إسرئيل تفرض شروط المنتصر من موقع الهزيمة

02-09-2006

إسرئيل تفرض شروط المنتصر من موقع الهزيمة

بعد ثلاثة اسابيع على وقف «العمليات العدائية» لا تزال اسرائيل تحاول «ربح» هزيمتها عبر مناوراتها الدبلوماسية كما عبر استمرار الاحتلال والحصار. وما يجري جواً وبحراً يعني بكل بساطة ان لبنان عاجز حتى الساعة عن ترجمة انتصاره العسكري الحقيقي وصموده الشعبي الى مكاسب سياسية, فالحصار مرادف لاحتلال جديد بلا عساكر... ولو انسحب الاسرائيليون من المواقع الحدودية.

تبدو مرحلة ما بعد حرب تموز €يوليو€ التي استغرقت 33 يوماً, اصعب وأخطر من تدمير ضاحية بيروت الجنوبية ومدن وبلدات الجنوب والبقاع. لأن هذه المرحلة التي تأتي بعد شهر و20 يوماً من المعارك والعمليات الحربية البرية والبحرية والجوية, لا تقل صعوبة وأهمية وخطورة عن ايام الحرب المدمرة بحد ذاتها. خصوصاً ان ازالة رواسب حرب الـ33 يوماً قد تستغرق اكثر من 33 شهراً, هذا اذا صدقت النيات, واذا اوفت الأمم المتحدة والدول الاوروبية بتعهداتها, او اذا التزمت اسرائيل تطبيق كامل بنود القرار 1701, لجهة تبادل الاسرى, والانسحاب من مزارع شبعا وبالتالي وضعها تحت سيطرة القوات الدولية, وخروج ما تبقى من القوات الاسرائيلية من بعض المواقع داخل الاراضي اللبنانية والعمل السريع على فك الحصار الجوي والبحري.
والواضح ان الامين العام للامم المتحدة كوفي انان الذي انتقل الى اسرائيل بعد بيروت حاملاً جملة مطالب لبنانية ملحة حمل من تل ابيب والقدس «سلة فارغة, لأن رئيس الحكومة الاسرائيلية ايهود اولمرت وضع سلسلة شروط تعجيزية لفك الحصار وتبادل الاسرى, معتبراً ان الحصار والانسحاب الاسرائيلي من تسعة مواقع عسكرية داخل الاراضي اللبنانية مرتبطان بوصول كامل عديد القوات الدولية وتنفيذ القرار 1701. كما ان اولمرت رفض اي عملية لتبادل الاسرى مشدداً على ضرورة الافراج عن الجنديين الاسرائيليين بدون شروط مسبقة, وكأنه يتصرف كمنتصر في حرب خسرها وفي معارك كبدت اسرائيل خسائر بشرية ومادية جسيمة وانهت اسطورة الجيش الذي «لا يقهر». ومع كل هذه الهزائم العسكرية التي لحقت بهذا الجيش, فان اولمرت التقى كوفي انان معتمراً اكليل الغار وواضعاً على صدره وسام «جوقة النصر» ومعتبراً ان هناك فرصة لاتفاق سلام مع لبنان. وهذه «الفوقية» التي اعتمدها رئيس حكومة اسرائيل الذي شكّل لجنة تحقيق لتحديد مسؤولية الاخفاقات في جنوب لبنان, حالت دون التوصل الى الحد الادنى من التفاهمات حول المطالب التي حددها الرئيس فؤاد السنيورة خلال لقاءاته مع الامين العام للامم المتحدة, وابرزها رفع الحصار وتبادل الاسرى والانسحاب الاسرائيلي من الاراضي اللبنانية ومعالجة قضية مزارع شبعا.
