أزمة الشعر العربي من منظور الشعراء الشباب

24-08-2008

أزمة الشعر العربي من منظور الشعراء الشباب

أهناك أزمةُ شعرٍ فعلاً؟ وهل من المنطقي وضعُ تصنيفٍ زمنيٍّ للشعراء؟
من الضروري رصدُ تأثير المتغيّرات السياسية والاجتماعية في العقود الأخيرة على بنية الشعر وأسئلته وعلاقته بالمتلقّي. فقد حملت العقودُ الخمسةُ الأخيرة من المتغيرّات ما قد يوازي قرونًا سبقتها، وتركت آثارًا خطيرةً في الإبداع، وبشكلٍ خاصّ عند شعراء التسعينيات والألفين بعد تراجع التيارات السياسية الكبرى، وتراجُعِ المؤسسات التي كان لها دورٌ كبيرٌ في دعم العديد من الشعراء والأدباء ليصل الأمرُ الآن إلى حالة زوغان في المشروع الثقافي والإيديولوجي مع فقدان الشعر لجمهوره التقليدي، وصعودِ تياراتٍ إبداعيةٍ جديدة يسبح معظمُها في الفراغ بلا مشروعٍ جِدّيٍّ مع حالة من التبرّؤ من الآباء الشعريين، والقطيعةُ مع الموروث الشعري العربي، لتتحول حالةُ الهذيان أو السطحيّة إلى حالةٍ شعريةٍ يبرِّرها التمردُ على قواعد الشعر. إضافة إلى سيطرةِ مفاهيمَ غامضةٍ وغير مؤصلةٍ باسم الحداثة تبرر هذه الفوضى، والأهم باعتقادي أزمة الذهنية الشعرية لدى جيلٍ يائسٍٍ ومقموعٍ ومقطوع الجذور، أو يتبنى قطيعةً معها، مع وجود استثناءات هامة إبداعياً استطاعت بلورة مشروعٍ خاص على المستوى الفردي، وأفترض بعض السمات في الشعر الشاب، منها سيطرة الأنا والصراع الداخلي فيها، والفردانية بعيداً عن الأدلجة، واليأس والقلق والإحساس بالغربة داخل أوطاننا التي نطرد منها لتكون مجلات المهجر منابرَ أقرب إلينا من المنابر الداخلية، هناك عشرات التفاصيل الأخرى التي يمكن سردها تشير إلى مشكلة في الثقافة العربية وبنية الخطاب العربي أو الإنسان العربي الذي يعيش على الهامش تحت وطأة القمع والكبت وفقدان الملامح حسب تعبير سعدالله ونوس في "حفلة سمر من أجل 5 حزيران"، وهنا لابدّ من مقاربة سؤالٍ مهمٍ جداً هو مثار خلاف بين المشاركين في الملف: هل الأزمة تكمن في الشرط الموضوعي للشعر من خارجه أم الأزمة في الذهنية الشعرية أم في الأدوات الشعرية (ومنها التكثيف والانزياح والمجاز والتشبيه والبنية الإيقاعية، وتوازن الأبيض والأسود، والتناص، وتوزيع الأفكار في النص...)؟
أفترض أن الفصل التعسفي ما بين خارج الشعر وداخله غير موفق كفاية بسبب تأثير الشرط الموضوعي على داخل النص، ووجود ما يسمى بالرقيب الداخلي الذي يتشكل تدريجياً ليقيم ولتصبح الكتابة "فعل بحث عن الحرية"، وأعتقد أن قلةً منا يكتبون بحرية فعلاً، فالعقل الشعري متآثر مع ثقافة المجتمع، وبالتالي تنتقل أزمة الخارج إلى الداخل بشكلٍ أو بآخر، وهذه الفكرة جزء من مشروع النقد التكويني (1)،كما أفترض أن الفصل بين الذهنية الشعرية والنص الشعري فصلٌ تعسفي أيضاً، باعتبارها الإطار الفاعل الذي يتم فيه التعامل مع الأدوات والتكنيك الشعري، ولو قررنا محاكمة الأدوات الشعرية فقط، لنسأل هل هي مأزومة؟. أظن أن مفهوم الأزمة هنا تحديداً غير موفق لأن الأدق هو الحديث عن التطور الجدلي في بنية القصيدة على مستوى المضمون والشكل، فالشعر متحركٌ على الدوام مع تحرك الحياة، وبالتالي عوامل الحركة داخله تدفعه للتغير سلباً أو إيجاباً وهو بهذا المعنى مأزوم على الدوام أي أنه من الصعب أن يبقى على حالٍ واحدةٍٍ لفترة طويلة، والشكل الناجح في مرحلةٍ غيرُ ملائمٍ للّتي تليها، وهكذا كان الانتقال من قصيدة الشطرين الكلاسيكية نحو شعر التفعيلة ثم القصيدة الحرة أو قصيدة النثر، وقد كنتُ من المدافعين عن ضرورة تطوير أدوات الشعر للخروج من أزمته وبعد متابعة طويلة وجدت أن ذلك لم يُخرج الشعر من عزلته، فالأزمة الفعلية ليست فيها بل في أزمة الحراك السياسي والاجتماعي وما ينتجه من حراكٍ ثقافي مأزوم، وسندرك حجم الهوة لو قارنّا تردي حال الثقافة عندنا بما يحصل في بلدٍ مثل تشيلي مازال الحراك فيه فاعلاً أو نظرنا إلى فترات المد التحرري في خمسينيات وستينيات القرن المنصرم مع انطلاق مشروع قصيدة التفعيلة باعتبارها ثورة في زمنها على البنية الخطابية الكلاسيكية للشعر في عهد الاحتلال،
وأود أن أشير فقط إلى سؤالٍ أخيرٍ، قديمٍ، جديدٍ: "أمازال الشعر ضرورياً..؟"
يرى إليوت أن "الشعر يغير في المدى البعيد مشاعر الناس، وكلامهم وحياتهم، سواءٌ في ذلك منهم من يقرأ الشعر ومن لا يقرؤه، وذلك إلى الحد الذي يصعب معه تتبع هذا الأثر، أو التدليل عليه"(2)، فالشعر في جوهره متحركٌ وواسعٌ كالحياة نفسها، والتنوع فيه ضروري، وجوهر الأمر تلك الشعرية في داخل كلٍّ منّا التي تتعلق بتفاعله مع الحياة جمالياً وفكرياً بحسب أدواته الخاصة به، ومن المهم أن ندرك أن المتلقي يتجه نحو حاجته في المادة الإبداعية، وبهذا المعنى يتحول الشعر لإعادة إنتاج الحياة بجمالها وألمها وجنونها، أو بعبارةٍ أخرى طقس للحياة نفسها، ولاكتشاف الغنى في الأشياء والأفكار ومنحها بعداً آخرَ داخلياً، لم تعد مهمة الشعر الوعظ، مهمته الدخول إلى العالم الداخلي للأشياء والبحث في النقاط المخفية.كثيراً ما أذكر شجرة تينٍ بعلية نبتت في حائط الطابق الثاني من مشفى المواساة في دمشق..إنها قصيدة بعلية، والأمر لا يقف عند تلقي الجمال بل يتجه نحو خلقه والعمل عليه بشكلٍ فاعلٍ ضمن مشروعٍ عميق يدمج الذاكرة الحسية مع الفكر والفلسفة والإيديولوجيا أحياناً، أجل الإيديولوجيا.. فمن المهم أن تمتلك رؤيةً في الحياة أو تفسيراً للعالم. لكنْ تكمن الخطورة في أن تكون أسيراً لها أو له، بمعنى آخر من المهم أن تمتلك ذلك الغنى الإنساني المتحرر، فالكتابة فعل دفاع أحياناً، أو هجومٍ بقصد الدفاع كما في شعر الماغوط، وأعتقد أنه من الضروري أن نوسع مفهوم الشعر، وأن نقبل التنوع على ما به من عيوب شرط أن يملك غنىً إنسانياً، فالنكات بما فيها من تكثيف وانزياح تملك بعداً شعرياً، والصمت نفسه وسيلة تعبير قاسية ومؤلمة وشعرية أحياناً كما في ثقافات الشرق الأقصى، أنا لا أدعو إلى تحويل الشعر إلى نكات وإنما إلى أن يكون الشعر أكثر التصاقاً بالحياة بالمعنى الإبداعي والجمالي والإنساني، هذي الحياة المعاقة والمكبلة بالقمع ومفرزاته، وأدعو إلى أن يكون جزءاً فاعلاً في حراكها السياسي والاجتماعي على ضعفه.
وفي النهاية يأتي هذا الملف ليقارب هاجساً ملحاً وشرساً من قبل جيلٍ شابٍ ما زال قادراً على الحلم، هناك من يقول هذي الأسئلة قديمة وآخر يرى يقول إنها مستحدثة وأنا أقول إنها ضرورية والأهم أن تُقاربَ من شبابٍ يكتبون بحرارةٍ وحيويةٍ ملفتةٍ، يمثلون تياراتٍ مختلفةً تكمل المشهد إلى حدٍ ما، هل تغيرت أزماتنا في جوهرها كثيراً لتتغير أسئلتنا، نحن نعلم أن الإجابة تتغير.. بتغير الزمن.
ويشرفني أن أهدي هذا الملف إلى روحٍ كثيراً ما حضرت في هذا الملف، وفي أحلامنا، والأهم في مشروعِنا كمبدعين ..إلى سهيل إدريس، الذي خاض نضالاً مريراً في أرض الثقافة الوعرة، وغادرنا بصمتٍ جليلٍ ليورثنا دروباً وهواجسَ ممضةً، لنا شرف حملها في الحياة، وفي مجلة "الآداب" التي تخوض حرباً موجعةً مع عملاء الاحتلال ومشروع الليبرالية الجديدة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش
1- بيير مارك دو بيازي، مدخل إلى مناهج النقد الأدبي (الكويت: سلسة عالم المعرفة، 1997).
2- د. محمود الربيعي، "مداخل نقدية معاصرة إلى دراسة النص الأدبي،" المجلد الثالث والعشرون من عالم الفكر، 1994

الشعر حيٌّ يُرزق!
