سيناريو بورما ومخطط تطويق الصين

30-08-2009

سيناريو بورما ومخطط تطويق الصين

الجمل: تنطوي علاقات خط بكين – واشنطن على المزيد من القضايا والملفات المعقدة الشائكة التي ستحدد نتائجها ليس مستقبل الصين فحسب وإنما مستقبل النظام الدولي وبسبب سعي الولايات المتحدة إلى المضي قدماًَ في تنفيذ مخطط تطويق الصين، فإن الصين بالمقابل أصبحت تسعى باتجاه اعتماد الأساليب الوقائية التي تجعل من مخطط التطويق الأمريكي بلا فائدة ولا جدوى.
* سيناريو بورما: الحلقة الجديدة في مسلسل الصراع الصيني – الأمريكي:
تجاور بورما الصين من الناحية الجنوبية الغربية بحيث يطل شمال بورما على الصين، وغرب بورما على المحيط الهندي، وتقول المعلومات أن الصين تخطط حالياً لتوسيع شراكتها وروابطها مع بورما بحيث تتمتع بمزايا استخدام السواحل البورمية كمنافذ لتدفقات التجارة وإمدادات النفط والغاز بما يتيح للصين التفادي الاستباقي لاحتمالات التعرض لحصار تفرضه أمريكا وحلفائها بالسيطرة على منطقة بحر الصين الجنوبي وإغلاق ممر ملقة.
أما واشنطن، فتسعى إلى الإطاحة بالنظام البورمي عن طريق دعم المعارضة السياسية البورمية والجماعات الإثنية المسلحة من أجل إشعال ثورة ملونة في بورما، إضافة لذلك ظلت واشنطن تلجأ باستمرار إلى دفع مجلس الأمن الدولي وحلفائها لفرض وتشديد العقوبات المتعددة الأطراف والأنواع ضد النظام البورمي بتهمة انتهاكات حقوق الإنسان المتزايدة في بورما.
لم يتحدد بعد مصير النظام البورمي الحاكم حالياً فهو من جهة يعتمد في بقائه واستمراره على الدعم الصيني أملاً في التغلب على تأثيرات الحظر الأمريكي المتزايدة وهو الخطر الذي لم يعد أمريكياً وحسب وإنما أصبح هندياً بسبب ازدهار العلاقات الأمريكية – الهندية وتدهور العلاقات الصينية – الهندية.
* السياسة الخارجية الصينية: خيار تغيير الاتجاه أم خيار إبقاء الاتجاه؟
الاختيار الأكثر صرامة لخطوة تغيير الاتجاه الصينية يتمثل في الكيفية التي أصبحت تتصرف بها في المنطقة التي تمثل فنائها الخلفي حيث الاهتمامات التي تتعلق بترقية وتطوير الحدود الثابتة المستقرة وتفادي التطويق المحتمل بواسطة حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية، وهو التطويق الذي أصبح مجرد ذكر اسمه يخلق تأثيراً متزايداًَ في حسابات بكين السياسية والاستراتيجية. على المثيل من كوريا الشمالية والسودان فإن بورما تمثل كذلك بالقدر ذاته تابعاً استراتيجياً هاماً ومصدر إرباك حرج للصين. هذا وللصين مصالح معترف بها في بورما بشكل واضح، خاصة وأن بورما هي: بلد مجاور وحليف وثيق الصلة وموطن (حالي) لمليون مواطن صيني. إضافة إلى المخاوف إزاء المشاكل التي ظلت ماثلة ومستمرة لفترة طويلة مثل تجارة المخدرات، والجريمة العابرة للحدود، وتزايد طفحان وتمدد أنشطة التمرد المسلحة في بورما، فقد ظلت بكين تأمل برغم ذلك في استخدام موانئ بورما، وطرق المواصلات الجديدة العابرة لبورما من أجل ربط الصين مع الهند بما يتيح تطوير وتنمية أقاليم ومقاطعات منطقة جنوب غرب الصين وهي المنطقة التي ظلت تعاني من الانغلاق والفقر الشديد.
سعت الصين إلى تسهيل شحن النفط القادم من إفريقيا والشرق الأوسط عن طريق بناء خط أنابيب لنقل النفط والغاز بدءاً من شواطئ غرب بورما وحتى يواننان وسيشوان الصينيتان، بدلاً من المرور عبر ممر ملقة البحري البحري الخاضع للرقابة والتفتيش الدقيق.