من هنا, فان سلة انان الفارغة حملها الى الاردن والاراضي الفلسطينية المحتلة لعله يعوض عن نتائج محادثاته السلبية في اسرائيل, ولكن هذه السلبيات سبقته الى عمان ودمشق, بحيث اصبح اسير شروط ايهود اولمرت ووزيرة خارجيته تسيبي ليفني اللذين طالبا بشدة ضرورة الاسراع في انتشار «قوات الطوارئ الدولية المعززة لتطبيق كامل بنود القرار 1701 خصوصاً لجهة تحويل منطقة جنوب نهر الليطاني الى منطقة امنية تكون مفاعيلها اكثر من مفاعيل الهدنة واقل من سلام الامر الواقع, بحيث تكون هذه المنطقة منزوعة السلاح ولا يوجد فيها سوى سلاح الشرعيتين اللبنانية والدولية. وقد شدد نائب رئيس الحكومة وزير الدفاع الياس المر على انه لن يكون هناك سلاح في منطقة جنوب نهر الليطاني سوى سلاح الجيش اللبناني وقوات الطوارئ الدولية, وهذا يعني ان سلاح حزب الله قد يختفي من هذه المنطقة اما عن طريق سحبه الى شمال الليطاني او مصادرته, كما جاء على لسان الرئيس فؤاد السنيورة. وفي هذه الحال, يكون القرار 1559 قد تم تطبيقه جزئياً وفي منطقة عمليات قوات الطوارئ الدولية ووحدات الجيش اللبناني.
وعلى اي حال, فان كوفي انان الذي زار الضاحية الجنوبية واطلع على حجم الدمار الذي لحق بها جراء العدوان الاسرائيلي, رأى ضرورة ايجاد حلول امنية ثابتة لمنع تكرار هذه التجربة العدوانية, وهذه الحلول لا يمكن ان تكتمل إلا بوصول القوات الدولية ولا سيما القوات الايطالية والفرنسية التي تشكل العمود الفقري لمجموع قوات اليونيفيل, ان لجهة الضمانات او لجهة حق الدفاع عن النفس, خصوصاً ان هذه القوات لن تكون قوات مراقبة او شاهدة زور على الخروق الاسرائيلية, بل قوات قتالية بصلاحيات واسعة. واكبر دليل على ذلك ان وزيرة الدفاع الفرنسية ميشال ايليو ماري اختارت قوات النخبة لارسالها الى جنوب لبنان مزودة بأجهزة رادار للمراقبة البحرية والجوية. كما ان القوات الايطالية والاسبانية والبلجيكية وسائر القوات الاوروبية هي في الاصل قوات تابعة لحلف شمال الاطلسي باستثناء القوات الفرنسية التي لا تعدو كونها قوات حليفة للاطلسي. وهذا يعني ان هناك شبه سيطرة اميركية ولو بطريقة غير مباشرة على قوات الطوارئ الدولية المعززة التي قد تعيد الاستقرار الامني الى جنوب نهر الليطاني بمساعدة وحدات من الجيش اللبناني التي اوشكت على انهاء عملية انتشارها في المواقع الحساسة انطلاقاً من مرجعيون. ومع هذا كله فان اسرائيل المهزومة عسكرياً لا تزال تفرض شروطها في كل المجالات, وفي آخر بدعة لرئيس الحكومة ايهود اولمرت عرض التفاوض لتبادل الاسرى عبر أحد الوسطاء مع الحكومة اللبنانية وليس مع حزب الله المعني مباشرة بخطف الجنديين الاسرائيليين. لذلك فان كوفي انان الذي كان يفاوض في اسرائيل كان يمشي على جمر المواقف الاسرائيلية المتشددة وكأنه يسير بخطوات خفيفة على «البيض» تفادياً لاحداث اي «كسر» في الطريق المرصوفة بالبيض السريع العطب. وهذا ما يؤشر الى ان مهمة الامين العام للامم المتحدة في اسرائيل كانت مهمة صعبة وشاقة, ولم يتمكن من تحقيق اي هدف من اهداف جولته الشرق اوسطية بسبب التشدد الاسرائيلي وتمسك ايهود اولمرت بكل شروطه لفك الحصار عن لبنان بحراً وجواً وسحب قواته من داخل الاراضي اللبنانية.