محمد ديبو
  أزمةُ الشعر، موتُ الشعر، غيابُ الشعر، تهافتُ الشعر، اضمحلالُ دور الشعر، فقدانُ ريادة الشعر: هذا قليلٌ مما تتحفنا به وسائلُ الإعلام اليومية، حتى غدت هذه "الأزمةُ" مسلَّمًا بها. وهو ما يطرح سؤالاً مقلوبًا: من يروِّج لموت الشعر؟ ولماذا يخيفهم الشعرُ إلى حدّ دفنه حيّاً؟
هل الشعر في أزمة؟
الشعر لا يعيش أزمةً. الشعر، ككائنٍ لغويّ، مازال حيّاً يُرزق، على قيد الحب والقلب، يمارس شيطنتَه وجنونَه ونزقَه وهذيانَه وكفرَه بمقدَّسات الدين والدنيا على السواء. والشعراء أكثرُ من الهمّ على القلب: كلَّ يومٍ يولد شاعر! انظر حولك لا ترَ إلاّ الشعراءَ الشبابَ، ومشاريعَهم، ونزقَهم، ومحاولاتهم المستميةَ لإثبات الوجود الشعري، والخروج من معطف الآباء المستبدّين. وهذا أمرٌ طبيعي: فهم أبناءُ مجتمعٍ متخمٍ بهزائمه وكوارثه، أبناءُ ثقافةٍ تنتج العقمَ والموتَ والهراء. وهنا الأزمة: الأزمة ليست في كتابة الشعر، بل في ترويجه وقراءته. إنها خارج الشعر، لا فيه، وليست مرتبطة به، بل هي أزمةُ ثقافةٍ وهويةٍ وأمةٍ لم تجد معادلهَا المتمثّلَ في دولةٍ تَضبط مكوِّناتها وتوقف انهيارَ أحلامنا.
الشعراء العرب يعيشون ضمن قواقعَ ثقافيةٍ متخمةٍ بالموت والاستبداد السياسي والديني والثقافي والشعري. وقلّة منهم يستطيعون اجتيازَ حواجز الخوف والموت والسجون، لا لتخاذلهم (رغم تخاذل المتخاذلين)، بل لأنّ حجمَ الموت المحدق بنا أفجعُ من أن يتمكّن الشعرُ وحده من صدّه .
نخبةٌ تجدِّد مأزقَها، مجتمعٌ يقدِّس طوائفَه، حرياتٌ غائبة، سجونٌ حبلى بنا، سياسيون يَنضح العهرُ من وجوههم، ليبراليون يستنجدون علنًا بقواتٍ ودبّاباتٍ تحمل رياحَ الديمقراطية الحبلى بدماء أبنائنا وأرواحِ أطفالنا الصاعدين إلى ألوهية الريح. وسط كل هذا الجنون، ماذا يمكن الشعرَ أن يفعل؟ يكفيه شرفًا أنه مازال على قيد الحياة، يقاوم طغاةَ موته وجنونَهم، ويشير بأصبعه إلى مكامن الجمال ونقاط البهاء رغم ندرتها!
عندما استقلّت الدولُ العربية، لم تكن النخبةُ الحاكمةُ تملك أدنى فكرة عن مشروع تريد القيامَ به لقيادة مجتمعاتها وبناءِ دولتها المستقلة. وهذا يشمل كلَّ الأحزاب التي احتكرت قيادةَ المجتمع في تلك الفترة (شيوعية وقومية وإسلامية وليبرالية)، وأكثرُ ما كان يميّزها عمليةُ إقصاء بعضها بعضًا ، وإيمانُ كلٍّ منها بامتلاك الحقيقة. وكان المثقف (والشاعرُ منه) يؤمن بما تؤمن به عقيدتُه؛ كان ابنَ العقيدة والحزب أكثرَ مما كان ابنَ الوطن والشعر. كان تابعًا، وكلُّ تابعٍ لا يمكن أن يكون حرّاً. والمجتمع الذي تكون ثقافتُه تابعةً هو مجتمعٌ مأزومٌ ومهزومٌ بالضرورة. وقد تجلت تلك الهزيمةُ في حزيران، وهي هزيمة مجتمعات متخلفة،  تقودها غريزة الطائفية  وعلاقات ما قبل الأمة ،   دون أن يعني ذلك أن هذه المجتمعات تشكل بنية مغلقة غير قابلة للإصلاح والتغيير , بل تشكل بنية مفتوحة قابلة للتجاوز وإعادة البناء والتطوير . 
والطامة الكبرى أنّ الأنظمة اعتبرت الهزيمةَ  مجردَ "نكسة،" نكسة سياسية لا ثقافية. فاستمرّ النهجُ نفسُه، والخطابُ نفسُه، مدعومين من ثقافةٍ شموليةٍ متغلغةٍ في الوعي الجماهيري، ومن أحزابٍ لم تفهم بعدُ مجتمعاتها جيدًا , ولم تغيّر سياساتها منذ ربع قرن على الأقل ولم تجر عملية مراجعة لبرامجها وأساليب عملها وطرق عملها بين أوساط الجماهير , دون  أن ندعي أننا نفهم مجتمعاتنا  بشكل أفضل.
   أما رد فعل  المثقف- باستثناء قلة سنتحدث عنها لاحقا- تراوح بين التطبيل للسلطة و الهروب والانطواء تاركاً المجتمعَ لرحمة سلطةٍ اختزلت دولتَها واستحدثت سجونَها، ولرحمة فقهاء جيّشوا أتباعَهم، ليجد المثقف نفسه-بعد فترة-معزولاً ومهمَّشًا  لا صوت له ولا رأي، ولنجد نحن الشعراء الشباب أنفسَنا وحيدين نصارع طغاةَ السلطة من جهة وعفاريتَ الدين من جهة ثانية واستبدادَ الشعراء الجالسين على قمقم الشعر من جهة ثالثة، تتجاذبنا أمواجُ المحيط بلا وجهة محددة، محاولين التمسّكً والتجذّرَ في بحرٍ لا قاع له.
بعد تجذّر الهزيمة وانحلال المشاريع السياسية على كافة أشكالها، وتقزّم المساحة المدنية المستقلّة التي يمكن الثقافةَ أن تتحرّك فيها، وبعد استحداث السجون الوطنية، وتمكُّنِ القائد الفرد من امتلاك البلاد والعباد، اتخذ المثقف/الشاعر واحدًا من ثلاثة طرق لا رابع لها. التحق أولهُا بالسلطة ينظِّر لها ويسوِّغ عنفَها واستبدادَها، لنصلَ إلى ما يسمّى "المثقف/الشاعر السلطوي." ويتمثّل ثانيهما في المثقف/الشاعر الهارب إلى الغرب (مكانيّاً وفكريّاً)، مغيِّرًا جلدَه وثقافتَه لتتماشى مع منظومة الغرب الثقافية السائدة ، علّ هذا "الغرب" يقبله ويرحّب به، لنصل إلى نموذج المثقف/الشاعر المغترب المتعالي المنظّر من بعيد من دون أن تتلوّث يداه بوحل الواقع. والثالث هو نموذج المثقف/ الشاعر الذي بقي هنا وحافظ على الحدّ الأدنى من قيمه وارتباطه بناسه. ومثقفو/شعراء هذا الطريق قلة، ونموذجُهم مرفوضٌ من السلطة والمعارضة (السياسية والشعرية) على السواء. وهذا النموذج هو الذي حفظ للثقافة هيبتَها، ورعى بذرتَها من الانحلال والموت، وهو مَن سعى جاهدًا إلى أن ينقل لنا تجربتَه علّنا نستفيد منها. أنا، مثلاً، كشاعرٍ شابّ، استفدتُ من الراحل ممدوح عدوان أكثرَ مما استفدتُ من أدونيس، لأنّ ممدوحًا كان يساجلنا ويعلّمنا ويربّينا ويناقشنا في كلّ شيء، وكان يوصينا بأن نقف دائمًا على طرف الدائرة لا في مركزها، كي نوسّعها قدرَ الإمكان، بينما كان أدونيس وأمثاله  ينظرون علينا شعريّاً من عليائهم .
وعلى المستوى العالمي حصلت تحوّلاتٌ سياسية واجتماعية خلال المرحلة التي تلت انهيارَ الاتحاد السوفيتي وسيادة العولمة الأمريكية إلهًا جديدًا، وتطوّر وسائل الاتصال. وكلُّ ذلك جعل من المفاهيم  السائدة للأدب والشعر والثقافة مفاهيمَ غيرَ معبِّّرة عن واقع الحال، الأمرُ الذي يحتِّم إجراءَ مراجعة دقيقة وشاملة لوضع الثقافة (ومنها الشعر) في ظلّ النظام العولمي الجديد، الذي حررّ الشعرَ من قضايا كثيرة كانت عبئًا عليه , وهي قضايا تعبيرية وليست قضية / موضوع , بمعنى أن الشاعر قبل وجود التلفزيون كان يعبّر عن موضوع مجرزة ما ارتكبها العدوان الاسرائيلي في فلسطين بطريقة غير الطريقة التي يعبّر بها الآن عن مجزرة مماثلة , سابقا كان الشاعر يرسم المجزرة بدقة ليعبّر عن ألام الضحايا وأناتهم , لينقل لقارئه قصيدة قادرة على التأثير في الحس والوجدان , بينما ان أخذ التلفزيون هذا الجانب من القصيدة وبقي للقصيدة أن تكثف لحظتها للتعبير عن المجزرة بشكل أكثر شعرية وجمالية .   ليغدو الشعر بذلك صوتَ الفردِ المعزولِ المهمَّشِ المحاصر، بعد أن كان ناطقًا رسميّاًً باسم الجماعة.  هذا من جهة. ومن جهة أخرى فرض النظامُ العولمي على الشعر قضايا كثيرةً، تتعلّق بعملية نشر الشعر والترويج له، لم يحسن الجسمُ الشعري العربي  الاستفادةَ منها بالشكل الأمثل حتى الآن. فسابقًا كانت الوسيلة الوحيدة أمام المتلقّي لرؤية شاعرٍ ما هي من خلال الأمسية الشعرية أو الكتاب أوالصحيفة، ولكن مع تطور وسائل الميديا أصبح المتلقّي يستطيع بكبسة زر أن يحصل على ما يشاء عن أي شاعر يريد: فهو يستطيع سماعَه، ورؤيتَه، وقراءةَ حواراته، والتواصل معه إنترنيتيّاً، الأمرُ الذي يجعل من حضور الأمسية وربما شراءِ الديوان أيضاً مجردَ تحصيل حاصل. وهذا الشيء لم يؤثّر على الشعر وحده، بل على السينما والمسرح والرواية أيضًا رغم ازدهارها، وذلك لصالح تلفزيونٍ يختزل العقول ويبرمج الآراءَ بما يتناسب مع سلطته السياسية أو المالية أو العولمية.
أين الشعر من كلّ هذه التحولات ؟
الشعر كائنٌ لغويّ، مثله مثل خالقه (الشاعر-الكائن الحي)، يتأثّر بما حوله ويؤثِّر فيه. ولذا كان الشعر دائمًا حاملاً لقضايا خالقه، سواء كانت قضايا سياسية أو إنسانية أو إيديولوجية. ولم تكن المشكلة يومًا في ما يقوله الشعر، بلْ كيف يقوله.
