أنيس صايغ عن أنيس صايغ

01-10-2006

أنيس صايغ عن أنيس صايغ

في كتاب "أنيس صايغ عن أنيس صايغ" الممتع الصادر عن "دار رياض الريس للكتب والنشر" (2006) والذي يقع في 534 صفحة يحدثنا الدكتور أنيس صايغ عن طفولته ونشأته في طبريا في فلسطين حيث ولد في 3/11/1931، وكذلك عن اهله واشقائه ورفاقه وعن تجربته في الحياة وعلاقته بفلسطين وبياسر عرفات وبالحزب السوري القومي الاجتماعي، وعن أشياء وتجارب اخرى.
يقسم هذا الكتاب الضخم الى مقدمة وتسعة عناوين او فصول. يبدأ بالحديث عن بلدته طبريا التي ولد فيها ويستفيض في الكلام على والده القسيس عبدالله السوري الجنسية الذي انتقل الى فلسطين، ووالدته اللبنانية التي كان لها فضل كبير عليه.
كما يستفيض في الكلام عن دراسته ورفاقه قبل 1948 عام النكبة، ثم كيف ترك طبريا الى صيدا لمتابعة دراسته. ثم العيش في بيروت حيث درس في جامعتها الاميركية ومنها سافر الى جامعة كمبردج الشهيرة حيث نال شهادة الدكتوراه متخصصاً في العلوم السياسية والعلاقات الدولية وفي التاريخ العربي الحديث.
قسّم أنيس حياته بين عالم القلم وعالم الوطن فلسطين التي كرّس جهده للعمل في سبيل تحريرها وخدمتها. لقد استأثرت فلسطين بغالبية ما كتب وما عمل: فمن الموسوعة الفلسطينية، ومركز الابحاث الفلسطينية الى مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ومجلة شؤون فلسطينية، وتمثيله فلسطين في اللجنة الدائمة للاعلام العربي، ومستشار الموسوعة الفلسطينية الميسرة في عمان، الى عضوية المجلس الوطني الفلسطيني في القاهرة (1970)، ونائب رئيس المؤتمر الوطني الفلسطيني في دمشق (1998)، ومؤسس اللقاء الثقافي الفلسطيني في بيروت ومنسقه العام منذ 1992.
تضاف الى ذلك الكتب والابحاث التي وضعها والتي لها علاقة مباشرة بفلسطين مثل: الهاشميون وقضية فلسطين (1966) وفلسطين والقومية العربية (1967) وبلدانية فلسطين المحتلة (1968) والجهل بالقضية الفلسطينية (1970)، يضاف الى ذلك الكتب التي الفها في الارهاب الاسرائيلي، والحركة الصهيونية، وميزان القوى العسكرية بين الدول العربية واسرائيل ما بين 1967 و1998.
في هذا الكتاب لا يترك أنيس ادق التفاصيل مهما كانت تافهة ولا ينسى حتى ذكر اسماء الناس البسطاء الذين عرفهم فكأن ذاكرته سجل تدوين لا يهمل شيئاً.

- ولا يمكن أن نتجاوز تجربة أنيس صايغ في تأسيس مركز الابحاث الفلسطيني الذي عمل فيه عدد كبير من الباحثين المعروفين مما جعله يحقق شهرة جعلت اسرائيل تبذل جهدها للقضاء عليه وعلى مديره فكان ان أرسل الموساد الاسرائيلي رسالة ملغومة الى مكتب المركز في بيروت ما لبثت ان انفجرت بين يدي انيس حالما اخذ بفضها صباح 19/7/1972 مما سبب بتر ثلاثة اصابع من يده اليسرى واضعف بصره وسمعه، ولم تقوَ اسرائيل على قتله رغم ان الاذاعة الاسرائيلية قد اذاعت بعد عشرين دقيقة من وقوع الحادث مقتل أنيس صايغ!
كان أنيس يفرق بين اليهودية والصهيونية لذلك كان حازماً بهذا الشأن في كل ما تولى نشره من ابحاث ومقالات وموسوعات، ولم يسمح بالخلط بين المصطلحين. فالميثاق الوطني الفلسطيني يستهدف الصهيوني وليس اتباع الدين اليهودي بشكل عام.

