تسميم عرفات: القصة الكاملة

25-07-2009

تسميم عرفات: القصة الكاملة

كانوا كلما «عطس» يقومون باستدعاء طبيبه الخاص الدكتور اشرف الكردي. لكنه عندما مرض لآخر مرة لم يستدعوه. بعد 18 يوما على النكسة الصحية الخطيرة التي اصابته استدعوا فريقا طبيا مشتركا من مصر وتونس. وعندما تقرر ارساله الى باريس لتلقي العلاج رفضوا ان يرافقه الكردي، كما رفضوا السماح له بتشريح الجثة، ولم يسمحوا له بالاطلاع على تقارير المستشفى حول ظروف الوفاة التي ظلت ملك زوجته.
قبل اسبوعين فجّر فاروق القدومي قنبلته واتهم محمود عباس ومحمد دحلان بالتواطؤ مع ارييل شارون ومساعديه في اغتيال ياسر عرفات، وعاد الكردي الى الكلام، هو الذي كان دائما يشكك في ان عرفات قضى مسموما، ليقول ان تشريح جثة عرفات اليوم لن يفيد بعد خمس سنوات على دفنه، وليعيد ربط الاحداث والوقائع في رواية كاملة. ماذا قال؟

يقول الكردي أنه عندما طلبوه لزيارة عرفات بعد 18 يوما على مرضه الأخير، شكل فريقا ضمه إلى الدكتور سامي الربضي اخصائي أورام ودم، والدكتور علاء طوقان اخصائي الجهاز الهضمي، ذلك أن عرفات كان يشكو من أعراض اضطراب في الجهاز الهضمي. وبعد ساعتين فقط من حصولهم سريعا على موافقة الجهات الإسرائيلية، وصلوا إلى مقر الرئيس عرفات في المقاطعة، من دون أن يلتقوا أياً من الأطباء التونسيين والمصريين الذين سبق استقدامهم. وكان ذلك في الثامنة مساء. يضيف انه وجد عرفات منهكا جدا، وقال له عرفات «عمري ما أُنهكت كما هذه المرة». وقد سأله ممّ يشكو؟ فأجابه «فقدت الشهية للأكل تماما، ونقص وزني، وأنا مصاب بإسهال ومغص». كما انه وجد لون بشرته أصفر، وعلى وجهه دائرة حمراء كبيرة تغطي معظم الوجه. ولدى فحصه من قبله والطبيبين الآخرين، قرروا وجوب مغادرته الأراضي الفلسطينية فورا لتلقي العلاج في دولة أوروبية. وقال له بكل صراحة إن لديه مرضاً خطيراً هذه المرة، ويجب أن يغادر لتلقي العلاج في الخارج. ورد عرفات أن الإسرائيليين، وفقاً للمعلومات التي لديه، وافقوا على أن يسمحوا له بذلك. وأضاف الكردي ان عرفات هو الذي اختار السفر الى فرنسا وقال لهم “أحب أن أذهب إلى فرنسا، لأن لنا علاقات صداقة معها”. وقال: بدوري، طلبت من مدير مكتبه رمزي خوري أن يجمع لي فورا رئيس الوزراء ورئيس المجلس التشريعي، وقادة «فتح» الكبار من عسكريين وسياسيين، وقد جمع لي خمسة عشر منهم بسرعة، وأبلغتهم أن حالة عرفات تستدعي العلاج الفوري في الخارج، وأن وضعه خطير، وأنه يجب أن يغادر هذه الليلة، ما دامت إسرائيل قد سمحت له بالمغادرة، وقد وافقوني. وعلى الفور اتصلوا بالقنصل الفرنسي في القدس، وتم إبلاغه بالطلب، وبعد نصف ساعة فقط تلقوا اتصالا هاتفيا من الرئيس الفرنسي جاك شيراك أبلغهم فيه أن طائرة عسكرية فرنسية مجهزة بمستشفى هي الآن في طريقها إلى عمان، وستصل بعد خمس ساعات لنقل الرئيس عرفات إلى باريس.
