المثقف والسفر: ثلاثية الحقيبة والكتاب والطريق

05-06-2015

المثقف والسفر: ثلاثية الحقيبة والكتاب والطريق

«نحن أحياء بقدر ما نسافر». ذلك ما قالته الناقدة السورية خالدة سعيد قبل ربع قرن، وما زال صداه يتردد في أعماقي حتى اليوم، بل يتأكّد ويزداد عمقا ودلالة – يقول الناقد والروائي السوري نذير جعفر ويضيف: «السفر سواء كان مجازيا عبر الكتب والذاكرة والمخيّلة والحلم، أم حقيقياً عبر قطع المسافات والاحتكاك بالبشر والأمكنة على تنوّعها، هو مركبة المبدع والمثقف لاكتشاف ذاته والعالم ومعرفتهما».
أن تسافر يعني أنك تزداد غنى وخبرة بنفسك وبالناس من حولك، ويعني أنك تمتحن ذاتك والآخر، والصورة التي كونتها عن وجودك وعالمك - يعقب جعفر ويضيف:. «لا يمكن لي تصور مثقف لا يسافر مجازا أو حقيقة، فالسفر يعزّز تجربته وفهمه لميول الناس ودوافعهم وسلوكهم ومعتقداتهم وأفكارهم، وللصورة التي كونها عنهم وكونوها عنه وعن وطنه، فينفي ويؤكد ويوسّع ما اكتسبه وما افترضه وما اعتقد أنه صواب أو خطأ، ولعل ذلك ما دفع مارك توين للقول: (السفر يقهر التحيز والتعصب وضيق الأفق)».
ربما ذلك ما جعل غسان كنفاني يميز في روايته: (رجال في الشمس) بين نوعين من البشر: من دخل (مقلاة الحياة) ومن بقي على أطرافها. وربما كان السفر هو تلك المقلاة التي لا بدّ للمثقف والمبدع من دخولها!
يبدأ الكائن رحلته وحيداً بسفر من الرحم الهادئ إلى صخب هذا العالم؛ وينهيها وحيداً أيضاً في سفره الأخير إلى العالم الآخر نحو مستقره الأبدي! وما بين الرحلتين سفر من الخالق وإليه - يضيف نذير جعفر ويقول: «ومن الوطن الأول (مسقط الرأس) وإليه، وما أقسى الغربتين في هذا السفر، غربة الروح، وغربة الأوطان؛ فلقد سافرتُ إلى أربع مدن ساحرة (استانبول، وأثينا، والقاهرة، وبيروت) وفي كل منها اكتشفت خيطاً رفيعا يشدني إلى حلب، و لكأن حلب كانت كل تلك المدن! فهل كنت أفتش عنها وهي في داخلي»؟!
لكن هل تكمن متعة سفر المثقف والمبدع في زيارة المتاحف والقلاع والأوابد الأثرية، والمعابد القديمة، والحدائق أم في أشياء أخرى؟. يعتقد نذير جعفر أن «متعة السفر تقع في مكان آخر، في الاحتكاك بالبشر عبر الأسواق والأرصفة والحانات والمقاهي والحارات القديمة والعشوائيات؛ حيث الانغماس في وحل الحياة بحثاً عن الحكمة الضائعة، أو حجر الفلسفة، فلسفة الحياة، ومذاق السعادة الحقيقي» فيما يرى الشاعر والناقد ياسر إسكيف أن «الأمكنة رسائل مُغفلة ركنَ الزمنُ مفاتيحها في الزوايا التي لا تطالها عين العابر المأخوذ بفتنة ِ التنقّل ِ فحسب. وكأنما للسفر أكثر من وجه، أحدها يمثّلُ انتقال في المكان، وآخر في المكان والزمان. في الأوّل لا يكون الانتقال أكثر من وسيلة؛ فيما الزمن مُجرّد فيزياء تحكم الانتقال وتشير إلى سماته ِ الحركيّة؛. وأما في الثاني - كما يرى اسكيف: فيغدو الانتقال غاية بحد ذاته، والطرق سطور في كتاب، حيث يتجدّد الزمن، ومعه تتجدّد خصائص المكان بتكشّف الغنى والثراء، وتصبح كلّ محطة لحظة تفاعل ينتجها الالتقاء بين ذات تحاول الكشف والتبصّر، وأخرى تستعصي على البصر الكليل».