- لاحظ أنيس مدى اتساع الجهل العربي بحقائق المسألة الفلسطينية وتفاصيلها وخاصة في ما يتعلق بالعدو الاسرائيلي. اسرائيل تسعى لمعرفة كل ما يهمها عن العالم العربي بينما العرب يتجاهلون ويجهلون معرفة اي شيء عن عدوّهم. لذلك قام انيس بجمع ما له علاقة بالقضية الفلسطينية وبفلسطين وتناول الفكر الصهيوني. وهو قد اشرف على تحرير اربع مجلات تهدف الى خدمة القضية الفلسطينية، ويحدثنا عن الصعوبات التي واجهته وعن إصراره على مواجهتها وتخطّيها.
في هذه الذكريات يكشف انيس صايغ عن أخبار وأحداث مهمة لها كبير الأثر في الصراع الفلسطيني الاسرائيلي الذي امتد على مدى ستة عقود والذي قد يمتد على مدى عقود لا نستطيع عدّها. لقد امتزجت حياة انيس بالقضية الفلسطينية الى حد التماهي. وهو لا يمكن ان يخون القضية او يتنكّر لها او يساوم عليها... الى حد انه وقف في وجه ياسر عرفات واختلف معه على نقاط عدة وخاصة على شؤون مركز الابحاث الفلسطيني في بيروت الذي كان عرفات يسعى للسيطرة عليه والتدخل في شؤونه.
وكان عرفات يتهم أنيس صايغ بأنه سوري، وهذه حقيقة وليست تهمة لان والد أنيس سوري وهو يحمل جواز سفر سورياً، هو سوري وفلسطيني ولبناني وهو فوق ذلك كله عربي صادق في عروبته المتنورة المتحضرة وليست العروبة المتخلفة المتقوقعة..
- نصل الى الفصل السادس الذي يدور على ياسر عرفات، "ابو عمار" منذ البداية نجد ان هناك وداً مفقوداً بين الرجلين، ورغم ان انيس يعترف بانه لا يكتب تاريخاً لابو عمار او يضع سيرة ذاتية له حفلت سيرته بالاحداث والاعمال والمواقف التي سيطرت على القضية الفلسطينية حوالى اربعة عقود وكادت تختصرها بينما تبدل على زعامة اسرائيل عدد كبير من الزعماء والقادة. يكتفي أنيس بذكر علاقته الشخصية بياسر عرفات: كيف عرفه وكيف تعامل معه وكيف كان يختلف معه وكيف كان يتلقى الطعنات منه على مدى ثلث قرن من الزمن. وهو يصور لنا مزاجيته واساليبه وفنون تعاطيه مع الأمور ومحاولاته المتكررة للسيطرة على مركز الابحاث والموسوعة الفلسطينية وفرض آرائه على انيس الذي كان يرفضها ويتصدى لها ويهدد بالاستقالة.
اول لقاء له بعرفات كان فاتراً لا بل غير ودي لان عرفات تجاهله ولم يمد يده للسلام عليه، ويذكر كيف ان وديع حداد قد حذّره منه لانه شخص خطر ضيّق الصدر بكل من يعارضه او ينافسه من القادة الفلسطينيين. ومما يرويه كيف ان ابو عمار ارسل جماعته لمحاصرة مستودع المركز بغية اتلاف عدد مجلة "شؤون فلسطينية" (آذار 1971) لان افتتاحيته طبعت بحرف صغير ولان صورة الغلاف كانت لمدينة صفد...
ويروي انيس قصصاً تدل على عقلية زعيم اختصر الثورة الفلسطينية والقضية الفلسطينية بشخصه. وقد ادت هذه المشاحنات والخلافات الى ان قدم صايغ استقالته رغم ان عرفات الح عليه ان لا يستقيل. ولكن انيس لا يتقن المناورة ولا يتراجع عن موقف اقتنع به فترك المركز واقترح ان يخلفه الشاعر الكبير محمود درويش الذي استمر في مهمته حتى الغزو الاسرائيلي للبنان عام 1982 فاطلقت اسرائيل رصاصة الرحمة على المركز ونهبت وثائقه واحرقت كتبه واستباحت حرمته وهي كانت تبيّت لذلك منذ نشأته.