برغم ذلك، فإن صبر الصين واحتمالها للطغمة البورمية الحاكمة أصبح يبدو في الآونة الأخيرة وكأنه بدأ أو بالأحرى على وشك النفاذ، فلعدة سنوات خلت ظلت بكين تشجع الطغمة البورمية من أجل انتهاج النموذج الصيني في الإصلاحات الاقتصادية والسياسية بهدف مساعدة النظام البورمي في تعزيز وتقوية حكمه وضمان استقراره واستعادة القبول الدولي له. دعمت الصين رئيس الوزراء البورمي السابق خين نيونيت الذي اعتبرته بكين زعيماً إصلاحياً على غرار نموذج الزعيم الصيني الإصلاحي السابق دينغ، ولكن ما حدث تمثل في أن الصين نظرت إلى نيونيت وهو يطاح به في عام 2004 وفي الوقت الذي تزايد فيه تطرف النظام البورمي أصبحت ثقة الصين باهتة إزاء قدرة الطغمة البورمية في إجراء الإصلاح ولكن مع ذلك فقد تحولت بكين من تقديم الدعم إلى ممارسة الضغوط على النظام البورمي وهو تحول حدث فقط بعد أن انكشف أمر الدعم الصيني للنظام البورمي في مجلس الأمن الدولي. وفي منتصف عام 2006 وزعت الولايات المتحدة الأمريكية مشروع قرار في مجلس الأمن الدولي بإطلاق سراح السجناء السياسيين وإدانة انتهاك حقوق الإنسان في بورما ويطالب باستحداث عملية سياسية تؤدي لإحداث تحول ديمقراطي حقيقي في بورما. دبرت الصين مرتين أمر منع وإعاقة طرح مشروع القرار الأمريكي للمناقشة والنظر في المجلس، ولكن عندما نجحت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة (بريطانيا) في طرح مشروع القرار للتصويت في المجلس لجأت الصين إلى استخدام الفيتو (النقض) ضد المشروع (والشيء ذاته قامت به معها روسيا) وهي المرة الأولى منذ عام 1973 التي تستخدم فيها بكين حق الفيتو في موضوع لا علاقة له بتايوان، وفي الوقت ذاته طالبت بكين النظام البورمي بأن "يستمع إلى نداء شعبه.. ويقوم بتسريع الحوار والإصلاحات". وبعد ذلك مباشرةً أشارت الصين للطغمة البورمية أن حماية الصين لها نابعة من رغبتها الكبيرة في المضي قدماً بالإصلاحات السياسية واتخاذ خطوات أقل مواجهة مع الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية الأخرى. أرسلت بكين تانغ جي غوانغ رئيس مجلس الدولة الصيني نهاية شباط الماضي إلى بورما لنقل هذه الرسالة بشكل مباشر إلى الرئيس البورمي الجنرال زيهان شيوي. وقعت الحكومة البورمية حينها اتفاقية جديدة مع منظمة العمل الدولية التي كانت قد هددت بطرد بورما من عضويتها. ولاحقاً بعد أشهر قليلة، وبعد زيارة رئيس الوزراء البورمي المكلف زهايين شايين إلى بكين أعلنت الطغمة البورمية بشكل غير متوقع عن استئناف انعقاد مؤتمر الهيئة الوطنية الذي توقف طويلاً والذي كان من المفترض أن يمهد السبيل لإعداد الدستور الجديد وإجراء الانتخابات البورمية. وبرغم أن الصين كانت تضغط على النظام البورمي لتسوية مطالب الجماعات الإثنية البورمية، وعندما وافقت هذه الجماعات على الوساطة الصينية، لكن الصين لم تقدم شيئاً جديداً لها وإنما بدأت باستخدام أسلوب النظام البورمي نفسه معها، فقد تم عقد اجتماع في كونمينغ ضم زعماء العديد من الجماعات الإثنية البورمية حيث مورست عليهم الضغوط للموافقة على نزع السلاح والقبول بشروط الطغمة البورمية. في جهد آخر، كثف المسؤولون الصينيون اتصالاتهم للوصول إلى المعارضة الديمقراطية البورمية عن طريق استضافة ممثليها في اجتماعات يتم عقدها في الصين كانت من أبرزها تلك المحادثات بين الحكومة الأمريكية والحكومة البورمية التي تمت برعاية بكين.
عندما أخفق مؤتمر الهيئة الوطنية البورمية في وضع تسوية سياسية مقبولة، واندلعت المظاهرات الاحتجاجية العامة في فصل الخريف في بورما، وذلك بسبب الزيادات المفاجئة الكبيرة في أسعار الوقود التي فرضتها الحكومة، حدث أن سعت بكين إلى ممارسة الضغوط عليها من أجل انتهاج استراتيجيتها الإصلاحية التي سبق أن حددتها للحكومة البورمية، وحتى عندما كانت الصين تقوم في الأمم المتحدة بمقاومة العقوبات متعددة الأطراف ضد بورما، فقد أيدت الصين بياناً صادراً من مجلس الأمن الدولي يستنكر بشدة استخدام الطغمة البورمية للعنف في قمع المظاهرات السلمية، إضافة