بين هذه الما والكيف، انقسم الشعراءُ منذ بدايةِ ما سمّي بـ "مشروع الحداثة"  والصراعِ الدائرِ بين تياراتٍ شعريةٍ احتكرت حقيقةَ الشعر لنفسها  بدلاً من أن تتحاور لتشكّل خريطةً شعريةً متكاملةً ديمقراطية. وهذا كان حال مجلة شعر والآداب، إذ نظّرت كلٌّ منهما لمشروعها وكأنه حقيقةُ الشعر المطلقة، فكان كلُّ مشروعٍ منهما يقصي الآخرَ من مملكة الشعر، حاملاً أمراضَ أحزابه إلى الشعر. وهكذا أقصى تيارُ مجلة شعر كلَّ مَن لا يتّفق مع رؤيته  من دائرة الشعر، وأقصى تيارُ شعراء التفعيلة من لا يتّفق معهم من جمهوريتهم الشعرية. وكان التياران على خطإ، لأنهما حزّبا الشعرَ، وأدخلاه دوائرَ بعيدةً عن طبيعته الرافضة للأسر أصلاً,  وهما ليس على خطأ فيما قالاه شعريا بل في طريقة رفضهما لبعضهما البعض  . ومازال الأمر كذلك رغم ادّعاء الطرفين أنهما قد أصبحا خارج التصنيفات هذه؛ ذلك أنّ نظرةً متفحّصةً ترى أنّ هذا الاعتراف المتبادل بينهما كتبادل السفارات بين بلدين طحنتهما الحروبُ فاضطرّا إلى السلم. وكلُّ مَن انشقّ عن هذين التيارين كان، بحقّ، ينقذ الشعرَ من فئويته  وإيديولوجياته؛ وكان الراحل محمد الماغوط واحدًا منهم، فربح الشعرُ وتألّق الشاعرُ ,وحسنًا فعل بعضُ الشعراء السوريين    حين كانوا تطويرًا لمشروع الماغوط المنشقّ، لا امتدادًا لأدونيس ) فالماغوط كان ابنَ مشروع حداثة حقيقية تأخذ من الواقع المرّ مفرادتها، ومن الهزائم نكهتَها؛ بينما كان أدونيس ابنَ حداثة تأخذ من المطلق مستقرّاً لها، ومن المجرّد أفقًا لا حدود له، فخسرت قارئها، ولم تلتقِ بحداثتها المزعومة.
لكنْ، لماذا يبدو الشعر وكأنه في أزمة؟
إنّ أغلب الشعراء  كانوا أبناءَ مؤسّسات حزبية، تربّوا في عزّها، وتضخّموا على حسابها ( مع وجود استثناءات بالطبع مثل الماغوط ونزيه أبو عفش ودنقل ..) وعندما دخلت هذه الأحزابُ خريفَها، تراجع دورُها في دعم الثقافة، وكفّت عن أن تكون رافعةً وبوقًا للشعراء كما كان الشعراء أبواقاً لها  وهذا ما يراه البعض خسارةً  للشعر، بينما أراه دليلَ صحةٍ وعافيةٍ لأنّ الشعر كفّ عن أن يكون بوقًا إلاّ لنفسه ولما يراه صوابًا.
كان جمهور الشعر جمهورًا إيديولوجيّاً، لا جمهورًا شعريّاً، ولا اعتراض على ذلك. ولكنّ الاعتراض  يكون عندما يجعل الشاعر قصيدتَه صدًى لهذا الجمهور، كقصائد درويش الأولى، وقصائد أدونيس التي تستلهم فينيقيةًً ما توظَّف لصالح الحزب السوري القومي. وبعد أن انهزمت هذه المشاريع كافة، انفصل عنها الشعراءُ والجمهورُ على السواء. ومن الطبيعي في هذه الحالة أن يخسر الشعرُ جمهورَه الإيديولوجي لأنه في الأصل كان يناصر الشاعر إيديولوجيّاً لا شعرياً. ولكنّ جمهور الشعر الحقيقي بقي هو نفسه، وهو جمهور صغير بطبيعة الحال، وسيبقى. والطامة الكبرى تكمن عندما يتبنّى الشعراء الشباب الآن تلك التقسيماتِ الطائفيةَ شعريّاً، فيقول لك شاعر شابّ: "أنا شاعر نثر،" ويقول آخر: "أنا شاعر تفعيلة،" ولا يعترف أيٌّ منهما بالآخر.
المشكلة التي يعانيها الشعراءُ هي أنهم لم يستطيعوا إلى الآن الخروجَ من الذهنية الدينية الأحادية. وحتى مَن نَظّر للخروج منها إنما كان في حقيقة الأمر يبني دينًا جديدًا على أنقاضها. وهذا ما رأيناه في مشروع محمد عضيمة مثلاً، الذي هدّم معابدَ التفعيلة وكنائسَ النثر الرؤيوية ليبني مساجدَ النثر الشفوية، جاعلاً الشرَّ المطلقَ في ما سبق، والخيرَ المطلقَ في ما أتى. ولقد قرأتُ منذ فترة عن صدور مجلة جديدة للشعر اسمُها مقدمة، وهي خاصةٌ بقصيدة النثر! لماذا؟! لأنّ العقلية الفئوية لا تستطيع إلا أن تنغلق وتتقوقع , لأنّ الضلال يكمن خارج طائفة قصيدة النثر، وعلى أتباعها  أن يحموا ديانتهم الجديدة من هلوساته. . يضاف إلى ذلك أنّ بعض الشعراء ينفّرون جمهور الشعر بمواقفهم وتصريحاتهم المتناقضة: مثلاً عندما ينظّر شاعر ما بأنّ على الشعر ألاّ يلقى، وأنه للقراءة فقط، وأنّ الشعر الجيد لا جمهور له، ثم نراه يشارك في مهرجانات شعرية، بل ويأخذ وقتَ غيره وهو يلقي الشعر على "الجمهور" الذي لا يعترف به! أو عندما يقول آخر (بول شاوول): "أنا أكتب لكي لا يقرأني أحد،" وهو موقف منفّر إذ من لا يريدني قارئًا لا أريده شاعرًا! أو عندما يصرّح شاعر ثالث بأنه ضدّ مقاطعة معرض باريس للكتاب (الذي يحتفل بإسرائيل ضيفَ شرف في "عيد" تأسيسها الستين) لأنّ المقاطعة تعطي العدوَّ فرصةً لشرح رأيه في ظلّ غياب أيّ طرحٍ للقضية العربية؛ ولكنّ هذا الشاعر نفسَه يدعو إلى عدم حضور فيروز إلى دمشق لأنّ حضورها يعطي "النظام الاستبدادي" شرعيةً، أو هو يطالب الشعراءَ العرب بعدم حضور فعّاليات "دمشق عاصمة الثقافة العربية" في ظلّ هذا النظام!  المشكلة هنا ليست في المواقف والمبادئ  في ذاتها بل في استخدامها بهدف المنافع والمصالح. وهنا سيخسر الشعرُ والشعراءُ على السواء لأنّ القارئ لن يقرأ شاعرًا يتناقض مع نفسه كلَّ دقيقة.     
أما الإحجام عن شراء دواوين الشعر، فيعود في رأيي إلى غياب مشاريع ثقافية مستقلّة، تروِّج للشعر   بعيدًا عن الشللية والمافيات التي تحتلّ كلَّ صحفنا العربية من دون استثناء. فأنا على الصعيد الشخصي نادرا ما أشتري ديوانًا تُغدق الصفحاتُ الثقافيةُ العربيةُ عليه المديحَ، لأنني خبرتُ نفاقَ أكثرها وترويجها للرثّ والسقيم والرديء . والطامة الكبرى أنّ أغلب هذه الصفحات يستلمها شعراء، كلٌّ منهم يروّج لشلّته وزبائنه. ونظرةٌ متفحّصةٌ إلى هذه الصفحات تلاحظ أنّ كلّ صفحة لها عدةُ أسماء تتكرر دائمًا، وأنّ أغلب مسؤولي هذه الصفحات هم من كتّاب قصيدة النثر، ولذلك يندر أن نجد نصّاً يعتمد الوزن. والأمر هنا لا علاقة له بالإبداع لأنّ ما يُنشر من نصوص نثرية أردأُ بكثير من نصوصٍ موزونةٍ أخرى، وهو ما يحيلنا على دكتاتورية شعراء النثر بعد أن كانوا ضحايا سابقًا.
دعم الشعر
يمكن دعمُ الشعر من خلال دعم الثقافة ككل، وذلك بتبنّي مشاريع شعرية خالصة بعيدًا عن شروط سياسية أو حزبية أو تنويرية أو ما شابه ذلك. لكنّ على الشعراء أولاً، وخصوصًا الشباب، أن يبادروا إلى دعم الشعر، وذلك بقراءة دواوين بعضهم بعضًا وشرائها مع الأخذ بعين الاعتبار جودة الشعر وموقف الشاعر ( بمعنى أننا ننظر للشعراء الشباب كما نظرنا للشعراء الكبار بعيدا عن الشللية والتحيز والتعصب لجيلنا الشعري الذي يحمل الكثير من الأمراض أيضا ). الكرة في ملعبنا  نحن الشباب الذين استسلمنا ليأس الكبار ونسعى ليلاً ونهاراً للتذلّل على فتات موائدهم الشعرية كي ننال اعترافهم بنا، وهنا الكارثة!
 علينا أن نبني مشاريعَنا وحدنا، من دون رعايتهم أو مساندتهم، لأنهم آباءٌ فاشلون أصلاً، ويتحمّلون قسمًا كبيرًا مما وصل إليه وضعُ الشعر الآن . نحن شعراء من دون مباركتهم، ولا نحتاج اعترافًا منهم بشعريتنا. بل كيف نطلب منهم الاعترافَ بنا وهم لا يعترفون ببعضهم بعضًا، ويكفّرون بعضهم بعضًا، ويحابون بعضهم بعضًا، وينشرون في منابرهم لشللهم وصاحباتهم ووو..؟!دون أن يعني ذلك القطيعة المعرفية والشعرية معهم ( وهذا محال بطبيعة الحال) , بل يجب قراءة تجاربهم ومعاركهم وشعرهم ومشاريعهم واستخلاص الدروس والعبر التي تساعدنا على شق دروب جديدة للشعر , وخلق مشاريع مفتوحة لا تنغلق على ذاتها وتتقوقع داخل حلزون أفكارها. 
علينا أن نرى  الشعر كلاً متكاملاً لا يتجزأ، نثرًا وتفعيلةً وشطرين و أيَّ شكل آخر قد تفرزه ضروراتُ الإبداع مستقبلاً. الشعر يبدأ من الذات، فلننطلق!