وللحق ان انيس لا يتهم ياسر عرفات وحده بعرقلة مشاريعه بل يعتبر ان هناك جوقة من المدّاحين والمرتزقة حوله غايتها تحريف الحقائق والدس الى حد جعل عرفات يتهم انيس بالخيانة والتفريط بحق فلسطين ثم يعود ويتنصّل من كلامه ومن الرسائل التي كان يوجهها الى الملوك والرؤساء العرب ضد انيس. هكذا كانت الامور تدار في عهد السيد ياسر عرفات، والهدف كما يقول انيس هو القضاء على الموسوعة الفلسطينية. وهذا ما حصل.
واذا كان انيس لا يدّعي كتابة سيرة ياسر عرفات فان كتابه مرجع مهم لمن سيقوم بذلك. يقول انيس (ص 330): "لعلي الوحيد في تاريخ منظمة التحرير في اربعين سنة الذي تولى تطبيب نفسه وحراسته من جيبه الخاص دون ان تساهم المنظمة بقرش واحد. اضافة الى اني الوحيد، كما احسب، الذي خدم في المنظمة عشر سنوات مديراً عاماً ولما ترك العمل لم يتقاضَ قرشاً واحداً تعويضاً قانونياً. تماماً كما كنت "الموظف" الوحيد في المنظمة الذي تنازل عن اكثر من ثلث مرتبه الشهري طوال عمله فيها!... لكن هل كنا نناضل لنكافأ؟ النضال الصحيح لا ثمن له، هذا ما آمنت به ومارسته في الاربعين سنة الاخيرة من حياتي". وينهي كلامه مقارناً بينه وبين ياسر عرفات: "كان عرفات لا يؤدي حقوق الناس الا اذا ضمن ولاءهم. أما انا فتنازلت عن حقوقي مقابل الاحتفاظ باستقلالي وكرامتي".
ثم جاء اتفاق اوسلو الذي وقعه ياسر عرفات عام 1993 مع اسرائيل فكان بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير!
 - نشأ انيس في بيت ثلاثة من اخوته اعضاء في الحزب السوري القومي الاجتماعي وشقيقه فايز صايغ كان من كبار رجالات الحزب ولكنه ما لبث ان خرج منه شأن الكثيرين. انيس الذي درس في الجامعة الاميركية في بيروت استهواه الحزب ولكن بعد اعدام الزعيم انطون سعادة عام 1949 وما اصاب الحزب من تفسخ برئاسة جورج عبد المسيح، خرج من الحزب وبقيت مبادئه في دمه.
وهو يقول في ذلك (ص 358-359): "هناك عاملان وتطوران أساسيان دفعاني الى الخروج من الدائرة الحزبية الصغرى الى الدائرة الوطنية الكبرى: عامل سير الحزب في عهد رئاسة جورج عبد المسيح بخطى حثيثة نحو التزمت والانغلاق، نحو الضمور العقائدي واستبدال النظام اللازم لصحة العمل بالتشدد القائم على تقديس العقيدة وهاجسها، ونحو التصرف وكأن الحزب طريقة مذهبية والعقيدة دين والرسالة الاجتماعية وصايا مُنزلة. وعامل ظهور الحركة الناصرية على خريطة الايمان العربي ودخول مصر الناصرية حلبة النضال من أجل فلسطين والعرب".
ولكن بعد هذا الهجوم اللاذع عليه يعود ويرد له الاعتبار فيقول (ص 362): "إن الرجل الذي خدم الحزب طويلاً وكثيراً وضحّى بمبادئه وعقيدته وأخلص لزعيمه يستحق ان ينظر الحزب في إمكان رد الاعتبار له بعد سنين طويلة من التجني عليه".
الدكتور انيس صايغ ينقل من الذاكرة وليس من مذكرات مدوّنة لذلك هناك تكرار لبعض الاحداث والاخبار. فيا اخي انيس ليس من الضروري ان تكون المذكرات لقادة كبار او ملوك ورؤساء او علماء او رواد في شتى المجالات لكي تكون ممتعة ومفيدة. كتابك يا أنيس فيه مؤانسة وامتاع وفائدة فهنيئاً لك.

ميشال جحا

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...