول، في طمأنينة، إن القانون المصري الجديد (المدني) يمثل الثقافة المدنية الغربية أصدق تمثيل، وتمثيلها في أحدث صورة من صورها».
والقانون المدني السوري واللبناني والعراقي والمصري، (كلها غربي المآخذ) كما يقول طارق البشري(8). وينطبق ذلك على جميع التشريعات في الدول العربية، مع استثناءات محدودة.
لماذا؟ ليس بأي حال نتيجة لإهمال فقهاء القانون العرب للشريعة الإسلامية، ولاستمداد القوانين منها، فالحقيقة أنهم حاولوا ولم يستطيعوا. بل لأن اتجاه تحولات الواقع الاجتماعي الاقتصادي والسياسي والثقافي العربي خلق ويخلق قوى وحاجات ومصالح جديدة تفرض ذلك الشكل القانوني.
وليس التغريب التشريعي إذا صحت التسمية، مؤامرة مبيتة ضد الإسلام والتشريع الإسلامي، كما قد يصوره المولعون بالتفسيرات التآمرية بل فرضته حركة الواقع العربي وانفتاحه على العصر، برضاه أم دونه، وتغير بناه الاجتماعية والاقتصادية التقليدية وظهور طبقات وفئات وعلاقات جديدة، وليس التشريع سوى مؤشر على هذه التغيرات واستجابة لها.
وهكذا نجد هنا أيضاً تأسيساً وانفتاحاً آخر أمام العلمنة.
هل يمكن أن نكون جادين، حقاً، ونحن نتحدث عن العلمنة ومشتقاتها بخاصة في الوطن العربي، دون الانتباه إلى المعارض التقليدي؟
أي الاتجاه السلفي بتنوعاته العديدة؟ إذن وبعد كل ما سبق، إلى أي مدى يقوم أو يستطيع هذا الاتجاه إعاقة أو إيقاف سيرورة العلمنة؟
إذا لم نؤخذ بظواهر الأمور، ولم ننبهر بزخم الحركة الإسلامية الراهنة، ونظرنا إليها بروية أكثر. أي إذا قمنا بنوع من التفكيك للخطاب الإسلامي الراهن. فقد نجد مؤشرات أخرى عظيمة الفائدة في استشراف مستقبل العلمنة في الوطن العربي فلننتبه منذ البداية إلى أن (الإسلاميين) هم بمعنى ما، عقلانيون نفعيون، فهم مثلاً ليسوا منوطي التدين، بل يتوسلون الدين إلى الدنيا، ويتعاملون مع الإسلام كإرث أيديولوجي فعال في هذا السبيل، وهم لا يختلفون في ذلك من حيث المبدأ، عن جميع الحركات والأحزاب العلمانية المعاصرة، بل أن جميع الأحزاب والحركات العلمانية في الوطن العربي والتي كانت سابقاً تستبعد هذا الإرث الأيديولوجي، تعود الآن إلى المطالبة بحصتها فيه، وإعادة اقتسامه مع الحركة الإسلامية، واستخدام نصوصه ورموزه. والإسلاميون عقلانيون بمعنى أيضاً، حين لا يتورعون عن النقد الذاتي، وإعادة قراءة هذا الميراث وتعديله بما يخدم أهدافاً دنيوية أساساً. وهو الأمر الذي يحدث الآن.
لقد أثرت التغيرات والانفتاحات الواسعة على الجديد والمعاصر في الحركات الإسلامية نفسها، فدفعتها إلى الكثير من المراجعة والنقد الذاتي وإعادة البناء الأيديولوجي وفقاً للواقع الموضوعي وكان ذلك نتيجة لمواجهتها المباشرة للواقع الذي لم تكن سابقاً تملك إزاءه إلا فكرة النقض والهدم، دون أن تمتلك إلا أفكاراً عامة وغامضة وغير محددة عن البناء. كالحديث عن الحل الإسلامي، وعن منهج الله مقابل منهج البشرية وعن الحاجة إلى أسلحة الحياة والمعرفة والعلوم، دون توضيح تفصيلات هذا المشروع وكيفية تنفيذه ووصله بواقع الناس وحقائق العصر.