العين التي أقصد ليست عينُ كلّ مُبدع - يتابع اسكيف شرحه للسفر كما يحلو له أن يتكلم عنه: «عين أولئك الذين يسافرون في المكان ولا ينسون الزمن، وهؤلاء غالباً ما يكون سفرهم اختيارياً بقصد الكشف والاطلاع والمعرفة، أو أنهم يستنطقون السكون من حالة الحركة. ولكنّ همّاً معرفيّاً واختباريّاً كهذا تنتجهُ الوفرة، وتحرّضُ عليه. وهذا ما يفتقرُ إليه المُثقّف العربي عموماً، إذ أنهُ دوماً تحت خط الحاجة إنسانيّاً ومعرفيّاً واقتصاديّا، ولهذا يكون سفره دوماً إمّا مأجوراً، بدعوة من هنا، وأخرى من هناك. أو سفر قسريّ بضغط من شروط العيش الإبداعي الذي يتعاظم في مناخات العسف والرقابة والمصادرة، والذي يتّخذ وضعية الهجرة، أو الاغتراب. من دون أن نغفل هجرة سفر غايته الأساسية تحسين شروط العيش المادية بالدرجة الأولى».
بهذا يتساوى المثقف مع أي فرد آخر؛ إلا حينما يستغل شرط عيشه الجديد لإغناء مشروعه الثقافي عامّاً كان، أم خاصّاً، هذا على فرض أن لديه مثل هذا المشروع، وليس مشمولاً بالتصنيف على أساس الشهادة العلمية وطبيعة العمل.
السفر في الربيع العربي
 وإذا كان من سفر أو هجرة يستحقّ الكثير من التوقف عنده، وتأمله، فهو السفر الذي مارسه المثقفون العرب عموما، والسوريون خصوصا، كنتيجة لظاهرة (الربيع العربي)، حيث باتوا غرباء ومهدّدين في أوطانهم، لأكثر من سبب، وغرباء حيث استقروا - يتابع ياسر اسكيف: «الأمر الذي يشير إلى أنهم، وحتى وقت ليس بقريب، لن تكون لهم علاقة المُثّقف بالمكان الزمان، المُفترض بها أن تقوم. إذ باتت حياتهم مُجرّد دفاع عن شرعيّة وجودهم في مكانهم الجديد، وتبرير لحالة الانتقال التي قاموا بها؛ مع إدراكهم الواضح بأن الموقفين (الدفاع، والتبرير) ليسا غير الثمن المطلوب لهذا الحيز في المكان الجديد. هذا الحيز الذي لطالما حلم الكثيرون به ولم يكن بمتناولهم. واليوم يُقدّم لهم على طبق من عويل. طبق لن يسعفهم في المدى المنظور على عيش تجربة الحوار بين مكانين وزمنين؛ وذلك لسبب شديد البساطة والوضوح يُختصرُ بغياب الضرورة وافتقادها».
لم أترك سوريا كرهاً لها ولا حباً بأوروبا، سفري لم يكن مخططاً له - يقول الشاعر إبراهيم حسو ويضيف: «هذا السفر لم يكن على رأس لائحة حياتي المقبلة، لقد سافرتُ لأمتحن نفسي مشقة مغامرة ملتبسة، مغامرة البقاء على قيد وطن يذوب وينهار ككمشة تراب في يد طفل، وأنا الذي حاربتُ كل الذين تركوا سوريا؛ وخاصة هؤلاء المبدعين، كنتُ أعيش كل لحظات الحرب في دمشق مع قذائف الهاون ولعبة القنص المسلية على أطرافها، عائدا إلى القامشلي حيث تجربة أخرى مع الارهاب الأسود (داعش)».
عاش إبراهيم حسو كما يقول: «خوفان طويلان، نزفتُ وقتها حياة بكاملها عبر كتاب أصدرته في بيروت لم احصل منه على نسخة لصعوبة ظروف التنقل إلى هناك، عشتُ تجربتي في السفر الدائم إلى دمشق كزائر يفترض به أن يعود بعد أن ينال نصيبه من حنين و حب الحارات الدمشقية القديمة؛ والأنشطة الثقافية الصعبة التي كانت زاخرة ومشوقة ومشبعة بكل الطيف الجمالي؛ وبعدها وبحكمة شاعر مغامر أحمق - يتابع حسو - انتقلتُ إلى أوروبا تائهاً في غابات بلغاريا وجبال صربيا حاملاً في حقيبتي كتاباً شعرياً لمحمود درويش (أثر الفراشة) وبعض أوراق عبارة عن نصوص مختارة من قصائدٍ كتبتها بين دمشق والقامشلي و تركيا».