ويوضح الكردي أنه بعد ذلك طلب من جماعة السلطة أن يجمعوا له كل الأطباء الذين عالجوا الرئيس قبل وصوله: خمسة من تونس كانت زوجة عرفات هي التي أرسلتهم لعلاجه، وخمسة من مصر، وأربعة أطباء فلسطينيين وطلب منهم تزويده بشرح عن حالة عرفات الصحية، وتبين وجود نقص لدى الرئيس في الصفائح الدموية، بشكل كبير، وبنسبة تصل إلى 75%. وقد طلب فحص النخاع الشوكي المسؤول عن انتاج خلايا الدم، كي يقرروا ما إذا كان سبب نقص الصفائح ناجماً عن خلل في عمل النخاع المسؤول عن ذلك، أم أنه ناجم عن خلل في الدم نفسه. وقد وجدوا أن النخاع العظمي سليم. وهذا يعني أن الصفائح الدموية تخرج من النخاع العظمي إلى الدم سليمة، لكنها تتكسر في مجرى الدم. وهذا يعني أن مادة غريبة قد دخلت مجرى الدم. وبعد تحليل الأسباب التي تسبب تكسُّر الدم، وجدوا أن لديه أحد أمرين:
الأول: أن لديه سرطاناً.
الثاني: أن لديه تسمماً.
 لكن الفحوصات التي أُجريت له في رام الله لم تُظهِر وجود سرطان. وقد علم أن الفحوصات التي أُجريت في فرنسا أيضا لم تُظهِر وجود سرطان. وظهر عليهم التلكؤ في إرساله الى الخارج واقترح الفريق المصري أن يقيموا له غرفة إنعاش في المقاطعة، من دون أن يسافر. ورفضوا تحليل دمه في أوروبا الشرقية.
ولأنه لم يتمكن من مرافقة الرئيس الى باريس فقد دأب الكردي على الاتصال يوميا بالقادة الفلسطينيين، وحاول الاتصال بالمستشفى الفرنسي، للتحدث مع أي من الأطباء الفرنسيين الذين تولوا الإشراف على حالته، لكن أحدا منهم لم يتلقَّ مكالمته، أو يعاود الاتصال به، مع انه كان يترك لهم ملاحظة أنه الدكتور أشرف الكردي، طبيب الرئيس الخاص، ويريد التحدث إلى أحد من الأطباء المعالجين، وكان مفترضا أن يقوموا هم بالبحث عنه كي يضعهم في الصورة.

أطلب عيّنة
وطبيب الرئيس الخاص الذي اكتشف فجأة أن لا لزوم له، يقول انه عندما وصل فاروق القدومي، أمين سر اللجنة المركزية لحركة «فتح» إلى باريس، اتصل به، وقال له رجاء اطلبْ أخذ عينة دم من الرئيس، واطلب أن يقسموها إلى ثلاثة أقسام، وأرسلوا كل قسم إلى واحدة من دول أوروبا الشرقية لأن لدى هذه الدول مختبرات مختصة بالتسمم، ذات مستوى رفيع، كما أنهم غير متحيزين. وعندما عاود الاتصال بالقدومي في اليوم التالي، أو الذي بعده، قال له ان أحدا لم يوافق على ذلك، مؤكدا ان عباس الذي وعده بالمرور عليه في عمان لمرافقته الى باريس لزيارة الرئيس المريض لم يف بوعده وطار الى العاصمة الفرنسية وحيدا.
إلى ذلك، أضاف الكردي انه كان يطالب دائما بأن يرسلوا إليه أي تقرير عن حالة الرئيس الصحية، لكن أحدا لم يستجب. وعندما مات موتا دماغيا، تلقى”إيميل” من المستشفى الذي كان يتلقى العلاج فيه، يقول “جاءنا فلان الفلاني في التاريخ الفلاني ودخل المستشفى وبفحصه وجدنا أن دمه مملوء بـ H.I.B.V. أي الفيروس المسبب لمرض نقص المناعة (الإيدز) مبديا استغرابه من هذا “الإيميل” لأنهم لم يردوا على كل اتصالاته، أو على أي رسالة، قبل أن يبادروا الى ارسال هذا الإيميل!