لذلك فقد قبلت الصين دون معارضة أو رفض، ودون خوض في التفاصيل، بتمرير قرار الإدانة هذا في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة وضغطت الحكومة الصينية على الطغمة البورمية للقيام باستقبال ابراهيم جانباري المبعوث الخاص للأمم المتحدة، كما سعت الصين إلى تأمين سبيل وصوله ومقابلته لكبار الجنرالات البورميين وزعيم المعارضة البورمية أيونغ سان سيويو كييي. وطوال فترة المظاهرات ظلت الحكومة الصينية تحث الطغمة البورمية بضرورة ضبط النفس وأوضحت بكين للطغمة البورمية أن أولى الأولويات المهمة تتمثل في منع حدوث أي ثورة ملونة أخرى. وكيف ما كان اهتمام الصين إزاء السعي من أجل تحسين سمعتها الدولية، فإن بكين لم تكن راغبة في ذلك ولا حتى في مطالبة النظام البورمي بـ"الانتحار وقتل نفسه" (حسب تعبير أحد المحللين الصينيين). إضافة لذلك وإذا أخذنا بالاعتبار موضوع خطوط الأنابيب التي سيتم تمديدها، والاهتمام المخيف من جانب الهند لجهة رغبتها المتزايدة للوصول إلى موارد بورما، فإن الطغمة البورمية بالضرورة تمكنت من حيلة اقتصادية: فبعد مرور 3 أيام من استخدام الصين للفيتو ضد قرار مجلس الأمن بإدانة بورما منحت الحكومة البورمية لإحدى الشركات الصينية عقداً ضخماً يتيح لها القيام بأنشطة وأعمال الاستكشاف عن النفط والغاز، وقد تم ذلك برغم أن الطغمة البورمية تلقت عرضاً آخر أفضل من إحدى الجهات الهندية المنافسة.
في نهاية الأمر عمل قادة الصين بجهد كبير حول كيفية التجاوب ومواجهة الخطر المحدق بأمن الطاقة الصيني والخسارة المحتملة لحكومة مجاورة حليفة بشكل وثيق للصين هي بورما وهي خسارة،بحسب ما نظرت الصين، سيكون لصالح حركة ديمقراطية بورمية موالية للولايات المتحدة، ومن ثم بدلاً من إبعاد الطغمة البورمية، فإن بكين لم تلجأ للنيل من الطغمة البورمية وإسقاطها، وإنما قررت آنذاك أن تأخذ دور الحامي لها بحيث تتسنى لبكين فرصة استخدام عائدات رأس المال السياسي الذي حصلت عليه من جراء حمايتها لهذه الطغمة. وقد تضمن هذا الاستغلال والتوظيف الصيني من بين ما تضمن فرض وتشديد الضغوط على الطغمة وهو الأمر الذي حصل وظل يحصل عندما تهدأ الأحوال وتنشغل أمريكا بالأمور الأخرى. إذا كان التغيير السياسي في بلد مثل بورما المتميزة بأهميتها الاستراتيجية للصين فإن علينا أن نفهم أن بورما تكون مختلفة جداً عن زمبابوي ومن ثم وعلى خلفية ضبط التغيير والسيطرة على بورما فقد ظلت بكين أكثر رغبة في تحديد متى وكيف وبأي طريقة يمكن أن يحدث ذلك التغيير في بورما.
عموماً، فإن صراع الحرب الباردة غير المعلنة على خط واشنطن – بكين يعتمد بقدر كبير على تفاهمات الطرفين وجدول الأعمال الذي سيتوصلان إليه وتحديداً بواسطة آليات الحوار والتفاهم الاقتصادي الاستراتيجي الصيني – الأمريكي الجاري حالياً وما سينتج عن زيارة الرئيس أوباما إلى بكين والتي حُددت في تشرين الثاني القادم، وهو الناتج الذي سيحدد مسار علاقات بكين – واشنطن بحيث أنه إما المضي قدماً في الصراع بين الطرفين أو التعاون، وبالتأكيد ستسعى الصين إلى القيام بدور الوسيط بين أمريكا وخصومها، ولكن برغم ذلك نلاحظ أن قدرة الصين على القيام بدور أكبر كوسيط بين الأنظمة المنبوذة أمريكياً والمجتمع الدولي هي قدرة معناها أن الصين بوسعها تحديد سقف المفاوضات مع هذه الأنظمة وفي العديد من الحالات فإن الصين ستفضل دفع هذه الأنظمة للبقاء فترة أطول مع السعي لجهة العمل والتعاون ضمن الحدود الدنيا وبأقل ما يمكن مما يؤدي لتجنب حدوث الاضطرابات وحالات عدم الاستقرار الكبيرة، أو يديم بقاء النظام الدولي بوضعه المخزي الحالي.

 

الجمل: قسم الدراسات والترجمة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...