فصل من كتاب "سراب وشيوخ يرتدون الأبيض" : مفارقة «الجزيرة »

09-04-2014

فصل من كتاب "سراب وشيوخ يرتدون الأبيض" : مفارقة «الجزيرة »

الجمل ـ الفصل الثامن من كتاب سراب وشيوخ يرتدون الأبيض 2013  ـ تأليف: روبير مينار ـ تيري ستينير

 خلال أقل من 15 عاما، فرضت «الجزيرة » نفسها باعتبارها قناة مرجعية في كل العالم العربي، تساهم بقوة في تكوين الرأي العام، إذ ان هناك خمسين مليون مشاهد ناطق بالعربية يتابعون برامج «الجزيرة »، بحيث لا يمكن لأية قناة أخرى في المنطقة أن تدعي أنها بنفس القوة الضاربة المتوافرة ل «الجزيرة »، لكن رغم ذلك، فإن «الجزيرة » لم تتوصل بعد الى مرحلة اكتفاء مالي، خصوصا بسبب الضغوط التي تمارسها السلطات السعودية ودول أخرى في المنطقة على الشركات، التي قد ترغب ببث إعلاناتها عبر «الجزيرة .»
تشكل «الجزيرة »، بالنسبة للشارع العربي، فسحة من الحرية. أما بالنسبة للأنظمة الأوتوقراطية في المنطقة، فإنها بمثابة تهديد، ذلك انه لمرات عدة، عمدت حكومات عربية الى تقديم احتجاجات للسلطات القطرية بعد بث برامج تعطي الكلام للمعارضة. فالسعودية وإيران لم ترخص أبدا ل «الجزيرة » لكي تفتح مكاتب في عواصمها، أما دول أخرى مثل مصر والأردن والكويت وليبيا وتونس والجزائر والمغرب، فإنها تمنع مراسليها من العمل بشكل منتظم. خلال زيارة قام بها الرئيس المصري لمكاتب «الجزيرة » في عام 2001 ، قال: «إن علبة الكبريت هذه هي التي تقوم بإحداث كل هذا الزعيق .»
لقد أدرك الشيخ حمد، بمناسبة الإنقلاب العسكري الذي حمله الى السلطة، أهمية الإعلام. فيوم الثلاثاء في 27 يونيو عام 1995 ، قطع التلفزيون الوطني القطري برامجه ليبث بلاغا جاء فيه أن ولي العهد قد أزاح والده من السلطة بسبب ممارساته التي تقود البلاد الى الإفلاس وبسبب السطو على عائدات النفط والغاز للإثراء الشخصي، ذلك أن 20 بالمئة من تلك العائدات كانت تصل الى خزينة الدولة، فيما المبالغ المتبقية كانت تحول الى حسابات في سويسرا. مباشرة بعد هذا الإعلان، بث التلفزيون تقريرا يظهر مجمل القادة القبليون وأفراد الأسرة الحاكمة وهم يقدمون الولاء للأمير
الجديد.
لقد ساهمت هذه الصور في التأثير على الرأي العام القطري لصالح الأمير الجديد، كما دفعت الحكومات الأجنبية الى الوقوف الى جانب رجل البلاد القوي، ومباشرة عقب ذلك، قام الدبلوماسيون المعتمدون في الدوحة بإعلام سلطات بلادهم أن المسألة تبدو منتهية وأنه من المفيد إرسال برقيات تهنئة للأمير الشاب وأنه من الأفضل الإسراع في ذلك لأنه سيتذكر من بادر أولاً الى دعمه، وقد وصلت أول برقية تهنئة رسمية من الولايات المتحدة الأميركية.
***