سورية
الشعراء العرب: ما من غاوين يتّبعونهم
تمام التلاوي
ثمانمئة شخصٍ تقريبًا حضروا أمسيةً شعريةً أقيمت في نيسان الماضي في نيويورك لبعض شعراء أمريكا الجدد. نعم، ثمانمئة شخص! ومع هذا، تعلو أصواتُ شعرائها اليوم لربط الشعر الأمريكي بالحياة الأمريكية، وإدخالِ اللغة الشعرية إلى اللغة اليومية، وتزداد المنتدياتُ والجمعياتُ الشعرية سنةً بعد سنة. أما الشعر العربي فما يزال مشغولاً بنزاعاته الداخلية التي لم تتغيّر محاورُها منذ أكثر من خمسين سنة، ويزداد هو وشعراؤه ابتعادًا وعزلةً عن المتلقّي وعن الحياة العربية، ويقلّ تأثيرُه أو ينعدم في الإنسان العربي، ابتداءً بمضامينه الإنسانية وليس انتهاءً بلغته.
طوال العقود الأخيرة الماضية، ساهم الشعراءُ والنقّادُ والناشرون العرب، يدًا بيدٍ مع السلطات الديكتاتورية ومع تأثيرات العولمة، في إقصاء الشعر العربي عن الحياة العربية، إراديّاً أو لاإراديّاً، وبطرقٍ ووسائلَ عدّةٍ لا تقلّ قسوةً وفعّاليةً عن قسوة الأنظمة والعولمة وفعّاليتها. وسنقوم فيما يلي باستعراض أدوارهم (الشريرة) هذه، بعد إيجازِ دورَي العاملين الآخرين.
 
الأنظمة
إنّ الحروب المنظَّمة التي شنّتها الأنظمةُ على الثقافة والمثقفين المناوئين لها على امتداد نصف قرن، بالإضافة إلى ترويجها لمثقفي السلطة الذين لا يجيدون فنَّ الكتابة أكثر مما يجيدون فنَّ غسيل سيارات رجالاتها، خَلقت أزمةَ ثقافة في العالم العربي، وجوّاً ملائمًا لنفور الإنسان العربي من الكُتّاب الرديئين والكِتاب الرديء. كما أنّ الحصار الذي ضربته السلطاتُ على المثقفين بمنع سفر بعضهم خارج أقطارهم، أو زجِّهم في السجون، قد ضاعف من قسوة الحدود السياسية بين البلدان ومن بُعدِ المسافات الجغرافية فيما بينها. إلى ذلك يضاف حظرُ طباعة بعض الكتب، أو حظرُ تداول بعضها الآخر في بقية البلدان، ومنعُ دخول بعض المجلات الثقافية إلى بعض الدول (كمجلة الناقد مثلاً وكان ذلك سببًا في توقفها)، فأدّى ذلك كلُّه إلى عزل الشعراء بعضِهم عن بعض وعن قرّائهم وإلى إضعاف أو إلغاء تأثيرهم في المجتمع العربي. ولا ننسى أيضًا دورَ المناهج الدراسية الحكومية التي تربّي الناشئين على كراهية الشعر بسبب جفاف الموادّ الأدبية، أو تربّي لاوعيَهم على مفهوم الشعر بوصفه حالةً تراثيةً ابتدأت بامرئ القيس وانتهت في أحسن الأحوال عند السيّاب أو نزار قبّاني، من دون أن يفوتها الإلماعُ إلى أنّ الشعر الحديث في الغالب مروقٌ وعصيانٌ وخروجٌ على الأمة وموالاةٌ للإمبريالية العالمية أو للإباحية والزندقة كما هو الحال في بعض الدول.
العولمة
قدّمت العولمةُ أدواتِ الترفيه الثقافي الاستهلاكي الذي يُعنى بالثقافة البصرية السطحية في الدرجة الأولى، ويبتعد عن المضامين الإنسانية ببعديها الداخل-حيوي والتاريخي، ويحاول محوَ الثقافات الصغيرة على حساب الثقافة الشمولية الجديدة والطاغية. وفيما تقدّم العولمةُ ذلك، انحسرت شيئًا فشيئًا الأدواتُ الثقافيةُ التقليدية، وعلى رأسها الشعرُ، حتى يكاد أن يقتصر استعمالهُا على الشعراء أنفسهم وعلى القلّة القليلة من المهتمّين بالشأن الثقافي. أما الشبكة الالكترونية التي دخلت كلَّ منزل، فما زال الشعرُ العربي فيها مقتصرًا على بعض المواقع والمنتديات المبعثرة. وغالبية هذه تفتقر إلى التنظيم والتنسيق فيما بينها، أو إلى الموضوعية في اختيار الموادّ. وما زالت عاجزةً عن خلق تياراتٍ شعرية معينة، أو تكريسِ ظاهرةٍ شعريةٍ تعيد إلى الشعر رونقه بوصفه فنّاً ضروريّاً لحياة الإنسان العربي، لا ترفًا ينحصر  بالشعراء الذين ضاقت بهم وسائلُ النشر الورقية وهَجَرَتهم الجماهيرُ فوجدوا في الشبكة الإلكترونية مساحةً شاسعةً للكتابة... ولكن من دون أن يقرأها أحدٌ بالضرورة.
الشعراء والنقّاد
أما الشعراء الذين يتبعهم الغاوون، فلم يعد يتبعهم أحد، وأصبحوا هم الغاوين أنفسَهم: يسيرون على غير هدًى هنا وهناك، بحثًا عن منبرٍ ثقافي يعتلونه، أو دارِ نشرٍ توافقُ على نشر كتاباتهم (ولو على حسابهم الشخصي)، أو شخصٍ واحدٍ أحيانًا يستمع إليهم. فكثيرًا ما يصطدمون في الحياة الواقعية بجملٍ جارحةٍ مثل: "أنا لا أحبّ من الشعر إلاّ قديمه"؛ أو: "عفوًا، أنا لا أفهم الشعر الحديث"؛ أو: "ما هذه الخزعبلات التي تكتبونها؟ أما زال هناك من يهتم بهذه الأشياء؟!"
والحقّ أنّ مبالغة بعض الشعراء في استخدام الرموز أو الصور التجريدية-خوفًا من السلطات أو لنقصٍ في الموهبة حاولوا تعويضَه بجعل نصوصهم عبارةً عن شفرات لا حلّ لها- لعبت دورًا أساسًا في إغلاق النصوص إغلاقًا تامّاً في وجه القرّاء، الأمرُ الذي جعل الغموضَ هو السمةَ الرئيسةَ التي أُشيعت عن الشعر العربي الحديث، وحدا بالكثيرين إلى اتّقاء شرِّ قراءته خشيةَ نوبات الشقيقة أو الصداع العنقودي. وفي المقابل سادت موجةٌ من شعراء "الشعر الشفوي،" الذي لحق به الكثيرُ من اللاشعر القائم على الوصف المباشر لنثريّات الحياة، من دون امتلاكه الحدَّ الأدنى من جوهر الجمالية الشعرية.
كما أنتجت الحركاتُ الثوريةُ والفكريةُ العربية بين الخمسينيات والسبعينيات أجيالاً من الشعراء والمثقفين الذين تسربلوا بأردية التقشّف والتسكّع على أرصفة الليل الماطرة، وما برحوا يقترضون المالَ ممّن حولهم لشراء الطعام والشراب (حتى لم يعد أحدٌ يقرضهم بسبب عدم السداد)، ولم يتركوا منزلاً إلاّ وناموا فيه لأن لا مأوى لهم، وتبنّوا بعضَ القيم "الغربية" بصورةٍ خاطئةٍ حتى أصبحوا مثالاً للإباحية، وتحولت صورةُ الشاعر العربي الذي كان في يوم من الأيام أشبهَ بنبيّ إلى صورة ذلك الصعلوك المفلس المتشرّد الذي نبذه الأقربون ونفر منه الأبعدون خوفًا أو اشمئزازًا.
على امتداد نصف قرن، لم يتزحزح جدلُ غالبية هؤلاء الشعراء والمثقفين عن المواضيع ذاتها. وما زلنا كلّما دخلنا على مجموعةٍ منهم نستمع إلى الجدل عينه حول دور الشعر، وشرعيةِ قصيدة النثر، وأيّهما أكثر حداثة هي أم قصيدة التفعيلة، وحول القصيدة اليومية، وحول محمد الماغوط وأنسي الحاج وأدونيس وإيف بونفوا وبودلير وسوزان برنار وغيرِها من الأسماء التي تكرّرت حتى حسبنا أنّ الشعر توقّف عندها... ناهيك طبعًا بمواضيع النميمة المعتادة حول "الشعراء الأعداء" أيّاً كانوا، لضغينةٍ أو حسدٍ يحملها أحدُهم على الآخر، أو بسبب العصبية الثقافية المتطرفة. ولعلّ آخرَ ما يهمّ الشاعرَ منهم هو بذلُ الجهد لكتابة نصّ إبداعي جديد فعلاً، أو لتعلّم بعض قواعد النحو الأساسية التي يعوزها بعضُهم، بل لقراءة ديوانٍ لأحد الشعراء قبل أن ينهالَ عليه بالمدح أو الذمّ لهذا السبب أو ذاك.
كما أنّ شيوعَ قصيدة النثر، كما هو معروف، أدّى إلى الاستسهال، وجعل كلَّ من هَبّ ودَبّ جريئًا على امتشاق قلمه وكتابة قصيدة، من دون أن يكون بالضرورة ملمّاً بأضعف الإيمان الشعري، وربما لم يقرأ كتابًا إلى نهايته في حياته. لستُ بالطبع ضدّ قصيدة النثر، غير أنني أوصّف ظاهرةً كان لا مناص من نشوئها، تمامًا كالتأثير الجانبي المصاحب لأيّ دواء فعّال؛ وهناك مقولةٌ في الطبّ مفادُها أنّ الدواء الذي لا ثأثيرات جانبية له لا ثأثيرات له على الإطلاق.
أما النقّاد–على ندرتهم- فأنواع. منهم المنحازون إلى ما يوافق ميولهَم الشعريةَ والفكرية. ومنهم مَن يخشى إن كتب عن زيد ألاّ ينشر له عمرو في "صفحته" الثقافية. ومنهم مَن كَتب عن كتاب زيد كي يكتب زيد عن كتابه. ومنهم مَن اعتزل النقد ولم يرَ ما يشجّعه على الاستمرار في ظلّ حركة شعرية مضطربة، وحالةٍ ثقافيةٍ راكدة، ولكثرةِ ما رأى من الرداءة الشعرية المنشورة هنا وهنا لأسباب سأذكرها تاليًاً. ومنهم مَن اقتصرت دراساتُه النقدية على الأصوات الشعرية الكبيرة، التي أصيبت بالتخمة من كثرةِ ما كُتب عنها، وذلك ليقي نفسَه مشقّةَ البحث عن ناشرٍ يجازف بنشر دراسة نقدية عن صوتٍ لم يَسمع به أحد. أما الموضوعية فهي قد تكون مصطلحًا لم تسمع به الأغلبية.