هكذا خاض الشاعر إبراهيم حسو تجربة الانتقال إلى بلادٍ أو «متاهة نادرة هي ألمانيا»- كما يسميها، حيث تتمة الحكاية الأليمة التي يرويها حسو للسفير معقباً: حكاية أرويها لروحي اليابسة، حكاية شاعر يريد صياغة حياة أخرى، وقصص أخرى عن وطن وأرض وسماء تائهة، و بلمحة خيال اقتحمتُ متاهات الأرض كلها، أنا الذي كنت أتنعم بحرية شخصية في بلدي رغم هجرة الكثير ممن عايشني وعايشته من شعراء ومثقفين، اليوم أنا في طريق آخر أكثر وعورة من طرق بلادي، أحقق حرية ليست حريتي، حرية بمقاس ليس مقاسي، لقد كان ميلي أن أجد ضالتي في الكتابة هنا، حيث ثقافات متعددة في تحدِ لا ينتهي ولن ينتهي، بأن أجدد حياتي وحياة أسرتي وأبدو كاتباً صحافياً جديراً في صحيفة مغمورة، مغمورة؟؟».
فضاءات جديدة
 الكاتب يوسف الجادر يعود بذاكرته إلى أول يوم سفر عاشه مع أبيه منذ عقود، ويقول: «لحظتها عرفت أن ليس باب بيتنا الوحيد من تتوسطه (سقاطة) بحجم كف أخي الأكبر، وأن ليس شارعنا الوحيد الذي تتعدد وظائفه في اللعب والجنون والتخفي واللجوء تحت شرفاته من حرّ الشمس وقسوة المطر، ومراقبة المارة من الجالسين على كراسي القش». من يومها وأنا أكتشف في السفر فضاءات جديدة - يعقب الجادر ويضيف: «لون البشرة، ملامح الوجوه، لكنات اللهجات، سحر العيون الممتدة من الشمال إلى الجنوب؛ تيقنت بعد عقود أن المثقف بلا سفر كأي مؤلف موسيقي تتيبس نوتاته في المجلد إن لم تُبلل روحها أنامل وحواس عازفي الأوركسترا، وكأن السفر أصبح عندي ترجمة الفكر في ذروة الإبداع، والغوص في تفاصيل الأمكنة وزواياها المتعددة».
السفر عند المثقف ليس سياحة بقدر ما هو فسحة للبوح لافتقاد المسرّة - يعقب يوسف الجادر ويضيف: «وهو ليس اكتشافات دروب جديدة بشكلها الفيزيائي، بل هي دروب المتعة والبهجة والمعرفة للروح والفكر؛ فلكل مدينة أكتشفها، كأي امرأة أعشقها بعد تشرد وجنون، وأطوي أزقتها وزواريبها وأمكنتها الفخمة كورقة صغيرة أضعها في جيب ذاكرتي، فللمدن أسرارها وخواتيمها.
المخرج المسرحي أحمد كنعان له رأي آخر في السفر إذ يقول: بالتأكيد ليس الكتاب هو المصدر الوحيد للمعارف.. البلدان الأُخرى وأقصد طرائق التفكير المختلفة والأساليب الجديدة بالتعاطي مع الحياة فيها تشكّل مصدراً غنياً وغزيراً للمعرفة وللثقافة والارتقاء بالفهم والسلوك؛ ومن هنا يمكن التسليم بمقولة (السفر ثقافة) ولكن السفر لا يعني فقط الانتقال إلى بقعة جغرافية جديدة وإنما يعني الاستسلام والخضوع لروح المنطقة الجديدة والعيش فيها بطريقتها.. فإذا سافرت وأخذت بلادك معك؛ اعني طريقة تعاطيك مع الحياة فكأنك لم تسافر.. لاحظ تلك الطاقة المدهشة في (سرير الغريبة) أجزم بأنها ما كانت لترى النور لولا زيارة درويش لدمشق».

سامر محمد اسماعيل

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...