يعبر (راشد الغنوشي) عن هذا الانفتاح على الواقع في الحركة الإسلامية في تونس عندما يشير إلى تركيز الحركة في السنوات الأخيرة على مراجعة فكر (سيد قطب) وتجاوز تركيزه على العقيدة والأخلاق مع الإهمال شبه الكامل لمسألة الثروة والديمقراطية والحريات العامة. يقول الغنوشي: «كان من الطبيعي أن يخلق (أي فكر سيد قطب) حركة لا تقدر على تطوير المجتمع بل على مصادمته والعزلة عنه، لكنها بعيدة عن أن تكون عنصر تطوير فيه، وتحدث التفاعل بين الإسلام كعقيدة وهموم الناس في العيش وفي الصحة والسكن وفي التعليم، وتتفاعل مع قضية الحرية»(9).
ويتحدث (حسن الترابي) عن الحركة الإسلامية في السودان فيقول: «... اضطرت الحركة إلى التفاعل الفكري مع الواقع المعين، فغدا فكرها من ثم موصولاً بالزمان والمكان (وهذا يعني ضمناً أنه كان خارج الزمان والمكان) أي بالسودان وقضاياه المحلية، أو القضايا العالمية كما تنعكس أصداؤها فيه، ومن ثم غد فقهها للدين علموياً استقرائياً يتبصر الواقع... بل يعتمد التجريب ليتبين ما هو أوفق في سياق ذلك الواقع»(10).
وفي هذا الاتجاه بدأت، وتحديداً منذ بداية النصف الثاني من الثمانينات موجة من المراجعة والنقد الذاتي من داخل الحركة الإسلامية نفسها وكلها انطلاقاً من نبذ الانغلاق وانطلاقاً من مبدأ المرونة مع الواقع والانفتاح على الحوار مع الآخر بحيث غدت أغلب الحركات الإسلامية اليوم تميل أكثر فأكثر إلى الاعتدال.
(السيد محمد حسين فضل الله) مثلاً، يرى أن «ليس هناك شيء محظور في الحوار فالحرية الفكرية لا حد لها حتى عندما يتعلق الأمر بـ(الفكر المضاد) طالما أننا لا ندعو إلى حرية فكرية ينسحب فيها الإسلاميون» بل إن السيد فضل الله يذهب حتى إلى التحفظ حول مسألة «تحريم حفظ كتب الضلال ونشرها» (وهي مسألة حيوية وجريئة في الواقع) وإلى حرية الأحزاب السياسية في شروط محددة. يقول السيد فضل الله: «لعل التجربة المتنوعة في حركة الواقع الفكري تدلنا على أن الذين فرضوا فكرهم بحصار الفكر الآخر لم يستطيعوا أن يضمنوا الامتداد لهذا الفكر في حياة الناس بأكثر مما لو فسحوا المجال لذلك الفكر أن يأخذ مكانه في ساحة الصراع الفكري إلى جانب فكرهم... بل ربما يشعر الناس بالعطف على الفكر المحاصر على أساس أن الناس تتعاطف مع المضطهدين أكثر مما تتعاطف مع الذين يضطهدونهم، وإذا كانت الصورة البارزة هي صورة الفكر الرسمي فقد تكون الصورة في الخفاء شيئاً آخر»(11).