المنابر
إنّ صورة الواقع الإعلامي الثقافي العربي اليوم ما هي إلاّ استمرارٌ-معدَّلٌ قليلاً- لذلك الواقع في العقود الأخيرة الماضية. وإنّ المنابر الثقافية المقروءة والمسموعة والمرئية كانت وما تزال منقسمةً إلى نوعين رئيسين. يشمل الأول منهما المنابرَ الحكوميةَ التي جَمعت مِن حولها مَن قنَِعوا بفتات المناصب والرواتب أو المنح الحكومية، من دون أن يكونوا بالضرورة على علاقةٍ وثيقةٍ بالأدب. فتقوقعت تلك المؤسساتُ على نفسها وتحجّرت حتى أصبحت في حاجة ماسّة إلى علماء أركيولوجيا قادرين على نبش هذا الركام من الكتب والصحف (التي أصبحت تٌستعمل غالبًا لموائد الطعام) والأمسيات والمهرجانات التي ما دخلها عابرٌ مصادفةً إلاّ ظنّ نفسَه في متحفٍ للضجيج.
أما النوع الثاني فقد شمل بعضَ المنابر الورقية التي ترأّسها–أو لنقل تزعّمها-بعضُ الشعراء الذين انحازوا إلى مَن يشابهونهم في الميول والأهواء الشعرية والفكرية والسياسية، فأدّى ذلك لاحقًا إلى المحسوبيات والتبعيات، وأصبح كلُّ شاعر تقريبًا محسوبًا على زمرةٍ ما أو صحيفةٍ ما. وهكذا خرجت الأمور عن معايير النشر الراقية التي تتوخّى جودةَ النص والموهبة، وأصبحت هنالك معاييرُ مغايرةٌ تعنى بنوع النصّ (أموزون هو أم نثري؟)، أو باسم الكاتب (أمعروفٌ هو أم مغمور)، أو بصلة المحرِّر أو النظام الحاكم بالكاتب (أصديق هو أم عدوّ؟). وهي لمعايير لم تخلُ في كثير من الأحيان من النفَس الديكتاتوري الذي تعلّمه متزعّمو تلك المنابر من أنظمتهم في إقصاء الآخر أو إلغائه وفي إنشاء التحالفات والائتلافات (التي غالبًا ما تتمركز حول من اعتلوا سدّةَ رئاسة التحرير في جريدةٍ أو مجلةٍ ثقافيةٍ ما، أو من نٌصِّبوا على عرشِ منبرٍ ثقافي ما أو اتحاد كتّابٍ ما إما بانقلابٍ ثقافي أو بالاستعانة بقوات حكومية حليفة). وهذا كلُّه بالطبع أدّى إلى ظهور (أو إظهار) نصوصٍ رديئةٍ ساهمت في نفور القارئ العربي من الشعر شيئًا فشيئًا، وعلى امتداد سنواتِ مطالعته لما يُنشر في الصفحات الثقافية.
إذن
إذن، فالأزمة ليست أزمةَ موهبة كما صرّح محمود درويش مرة؛ فالموهوبون كانوا وما زالوا موجودين، ولكنهم بالمقابل قليلون، كما هو الحال دائمًا. بل إنّ الأزمة هي أزمةُ الواقع الشعري عمومًا: بدءًا بالأنظمة، ومرورًا بالنقّاد والناشرين، وانتهاءً بالشعراء أنفسهم. ومن المؤسف حقّاً أنك عندما تسأل إنساناً عربياً أن يذكر اسمَ شاعر معاصر، فإنّ أصغرَ مَن يذكرهم سنّاً هو نزار قبّاني أو السيّاب، وربما يذكر أدونيس إن كان مطّلعًا قليلاً، أو محمود درويش إن كان يستمع إلى مارسيل خليفة أو ماجدة الرومي.
إنّ هذه الحالة من فكّ الارتباط بين الشعر العربي والإنسان العربي أدّت إلى سحق أسماء أو أجيال شعرية بكاملها، وإلى تغييب مواهب كبيرة ورائعة، خصوصًا في أواخر السبعينيات والثمانينيات والتسعينات... والدورُ على مَن تلاهم.
وأنا، إذ أصف في مقالي هذا النصفَ الفارغَ من الكأس، فلكي أحمّل الشعراءَ بالدرجة الأولى (ولا أستثني نفسي) نصفَ المسؤولية في ما يحصل، ولكي ألتمس منهم وضعَ أصابعهم الرقيقة والفائقة الجمال على مواضع الألم الشعريز فلعلّنا بذلك نصل إلى تشخيصٍ دقيقٍ لحالةٍ ليست عصيّةً على العلاج... وخصوصًا بعد توفّر التجربة التي مرت في العقود الماضية، وبعد استحداث وسائلَ جديدةٍ للإعلام والاتصال والنشر أدّت إلى قطع الأسلاك الشائكة فيما بينهم وفتحت الأبوابَ أمامهم لخياراتٍ جديدةٍ في الكتابة والنشر والاطّلاع على حدّ سواء.
سورية
قصيدة النثر عجزت مثل أختها العمودية
سامر أبو هواش
لو افترضنا وجودَ مَن يدعو إلى مسابقة شعرية، وأنّ هناك جمهورًا من المستمعين يحدّد في النهاية من هو الشاعر الأفضل أو ما هي القصائد الفضلى. ولنفترض أنّ "الموضوع" الأول الذي سيجري التنافسُ عليه هو أحداثُ الحادي عشر من أيلول: من أفضلُ شاعرٍ يكتب قصيدةً عن هذا الحدث التاريخي المجلجل الذي شاء الحظًّ أو القدرُ أو منعطفاتُ التاريخ أن يقع في صلب حياة جيلنا، وربما أجيالٍ أخرى ستأتي؟
أقترح هذه الفكرة نصفَ ممازحٍ،، بل ممازحًا تمامًا على الأرجح. ذلك لأنني أدرك أنّ مسابقةً كهذه لن تكون واقعيةً لأسباب كثيرة، من أهمّها أنّ أحدًا من الشعراء "الكبار" لن يشارك فيها، وأنّ كثيرين من الشعراء "الصغار" سيتردّدون في المشاركة فيها، إن لم يزدروها. والأهمّ طبعًا أنه لو اقترح أحدُهم الأمرَ عليّ فسأرفض فورًا، لأنني لا أتخيّل نفسي قارئًا شعرًا أمام عشرة أشخاص، فكيف بـ"مسابقة" (تثير الذكرى السيئةَ لسوق عكاظ) وفي "موضوع" (وهي كلمة تقودنا مباشرةً إلى التصنيف المذموم إلى أغراض المديح والهجاء والرثاء...إلخ)؟! إنّ كلمة "موضوع" نفسها هي من الكلمات المحرَّمة تقريبًا، والمثيرة للاشمئزاز بالتأكيد، بين "الشعراء الشباب" (والتنصيص هنا للتحفّظ عن التعبير): ذلك أنّ "الموضوع" ينتمي إلى العامّ، إلى المجال العامّ، ويقود من ثم إلى "جمهور" و"منبر" و"قضية" و"مباشَرة"... وما إلى ذلك من كلماتٍ جرى العرفُ على نبذها، بل قامت خطاباتٌ شعرية/صحافية، غيرُ نقدية إلاّ نادرًا، على أساس الانتماء إلى كلّ ما هو ضدّها. فالجمهور يقابله الفردُ؛ والمنبر تقابله العزلةُ والصمتُ والهمس؛ والمباشرة تقابلها التوريةُ والإشارة؛ والكلّي والعامّ تقابلهما التفاصيلُ؛ والقضايا يقابلها رفضُ القضايا، على أساس أنّ القضايا تعني: كلَّ ما مللنا منه، أي تعني القديمَ، السطحي، الصراخي، البرّاني، الزائفَ، السنتيمالي، الاستعراضي، التقليدي، وصولاً إلى النقاش البائت جدّاً والسطحي جدّاً حول الشكل: يعني المقفى والموزون، يعني الحرن، يعني الغنائي، أي لا تعني باختصارٍ كوكبَ "قصيدة النثر" الذي هاجرنا إليه وجعلناه وطنَنا وبيتَنا ومنفانا... وقضيتَنا.
أعود إلى المسابقة: ما جعل مثلَ هذه الفكرة المجنونة يخطر على بالي هو، ببساطةٍ، إحساسان متلازمان. الأول، إحساسي بالتورّط الشديد في كلِّ ما يجري؛ ولا أعني هنا التورّطَ الفكري أو الثقافي أو الإنساني المجرّد فحسب، بل أعني أيضًا التورّطَ الشخصي، المعيشي، الملموس، وبأنّ ما يجري يؤثّر في حاضري ومستقبلي، ويضرّ حياتي مباشرة، إن لم يكن يهدّدها بالفناء (خصوصًا إذا وسّعنا الدائرةَ قليلاً باتجاه أسلحة الدمار الشامل التي باتت شديدة الرواج).
أما الإحساس الثاني فهو يبدو لوهلة مناقضًا للأول، لكنه شديدُ الالتصاق به، وهو الإحساسُ بالبعد الشديدِ، الباردِ، على المستوى الإبداعي (الشعري وغيرِه)، عن كلِّ ما يجري، أعني منذ أحداث الحادي عشر من أيلول تحديدًا. ولا أعني بهذا البعد تجربتي الشعريةَ الشخصيةَ فقط، بل المجال العامّ أيضًا الذي يُفترض أنّ تجربتي تنتمي إليه، وهو في أقلّ تعريفٍ يُفترض أن يكون مجالاً زمنيّاً، بمعنى التشارك في زمنٍ ما والانتماء الحقيقي، وبحرارة، إليه.