شكل التقرير الذي بثه التلفزيون «ضربة معلم »، ويقال إن الفكرة جاءت من الشيخة موزة. الحقيقة ان مشهد تقديم الولاء لم يحصل أبدا. إن ما حصل في الواقع هو أن ولي العهد استدعى في الليلة السابقة كبار أعيان البلاد لينقل إليهم أخبار والده الأمير، الذي كان موجودا في سويسرا والذي تحادث معه بالهاتف. بطبيعة الحال، تم تصوير الجلسة، غير أن الريبورتاج تم بثه في إطار آخر ومن غير صوت، ولم تقم أي من الشخصيات الموجودة بتقديم الاحتجاج على ما حصل أو بالتنديد بهذه الألاعيب.
بعد ذلك بعدة شهور، كلف الأمير فريقا صغيرا دراسة إمكانية تنفيذ مشروع طموح هو كناية عن إيجاد قناة تلفزيونية تبث عبر الأقمار الصناعية وتكون وظيفتها تلميع صورة قطر في كل العالم العربي، وسريعا، نجح مفهوم وجود قناة إخبارية تبث 24 ساعة في اليوم، في فرض نفسه، وفي الأول من نوفمبر عام 1996 ، انطلق البث من هذه القناة التي يعني اسمها «الجزيرة .»
من سخرية القدر أن «الجزيرة » انطلقت في الوقت الذي تخلى فيه السعوديون عن إطلاق قناة لهيئة ال بي بي سي، تبث باللغة العربية. استفادت الجزيرة من هذا المعطى لاجتذاب الموظفين، الذين كانوا سيعملون في المشروع الآخر. بذلك، توافر لها أفضل الصحافيين من الجنسين، الذين جاؤوا من كل بلدان العالم العربي وكانوا تخرجوا وتأهلوا في أفضل المدارس المهنية. لقد شكلوا جيشا من ممتهني الصورة والصوت، كما ان الأمير استوعب أهمية هذه القوة الضاربة.
بعد عشرة أعوام، في عام 2006 ، تم إطلاق قناة «الجزيرة » الناطقة بالإنكليزية، التي تلتقط برامجها اليوم في أكثر من مئة بلد، غير أنها، مع ذلك، ما زالت غائبة عن الشاشات الأميركية، وجل ما تتمتع به «الجزيرة » الناطقة بالإنكليزية في الولايات المتحدة، هي أنها موجودة ضمن ثلاثة باقات تلفزيونية في ثلاث ولايات: أوهايو، فيرمونت وواشنطن دي سي، عبر ثلاثة مراكز تشغيل أو بث متواضعة. من أجل تشجيع المشاهدين الأميركيين على الضغط على مراكز تشغيل أو بث لعرض قناة «الجزيرة » عليهم، فقد أنشأت الأخيرة موقعا على شبكة الانترنت تحت اسم: «اريد الجزيرة ». بالإضافة الى
النصائح العملية التي يقدمها الموقع، فإنه يقترح، بشكل سؤال وجواب، تصحيح عدد من نقاط «سوء الفهم والأساطير حول تاريخ الجزيرة وسياستها التحريرية ». هكذا، فإن «الجزيرة » تذكر بأنها لم تبث أبدا صورا لعمليات قطع الرؤوس، وهذه القناة التي تعاني من سمعة سيئة في الغرب، متهمة بأنها تدعم الإرهاب وبكونها معادية للسامية. الكثير من هذه التهم من محض التخيل.

