الثنائيات القاتلة

05-09-2013

الثنائيات القاتلة

الجمل- د. مالك سلمان:

 " الثنائيات: بُنى رمزية تكمن أهميتها في التوتر القائم بين مكونَين, حيث يمتلك كلٌ من هذين المكونَين بمفرده قدرة تعبيرية أقل. وقد اتكأت رسومات الكهوف في العصر الجليدي على برنامج ثنائي. ويمكن لأزواج من أي نوع من المتضادات أن تشكلَ أساسَ تصنيفات قطبية مماثلة: النهار/الليل, الرجل/المرأة, الحياة/الموت, الحيوان/الإنسان, وفي الصين القديمة الين/اليانغ (أي, بشكل تقريبي, الخصوبة/النشاط), السماء/الأرض, الله/الشيطان, أعلى/أسفل, الطهارة/الخطيئة, الشمس/القمر, وفي الخيمياء الكبريت/الزئبق (أي, مادة محترقة/مادة متطايرة). من الواضح أن الترتيبَ المتكرر للعالم في بُنىً ثنائية جديدة هو, في حد ذاته, "طراز بَدئي" كما أنه كوني. إن أصلَ هذا الميول في ترتيب المادة على أساس المتضادات غير معروف. من المحتمل أن يكون اختبارُ الذات للعالم الخارجي, في بداية تاريخ العرق البشري, هو الذي شكلَ أساسَ تقسيم الكون إلى أزواج من المتضادات التي يواجه أحدُها الآخر. لكن الفرضية الأكثر شيوعاً, والتي تنظر إلى ثنائية الجنسين بصفتها المحرضَ البَدئي, قابلة للنقاش. وفي العديد من المجتمعات الأمية, نرى المجتمعَ مقسماً إلى نصفين متكاملين محدَدَين بالدين. وتظهر الساحة السياسية الجديدة, في العادة, حزبين قويين متعارضين. وتقسم الديانات الاستبدادية العالمَ إلى مؤمنين و "زنادقة" (أولئك الذين لا يحملون نفس العقيدة). إن هذه النظرة العالمية المكونة من الأطروحة (بما في ذلك الذات) والنقيض دينامية في الطبيعة وهي متجذرة بعمق إلى درجة يمكن ألا تسمحَ لأي تركيب مثالي بحلِ مثل هذه الثنائية. وفي التمثيلات التصويرية, يتم تقديم هذه الثنائيات عبر أزواج مثل النسر/الأفعى, أو التنين/قاتل التنين."
هانس بيدرمن, "قاموس الرموز: الأيقونات الثقافية والمعاني الكامنة خلفها" (نيويورك: ميريديان, 1994), ص: 105-106 (بالانكليزية).
* * *
من الواضح أن "العقل البشري", وهو واحد في أطره المفاهيمية الكبرى, عاجز بنيوياً عن الإفلات من عقال هذه الثنائيات الضدية, من حيث فشله في إنتاج تصور مفاهيمي لعلاقة الإنسان بالعالم خارج حدود أطرٍ تبسيطية وساذجة, مقيَدة ومقيِدة في الوقت نفسه. وعلى الرغم من جميع الادعاءات المتعالية – التي تمت فبركتها عبر الدين والفلسفة والأدب والفكر السياسي – حول مفاهيمَ مزيفة مثل "الحرية" – بمفهوميها الوجودي والسياسي – و "الديمقراطية" و "التعددية", إلى آخر السلسلة, إلا أن البنية العقلية الإنسانية بقيت "مانَوية" بامتياز.
كما أن تصور العالم بناءً على ثنائيات ضدية ليس مجرد قضية تصنيفية صرفة؛ إذ إنه ينطوي – في نهاية الأمر – على أحكام قيمة ترسخت عبر العصور ودفعت ﺑما يسمى "الثقافة" إلى هامش ضيق لا تُحسَد عليه. فالخير والشر, والأبيض والأسود, والمرأة والرجل – على سبيل المثال, لا الحصر – ليست مجرد تصنيفات قطبية توصيفية, بل هي استدعاء للانقسام الذي يفرض النزاع والمواجهة. وقد عملت الأديان, وخاصة الحديثة منها, على تجذير هذه القطبيات وربطها بالمقدس الخالد بحيث صادرت القيمة والمعنى إلى يوم الدين.
* * *
تجسدَ مشروع الحداثة الغربية, في عمقه الفلسفي, في محاولة لتحطيم هذه الثنائيات الضدية عبر محاولته إعادة تشكيل العالم على أسس جديدة أكثر دينامية وتفاعلاً. فقد بلغت الجرأة بهيغل لأن يعلنَ, في كتابه "فينومينولوجيا الروح", أن عصر "الأنوار" هو "ولادة جديدة" و "مرحلة انتقالية" لأن "روح الإنسان انفصلت عن النظام القديم للأشياء, وعن طرق التفكير القديمة ... إن روحَ الأزمنة القديمة ... تتفكك قطعة بعد قطعة وتتداعى من بنية العالم القديم. ... ومن هذا التداعي التدريجي والتفتت ستشرق الشمس التي ستكشف, ببريق ساطع وضربة واحدة, عن شكل العالم الجديد وبنيته." كما أن سورين كيركوغارد زعم أن الحداثة الآتية هي أشبه بذيل أفعى مجلجلة, حيث يفقد الله والشيطان, الخير والشر, السماء والأرض, الأبيض والأسود ... هوياتهم المنفصلة. 
* * *
بعد حروب وصراعات دامية (جميع الصراعات هي صراعات على "المعنى") أودت بملايين البشر في حربين عالميتين همجيتين, انقسم العالمُ إلى معسكرين اثنين: المعسكر الغربي, والمعسكر الشرقي, انقسام أدى إلى استقطاب كوني ينطوي على ثنائية ضدية تعيدَ إنتاج كل ما عرفه "العالم القديم" الذي أعلن الشيخ هيغل تفككه وموته.
وفي مطلع القرن الواحد والعشرين, أطلَ علينا فيلسوفا العصر الحديث, الذي بشر به هيغل وكانط وآخرون: جورج بوش الابن, وأسامة بن لادن. كان كلٌ منهما قد قسمَ العالمَ بأناقة إلى معسكرين: إما أن تكون معي, أو أن تكون ضدي. ومن المثير للاهتمام أن كلا الرجلين أسس ثنائيته على أرضية دينية. (قدم الصحفي, الذي كان لامعاً آنذاك, طلال سلمان تحليلاً ممتعاً لخطابي بوش وبن لادن الشهيرين, في صحيفة "السفير). وبين واشنطن (دي سي) وتورا بورا (دجي دجي) انتصب خط من النار كان مطلوباً من العالم أن يختارَ مكانه عليه.
* * *
لاحظوا اليوم آلية عمل الديمقراطية الغربية في أبهى تجلياتها. هناك "الحزب الجمهوري" و "الحزب الديمقراطي", في الولايات المتحدة الأمريكية, و "حزب المحافظين" و "حزب العمال" في بريطانيا, وثنائيات حزبية أخرى كثيرة تستنسخ هذه القطبية. يذهب رئيس جمهوري ليأتي رئيس ديمقراطي, ويأتي رئيس وزراء محافظ ليذهب آخر من حزب العمال, وهكذا دواليك. ولكن تبقى المؤسسات السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية والاستخبارية والإعلامية والمصرفية كما هي, متجذرة, متأصلة, ضاربة في أعماق كل مفصل من مفاصل القرار؛ أو ما يعرف اليوم ﺑ "الحكومة العميقة".
قرأت في السنتين الماضيتين الكثيرَ من التحليلات السياسية (بدافع الضرورة, وليس الرغبة) حول زيف الديمقراطية الغربية لمحللين سياسيين غربيين. هذا مقطع من مقالة حديثة (أيار/مايو 2013) لستيفن بيتزو بعنوان "واشنطنان": "أحد الأشياء التي تعلمتها, وأهمها, عندما بدأت بتغطية واشنطن منذ عدة سنوات هو أنه ليس هناك واشنطن واحدة, بل واشنطنان. هناك واشنطن المنتخبَة, وواشنطن غير المنتخبَة. الأولى مؤقتة, والثانية دائمة." وأترك لكم التمعن والتحليل (تشجيعاً لظاهرة "المحللين السياسيين" الرائجة في الإعلام السوري اليوم).
ومن الأشياء الممتعة التي يجب أن يلاحظها الجميع, والتي تطرح أسئلة جدية على المفهوم الغربي للديمقراطية السياسية, ظاهرتان يجعلك مجرد التفكير فيهما تقلب على قفاك من الضحك:
الأولى: تداول السلطة "الديمقراطي" بين بوتين وميفيديف في روسيا, في محاكاة ساخرة للديمقراطية الغربية! مع الملاحظة أن الرجلين قصيرا القامة.
الثانية: تداول السلطة "الديمقراطي" بين اللحى الطويلة واللحى القصيرة في إيران؛ أي بين "المحافظين" و "الإصلاحيين". فكروا في الأمر: إذا استبعدنا منصبَ "المرشد الروحي للثورة" في إيران (والذي تلعب دورَه منظمة "إيباك" في الولايات المتحدة), نحصل على ديمقراطية على نمط النظام الغربي تقوم على ركائز استراتيجية ثابتة – ترسمها مجموعة من القوة والمؤسسات والهيئات تندرج في العادة تحت مسمى "هيئة الأمن القومي") – وأخرى تكتيكية متغيرة قائمة على مبدأ تداول السلطة بين حزبين رئيسين لا يفترقان إلا في سياساتهما الداخلية.
* * *
الموالاة/المعارضة: الثنائية الوهمية
 