بيد أنّ ردة الفعل الأولى وشبه العفوية، لكن شبه المنهجية في الوقت نفسه، على الأحداث السياسية والحربية والمأساوية التي شهدها ويشهدها زمانُنا، كانت عكسية: فقد شعرنا بالخطر يقترب مجدّدًا، وشعرنا بموجة أخرى من موجات المجال العامّ، التي علينا أن نفعل كلَّ ما في وسعنا لكي نحمي أنفسنا منها. افترضنا "نقاءً" أصليّاً لقصيدة النثر، قصيدة الداخل، قصيدة الفرد، والعزلة، وافترضنا أنّ علينا أن نحمي هذه القصيدةَ من بضعة مجانين يقودون طائراتهم إلى الأبراج، أو بضعة يائسين يقفزون من الأبراج، أو آلاف الزاحفين لشنّ الحروب هنا وهناك، أو آلاف الهاربين منها أو الساقطين ضحاياها، وربما شعر بعضنا بأنها ذريعة طازجة للتأكيد مجددًا على القيم الأصلية في قصيدة النثر (التي شخصيّاً لا أعرف مصدرها)، على الإيديولوجيا المستترة في هذه القصيدة التي تنفي كل ما هو ضمن المجال العامّ وتمجّد كلَّ ما هو ضمن المجال الخاصّ. 
هكذا، وعلى الرغم من محاولات بعض شعراء قصيدة النثر، ممن ينتمون إلى الجانب الرؤيوي فيها، أو بعضِ مَن يريدون تماسكًا أكبر لـ "أعمالهم الكاملة،" أو بعض الساعين إلى كسب منبرٍ عامّ جديد وواسع... هكذا إذن أخفقت قصيدة النثر، التي تضاعف مراتٍ كثيرةً عددُ مَن يكتبونها، في أن تنتمي (لا أقول تعبّر ولا تكون شاهدة... فقط تنتمي...) إلى هذا الزمن. لا لأنها عاجزة، ولا لأن مجالها التعبيري لا يتسع، بل لمجرد أنها لا تريد ذلك، بل تقاومه.
لا نحتاج إلى الكثير من الشواهد والأمثلة التي تؤكّد أنّ إقصاء المجال العامّ ليس من سمات الحداثة في الغرب على الإطلاق. بل إنّ معظم التجارب المؤثِّرة في القرن العشرين كانت متّصلةً بهذه الدرجة أو تلك بهذا المجال العامّ، متأثّرةً به ومؤثِّرةً فيه، منفعلةً به وفاعلةً معه. هكذا أنتجت الحربان الكونيتان مزاجَهما الأدبي والفني الذي تطوّر وتشعّب وسلك دروبًا شتّى، لم تكن في الحسبان أحيانًا، ومثلهما الحرب الباردة، كما نهايةُ الحرب الباردة وسقوطُ جدار برلين. وهكذا رأينا أيضًا أنّ النيوليبرالية الاقتصادية، بما أنتجته من وقائع اجتماعية وسياسية، كانت دافعًا وراء إنتاجٍ كتابي، روائي خصوصًا، لكنّ الشعر لم يكن خارجَه تمامًا، وفني وسينمائي وتشكيلي وعبر فنّ الفيديو والتصوير الرقمي..إلخ. رأينا كيف استجابت الحداثةُ الغربيةُ (وما بعدها) مع التطوّرات والتحوّلات، لا السياسية فقط، بل أيضًا الاقتصادية والتكنولوجية، التي اكتسحت العالمَ خلال العقدين الفائتين، وذلك انطلاقًا في الغالب من الذات الفردية: كيف تنظر هذه الذاتُ إلى ما يجري حولها، كيف تفهمه، تسائله، تجادله، ترفضه، كيف تتأثّر به وتحاول التغيير فيه؟ لقد اخترنا، في هذه المنطقة من العالم، شكلاً واحدًا للفهم والرفض والمساءلة: البيت. لقد أصبح "البيت" الثيمةَ الشعريةَ الأكثرَ سيطرةً، لكن للأسف الأقلَّ إيحاءً، وبتنا نرى عشرات "التجارب" التي تتكاثر يوميّاً، وبسرعة تتجاوز سرعةَ استهلاكها، ومعظمُها يدور في الحلقة المفرغة نفسها: كتابة الشعر في الحدّ الأضيق، المعرِّّف للهوية الفردية، لكن المقصي عن أيّ محاولة لسبر أغوار هذه الهوية وأبعادها التي تتجاوز عتبةَ البيت. وهذا الحدّ الأضيق خلق حدّاً أضيق موازيًا له على صعيد اللغة، أعني اللغة العربية، التي أصبحت – في غياب التحدّي التعبيري، ومن ضمنه تحدّي الموضوع – أشبهَ بنصوص الأبراج في الصحف والمجلات، والتي تقوم جميعُها على تدوير عدد من المفردات والمشاعر والأفكار، وتلبّي عددًا محدودًا من التوقّعات. أصبحت قصيدةُ النثر (مع التحفّظ عن تعميم التسمية على كلّ ما يُكتب ويُنشر من شعر أو من كتابات) الوجهَ الآخرَ للقصيدة العامودية، حيث التكرارُ والنمطيةُ والبلادةُ وانعدامُ الخيال وقلةُ التجريب والاكتفاءُ بالحيّز الآمن غير المغامر وغير المتطلّب. لقد أصبحت شكلاً (وإن فضفاضًا)، ملامحَ شبهَ ثابتة، عرفًا تعبيريّاً، نسقًا ثابتًا. وبالتالي عجزت، مثلَ أختها القصيدة العامودية أو الحرة أو غيرهما، عن الارتفاع إلى مستوى التحدّيات التي يفرضها العيشُ في عالمٍ متغيّرٍ ومتقلب... لتشارك اللغةَ العربيةَ –الحاليةَ- عجزَها وجمودَها وانكفاءها، وجزءًًا وافرًا من مصيرها القاتم: فحين تصبح اللغة غيرَ جذّابة بالتحديد لأولئك الناطقين بها، فإنّ هذا يندرج في عداد النكبات الكبرى، لا الأزمات فحسب.
حين تعجز عشرات، بل مئات المجموعات الشعرية، ناهيك بالقصائد المنشورة على مواقع الإنترنت وسواها، عن تحريك ولو جزءٍ ضئيلٍ من هذه المياه الراكدة، مياهِ اللغة والمخيلة، فعلينا أن نطرح عن أنفسنا ثوبَ نرسيس، ونبدأَ بطرح الأسئلة الجدية، حول الشعر، واللغة، والحياة، وحول ادّعاءاتنا الشخصية، وفي كثير من الأحيان حول جهلنا الشخصي. 
بيروت
أزمة الشعر السوري الجديد:جيل التسعينيات
هايل محمد الطالب
لو استعرضنا تاريخَ الشعر العربي في فتراته المتعاقبة، فلا بدّ أن نتوقّف عند محطّات مهمّة فيه، قام بها شعراء معيّنون. فعلى سبيل المثال لا يمكن أن نتخيّل الشعرَ العربي من دون أبي تمّام أو المتنبّي أو أبي نواس، إذ إنّ كلّ واحدٍ منهم أحدث نقلةً فنيةً في مسيرة الشعر العربي حتى جاز أن يُعَدّ مرحلةً في ذاتها، أو نهجًا شعريّاً قائمًا بذاته. وفي المقابل، فإنّ حركة الشعر لن تتأثّر بغياب شاعرٍ كأبي العتاهية، لأنه مع كثيرين غيره لم يخرجوا بالشعر عن إطار السائد أو المتعارَفِ عليه فنيّاً. وإذا انطلقنا إلى حركة الحداثة في القرن العشرين، فلا يمكن إلاّ أن نتوقّف مثلاً عند السيّاب أو قبّاني؛ قد نختلف عليهما فنيّاً، لكننا لن نختلف على النهج التجديدي الخطير الذي أحدثه كلٌّ منهما في مسيرة الشعر، سواء على صعيد اللغة الشعرية كما عند قبّاني، أو على صعيد توظيف بنًى جديدةٍ في تركيب القصيدة، كالأسطورة مثلاً عند السياب. ومن هنا يمكن أن نُدرج شعرَ البارودي و شوقي وإبراهيم ضمن سياق الشعر التقليدي للشعر العباسي والأموي، وبذلك ينتمي شعرُهم فنيّاً إلى عصور مضت أكثرَ من انتمائه إلى العصر الذي أنتج فيه.
مسوِّغُ ذلك كلّه هو القولُ إنّ خروجَ الشعر عن النهج التقليدي، والدخولَ في النهج الإبداعي، هما ما يبرِّر وجودَه، ويُبعده عن إطار الكلاسيكيات التي تعيد إنتاجَ المنتَجِ بقوالبَ لغويةٍ بعيدةٍ عن الإبداع. ومسوِّغُ هذه المقدمة هو الوصولُ إلى نتاج الشعراء الجدد في سورية، أو ما اصطُلح على تسميتهم بـ "جيل التسعينيات." فهل استطاع هذا الشعر وفق الرؤية السابقة إنتاجَ خصوصيةٍ تجعله يستحقّ تسمية "جيل جديد" في حركة الشعر؟ ولماذا لم يَبرز الشاعرُ "الفلتة" وفق الفهم السابق؟ هل يعيدنا هذا الشعرُ إلى كلاسيكية جديدة تبدِّل الرموزَ فقط؟ فإذا كان شعراءُ عصر النهضة قد جعلوا من شعر العصر العباسي، مثلاً، أنموذجًا يُحتذى ويقلَّد، فإنّ الجيلَ الجديدَ قد فعل الأمرَ نفسَه مع الروّاد ومَن يقع في دائرتهم. ومن هنا يصحّ أن نطلق سمةَ "أزمة" على الوضع الذي تعيشه القصيدةُ الجديدة. ومن ملامح هذه الأزمة:
الكلاسيكية الجديدة. هنا نلحظ التشابهَ في كثير من نتاجات هذه الفترة، سواءٌ بين الشعراء أنفسِهم، أو بينهم وبين مَن يتخذونهم نموذجًا. وأعني بالملاحظة الأخيرة وجودَ تشابهٍ مع الصوت الشعري القابع في داخل الشاعر، لا يستطيع منه فكاكًا، ولذلك تراه يَظهر في شعره: كتأثُّرِ بعض شعراء قصيدة النثر بالماغوط مثلاً، أو تأثُّر شعراء التفعيلة بدرويش، حتى بتنا نرى قصائدَ متعددةَ الأصوات لا خصوصيةَ فيها لقائلها. ويتمثّل تأثّرُ شعراء الجيل الجديد بالروّاد في إعادة إنتاج لغتهم ورموزهم وأساطيرهم بالطريقة ذاتها، أو باعتماد التكنيك التعبيري ذاته. ومن أمثلة ذلك: استعارةُ الصعلكة والسخرية الماغوطية مع أسلوب التشبيه ذاته (الكاف الماغوطية+ المشبَّه به)، أو التعبيرُ عن الموت بالنوم تقليدًا لأسلوب نزار قبّاني في رثاء عبد التاصر، أو استحضارُ اللغة الدينية وإعادةُ إنتاجها من دون رؤية جديدة. وفي الصدد الأخير نلاحظ أنه قلّما تخلو تجربةٌ جديدةٌ من "يوسف" و"كربلاء" و"أهل الكهف" و"نشيد الأنشاد"...، وأغلبُ الاستحضارات نقليةٌ لا إبداعية، كأن يتأثّر شاعرٌ بلغة سورة مريم عن طريق شاعرٍ آخر لا أن يكون قد اكتشف الحالةَ بنفسه؛ وهذا ما يوقع الرموزَ والاستحضاراتِ في دائرة التشابه البارزة عند هذا الجيل. وكمثالٍ على ذلك فإنّ استحضارَ ديك الجنّ في قصيدتين لشوقي بزيع، عن طريق بناء نصّ الصوت الذي يتحدّث على لسان ورد أو ديكِ الجنّ، دفع كثيرًا من الشعراء الجدد، ولاسيما الحمامصة، إلى تبنّي الطريقة ذاتها استنساخيّاً، من دون إعادة قراءةٍ تأريخيةٍ للقصة ذاتها، واستيعابِ تفاصيلها، ثم التعبير عنها برؤيا جديدة، إذا كان لا بدّ من ذلك.
