حنا مينه: ذكريات وشيء من التاريخ

20-11-2010

حنا مينه: ذكريات وشيء من التاريخ

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، تفشت بين الأدباء التقدميين، أو الذين يدّعون التقدم، موجة من الانتشاء بالنصر على النازية والفاشية، استعلنت في كتابات أطلقوا عليها اسم الواقعية، وهي من الواقعية كمدرسة للتعبير الأدبي الخلاق، بريئة تماماً، كونها واقعية مسطحة، مباشرة، فجة، تقريرية، لا روح فيها ولا اختلاجة جارحة، تمتّ إلى أدب الواقعية بأية صلة، محشوة بالشعارات البائخة، والمدائح السقيمة، والألفاظ التي تبدأ وتنتهي بتسقيط الاستعمار، بريطانياً وفرنسياً في ذلك الوقت، وتعييش الجدانوفية الستالينية، تحت ستار «أن الأدب كان مسؤولاًً!» ومسؤولية الأدب العربي، آنذاك محاربة الامبريالية بإطلاق مدافع الشتم عليها بقنابل من عفن، وسماجة وجلافة ومناصرة التقدم بقنابل مماثلة، ومحبة الشعب الجوفاء، دونما التفات إلى السوية الفنية كي يكون الأدب أدباً إبداعياً، يعطي دلالته من قلب الحدث لا من خارجه ويقدم المتعة والفائدة للقارئ على نحو ما هو فني يصدر عن الذات الابداعية، في عملية الالتزام التي نادى بها جان بول سارتر، وذاعت في الأوساط الأدبية التقدمية، عربياً ودولياً، أو فهم الواقع وكيفية ما سمي بالانعكاس، كمقولة نظرية تبقى صحيحة، لولا التشويه الذي لحق بها، وأدى إلى نوع من الميكانيكية، في انعكاس الواقع، الذي هو كل شيء، في الذات وصيرورته، في الصدور عنها، واقعاً فنياً مقابل أدب الرومانسية، الذي مثله عبد الحليم عبد الله، في مصر وتجلى في أدبه وفي روايته «شجرة اللبلاب» خصوصاً، دون أي محتوى له هدف أصيل.

إن الرومانسية تظل في التعبير الأدبي ضرورية إلا أنها ذات شقين: يأسوي وثوروي، وكانت الرومانسية الشائعة في النصف الأول من القرن العشرين، رومانسية سوداء، دون أي أفق مفتوح على طيف من بياض، ولم تلبث، هذه الرومانسية النائمة، أن أخذت بالتلاشي، أمام فجر الواقعية الرومانتيكية الذي بزغ مع «زقاق المدق» لنجيب محفوظ، و«الأرض» لعبد الرحمن الشرقاوي، و«المصابيح الزرق» لحنا مينه، وبعد ذلك تلألأت أنوار هذه الواقعية الرومانتيكية في ماتلاها من إنتاج روائي إبداعي، في مصر وسورية وسائر البلدان العربية. ‏

وفي العام 1951، وبمبادرة من أبرز الكتاب السوريين، صدر بيان في دمشق، يحمل توقيع «رابطة الكتاب السوريين» يبشر بولادة أدب جديد، شعاره السلم والحرية والانفتاح على سائر المدارس الأدبية التي كانت سائدة في ذلك الوقت، وقد ضمت هذه الرابطة، من بين من ضمت، سعيد حورانية، أحد مؤسسي القصة القصيرة في سورية، والشاعر شوقي بغدادي، والأخوين مواهب وحسيب كيالي، والشاعر المرحوم وصفي قرنفلي، صاحب قصيدة: «ياشعب، ياشعبي، وبعض القول لا يُحكى فيضمر» والكاتب اللامع المرحوم وصفي البني، وحنا مينه صاحب رواية «الشراع والعاصفة» والمرحوم إحسان سركيس المتخصص في الدراسات الأدبية، العميقة بمضمونها التاريخي والإنساني، وغيرهم، مثل القاص صلاح دهني، والمؤرخ نبيه العاقل إلخ.. ‏

إلا أن هذه الرابطة، لم تبق سوريّة الحد والحدود، بل انداحت دوائرها إلى الوطن العربي كله، ففي شهر أيلول، من العام 1954، عقدت هذه الرابطة مؤتمرها الأول في دمشق، وكان مؤتمراً للأدباء العرب فريداً من نوعه، جمعت له التبرعات من كل المثقفين، ومن كل محبي الأدب، وأخلى أعضاؤها بيوتهم لاستضافة المدعوين، الذين وفدوا، بعدد كبير من لبنان، متنوع العبقريات، متنوع الإبداعات، وفي المقدمة شيخ الأدباء المرحوم مارون عبود، والعلامة العارف عبد الله العلايلي، والمفكر الشهيد، صاحب موسوعة «النزاعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية» حسين مروة، والناقد والكاتب المعروف محمد دكروب، وآخرون، وحضر من مصر يوسف إدريس، تشيكوف العرب، مع قصته الشهيرة «الطابور» التي سجن من أجلها بعد عودته إلى مصر، ومعه الكاتب المصري الذي كان يعيش في المنفى أسعد حليم، ومن العراق الشاعر الكبير المرحوم عبد الوهاب البياتي، ومعه كوكبة من كتاب العراق، ومن الأردن الدكتوران عبد الرحمن شقير ونبيه رشيدات، ومن البلاد العربية أسماء لامعة في دنيا الإبداع، وفي هذا المؤتمر تحولت «رابطة الكتاب السوريين» إلى «رابطة الكتاب العرب» وانتخب الشاعر والقاص شوقي بغدادي أميناً عاماً لها، وأصدرت الرابطة الجديدة، في ختام مؤتمرها هذا، قرارات وتوصيات بالغة الأهمية، نبهت الحكام العرب آنذاك، إلى أثرها وخطرها، في احتضان المبدعين العرب، فبادروا، في العام نفسه، إلى عقد المؤتمر الأول، الرسمي، للكتاب العرب، في مصيف «بيت مري» في لبنان، الذي صار، منذئذ مؤتمراً سنوياً رسمياً مستمراً حتى الآن. ‏

إن التاريخ الأدبي في سورية، وفي الوطن العربي، سيحتفظ، في صفحاته البيض، بالوقائع الرائعة، الكاملة، لهذه الرابطة، وأحسب أن هناك دراسات وضعت، أو هي في طريق الوضع، عن هذه االرابطة، وثمة عدد خاص من مجلة «الثقافة الوطنية» اللبنانية، عن مؤتمر «رابطة الكتاب العرب» هذا، فيه كل الوثائق لمن يرغب في الإطلاع عليها، أو الدراسة حولها. ‏

هكذا شدا بنا الشادي على الإيك والبان معاً، ففي الشدو تنتصر أغانينا، وتخضر مراعينا، وتأخذ بنا، شبابة الراعي، إلى مغانينا، كفاء ماقدمنا إلى وطننا وشعبنا العربيين. ‏

إن الإبداع العربي يبقى، إحدى نعميات من يرغب، في أن تكون الثقافة واجهة حضارية لنا، في كل عواصمنا، وأن يكون لهذه الثقافة حضور في العالم، كما لثقافات العالم حضور لدينا، وعندئذ ندرأ خطر العولمة الثقافية الزاحفة، في غزو مدمر، إلينا.

حنا مينه

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...