وتابع: فكرت في هذا، فخلصت إلى نتيجة تقول بالتأكيد إن أبو عمار قد تم تسميمه، وإن السمّ الذي دُسّ له لا يبقى له أثر في الدم بعد أن يسري مفعوله، ويبقى فقط أثر الفيروس المسبب للإيدز. وفيروس الإيدز الذي كان لديه لا يميت على الفور، وقد أرادوا أن يقولوا إنه مات بمرض الإيدز كي لا يترحم عليه الشعب الفلسطيني. عندما مات وأعلنوا وفاته، طالبت في الفضائيات بوجوب تشريح الجثة، ولكن أحدا لم يستجب لطلبي. حملوا نعشه إلى القاهرة، ومنها إلى غزة، ثم إلى رام الله. وبعد دفنه بدقيقتين اتصلت بأبو مازن، وطلبت منه أن يطلب من المدعي العام أن يأمر بفتح القبر، ويشكل لجنة مختصة من أي بلد كان تتولى تشريحها، وتحديد سبب الوفاة لكن عباس رفض”.
وشدد الكردي على أن أبو عمار لم يمت بالايدز الذي دسوه له بهدف التغطية على عملية تسميمه، وان هذا يستدعي تشكيل لجنة تحقيق في فرنسا، لأن السلطة حاولت أن تشكل لجان تحقيق أكثر من مرة، وفي كل مرة برئاسة وزير الصحة الذي يكون على رأس الوزارة، لكن هذه اللجان “ما طلع منها إشي”. التحقيق “المزبوط” يجب أن يكون في فرنسا. كما شُكلت لجنة أخرى برئاسة عبد الجواد صالح عضو المجلس التشريعي، وكلهم كانوا يتصلون به ويقولون “أنت عضو في اللجنة” لكنه رفض الذهاب إلى رام الله. وجدير بالذكر ان الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك قال إنه يعرف سبب وفاة عرفات لكنه لا يريد إعلان ذلك حرصا على قضية الشعب الفلسطيني. وختم الكردي قائلا بثقة “لقد قتلوه بالسم لأنه كان عقبة في وجه عملية السلام”.

رواية كابليوك
وفي السياق إياه نشر الكاتب الاسرائيلي اوري دان وهو احد المقربين من شارون والمؤتمن على اسراره كتابا في باريس اتهم فيه ارييل شارون باغتيال الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات بواسطة السم، مؤكدا ان صحة الرئيس الفلسطيني بدأت في التدهور منذ 14/4/2004 فور انتهاء محادثة ارييل شارون مع الرئيس بوش التي اطلق فيها يد شارون واعطاه حرية التعامل مع الرئيس الفلسطيني.
وتساءل الكاتب امنون كابليوك الذي نشر تلخيصا للكتاب الذي يحمل عنوانا من كلمة واحدة هي «شارون» في صحيفة «هآرتس»: كيف عرف الكاتب دان ان المرض ومسبباته كمنت في جسد الزعيم الفلسطيني في شهر نيسان (ابريل) اي قبل اشهر عديدة من انتشاره وظهور اعراضه القاتلة؟ وقال: لقد حصلت هذا الاسبوع مجموعة غير متوقعه من المصادفات، وحين كنت اطالع كتابا جديدا صدر في باريس يحمل عنوانا من كلمة واحدة «شارون» اصدره الصحفي اوري دان، احد كبار مشجعي ومؤيدي شارون، وصلني نبأ وفاته اثناء مطالعتي الكتاب الذي جهدت للحصول على نسخة منه واستعنت بصديق باريسي من اجل ذلك. واضاف: اتصل بي صديقي الباريسي  المطلع على الشؤون الاسرائيلية معتذرا لانه لم يصدّق روايتي له اثناء اجتماعنا قبل فترة حين قلت له بان الزعيم الفلسطيني لم يمت ميتة طبيعية، وانما كانت يد خارجية غربية هي من تسببت في موته، وذلك بناء على اشارات ومعطيات كثيرة مستذكرا قيام اسرائيل بمحاولة اغتيال خالد مشعل بواسطة سم كيميائي في العام 1997 ، ولا يوجد اي سبب يحول دون قيامها بالشيء نفسه ضد ابو عمار الذي جهد شارون في اظهار كرهه له بمناسبة ومن دون مناسبة مع تهديد واضح بتصفية الحساب معه في الوقت المناسب، وكنت اضفت بعض التفاصيل خلال محادثتي مع صديقي الباريسي وعللت له نظريتي هذه .