بدأت كتابة هذه المقالة منذ أكثرَ من ستة أسابيع, ثم توقفت هنا. ربما أكون قد تعبت, أو أردتُ التفكير جيداً – وبقدر مقبول من ‘الموضوعية’, التي أعتبرها كذبة كبيرة لأن "الذات" و"الموضوع" شيئان منفصلان يتحدد في علاقتهما الثاني من خلال الأولى – في التبدلات التي طرأت على ثنائية "الموالاة" و "المعارضة" قبل الأزمة السورية وبعد استفحالها وتشعباتها. أو ربما كنت بانتظار شيء ما, فكرة ما, حدث ما, أو صورة ما, تسهل لي عملية الدخول في هذا الموضوع الشائك.
ثم ... وقعت الواقعة, وما أدراك ما الواقعة, صورة فاقعة!
مع بدايات النباح الإعلامي حول مزاعم استخدام القوات الحكومية السورية للأسلحة الكيماوية في الغوطة الشرقية – التي بدأ العالم كله يكتشف الآن كيف تم تفقيسها في أقبية "الموساد" لتمتدَ كالنار في الهشيم على صفحات وشاشات الإعلام الحربي العربي والغربي, على حد سواء – طلعت عليَ صورة المناضل الثوري المعاصر, أحد "المناذرة" السوريين, منذر ماخوس من على إحدى الشاشات المسمومة. كان يرغي ويزبد, والبصاق الكيماوي الأبيض يتطاير من فوهته الأمامية, ثم أخذ نفساً عسيراً, عبر البصاق الكيماوي, وأعلن بحركة درامية مدروسة بعناية, وصوت هادر "كوقع الهنيهة في المطلق" (استئذاناً من الكبير سعيد عقل):
"أنا أؤيد الآن تدخل الناتو في سوريا ... وعلى النمط الليبي!"