ولعله ذو دلالة أيضاً أن تقوم بعض الحركات الإسلامية في هذه الفترة نفسها بتغيير أسمائها وأن تتنازل عن العنوان الإسلامي (كحركة الاتجاه الإسلامي) في تونس التي أصبحت تعرف اليوم باسم (حركة النهضة) و(الجماعة الإسلامية في المغرب) التي أصبحت اليوم (حزب التجديد الوطني) و(الجماعة الإسلامية في شرق الجزائر) أصبح اسمها (حركة النهضة) أيضاً. كما أن العديد من الحركات والجمعيات الإسلامية التي لم تكن تؤمن سابقاً بمبدأ الحزبية تحولت إلى أحزاب سياسية تعمل في إطار التقنين الدستوري والشرعية السياسية (كحزب الحق) و(حركة التوحيد والعمل الإسلامي) في اليمن و(جماعة العدل والإحسان) في المغرب و(جبهة العمل الإسلامي) في الأردن، و(حزب الأمة في مصر).
طبعاً لا يمكن أن نعني بذلك مطلقاً أن التيارات الإسلامية في الوطن العربي قد تعلمنت أو أنها تتجه حسيساً إلى العلمنة. إذ قد لا يجد بعضهم فيها سوى تغيرات تكتيكية شكلية. نعم. ولكن هذه التغييرات التكتيكية تدل من جهة على موقف أكثر عقلانية وتدل من جهة ثانية على قبول العمل في الإطار العام للعلمانية وقبول العمل بالإضافة إلى الآخر العلماني. وهي فسحة من السلام تعني مبدئياً استبعاد العنف والالتزام بقواعد اللعبة السياسية المعاصرة.
ماذا سيحدث لو استمرت هذه التغيرات في الاتجاهات الإسلامية؟
وباستمرار تطور ونمو هذه الاتجاهات في الحركات الإسلامية المعاصرة، وهو ما يبدو أنه قائم الآن (والمؤتمر الإسلامي الشعبي الذي انعقد في الخرطوم في أواخر آذار الماضي خير دليل على ذلك)، فإن مآلها سيكون على غرار ما هي عليه الأحزاب اليمينية المسيحية في الغرب، أي الالتزام باللعبة السياسية المعاصرة والعلمانية أساساً. الأمر الذي لا يفترض بالضرورة أن تكون جميع القوى العاملة ضمن هذا الإطار العلماني علمانية في جوهرها.
وهكذا سنستنتج من الحركة الإسلامية نفسها (مع أنها طالما افترضت معيقاً أساسياً لسيرورة العلمنة) سنستنتج منها، بالإضافة للعوامل والمؤشرات السابقة، ما يدل أيضاً على أن الميل التاريخي لسيرورة المجتمع العربي إنما هي باتجاه مقتضيات العلمنة.
العلمانية إذاً ليست أداة أو برنامجاً أو خطة نتبناها أو نرفضها، نطبقها أو لا نطبقها ولكنها سيرورة تاريخية فعلية ومستمرة لأنها من مصاحبات التغيرات الجديدة في البنى الاجتماعية، في مجالات العمل والإنتاج والسياسة والتعليم والإعلام والقانون والإدارة.
وأقصى ما تستطيعه معيقاتها البنيوية أو الإدارية أو القوى الاجتماعية التقليدية المحافظة والسلفية هو إبطاء سيرها أو جعل تقدمها لولبياً بدلاً من أن يكون خطياً. ولا شك أن هذه السيرورة وهذا الانفتاح باتجاه التقديم والعلمنة قد يسير بسرعة أكثر أو بسرعة أقل ولكنه لن يعود القهقرى مطلقاً، سواء أردنا أم لم نرد ولماذا لا نريد؟ لماذا نصر على ألا نتعلم الحقيقة إلا قهراً وألا نتمثلها إلا متأخرين؟ ننتظر الحديث حتى يفرض نفسه علينا ويقتحم غفلتنا ثم نبدأ بتحليله بحذلقة علمية رائعة مقرعين أنفسنا على عدم الاستعداد له.