وقال: استمع إلي صديقي الباريسي المؤدب بانتباه شديد لكني كنت ألمس منه عدم الاقتناع بكلامي فقال لي: وجهة نظرك مهمة وقد تكون صحيحه لكن من اجل اثباتها يلزم كشف محدد من قبل احد الضالعين في العملية او مصدر مطلع لا يمكن الجدل او التشكيك في صدقيته ولا يوجد الكثير من هؤلاء في بلدكم الصغير.
يتابع الصحفي الاسرائيلي: حين اتصل بي الاسبوع الماضي قال لي لدي مفاجأه كبيرة لك. امامي كتاب الصحفي المقرب جدا من شارون ومحل ثقته اوري دان ويكشف فيه سر اغتيال ياسر عرفات وتفاصيل المحادثة الشهيرة بين شارون وبوش يوم 14/4/2004، تلك المحادثة التي ابلغ فيها شارون الرئيس الاميركي بأنه لم يعد ملزما اكثر بالوعد الذي قطعه له حسب طلبه خلال شهر آذار (مارس) 2001 خلال لقائهما الاول بعد ان هزم شارون ايهود باراك في الانتخابات، وتعهد فيه بعدم المس جسديا بياسر عرفات فرد عليه بوش وقال: من الافضل ان نترك مصير الرجل في يد رب السماء، فقال له شارون: ان رب السماء يحتاج في بعض الاوقات الى مساعدة.
ويروي أيضا: بدأ صديقي يقرأ لي الصفحة 401 من الكتاب التي تناولت تفاصيل المحادثة الشهيرة وقال: بقي الرئيس الاميركي من دون حراك حين سمع كلام شارون ولم يعط شارون ضوءا اخضر لقتل ياسر عرفات، لكنه لم يطلب منه تعهدا جديدا الامر الذي ترك شارون في غاية الرضى وسارع لزف البشرى للصحفيين الاسرائيليين بأن يده باتت طليقة في ما يتعلق بالزعيم الفلسطيني.
وقال الكاتب اوري دان في كتابه الذي تضمن عنوانا هامشيا “محادثات سرية مع اوري دان” ان شارون حلم باغتيال الرئيس الفلسطيني وكان حلم شارون ان يعود قائدا لوحدة كوماندوز تسيطر على مبنى المقاطعة. وسأل دان شارون لماذا لا تطرد عرفات ولماذا لا تقدمه للعدالة ؟ فرد شارون عليه قائلا: اتركني ارتب المسائل على طريقتي.
وكتب دان ان للقادم في روايته اهمية خاصة واستطرد قائلا: مجرد ان اطلق بوش يد شارون خلال المحادثة بينهما يوم 14/4/2004 بدأت صحة الرئيس الفلسطيني بالتدهور ونقل الى المستشفى العسكري “بيرسي” في شهر تشرين الاول (اكتوبر) حيث فارق الحياة يوم 11/11/ 2004، وعاد الى رام الله ليوارى الثرى لكن هناك جميع الدلالات ولا يمكن الخطأ.
سارع الفلسطينيون الى اتهام اسرائيل وشكلوا لجنة تحقيق وكان لا بد من نفي لهذه التهمة الخطيرة الموجهة الى اسرائيل ورئيس وزرائها لكن اوري دان لم يفعل ذلك لماذا؟ والجواب عن هذا التساؤل يأتي في نهاية الصفحة 403 حين قال اوري دان: سيدخل شارون كتب التاريخ كمن اغتال ياسر عرفات من دون ان يقتله.
وقال كاتب التحقيق امنون كابليوك لصديقه الباريسي: ان العبارة الاخيرة تترك الكثير من الضبابية والشكوك، كونها تشير الى اغتيال من دون استخدام الاسلحة النارية. واضاف انه ينوي الاتصال مع اوري دان ليستفسر منه حول الكلمات لكن الكاتب الذي روى كيف ان المرض استحكم في جسد الرئيس الفلسطيني قبل اشهر طويلة من موته توفي بعد محادثتي مع صديقي الباريسي بأسبوع لينضم الى صديقه شارون الموجود في وضع صحي غاية في الخطورة يمنعه حتى من الكلام .