وازاء هذا الواقع الدبلوماسي والتفاوضي المعقد الذي نشأ في مرحلة ما بعد الحرب والذي واجه كوفي انان في محادثاته في تل ابيب والقدس, فان دول الاتحاد الاوروبي التي قررت في اجتماع بروكسل المشاركة في القوات الدولية المعززة, تبحث عن دور في الشرق الاوسط من البوابة اللبنانية, فالحكومة الايطالية تسعى الى اي دور مهما كان نوعه, خصوصاً لجهة تقديم المساعدة للولايات المتحدة بدون تردد وتخوف كما حصل في العراق. ولكن الرئيس جاك شيراك الذي وافق على ارسال الفي جندي وضابط الى الجنوب يحاول ايضاً مساعدة الولايات المتحدة, حتى مع بعض التردد, خصوصاً في حال اضطرت القوات الفرنسية الى مواجهة اسرائيل من خلال تحملها مسؤولية اي خرق للقرار 1701 او اي انتهاكات لسيادة القوات التي تعمل تحت راية الامم المتحدة, ولا سيما مع اقتراب الاستحقاق الرئاسي في فرنسا في العام 2007, حيث ان الرئيس جاك شيراك يسعى الى تقويم دوره في هذه المهمة الدولية قبل شباط €فبراير€ المقبل. موعد انتهاء مدة قيادة القوات الفرنسية لليونيفيل وتسليمها الى القوات الايطالية, من اجل توظيف نجاح هذا الدور في معركة رئاسة الجمهورية او اتخاذ قرار آخر بشأن بقاء قواته في جنوب لبنان. وفي هذه الحال فان الايطاليين قد يتحملون عبء اي غياب فرنسي مفترض, في حين ان الحديث المتداول في الاوساط الدبلوماسية الباريسية يشير الى ان القوات الفرنسية تعيش اجواء بقائها في جنوب لبنان مدة طويلة. لذلك فان الفرنسيين قد يذهبون حتى النهاية مع الولايات المتحدة, ولا خيار لهم سوى ذلك, وتقول الاوساط الدبلوماسية الفرنسية, في حال ربحت واشنطن الحرب في الشرق الاوسط انطلاقاً من لبنان وايران, ستحاول باريس الافادة من هذا الربح وتعزيز تحالفها مع السياسة الاميركية بهدف قطف ثمار هذا التحالف. واذا سقط المشروع الاميركي في المياه العكرة وغرقت الولايات المتحدة في مستنقعات لبنان وايران تماماً كما هي الحال في العراق, فان الجانب الفرنسي ولا سيما الرئيس جاك شيراك يحاول الانسحاب والخروج من اي مستنقع بأقل خسائر او اضرار ممكنة.
ومن هذا المنطلق, فان كل المعنيين بالأحداث اللبنانية ولا سيما فرنسا والولايات المتحدة وايطاليا واسرائيل وسوريا وايران, يحاولون اخذ الوقت الكافي قبل تحديد مواقعهم النهائية, لأن هذه الدول تتوقع في الافق القريب نوعاً من الركود والذي يسمح لها بالتموضع بطريقة هادئة وغير خطرة, ولكنها, اي الدول المعنية, تخشى الانزلاق في بعض الحفر السياسية والامنية في جنوب لبنان, خصوصاً ان قسماً من هؤلاء المعنيين سوف يشعر في وقت ما بالقلق الذي يجعله لا يتردد في اخذ المبادرة وخرق الستاتيكو الراهن القائم على الركود المسيطر على الأوضاع العامة جنوب نهر الليطاني.
صحيح ان هذه المنطقة الجنوبية التي لا تزيد مساحتها عن الفي كيلومتر مربع قد تتحول ابتداء من 15 ايلول €سبتمبر€ الحالي الى منطقة دولية بكل معنى الكلمة تزينها الاعلام الاوروبية المختلفة الالوان, ولكنها قد يطغى عليها لون الاحمر والاخضر والابيض الذي يشكل العلم اللبناني, اضافة الى لون القبعات الزرق الذي يرمز الى الامم المتحدة والمجتمع الدولي. وهذا يعني ان هذه المنطقة من جنوب لبنان قد تكون بعهدة الجيش اللبناني مدعوماً بقرار سياسي دولي وبمؤازرة امنية من دول اوروبا التي هي في الواقع الشريان الاقوى والعصب الاساسي للمنظمة الدولية. ولا شك في ان لكل دولة منضوية تحت راية الامم المتحدة التي اخذت على عاتقها المساك بأمن الجنوب ومساعدة لبنان على استعادة سيادته الكاملة على الجنوب وتوفير المناخات الامنية اللازمة لبسط سلطة الدولة على هذه المنطقة, لا شك في ان لهذه الدول اهدافاً, أبعد من المهمة العملاتية المكلفة بها, لأنه على ما يبدو ان عملية السلام في الشرق الاوسط قد تتحرك من جنوب