إن إنسان نهاية هذا القرن هو أكثر من أي وقت مضى، ليس مجرد تحقيق عرضي لجوهر معطى قبلياً أو مجرد أداة لتحقيق هذا الجوهر بل هو أساساً لحظة في تطور يذهب من الأدنى إلى الأعلى. فمبادئ الإيمان بالعقل ستنتشر فوق الأرض بكاملها - كما كان يقول كوندرسيه - وطالما يستمر الناس في جمع المعرفة فسيكون التطور محتماً كنمو الشجرة، وليس هنالك من سبب يدفع بنا إلى أن نتوقع انقطاع ذلك. إنها صورة للصراع بين القديم والجديد. فهل هنالك، حقاً، من مجال الشك حول النتيجة النهائية لهذا الصراع مهما حدث من توقف أو تراجع مؤقت هنا وهناك؟!
إن ما نلاحظه، يومياً تقريباً، ونحن متأسفون ومتحسرون، من تساقط قديمنا، وتحول بعضه إلى بقايا فلكلورية، وما تدل عليه دعوتنا بلهفة وغيرة لتوثيقه وحفظه (وتعليبه)، خوفاً من تساقطه ونسيانه، وتحول عقائدنا وإيماننا الديني إلى طقوس شكلية خالية من المضمون، إنما يؤكد على أن الجديد، ومهما كانت مصاحباته السلبية، سيوالي انتصاراته في العلم والسياسة كما في الأدب والفن والأخلاق والسلوك، بغض النظر عن وعينا التعيش بين ماض (تليد) وعصر يقتحم كياننا. إن من الأسهل، كما هو معروف، الإجابة عن الأسئلة الجديدة بأجوبة قديمة متمثلة وجاهزة.
وهكذا السلفية والأصولية (بالمعنى العام) حتى تلك التي ترتدي جلباب العلم، إنما تدل بالتأكيد على الإفلاس والعجز والفشل في ابتكار حلول وتصورات جديدة (فالتاجر عندما يفلس، يعود إلى الدفاتر العتيقة) وجماعة ترى أن الأسلاف لم يتركوا للأخلاف شيئاً يقولونه هي جماعة من الورثة والتابعين ومحدودي الأفق، الذين يعلنون الإفلاس ويعيشون على اجترار الماضي، وزمنهم هو زمن موت الفن والفكر. أما (رامبو) فكان يقول: «متى سنرحل، إلى ما وراء السواحل والجبال، لنحيي ميلاد العمل الجديد، والحكمة الجديدة وفرار الطغاة والشياطين...».
فإذا كان ثمة (عصر ذهبي) حقاً، فهو في المستقبل وليس في الماضي. هكذا، وعندما نضع مسألة العلمانية في سيرورة الواقع، وفي الإطار الأوسع، إطار الصراع بين القديم والجديد، ومهما كانت قوة معارضتنا للجديد، فإن التاريخ يقدم عبرة أكيدة لمن يريد أن يعتبر.

 

د. سمير ابراهيم حسن

من أبحاث الأسبوع الثقافي الثاني لقسم الدراسات الفلسفية والاجتماعية في جامعة دمشق عام 1995

 

الهوامش:

(5) عبده، محمد: الأعمال الكاملة، الجزء الثالث، جمع وتحقيق محمد عمارة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1972، ص51.
(6) المرجع السابق، ص328.
(7) Pierre Thuillier: Darwin et C, Edihons Complex, Brooxel 1981
(8) البشري، طارق: «المسألة القانونية بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي»، في: التراث وتحديات العصر (ندوة)، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1985، ص617 - 644.
(9) أحمد، زكي: «تحولات ومتغيرات الحركة الإسلامية المعاصرة في الوطن العربي في العقد الأخير»، مجلة المستقبل العربي، تشرين الأول 1994، ص13 - 23.
(10) المصدر السابق.
(11) فضل الله، السيد محمد حسين: «تأملات في الحرية الفكرية والسياسية في الإسلام»، مجلة المنطلق، آذار 1988، ص4 - 20.

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...