وفي ثنايا التفاصيل التي تتناثر هنا وهناك، هناك من يقول ان طبيبا يهوديا أشرف على اغتيال عرفات، وكما هو معروف فان قوانين الرقابة العسكرية فى إسرائيل والتي تسري على الصحف أيضا، تمنع الكشف عن برنامج السموم الإسرائيلي، ومحاولات إسرائيل تسميم معارضيها. ومع ذلك فإن القصة المشهورة التى ارتبطت بقيام برنامج السموم والحرب البيولوجية الإسرائيلية، تعود إلى ما قبل إعلان إسرائيل نفسها، وترتبط بالشاعر اليهودى الألماني الأصل أبا كوبنر الذى انضم الى عصابات «الهاغانا» اليهودية التي شاركت في حرب 48. كوبنر اتفق مع مجموعة من زملائه اليهود على الانتقام من الألمان، وهذى بفكرة شيطانية، تسميم مصادر مياه عدة مدن فى ألمانيا، والتسبب في موت ستة ملايين ألماني، انتقاما لأسطورة الهولوكست.
ويروى أن مجموعة «كوبنر» التي عرفت فى كتب التاريخ الإسرائيلية باسم «كتيبة الانتقام» بدأت بتنفيذ خطتها. وتقول الدكتورة دينا بورات في الكتاب الوثائقي الذي ألفته عن «شاعر الإبادة الجماعية» أنه حصل بالفعل على كمية هائلة من السموم من قيادات حركة الهاغانا. وسلمه السم إفرايم كاتسير الذي أصبح رئيسا لإسرائيل فى السبعينيات وأخوه أهارون طالب «البيولوجي» بالجامعة العبرية في ذلك الوقت. الأخوان كاتسير اللذان أصبحا كذلك من أشهر علماء إسرائيل، وعملا في معهد فايتسمان، وسلاح العلوم التابع للجيش الإسرائيلي، ذهبا إلى مخزن الكلية، وسرقا كمية من السموم الخطيرة، وقامت عصابات الهاغانا بتوفير أوراق هوية مزورة تخص جنديا من الفيلق اليهودى التابع للجيش البريطاني لكوبنر، واستقل سفينة بريطانية من ميناء حيفا، وعندما رست السفينة في ميناء طولون الفرنسى، ارتاب البريطانيون فيه، وفحصوا أوراقه، وقبل أن يعتقل، تمكن كوبنر من إلقاء علبة معجون الأسنان، وصفائح الأغذية المحفوظة التي ملئت بالسموم في مياه البحر.
ورغم أن معهد فايتسمان، و(سلاح العلوم) التابع للجيش الإسرائيلي شكلا ورشة عمل ضخمة لتطوير برنامج السموم الإسرائيلي تحت إشراف وزارة الدفاع الإسرائيلية، وجهازي الموساد والشاباك، إلا أن المركز الرئيسي لانتاج السموم، ورسم خطط اغتيال المعارضين لإسرائيل، يقع فى المركز العلمي نيس تسيونا أي معجزة صهيون. وهي إحدى المنشآت السرية والأكثر غموضا في إسرائيل. ويتخصص في أبحاث الكيمياء الحيوية، و”البيولوجي”، الفارمكولوجي، وعلم الميكروبات، وغيرها من العلوم النادرة. وعلى عكس المتوقع لا يخضع المعهد الطبي لوزارة الصحة الإسرائيلية، وإنما يتبع مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي مباشرة شأنه شأن الموساد، والشاباك. ويتولى حراسته وتأمينه والإنفاق عليه جهاز مستقل يتبع الملماف (المسؤول عن الأمن في وزارة الدفاع الإسرائيلية). وحصل جهازا الملماف والشاباك على حكم قضائي يمنع الصحف الإسرائيلية من نشر أي معلومات عن قضية الجاسوس الإسرائيلي البروفسور (أبراهام ماركوس) نائب مدير المعهد السابق الذي تجسس لصالح الاتحاد السوفياتي في أوائل الثمانينيات خوفا من انكشاف طبيعة الأبحاث التي تجرى فيه.