الشكل الفني. إنك لتلحظ أنّ أغلب الشعراء الجدد يتوجّهون نحو قصيدة الومضة، بلا عناءٍ في البحث عن تقنياتٍ خاصةٍ في بناء النص. وهذا ما ينطبق على عودة بروز النزعة الرومانسية بمعناها الكلاسيكي، سواءٌ على صعيد الاحتفاء بالحبّ أو بالعزلة أو بالطبيعة. وأشدُّ ما أفرزته قضيةُ الشكل الفني هو الحروبُ الوهميةُ بين أشكال القصيدة (نثر، تفعيلة، عمودي)، فصار هاجسُ الشكل والتحزّب له أكبرَ من هاجس الشعرية التي هي المهمّةُ المفترضة الأعلى للشعر. وقد وصل النزاعُ إلى مرحلة الإقصاء، وتوزيعِ صكوك الشعر على نمطٍ وإلغائها عن نمط آخر، بحجة امتلاك المستقبل أو مخاطبة الأجيال القادمة.
ضعف الرؤيا. وهذا ما يفسِّر عدمَ ولادة "الشاعر الفلتة،" أي الشاعر الذي يمتلك مشروعًا شعريّاً خاصّاً، أو اتجاهًا قائمًا بذاته. وهنا يَبرز فقرُ النصوص المعرفيُّ، ومن ثم فقرُ الشاعر في المصادر المعرفية: فهو إما أن يُعجبَ بشاعرٍ آخر أو باتجاهٍ شعريّ، فيحبسَ نفسَه بين جدرانه، ويَقصرَ قراءاتِه عليه أو على النمط الذي يمثّله، فيَبرز التشابهُ في النتاجات؛ وإما ألاّ تتعدّى قراءاتُه المصادرَ الشعريةَ فقط، فلا يَحفر في مناطقَ معرفيةٍ أخرى ليكتشفها، وليكتشفَ منابعَ جديدة، وليكوّنَ رؤاه الخاصة في الحياة والشعر والمرأة...التي يفسِّر الكونَ بناءً عليها.
قلقُ الإبداع والتكنيك الأسطوري. قد تصحّ لفظةُ "القلق" الواردة في البيت الشهير للمتنبي "على قَلَقٍ كأنّ الريحَ تحتي" للتعبير عن المراد هنا. فالشاعر قلِقٌ دائمًا، ليس بالمعنى المَرَضي، وإنما بالمعنى الإبداعي، أي بمعنى البحث عن وسائل تعبيريةٍ جديدة، ولغةٍ جديدة، وأشكالٍ فنيةٍ مختلفةٍ عن السائد؛ وهذا ما ميّز الشعراءَ الذين شكّلوا نقلاتٍ نوعيةَ في مسيرة الشعر عبر التاريخ: فالتكنيك والتجريب الواعي المعرفي هو جوهرٌ ومكوِّنٌ أساسٌ من مكوِّنات الإبداع والتطوير الفني للقصيدة. وهنا تحضرني مقولةُ الزبير بن العوّام: "لا عاش بخيرٍ من لم يُرِهِ ظنُّهُ ما لم تُرِهِ عينُهُ"؛ وقريبةٌ منها مقولةُ عمرو بن العاص: "ظنُّ الرجلِ قطعةٌ من علمه، ولسانُه قطعةٌ من عقله"؛ على أن يفسَّر الظنُّ في سياقنا بالمعنى المبدع، وهذا ما سيعزِّز من الفهم الصحيح لتكنيك النصّ. فمثلاً، إعادةُ إنتاج الأسطورة بالمعنى المنتِج، لا بالمعنى الرائج أو المتداول الذي بات ورقةً محروقةً لم تعد تحقّق إدهاشًا؛ بل إنّ محاولة تلفيق الأسطورة في النصّ من دون أن تلائم الحاجةَ التعبيريةَ هي خيانةٌ للأسطورة والشعر. ومن هنا لا بدّ من الانتقال من مرحلة توظيف الأسطورة كما فعل الروّاد إلى مرحلة إنتاج الأسطورة، أي الاستفادة من التكنيك الأسطوري فقط من دون استدعاء الأسطورة ذاتها. فإذا كانت الأسطورةُ "هي الوعاءَ الأشملَ الذي فَسّر به الإنسانُ وجودَه، وعَلّل فيه نظرتَه إلى الكون، محدِّدًا علاقتَه بالطبيعة من خلال علاقته بالآلهة،" وصولاً إلى وضع حدٍّ لقلقه وأسئلته الكثيرة؛ وإذا كانت الأسطورة أسلوبًا لشرح الحياة والوجود بمنطقٍ عاطفي يمتزج فيه الحلمُ بالواقع؛ فإنّ على الشاعر الجديد الاستفادةَ من هذا التكنيك لإنتاج أسطورته الخاصة. وقد يكون ما فعله أنسي الحاج في مجموعته الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع مثالاً صالحًا على ذلك: فقد أعاد إنتاجَ أسطورته الأنثوية عبر الاستفادة من الفهم الأسطوري. وهو ما فعله أيضًا جوزف حرب في شجرة الأكاسيا عبر أسطرة الموت والفداء بطريقة مبتكرة صارت فيه شجرةُ الأكاسيا هي البؤرةَ الأساسيةَ للأسطورة.
 طغيان النزعة اليومية والجزئية. وهي الدُّرجة السائدة الآن، ولاسيما في قصيدة النثر، التي حقّقت حضورًا كبيرًا في الشعر الأوربي، ولا سيّما عند جاك بريفير الذي تأثّر به شعراءُ العربية. ولكنّ فهم هذا النمط كما هو سائد هو فهمٌ ساذج. فقصيدة اليومي والجزئي، أو كما أسمّيها "قصيدة البداهة،" لا تعني السطحيةَ في العرض، أو الخلوَّ من العمق، أو الصفاقةَ في طرح المسكوت عنه من دون أن تقدّم رؤيةً باهرة؛ بل تعني التعبير عن العمق بأقصرِ الطرق وأقلِّها تكلّفًا: إنها قصيدةُ المنسيّ أو المركون جانبًا الذي لا نلتفت إليه، فيأتي الشاعرُ ليجلو الغبارَ عنه، وليطرحَه لنا بطريقةٍ تَبهرنا وتلفتُ انتباهَنا. لكنّ أغلبَ السائد هو من النمط الذي يستسهل الكتابةَ بلا عمق؛ وإلاّ فما معنى قول إحدى الشاعرات مثلاً: "اصرخ في وجهي/ انصرف إلى امرأةٍ أخرى/ لِمَ عليّ دائمًا/ أن أجدَ مبرِّرًا كي أخونَك؟..." فهذا تسطيحٌ لا يرتكز إلى رؤيا أو عمقٍ معرفي يجعلان النصَّ مفتوحًا دلاليّاً، بل هو نمطٌ وعظيٌّ يتوجّه إلى متلقٍّ كسول يكتفي من الغنيمة بالإياب. وهذه النصوص غالبًا هي نصوصُ القراءة الواحدة، أي التي لا تَشعر بعد قراءتها بأنكَ في حاجة إلى العودة إليها مرةً أخرى. وفيها يكون التلقّي متعادلاً: أي انّ بضاعة الشاعر تساوي فهمَ المتلقّي، من غير اشتباكاتٍ أو تحريضٍ كشفيّ يُغني النصَّ. وهنا يصبح الشعرُ مساويًا للنثر المباشر.
الهدر اللغوي. هنا يصاب النصُّ بالانفلاش والترهّل والتضخّم اللغوي نتيجةً لزجّ الجُمل من دون فائدة شعرية. فما الاكتشاف الخطير في قول أحد الشعراء: "كلُّ ما هو داخلَ التابوت ميت"؟ واين الاكتشاف العلمي الجديد في قول شاعرٍ آخر: "أفتح البابَ بالمفتاح"؟ وما معنى أن يقول ثالث: "أسير على الطريق كي أصل إليك" (لماذا لا يركب التاكسي ويريحنا ويريح نفسَه عناءَ السفر؟)؟ أو أن يقول رابع: "أنام على السرير"؟ والأمثلة أكبر من أن تحصى. ومن هنا تبرز قضيةُ الكمّ الإنتاجي لهذا الجيل على حساب النوع؛ بل إنّ بعض شعراء هذا الجيل أنتج في فترة وجيزة ما يفوق ما أنتجه نصفُ جيل الروّاد!
المناسباتية والخطابية والمنبرية.  إنّ أغلب ما ينتَج نصوصٌ تقليدية ومطوّلاتٌ تهتم بالمتلقّي وبما يريده، أكثرَ من اهتمامها بالشعر؛ في حين أنّ شرعية المتلقّي لا تكفي لحمل الضعف الفني الذي أصاب هذا النمط. فالمناسباتية، والخطابية، والمنبرية، وهي من سمات القصيدة العمودية كشكل فنّي، سماتٌ أساسيةٌ لهذا النمط. ولو نظرنا إلى مهازل مسابقة كـ "شاعر العرب" التي تبثّها إحدى القنوات الفضائية، لقلنا بلا تردّد: "رحم الله الشعر!". وتتأتّى أزمة هذه القصيدة من أنها قصيدةُ محاكاة، سواء على صعيد الإيقاعية التي استُنفدت (فدائمًا تذكّرك هذه القصيدة بإيقاعات سابقة)، حتى صار لهذه القصيدة نمط واحد يتكرر بصيغ متشابهة.
