معرض للنحت السوري

04-03-2008

معرض للنحت السوري

تضم الذاكرة التشكيلية في سورية، إلى جانب الرسم والتصوير الذي بدأت حركته مطالع القرن العشرين، مع بضعة تجارب محدودة، يمكن اعتبارها الرائدة في هذا المجال، مثلها كل من النحاتين: جاك وردة، فتحي محمد قباوة، محمود جلال.. وألفريد بخاش.

توزع إنتاج هؤلاء النحاتين الرواد، على عدة تجارب، تناولت الإنسان بصيغة أكاديمية واقعية تسجيلية، ركز بعضها على جماليات جسد الإنسان العاري، وبعضها الآخر على الوجوه والشخصيات المستوحاة من التاريخ العربي القديم والحديث. 
 تابعت حركة النحت السوري الحديث صعودها مع أسماء تالية لعل أبرزها وأهمها (سعيد مخلوف) الذي تمكّن من خلق مدرسة نحتية خاصة به، تميزت بالتلقائية والعفوية والحضور الفاعل والمؤثر في التشكيل السوري الحديث، وكان هذا النحات أول من تعامل مع جذوع الشجر، في تنفيذ منحوتاته، خاصة جذوع شجر الزيتون. كما استطاع تحويل محترفه في مدينة معرض دمشق الدولي إلى مركز استقطاب لعدد كبير من المواهب النحتية الشابة، بينها عدد من طلبة قسم النحت بكلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق، عمقوا لديه خبراتهم ومعارفهم العملية، وأخذوا عنه حبهم لخامة جذوع الشجر، واعتمادها مادة أساسية في تنفيذ غالبية منحوتاتهم منها، وقد خرج من صفوف هؤلاء، أسماء أصبحت من أعمدة النحت السوري الحديث. ‏

ولأن النحت شكل ولازال، أحد الاختصاصات الرئيسة في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق، منذ تأسيسها، فقد ساهم هذا القسم بتطوير فن النحت، من خلال تأهيله للكوادر الشابة ورفده الحياة التشكيلية بهم، مما أثر ايجابياً على واقع هذا الفن، ودفعه قدماً إلى الأمام. وقد بدأ هذا التأثير واضحاً منذ الدفعة الأولى لخريجي قسم النحت عام 1964 وكان بينهم: عبد السلام قطرميز، وديع رحمة، ثم أعقبهم منذر كم نقش، فايز نهري، نشأت رعدون... وغيرهم . ‏

تأسس قسم النحت (وكان في البداية شعبة) مع تأسيس كلية الفنون الجميلة عام 1960 من قبل النحات العربي المصري (أحمد أمين عاصم) وقد ترأسه أكثر من مرة، ثم تلاه النحات والمصور (محمود جلال) الذي كان رئيساً له أواخر الستينيات، ثم عاد النحات (عاصم) ليرأسه ويدرس فيه أواخر الستينيات ومطالع السبعينيات من القرن الماضي، ثم منتصف السبعينيات. اليوم اكتملت الهيئة التدريسية السورية فيه وفي باقي أقسام كلية الفنون الجميلة بدمشق، وبدأت سورية بإعارة عدد منهم إلى الدول العربية كالأردن والإمارات وليبيا والسعودية، ومن بينهم أساتذة من قسم النحت الذي تمكّن من تخريج مئات النحاتين المزودين بالخبرة والمعرفة النظرية والعملية، ولازال هذا القسم الذي يرأسه النحات محمود شاهين منذ ما يربو على ثماني سنوات، يؤدي هذه المهمة بجدارة ، وقد رفد هؤلاء الخريجين الحياة العامة السورية بعطاءاتهم فغطوا جانباً من حاجتها إلى هذا الاختصاص، كما ساهموا بتطوير الفنون التشكيلية السورية، مؤسسين لحركة النحت الحديث الذي بدأ يفرض وجوداً قوياً وفاعلاً فيها. 
 فمع قدوم النحات العربي المصري (أحمد أمين عاصم) أواخر العقد السادس من القرن الماضي للتدريس في قسم النحت بكلية الفنون الجميلة بدمشق، بدأت تتشكل الملامح الجديدة الأولى لهذا الفن في سورية. ومع مطالع العقد السابع، زاد ورود عدد النحاتين الشباب إلى الحياة التشكيلية السورية، خاصة من خريجي قسم النحت ومنهم : فواز البكداش، عبد الله السيد، أحمد الأحمد، محمود شاهين، نزارعلوش، محمد ميرة، فؤاد طوبال علي. ثم تعززت حركة النحت بأسماء جديدة درست النحت في دول أخرى منهم : عدنان الرفاعي، وحيد استنبولي، عبد الرحمن مؤقت، مجيد جمول، عاصم الباشا، بطرس ولطفي الرمحين وغيرهم . ‏