قسم ابيقراط
واضح من العرض السابق أن الخبرة الإسرائيلية الواسعة في مجال تسميم المعارضين لها، دفعت ببعض الكتاب العرب، والغربيين للشك في قيامها بتسميم الرئيس ياسر عرفات، ورغم جرائم إسرائيل العديدة، إلا أنها من الصعب أن تعترف بهذه الجريمة، خصوصا وأن تقديراتها الاستخبارية تفيد أن هذا الاعتراف يعني خروج الشارع الفلسطيني في انتفاضة حياة أو موت، وتعرّض إسرائيل لمخاطر وجودية. ومع ذلك أكدت صحيفة معاريف أن طبيبا يهوديا أشرف على علاج عرفات في مستشفى برسي العسكري في فرنسا، وكان آخر من دخل عليه بمفرده، قبيل دخوله في الغيبوبة الطويلة التي لم يفق منها. معاريف تركت الأمور عائمة، واثقة من فطنة القارئ الإسرائيلي. وهذا ما يفسر الايميل الذي أرسله المستشفى الفرنسي الى الدكتور الكردي.
ويؤكد يعقوب هوروفيتس مدير مستشفى سوروكا بإيلات، أن الأطباء اليهود لم يحافظوا دائما على قسم أبيقراط، وسمموا مرضاهم، مثل الطبيب اليهودي رودريغو لوبيز الذي قتل ملكة انكلترا اليزابيث الأولى بخاتم مسموم، لمصلحة عدوها ملك أسبانيا فيليب الثاني، وقبض عليه، ونفذ فيه حكم الإعدام سنة 1594.
ويقول الدكتور بني أربيل المؤرخ في جامعة تل أبيب إن تاريخ مدينة البندقية مليء بمحاولات الاغتيال بالسم التي أشرف عليها، ونفذها مجلس العشرة الحاكم في ذلك الوقت، والذي كان يملك صلاحيات أمنية وسياسية واسعة. ويضيف ضاحكا: تماما مثل مجلس الوزراء الإسرائيلي المصغر الذي يضم ممثلين للموساد والشاباك. والدكتور اربيل يقول إنه يملك وثائق وأدلة تاريخية جمعها في رسالته الأكاديمية تفيد أنه (في العام 1477، وفي عز الحرب مع الأتراك التي استمرت 16 عاما، وكبدت البندقية ثمنا باهظا، عرضت مجموعة من اليهود يتزعمها شخص يدعى شلومو على مجلس العشرة تسميم السلطان التركي محمد الفاتح الذي حرر اسطنبول من قبضة البيزنطيين، وحولها عاصمة للعثمانيين. وتلخص العرض في أن شلومو ورفاقه سيغتالون السلطان العثماني بمساعدة طبيب البلاط اليهودي مقابل مبالغ مالية طائلة، وتحسين وضع الطائفة اليهودية في البندقية.
وخبراء السموم الاسرائيليون لا يرون غضاضة في استخدام السم لقتل الزعماء والسياسيين، ويقول البروفيسور رون بركاي من قسم التاريخ في جامعة تل أبيب إن القتل بالسم أمر ممتع ومثير حقا، فهي طريقة فعالة، ولا تترك آثارا، على عكس القتل بالسيف والسكين، فالسم يجعل من الصعوبة بمكان، معرفة الجاني. ويضيف بركاي: لهذا السبب كلف الحكام المسلمون الأطباء بدراسة أنواع السموم، لاتقاء شرها، فقام موسى بن ميمون بتأليف كتاب عن السموم ومضاداتها في القرن الثاني عشر وأهداه للقاضى الفاضل حاكم مصر، وترجمه للعبرية، ليستفيد منه اليهود. وقد أعاد الإسرائيلي زيستر مونتنر طبعه ونشره بالعبرية في العام 1942.وكتب في المقدمة أنه كان ولايزال كتابا يثير الحيرة عند قراءته بسبب غزارة ودقة المعلومات عن السموم وأنواعها وتركيبها، والمضادات الكفيلة بإبطال مفعولها.

3 احتمالات
قبيل نقل الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات للعلاج في مستشفى بيرسي العسكري في فرنسا، لفت مصدر طبي من المشرفين على علاجه الاهتمام حين قال: “إن الصفائح الدموية في جسم أبو عمار تتناقص لسبب غير معروف، وحدد ثلاثة احتمالات متوقعة من وراء هذا التناقص، وهي: “إما الإصابة بالسرطان، والتي نفتها التحليلات الطبية اللاحقة.. وإما الالتهابات، وهي لا تسبب موتا مفاجئا، وإما التسمم. كان طرح هذا الرأي، واستخلاص هذا الاستنتاج يشير إلى السجل الحافل للموساد الإسرائيلي في ممارسة هذا النوع من عمليات الاغتيال، والتي ثبت تورط الموساد في تنفيذ بعضها بشكل قاطع حين تعرض خالد مشعل لمحاولة اغتيال في الأردن في العام 1997 بعد حقنه بمادة سامة في الأذن في أحد شوارع العاصمة الأردنية عمان.