أزمة نقد وإعلام. لا شك أنّ هناك قصورًا نقديّاً كبيرًا. ومردُّ ذلك إلى سببين: الأول أنّ الأسماء المعروفة من النقّاد الذين جايلوا حركةَ الروّاد ومن تلاهم، قد قَصَروا نقدَهم على الشعراء الروّاد، أو من لفّ لفَّهم: فهم لا يرون شعرًا في غيرهم، وتعاملوا بفوقيةٍ مع الشعر الجديد، ويمكن استعراض بعض آراء الناقد يوسف اليوسف في هذا السياق على سبيل المثال . والسبب الثاني: معاناة النقّاد الجدد التضييقَ الإعلاميَّ الذي يفرضه بعضُ القيّمين على المنابر الثقافية (وهي قليلة في كلّ الأحوال) على النقد الموجّه إلى هذه التجارب الجديدة. إذ إنّ عليكَ دائمًا أن تأخذ صكََّ البراءة النقدية بالكتابة عن الأسماء المعروفة إعلاميّاً، لأنّ النص النقدي ليس غالبًا هو الرائز في النشر، بمقدار الاسم الذي تكتب عنه تلك المادة النقدية. وهذا ما وقع فيه النقدُ الأكاديمي الذي مازال يراوح عند بداية النصف الثاني من القرن العشرين. يضاف إلى ذلك أنّ النقد الصحفي لا يشكّل قراءةً موضوعيةً للمشهد الشعري بسب طبيعة حجمه، وطبيعة الصحافة التي تقتضي الاستعراضَ والتعريفَ أكثر من التفصيل ودراسة التجربة دراسةً متكاملة؛ وهذا يعني أنّ التجارب الجديدة لا تأخذ حقَّها من التقييم النقدي الحقيقي الذي قد يسهم في دفع عجلة الشعر إلى الأمام. 
أخيرًا، لا شكّ في أنّ هناك عوامل أخرى خارجيةً تسهم في تعزيز أزمة الشعر، بل الثقافة عمومًا. ومنها البنيةُ الاجتماعيةُ المتخلّفة، وشرودُ المتلقي وتخلّيه عن الشعر، وتزايدُ صخب الحياة، وضيقُ وسائل الإعلام العربية بالشعر، وتسليعُ الأشياء، واستفحالُ ظروفُ النشر،...وهي كلُّها في حاجة إلى وقفاتٍ أخرى.
سورية

من قسم أبواب للحوار:
"كلما سمعتُ كلمة ’ثقافة‘ تحسّستُ مسدّسي"
فاطمة ناعوت / شاعرة مصرية
ليس من أزمة يعيشها الشعر، وإنما هي أزمةُ قارئ مات وخرج من رماده كائنٌ كسولٌ، بدينٌ، يتمدّد ببلاهة وتراخٍ أمام شاشة التليفزيون، مثلَ قطعة إسفنج تمتصّ كلَّ ما يُصبُّ في جوفها من سوائل، مُرّةً كانت أو حلوةً. هل تتوقّعون من مثل هذه المخلوقات أن تتناول ديوانًا شعريّاً، فضلاً عن المقدرة على التعامل معه؟
تشكّلت هذه الأزمة، أزمةُ القارئ أوالمثقف الراغب في المعرفة، بمعرفة الأنظمة الفاشية التي تعمل بدأبٍ على تفريغ عقول المواطنين واستلابِ أرواحهم وعقولهم تمامًا. ذاك أنّ هذا المواطن، لو انتبه وفكّر، فسوف يقوم بثورةٍ في اليوم التالي حين يتأمّل إلى أيّ مدًى يقمعه حكّامُه! لذلك استُبدِلت بالكتاب القنواتُ الفضائيةُ التافهة. واستُبدِلت بالصالونات الأدبية الرفيعة التي كان يعقدها كبارُ الكتّاب، مثل صالون العقاد وصالون طه حسين وغيرهما، غرفُ الدردشة في الانترنت ورسائل المحمول التافهة.
وفي المقابل لا يمرّ الشعرُ العالمي بأزمةٍ على الإطلاق. ولقد زرتُ أوروبا عدة مرات العام الماضي للمشاركة في مهرجانات في غير بلد، ورأيت مدى الترحيب بالشعر هناك، وكم هو حيٌّ على مستوى القراءة والتلقّي. بل إن الناس يدفعون تذاكر غالية الثمن لكي يسمعوا شعراء من كافة أرجاء الدنيا.
هكذا أستطيع أن أقول لك مطمئنةً إنّ ما تسمّيه "أزمةَ الشعر،" وأسمّيه أنا "أزمة القارئ أو المثقف الراغب في المعرفة" مردُّه الأول سياسيٌّ بامتياز، ولصالح أمرين: أولهما النظم الحاكمة. ذلك لأنكَ تقدر أن تسوسَ وأن تقمعَ جاهلاًَ أو مُستلَبَ العقل على نحوٍ كاملٍ ويسير، وأما المثقف الراغب في المعرفة أو ذو المنازع الفنية فمن المستحيل أن تقمعه. المثقف دومًا مزعجٌ للحاكم، وهو ما جعل جوبلز الألماني يقول: "كلّما سمعتُ كلمة ’ثقافة‘ تحسّستُ مسدّسي." الأمر الآخر هو المدّ الديني، الذي هو أيضًا أحدُ أوراق الحاكم يلعب بها ما يشاء ومتى يشاء لصالح أجندته.
الصراع بين شعراء النثر وشعراء التفعيلة يشبه أيَّ صراعٍ بين ما هو مطمئنّ قارّ، وما هو مناوئٌ مشاكس. حينما أسّس ماتيس المدرسةَ الوحشيةَ في الفن التشكيلي، ثار التأثيريون واتهموه بالجهل. حتى إنّ رينوار قال لماتيس مشفقًا: "يا عزيزي أنت لستَ رسامًا على الإطلاق!" ذلك أنه أدخل اللونَ الأسودَ في لوحاته، وهو ما لم يعتبره التأثيريون لونًا بل خواءٌ في اللوحة، وكان وضعُ أيّ مساحة سوداء في لوحة يُعدُّ خطأً فنيّاً فادحًا. لكنّ ماتيس وضع الأسودَ، ولوّن الرجلَ في لوحته بالأخضر، وأطال عنقه ومطّ ذراعيه، ثم أخرج لسانَه للجميع!
لن يُصلح أيُّ شيء في مجتمعنا العربي إلا بعد عودة القراءة والكتاب والمثقف واستنهاض القارئ من رقدته الطويلة. كيف يحدث هذا؟ إنه برنامجٌ طويلُ المدى يبدأ بالثورة الشرسة على كلّ سلفيةٍ وتخلّفٍ، وعلى كل النظم الفاشستية، وما أكثرها!
مصر

من قسم نصوص
أبيض
عماد فؤاد / مصر
الخفيفُ الذي يتْركُكِ وحيدةً عاريةً في فراشكْ
الكتومُ وهو يرمي إليكِ عينين تظهران من تحت هالتين سوداوين خلَّفْهما السَّهرْ
الصَّبيُّ الذي كَبُرَ على يديكِ وكَبُرْتِ على يديهِ
السِّكِّيرُ الذي تفوحُ من فمِهِ رائحةُ الكُحولِّ ودخَّانُ السَّجائرِ
الضَّاحكُ ذو القهقهةِ العاليةِ التي تُخْجِلُكِِ أمامَ الغُرباءِ
العابرُ الحائكُ المغفَّلُ البليدُ الحسِّ المتأنِّقُ ذو العطْر الذي لا يُشَمُّ إلا بالأناملْ
العطوفُ وهْو يَمِسُّ خدَّيكِ بظهرِ أصابعِهِ في لحظاتِ البكاء
الخجولُ الحَيِيُّ ذو النَّظرةِ المُنْكسرةِ وأنتِ تكيلينَ لأذنيه جُمَلَ المديحِ
المُغازِلُ الجِلْفُ الذي يتحسَّسُ فرائِسَ يعبرنَ بعينينِ تقيسانِ المُنحنياتَ والدَّوائرَ النَّاقصةِ والفالِتِ والرِّجراج
المُهْمِلُ العنيدُ الكسولُ النَّاعمُ الآمِرُ المُتردِّدُ الرَّاقصُ المُتبرِّمُ المُدَوِّنُ الماحِي الصَّبورُ ذو الأظافر الخشنةِ مثل عبْدٍ أو أجير
البكَّاءُ القانِعُ المهرِّجُ اليائسُ الطَّيبُ الغشيمُ الزَّارعُ الحاصدُ
الأبُ الطِّفْلُ الرَّؤوفُ اللاهي مع ابنكِ تحت الأسرَّةِ والمناضِدِ وفي أركانِ البيتِ
الأعمى الأصمُّ الذي يستقرئ الحروفَ بيدين تجسَّان وجهكِ المبهم
المتوسِّلُ النَّاسي سجينُ نفسِهِ النَّاظرُ إلى الحيطان كأنَّ الغيبَ كامنٌ خلْفَها
دودةُ الكتبِ ذو الأصابعِ المُحبَّرةِ وقصاصاتِ الورقِ المتناثرةِ أينما نظرتِ
النَّاحلُ الطَّويلُ المُغبَّرُ المُشَعَّثُ الأكولُ الهادئُ الرَّاكضُ
ذو الذَّقن النَّابتةِ واليد التي تُفْلِتُ ما تقبِضُ عليه
الغريبُ النَّحيفُ العصبيُّ العجولُ المتأنِّي المتمهِّلُ البطيءُ
ذو القدمِ التي تضْربُ الأرضَ كأنَّه يريدُ أنْ يفلقها
يتدحرجُ الآن في عتْمةِ السُّلَّمِ
يهوي كحجرٍ ثقيلٍ من فوق الدَّرجاتِ مسطولاً وغارقاً في صراخه ومَنِيِّهِ
فَلُمِّي أشلاءه عضواً عضواً
جرِّيه إلى فراشِكِ ونظِّفيه جيداً
أفسحي لجسده الذي ملأتهُ الكدماتُ الزُّرق مكاناً دافئاً جوارك
دثِّريه بجسمِك كأمٍّ
وأنصتي لعرشٍ يهتزُّ في الأعالي
علَّه يرتاحُ في رقدته الأخيرة.

 إعداد وتقديم: عبدالوهاب عزّاوي

المشاركون (ألفبائيّاَ): أديب حسن محمد- تمام تلاوي- سامر أبو هوّاش- سمر علوش- صلاح حسن- عبد الهادي سعدون

 علي جاز(نصّ)- عماد فؤاد (نصّ)- عمر إدلبي (نص)- محمد ديبو- ممدوح رزق- مهدي التمامي- هايل طالب

المصدر: مجلة الآداب

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...