وهكذا بدأت تنهض حركة جديدة للنحت السوري الحديث، ويستقيم عودها، لتثبت حضوراَ مميزاً بين أجناس الفنون التشكيلية الأخرى، خاصة منها التصوير الذي كان ولا يزال، هو الغالب والمسيطر على هذه الفنون جميعاً . كما ساهم المعهد المتوسط للفنون التطبيقية الذي يتبع وزارة الثقافة (استحدث في دمشق عام 1987) ويضم بين اختصاصاته قسماً للنحت، برفد حركة النحت السوري الحديث، بأسماء شابة جديدة، بدأت تشكل دفعاً حقيقياً لها، وكل ذلك في إطار النهوض الشامل الذي تحقق لسورية، في كنف الحرية والأمن والاستقرار الذي شهدته خلال العقود الثلاثة الماضية، وهذه الأقانين الثلاثة أهم شروط ازدهار الإبداع وانتعاشه. ولعل خير ما نسوقه على تطور حركة النحت السوري الحديث، كماً ونوعاً، ما يضمه المعرض السنوي للفنانين التشكيليين السوريين كل عام، من أعمال النحت المتنوعة أسلوباً وخامة وموضوعاً، إضافة إلى الأعمال النصبية الاعتبارية والتزينية التي بدأت تتكاثر بشكلٍ لافت، في مداخل المدن والبلدات السورية، وفي الحدائق العامة، والساحات والشوارع وواجهات الأبنية وغيرها، مفردة أحياناً، ومقرونة بالنحت النافر، واللوحات الجدارية المنفذة بأكثر من مادة وخامة أحياناً أخرى . ‏

فقد بدأت أعمال النحت بشتى أنواعه، ولأول مرة منذ سنوات طويلة، تشكل قرابة ربع ما يضمه المعرض السنوي من أعمال الفنون التشكيلية، ما يشير بجلاء، إلى توسع قاعدة هذا الفن، وكثرة المشتغلين فيه، وتالياً ازدياد عدد مريديه ومتذوقيه . 
 ‏ وهكذا، وشيئاً فشيئاً، تتواتر قوافل النحاتين إلى الحياة التشكيلية السورية، لتساهم مع من سبقها، في تطوير هذا الفن، وتعميق مساره، والنهوض بأجناسه واتجاهاته المختلفة . ‏

من الأسماء الجديدة التي دخلت حقول فن النحت السوري الحديث، في العقدين الأخيرين من القرن الماضي : أكرم وهبة ، وحسين يونس، وصادق الحسن ، وكراسيلا بريدي ، وإحسان العر ، وسمير رحمة ، ومحمد عمران وغيرهم ممن تأهلوا أكاديمياً في كلية الفنون الجميلة بدمشق ، وبعضهم تابع تخصصه العالي في دول أخرى ، وثمة أسماء جديدة ، درست النحت بشكلٍ حر ، أو درست ضروباً أخرى من الفنون التشكيلية ، وتوجهت إلى ممارسة فن النحت ومن هؤلاء : سهيل بدور ، وعفيف عمر آغا ، وجميل قاشا ، وفيصل الحسن ، ومعروف شقير ، وشفيق نوفل ، وممدوح الحناوي ... وغيرهم . ‏

إن نظرة متأملة فيما يقدمه المعرض السنوي للفنانين التشكيليين السوريين كل عام، من أعمال نحتية، تؤكد بجلاء، تنامي هذا الفن وتطوره، وهو فن يتحرك بين قطبي الواقعية والتعبيرية، بعيداً عن الصرعات والمبالغات التجريدية العابثة، كما بدأ يتخلى عن الصيغة التزينية الزخرفية التي أحكمت قبضتها، في مرحلة من المراحل، على نتاج عدد من النحاتين الشباب . ‏

من جانب آخر، يتعامل النحت السوري الحديث مع كل الخامات والمواد والتقانات، ومع كل الأساليب والاتجاهات الفنية المعقولة والمقبولة والمفهومة، فهناك الأعمال النحتية المنفذة من الرخام والحجر و الحجر الصناعي والبرونز والخشب والبوليستر والطين المشوي والخزف. والتنامي المتعاظم لهذا الفن، يشـمل المنحوتة الصالونية الصغيرة والعمل النصبي الكبير في آنٍِ معاً . واللافت عودة العديد من النحاتين المعروفين إلى الإنتاج والعرض، وهؤلاء كانوا قد توقفوا عن إنتاج العمل النحتي الذي يحمل صبغة البحث الشخصي، كما أن تجارب عديدة، تحمل تواقيع نحاتين جدد، بدأت تحضر بكثافة في المعارض الجماعية الجديدة ومنهم: موسى الهزيم، شحادة لبش، أمل زيات، بشار نوفل، عادل خضر، مروان ملاك، عيسى ديب، حسان حرفوش، فؤاد نعيم... وغيرهم . ‏