في تلك اللحظة عرفت لماذا توقفت عن إكمال مقالتي هذه. كنت أنتظر السيد ماخوس, أو أحد أعوانه في مجلس اسطنبول الذي يذكرني بنَواحات باخوس, ليطلَ عليَ ويريحني من تفكيري الساذج.
لو كان أرسطوطاليس حياً الآن, لكان لديه الكثير ليقوله حول هذه "القرعة" النادرة (من قرأ رسالة أرسطوطاليس إلى الإسكندر المقدوني فيما يتعلق بفراسة الأشخاص يعرف ما أتحدث عنه).
في هذا الرأس تنتفي الثنائيات, وتختفي "الموالاة" و "المعارضة" معاً, لأن الاثنين يحملان بُعداً إنسانياً, أملاً ما, نافذة على الحياة. في هذا الرأس – مع أنه مغطى بقبعة ثورية – تقبع عظام وأنسجة وتلافيف تستعصي على منطق الثنائيات. ("الرأس مصنع لا يعمل بالطريقة التي تريدها تماماً ... تخيل ... ألفا مليار من الخلايا العصبية ... لغز محير جداً ... إلى أين يؤدي بك كل هذا؟ ... خلايا عصبية خاضعة لمواردها الخاصة! أقل هجوم, وتصاب بالجنون ...", كتب سيلين في افتتاحية كلامه على موت كلبته "بيبر" في الفصل 23 من رواية "بين القصرين"). في العينين كراهية تتلمس شكلَ الأشياء التي ستحللها ... كيماوياً. شفتا قاتل لا يعرف الندم؛ الشفة العليا الغائرة في الفم, الضاغطة على الشفة السفلى المتهدلة المدعومة بخطين جانبيين ينوءان بحمل الحقد الرهيب الهابط من الشفة العليا. وجه مجرم له شكل صاروخ "توماهوك".
عذراً يا أبناءَ وطني, فلم يعد لدي أفكار حول الثنائيات أقدمها لكم. فقد اختفت كلها الآن.
أرى وطناً يتكور على نفسه, يعود جنيناً, ينتظر بلهفة العاشق صاروخَ "توماهوك" له شكل هذا الرأس ... رأس منذر ماخوس.
* * *

قصة لها علاقة بما قبلها
"حرب أهلية" قصة قصيرة  لجيري آدامز – رئيس حزب "شين فين" الإيرلندي – تتناول علاقة أخ (ويلي, 73 عاماً) وأخته (كاثرين, 75 عاماً) يعيشان سوياً في البيت الذي ولدا فيه في بلفاست/إيرلندا الشمالية. تنشأ, فجأة, مجابهة بين الاثنين – اللذين لم يسبق لهما أن ناقشا أية قضية سياسية من قبل – على خلفية الأحداث الجارية في بلفاست والنزاع المسلح بين "الاتحاديين" (الذين يؤيدون التبعية لبريطانيا) و "الجمهوريين" (الذين يعارضون الاحتلال البريطاني). تتمثل ذروة القصة في مواجهة لفظية عنيفة تتخللها لحظة تجلٍ مأساوية:
"كان واقفاً على قدميه, يصرخ في وجهها. نظرت إلى الأعلى. كان الألم والدهشة محفورين في وجهها. التقت نظراتهما للحظة, شعرا بالذهول والألم, رجل عجوز وامرأة عجوز في غرفة جلوسهما, أخ وأخته, عانس وعازب, صديقا عمر, وببطء وأمام عينيه هوت من كرسيها مع آهة خافتة وتكومت على الأرض أمام قدميه.
دفنت في نفس اليوم الذي دفن فيه قتلى ‘الأحد الدامي’. ..." (من مجموعة "الشارع", 1992 – بالإنكليزية).

الجمل

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...