الليطاني بحيث تشق طريقها الى ما بعد حدود لبنان وصولا الى غزة والعراق وربما ايران في تجربة اولى لمشروع الشرق الاوسط الجديد, الذي تأمل كل الدول الاوروبية والآسيوية ان يكون لها دور معين سياسي او اقتصادي وربما أمني في هذا المشروع الاممي. لذلك فان الدول الاوروبية وبعض الدول الآسيوية لم تتردد في المشاركة في قوات اليونيفيل من اجل ان يكون لها دور في المستقبل او ان يكون لها حضور في الشرق الاوسط اذا اكتمل هذا المشروع الذي لا يزال يحفر اساساته بالسيارات المفخخة في بغداد والمدن العراقية وبصواريخ اسرائيل في غزة ولبنان. ولكن مثل هذا المشروع الكبير الذي قد يغير وجه الشرق الاوسط لا يمكن ان يتم بناؤه على البارد, بل من خلال عمليات شاقة وصعبة تماماً كتلك التي تحدث في العراق وغزة او تلك التي حدثت في لبنان خلال حرب تموز €يوليو€ والتي يمكن ان تتكرر في حال اخفقت قوات الطوارئ الدولية المعززة في تطبيق القرار 1701 بكل بنوده والسعي الى تنفيذ القرار الدولي رقم 1559 لجهة نزع سلاح كل الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية, ولكن بطريقة تدريجية وهادئة وبدون ضجيج ومزايدات لأن هناك قراراً لبنانياً ودولياً بطي صفحة الحرب في لبنان, إلا اذا كانت هناك قطبة مخفية تخبئ ما هو اخطر من الحرب العسكرية في الداخل اللبناني الذي يبدأ بحرب سياسية اخطر وتكون منطلقاً لتغييرات في البنى السياسية القائمة منذ الانتخابات النيابية الاخيرة, لأن هناك فريقاً يعتقد ان هناك مرحلة جديدة في البلاد قد تحمل مستلزمات مثل هذا التغيير, الذي يبدأ بتشكيل حكومة اتحاد وطني تأخذ على عاتقها إعادة الاعمار وتطبيق كل بنود اتفاق الطائف والشروع في بناء دولة ما بعد الحرب. ولكن التغيير الحكومي في الوقت الراهن يبدو متعذراً, الا في حال طرأت مستجدات درامية في الشارع تفرض اللجوء الى قرارات استثنائية ومصيرية للحؤول دون اغراق البلاد في مواجهات قد تكون الشرارة لحرب اهلية. وهذا ما تخوفت منه بعض الدول الاوروبية التي توقعت ان تفرض احداث مفاجئة زيادة عديدها وتوسيع انتشارها في اتجاه الداخل اللبناني لمنع لبنان من الانزلاق في التجربة العراقية.
ووسط هذه الاجواء فان هناك معلومات متداولة في باريس مفادها أن انتشار قوات اليونيفيل في جنوب الليطاني ليس سوى خطوة واسعة نحو استصدار قرار جديد من مجلس الأمن يمعن في تدويل المشكلة اللبنانية. وهذا امر خطير جداً لأن أي حكومة لبنانية حالية او مقبلة ستكون, بشكل او بآخر, خاضعة لمشيئة مجلس الأمن, اي لرغبات الدول الكبرى وعواصم القرار.
وعلى اي حال, هناك في الافق القريب بوادر انفراجية تلوح وتبشر باقتراب فك الحصار البحري والجوي, وهذه البوادر يدعمها امران: اجتماعات مكثفة للجنة الامنية البحرية اللبنانية للبحث في الاجراءات الامنية التي يمكن ان تقوم بها الدولة في المياه الاقليمية بعد فك الحصار لمساعدة القوات البحرية الالمانية في عمليات مراقبة الشواطئ اللبنانية. والامر الثاني اعتصام النواب في مبنى المجلس للمطالبة برفع الحصار. وهذا يعني ان صاحب الدعوة الرئيس نبيه بري يملك بعض المعلومات التي تشير الى اقتراب فك هذا الحصار ويحاول ان يقطف هذه الثمرة في مجلس النواب فقط. كما ان الرئيس نبيه بري الذي تخلى عن اي دور له في اي مفاوضات لتبادل الاسرى كان على علم مسبق ان مسؤولاً امنياً المانياً كبيراً سيتولى هذه المهمة. ويبدو ان رئيس الاستخبارات الخارجية الالمانية ارفست اورلد الذي وصل الى بيروت اخيراً بدأ محادثاته الاولية في هذا المجال مع مسؤولين امنيين لبنانيين, لتعبيد الطريق امام مهمة معقدة وشاقة ولكن قد تؤشر الى بوادر انفراجات في الآفاق القريبة.

غابي أبو عتمة

المصدر: الكفاح العربي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...