سعاد جروس : جمال الحب

30-06-2007

سعاد جروس : جمال الحب

الجمل ـ سعاد جروس : العنوان في الأعلى, كان عنواناً لملتقى النحت العالمي الذي تقيمه ورشة البستان للثقافة والفنون التي أسسها فارس الحلو في بلدة مشتى الحلو. (جمال الحب) كعنوان يبدو شاعرياً, لكنه غير منطقي وسط عواصف الخراب والدمار المحيطة بنا, فالسباق الماراتوني لعزرائيل في العراق ما زال متواصلاً وفي أوج نشاطه, والانقسام في فلسطين ينذر بنهاية دراماتيكية مؤسفة للصراع مع إسرائيل, أما لبنان ­ياعيني عليه ­ فيحث الخطى إلى حتفه المرسوم بدقة من دون أي شعور بالذنب أو بالخطر. كل هذا يضاف إليه صيف حار ومدن ملوثة مكتظة, تجعل المرء يكره نفسه, في بروفة مستديمة ليوم الحشر. وسط كل هذا أي مكان يبقى للحب وأي جمال والأنفاس تشهق, تعبق في الصدور, ولا تُطلق؟
غادرت هرباً من جحيم حزيران في دمشق نحو إحدى أجمل بقاع سوريا, لأتابع يوميات ملتقى النحت الدولي والنشاطات المرافقة. هناك سرعان ما تغير مزاجي ونسيت بشاعة الواقع العام, ليست الطبيعة وحدها تفعل فعلها السحري, بل المبادرات الطيبة التي ترغمنا على رؤية ايجابيات تدعونا الى التأمل في قدرة الإنسان على خلق واحة أمل وسط تصحر مرعب تخلفه السياسات وكوارث الحروب في النفس البشرية. ففي الوقت الذي تتحرك فيه آلة الدمار لتطحن البنى الاجتماعية الشديدة الغنى والتنوع والانسجام في منطقتنا, تحفر في الحجر أزاميل ثمانية نحاتين سوريين وسبعة أجانب من (ايطاليا وفرنسا وروسيا والإكوادور واستراليا وألمانيا وأرمينيا) لتكتب رسالة إنسانية إلى العالم تكشف عن واحد من وجوه المجتمع السوري المنفتح, يُراد التعمية عليه وإغلاقه لصالح تجنين ثقافة الانعزال والتطرف والإرهاب. لم تقتصر نشاطات الملتقى على نحت خمسة عشر عملاً فنياً ضخماً من الرخام, حيث كان إلى الجوار ورشة لتعليم مبادئ فن الرسم والنحت والفسيفساء والتصوير للأطفال, ومعرض للكتاب شاركت فيها عدة دور نشر وحفلات فنية في الهواء الطلق, احتضنها أهالي المنطقة بكرم وحفاوة أعطيا لعنوان الملتقى معناه الحقيقي (الحب والجمال) أسهم الأهالي في دعم الملتقى, وإن كان الدعم الأساسي من الجهات الرسمية, فالمجتمع ككل؛ مؤسسات رسمية وخاصة وأهالي, عبروا عن الرغبة بنجاح فكرة طامحة إلى تكريس «السياحة الثقافية» التي انطلق منها فارس الحلو العام الماضي في ملتقى النحت الأول وحصد نتائج ايجابية, شجعت وزارة السياحة على مضاعفة الدعم لملتقى النحت الدولي هذا العام, وكذلك باقي المؤسسات (الإعلان السورية, مؤسسة المعارض, مديرية المسارح) كما لم تقصر وزارة الثقافة, وقدمت الرعاية مع وزارة السياحة, في تجربة تكاد تكون الأولى في تقديم رعاية مشتركة بين وزارتين لنشاط ثقافي أهلي, كثر شجعوا الفكرة عدا وزارة المالية التي أصرت على فرض ضريبة باهظة على حجارة الرخام التي أرسلها هدية «فرانكو براتيني» صاحب مقالع «مايكل انغلو» الشهيرة في كرارة, بعد لقائه مع فارس الحلو خلال رحلة بحثه عن أحجار أرادها أن تكون الأفضل في العالم, ليفخر بأن ملتقى مشتى الحلو الوحيد في الشرق الأوسط الذي سينجز أعماله من حجر كرارة. براتيني الذي أعجب بالمشروع, قال ان المشاركة في دعم الثقافة يقلل الحروب. لكن وزارة ماليتنا غير معنية بآراء براتيني ولا سواه, مادامت الثقافة آخر همومها, والأغلب على الضد منها, فالذي تعود رسم سياسات ضريبية متقنة لسحب أكبر قدر ممكن من أموال المواطنين, لن تعجبه أفكار دعم السياحة الثقافية, وكان من الأفضل إن لم ترد أن تسهم أو تدعم, فعلى الأقل أن تعفي أو تخفض من الضريبة.
ومع ذلك فإن موقف وزارة المالية (النيئة عن الخليقة) لم يفسد للملتقى قضية, فقد استمر بنجاح على نحو جذب الكثيرين ليلتفوا حوله ضمن حالة تكامل فيها جمال الفن مع جمال الطبيعة والإنسان, فشاركت فرقة (على الرصيف) الأردنية بإحياء حفلات غنائية مجانية لمدة أسبوع في الهواء الطلق, كما ستحيي الفنانة السورية ميادة بسيليس بصوتها الفريد حفل الختام, ما يبشر بنتائج جديرة بالاهتمام والمتابعة والرعاية, كنموذج نتمنى له الاستمرار والتطور, ليس للقيمة الفنية للأعمال التي تزين ساحات البلدة وحسب, بل للحالة الثقافية الاجتماعية التفاعلية التي خلقتها عملية ممارسة الفن في الشارع العام, وتعليم مبادئه للأطفال بما يعيد الاعتبار لسحر الخيال, ويعمق الإحساس بالجمال, ويكرس ثقافة الحوار مع آخر يحل ضيفاً علينا ليترك شيئاً من روحه, في مواجهة مضادة لـ«صراع الحضارات» و«الفوضى البناءة» و«كراهية الآخر».
وهكذا في الوقت الذي تحاك المؤامرات الدولية لتفجير الحروب الأهلية والطائفية في منطقتنا, يقدم الملتقى منحوتات مؤهلة للخلود بمثابة رسائل, كان أبلغها تعبيراً, تمثال ضخم للسيدة العذراء ينحته فنان مسلم, وتمثال آخر ينحته فنان ارميني وثالث اكوادوري ورابع فرنسي وخامس ألماني وسادس استرالي وسابع ايطالي؛ جميعها تنشد الحب الإنساني الرفيع المستوحى من البيئة والثقافة والحياة السورية, بأسلوب واقعي قادر على فتح حوار بصري خلاق مع الجميع, المثقف منهم والعامي, أعمال نأمل أن تجد طريقها إلى شوارع دمشق عاصمة الثقافة كي تصل إلى أوسع شريحة ممكنة, ولا تبقى تنتظر في مشتى الحلو قدوم السائحين صيفاً.
نترك الملتقى والجبل والوادي, ونعود أدراجنا إلى تموز دمشق, لا عزاء سوى هزار غابات الكستناء والدلب والسنديان والصنوبر, وبساتين التين والرمان وهي تتمايل على بعضها بعضاً, تفسح في المجال لأحلام يسودها الحب والجمال في زمن لم يعد فيها حتى للحياة موطئ قدم


بالاتفاق مع الكفاح العربي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...