***
لكن كيف الرد على بث تسجيلات أسامة بن لادن؟ الواقع أنه ليست هناك قناة واحدة في العالم كانت سترفض بث هذه التسجيلات، والجدير بالإشارة أن كبرى شبكات التلفزة الأميركية أخذت الصور التي كانت تبثها «الجزيرة ». وماذا عن التغطية المنحازة للنزاع الفلسطيني – الإسرائيلي؟
من الصحيح أن قناة «الجزيرة » تصف ضحايا القصف الإسرائيلي ب «الشهداء »، وصحيح أيضا أن شخصية بعض المسؤولين قي «الجزرة » مثل مديرها العام، وضاح خنفر، تثير التساؤلات، إذ أنه كان الناطق باسم الإخوان المسلمين في الأردن وقريب من حركة حماس، إلا انه يتوجب علينا أن نعترف، بالمقابل، أن «الجزيرة » أعطت دائما الكلام للقادة الإسرائيليين، وبحسب كاترين كانو، مديرة التحرير في إذاعة راديو كندا سابقا والتي وظفت في عام 2009 ، فإن لائحة الشخصيات الإسرائيلية التي تحدثت عبر «الجزيرة » طويلة: «شمعون بيريس، الذي زار مكاتبها في الدوحة، وتسيبي ليفني ومارك ريغيف وأفيتال ليبوفيتش وداني جيلرمان وبنيامين نتنياهو ». تضيف كانو أن مكتب «الجزيرة » في القدس هو «من أهم مكاتب التلفزيون، حيث يعمل فيه مراسلان دائمان، وخلال حرب غزة، كنا الوحيدين الذين قدمنا تقارير من جانبي النزاع، فضلا عن أن جيروزاليم بوست وهآرتز كالتا المديح » لما كانت تقوم به «الجزيرة ». تشير كانو الى مقال كتبه جدعون ليفي تحت عنوان «بطلي في حرب غزة ». هذا البطل هو صحافي «الجزيرة » في غزة، أيمن محيي الدين. وتذكر الصحافية، كذلك، أن قناة «الجزيرة »، الناطقة باللغة العربية، موزعة في إسرائيل، كما أن بعض الموزعين عمد الى الإستعاضة عن قناة «بي بي سي ورلد » بقناة «الجزيرة »، الناطقة باللغة الإنكليزية عام 2007 .
يبقى موضوع التقارير التي تنتقد بشكل مباشر التدخل الأميركي في العراق وأفغانستان. من محاسنها أنها تقدم رؤية تختلف عن التغطية، التي يقوم بها الصحافيون الذين يرافقون وحدات الجيش لأميركي. هل كنا لنسمع، لولا «الجزيرة »، بالمجزرة التي ذهب ضحيتها عدة مئات من المدنيين في مدينة الفلوجة، التي قصفتها القوات الحليفة في شهر نوفمبر عام 2004 ؟
بعض الدول العربية، ومنها سوريا، تتهم «الجزيرة » بكونها أداة بيد الصهيونية والأمبريالية الأميركية، أما السعودية ومصر فتأخذ عليها أنها أداة بيد أمير قطر، فيما الولايات المتحدة ترى أنها تجيش المشاعر المعادية داخل الرأي العام العربي. هذا الكم من المآخذ يؤكد، بأي حال، أن القناة القطرية أحدثت ثورة في المشهد الإعلامي.
***
تقدم «الجزيرة » نظرة مختلفة عن العالم. هي القناة الإخبارية الحقيقية الوحيدة الموجودة في بلدان الجنوب، وهي الوحيدة القادرة على تغطية مناطق أو مواضيع تهملها القنوات الأخرى أو التي لا تمتلك الوسائل للقيام بذلك، وهي تعطي الكلام لمواطني العالم، الذين لم يحصلوا أبدا على هذا الحق، فالجزيرة كانت الوحيدة الموجودة في سريلانكا أثناء معارك عام 2009 ، وهي وحدها التي فتحت مكتبا في هراري، عاصمة زيمبابوي، وعندما أطلقت إسرائيل حملتها العسكرية على غزة، كانت مايكروفونات «الجزيرة » موجودة هناك، وبفضل مراسليها اللذين كانا هناك، أبرزت «الجزيرة » هيمنتها
على المسرح الإعلامي العربي، لا بل العالمي. بسبب التعتيم الذي فرضه الجيش الإسرائيلي، فإن شبكات مثل «سي أن أن » أو «بي بي سي »، كانت تراقب ما يحصل في غزة عن بعد، انطلاقا من تلة تشرف على القطاع، وكان المبعوثون الخاصون يروون الحرب التي تتم عن بعد بشكل مثير للشفقة.
خلال سنوات طويلة، كان المد الإعلامي يأتي من الشمال ويتجه الى الجنوب، من البلدان الغنية الى البلدان الفقيرة، وكانت المجموعات الغربية تفرض أجندتها الإعلامية على بقية العالم، أي حيث توجد اكثرية سكان العالم، التي كان عليها قبول ما يقدم لها. كانت شعوب أميركا الجنوبية والشرق الأوسط وأفريقيا محكومة بأن تستمع الى أخبارها عبر عيون المنتجين ومقدمي البرامج الموجودين في أتلانتا أو لندن. وجود «الجزيرة » غير هذا المعطى.
يترأس الشيخ حمد بن تامر آل ثاني قناة «الجزيرة » منذ انطلاقتها. رغم أنه يحلو له أن يذكر بأنه يحمل إجازة في الصحافة من جامعة قطر، إلا أنه بدأ حياته العملية في وزارة الإعلام، حيث كشف عن رؤية ضيقة لحرية الصحافة. بداية، كان مسؤولا عن مراقبة المنشورات المطبوعة، وبعد ذلك تحول الى مراقبة المراسلين الأجانب في قطر، قبل ان يعين نائبا لوزير الإعلام. في عام 1996 ، ألغيت وزارة الإعلام، فيما عين الشيخ حمد رئيسا لمجلس إدارة القناة الفضائية. ثمة مفارقة ما في أن يعهد بإدارة القناة الفضائية، التي تطمح لمنافسة شبكات تلفزيزنية مثل أل «سي أن أن » أو أل «بي بي سي ،» للشخص الذي كان دوره ولسنوات تطبيق الرقابة الرسمية في الإمارة.
الواقع أن الشيخ تامر هو، قبل كل شيء، رجل سلطة. هو قريب من الأمير وابن عمه، كما أنه أحد أعضاء ما يسمى «الدائرة الأولى » التي تضم على الأكثر، عشرين شخصا، يرتادون يوميا الديوان الأميري. فضلا عن ذلك، فإن الشيخ حمد بن تامر يرافق غالبا الأمير في رحلاته الرسمية الى الخارج.
ومن مكتبه في مبنى «الجزيرة »، ما زال مستمرا في مراقبة مجمل الوسائل الإعلامية في قطر، بحيث يتصل بمسؤولي الصحف لينقل اليهم تعليمات الأمير أو لينصحهم، أخويا، بالامتناع عن نشر بعض الأخبار.
بطبيعة الحال، نحن كنا نجهل كل ذلك، لكن عندما اتصل بي مستشارو الشيخة موزة لينصحوني بأن تعهد اليه رئاسة مجلس إدارة المركز، سقطت في الفخ، وما سهل ذلك أن دور الشيخ حمد بن ثامر كان ينحصر في توقيع المستندات الرسمية، وعندما التقيته للمرة الأولى، خدعت بمظهره العادي غير العدائي، إذ أنه بدا لي أنه يفتقر للكاريزما، فالكلام الذي قاله لم يتضمن شيئا جديدا، أما موضوع حرية الإعلام فقد بدا أنه يصيبه بالسأم العميق إذ أنه أمضى غالبية وقت اللقاء وهو يلعب بهاتفه الجوال. لقد ارتكبت غلطة كبيرة بشأنه إذ إنني لم أقدر خطورة هذا...

 

الجمل ـ قسم الترجمة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...