من جانب آخر، بدأت تتواتر، وبشكل لافت للانتباه، ملتقيات النحت المحلية والدولية في سورية، وهذا مؤشر هام وإيجابي، لبداية نهوض كبير ينتظر فن النحت السوري الحديث، النصبي والميداني والتزيني، خاصة وأن غالبية هذه الملتقيات تتخذ من الحجر السوري مادتها الرئيسة، ومن أبرز خصائص هذه الخامة، تآلفها مع الطبيعة التي جاءت منها، وتألقها الساحر في الهواء الطلق، بين خضرة الأرض وخضرة الشجر وزرقة السماء، وهذه الملتقيات تشكل رافداً جديداً وهاماً لفن النحت السوري وتساهم في تطويره وتقريبه من القطاع العريض من الناس . ‏

بداية هذه الملتقيات تبنته محافظة دمشق عام 1997بمبادرة من فرع دمشق لنقابة الفنون الجميلة، ثم تتالت هذه الملتقيات فأُقيم في العام 1998 ملتقى (الديماس) وفي العام نفسه أُقيم ملتقى النحت الدولي الأول في اللاذقية، ضمن مهرجان المحبة، ثم ملتقى محافظة دمشق الثاني، وآخر في الديماس، ثم في حلب والقنيطرة، وفي العام 2002 أُقيم في اللاذقية الملتقى النحتي الدولي الثاني، وفي المدينة الجامعية بدمشق، أُقيم ملتقى النحت الأول لأساتذة قسم النحت بكلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق، ثم الملتقى النحتي الأول للمؤسسة العامة للمعارض والأسواق الدولية، أعقبه في العام التالي الملتقى الثاني للمؤسسة نفسها، ثم جاء ملتقى الشجرة الأول في محافظتي اللاذقية وطرطوس، وآخر هذه الملتقيات أُقيم العام الحالي (2004) في محترفات قسم النحت بكلية الفنون الجميلة، شارك فيه كل أعضاء الهيئة التدريسية في القسم، وكان مخصصاً للنحت النافر. واستكمالاً للدور الهام الذي تؤديه هذه الملتقيات ، يتطلع قسم النحت بكلية الفنون الجميلة بدمشق ، إلى ربط مشاريع طلبته بخطط ومشاريع الدولة العمرانية والتنظيمية التي تشمل العاصمة دمشق وباقي المحافظات والبلدات السورية ، وحتى القرية الصغيرة التي جاء منها طالب النحت ، لكي تأخذ هذه المشاريع طريقها إلى أرض الواقع ، بالتنسيق مع الجهات المعنية . وهناك خطة لربط مناهل المياه والبحيرات التزينية المنتشرة بكثرة في المدن والبلدات السورية، بالأثر النحتي والفني المناسب . أي إيجاد بدائل للمواسير المعدنية، تؤدي الوظيفة نفسها، إنما على شكل منحوتة تبهج العين، وترطب الإحساس، وتُرضي العقل . وثمة خطة أخرى لنشر الآثار النحتية القديمة المتفردة فنياً ودلالياً، والموجودة في المتاحف السورية المختلفة، عن طريق تكبيرها وتوزيعها في أماكن وجود الناس، خاصة وأن غالبية هؤلاء لا يزورون المتاحف، وبنقل نسخ مكبرة من هذه الأعمال النحتية الهامة إلى أماكن وجودهم الدائم، والتعريف بها، نكون قد نقلنا المتحف إليهم، وحرضناهم على زيارته واكتشاف باقي كنوز الوطن التي يضمها . كما أن احتكاك المواطن بالأثر الفني، بشكل يومي، يكرس الثقافة الجمالية البصرية لديه، لما للعمل النحتي الفراغي من تأثير كبير على عواطف وأحاسيس وفكر الإنسان. 
 هذه المعطيات مجتمعة، تشكل رافعة لحركة النحت السوري المعاصر، لابد أن تُطَوِره، وتزيد من انتشاره، وتزيل الغربة بينه وبين الناس. ‏ أما على صعيد فن الخزف الذي يعتبر شكلاً من أشكال فن النحت، أو تابعاً له، حيث التصق به منذ بداياته الأولى، ولازال ينمو ويتطور في كنفه، مستفيداً منه، ومُفيداً له، في آنٍ معاً . فقد عمل في هذا المجال، العديد من الفنانين السوريين لعل أبرزهم : هشام زمريق ، عبد الله عبد الغني . ثم جاءت أسماء أُخرى منها : عماد اللاذقاني، آمال مريود، اميلي فرح، راجي الياس، رأفت الساعاتي . كما عمل في هذا المجال، عدد من النحاتين منهم : عبد السلام قطرميز ، محمود شاهين، أحمد الأحمد ، نزيه الهجري، فواز بكدش، سمير رحمة . بعدها جاءت أسماء واعدة ونشيطة إلى فن الخزف السوري منها : سناء فريد ، محمد الياس، حلا أحوش ... وغيرها.‏

د. محمود شاهين

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...