لقد جرت وقائع محاولة اغتيال مشعل عبر مخطط دقيق أعده الموساد الإسرائيلي، بحيث تتم عملية الاغتيال من خلال اشعال “شجار عابر”، يتم خلاله حقن خالد مشعل، على أن يموت بعد ذلك بفترة يبدو معها موته طبيعيا. ولكن يبدو أن الموساد الذي خطط ورتب للعملية لم يتوقع أن تتعرض عمليته لانتكاسة تكشف دوره في تنفيذها. يومها تمكن الحارس الشخصي لرئيس المكتب السياسي لحركة حماس من ضبط عميلي الموساد اللذين كلفا بتنفيذ العملية، وتدخل العاهل الأردني الراحل الملك حسين لإرغام الحكومة الاسرائلية على تقديم الترياق المضاد للسم الذي طعن به مشعل، مما نجم عنه أن أفاق من غيبوبته، ثم عاد مجددا بعد أن كتبت له الحياة.
هكذا يحمل السجل الحافل للموساد الإسرائيلي قديمه وحديثه عمليات من هذا القبيل، مثلما أشار إلى ذلك بسام أبو شريف المستشار السابق لياسر عرفات، حين أدلى بتصريحات اتهم فيها إسرائيل باغتيال عرفات بالسم، وشبٌه ما تعرض له عرفات بعملية الاغتيال التي سبق أن نفذت في حق الشهيد الفلسطيني وديع حداد، موضحا أنه سبق أن حذر عرفات من محاولة لاغتياله بالسم في خطاب سبق أن أرسله إليه قبيل عدة أشهر. وإذا كان بسام أبو شريف قد حذر عرفات من محاولة إسرائيلية متعمدة لتسميمه، فإن ما تسرب من معلومات ان هناك خطة اسرائيلية لاغتيال عرفات بالسم، أو ما تم كشفه من تفاصيل أخرى حول ما جرى لعرفات من عملية تسميم كان بمثابة “الحجرالذي حرك البحيرة الراكدة، ودفع بالجهات المعنية إلى التحرك بعدما فتح عيون الجميع على اللغز الغائب في تدهور صحة عرفات، الأمر الذي دفع البعض إلى اتهام إسرائيل صراحة باغتيال عرفات بالسم. وقد أدلى مقربون من عرفات في لحظاته الأخيرة بتصريحات مثيرة تكشف حقيقة وأسباب وفاته، فلقد أشارت ليلى شهيد رئيسة البعثة الفلسطينية في باريس إلى أن أمر تسميم عرفات احتمال قائم، وقالت إن من المحتمل تماما أن يكون الإسرائيليون قد سمموه فيما اضطر الدكتور أشرف الكردي الطبيب الخاص لعرفات إلى التشكيك، مشيرا إلى احتمال أن تكون وفاته ناجمة عن عملية تسميم تمت له باستخدام سم بطيء التأثير، وهو ما دفع اتحاد الأطباء العرب إلى الاتصال وتأكيد شكوكه. وأشار إلى عدد من الدلالات في هذا الشأن، ومنها عملية الاقصاء المتعمدة التي تعرض لها منذ لحظة اتخاذ القرار بنقل عرفات للعلاج في باريس وحتى إعلان وفاته. رغم إلمامه بالتاريخ المرَضي للرئيس كونه طبيبه الخاص منذ ما يزيد على عشر سنين. وفي ضوء هذه الدلائل والشكوك، قرر اتحاد الأطباء العرب بدوره تشكيل لجنة للتحقيق في أسباب الوفاة، وصولا إلى اصدار تقرير طبي نهائي عن طبيعة الوفاة والظروف التي صاحبتها. لقد شرعت بعض الأجهزة الفلسطينية في إجراء تحقيقات سرية مع بعض المحيطين بعرفات، والذين كانوا يشرفون على حياته اليومية من مأكل ومشرب، وتلقي رسائل بريدية لمعرفة كيفية وصول السم إلى جسد عرفات. وهنا تشير المعلومات إلى أن عرفات مات قبل أن يتم الإعلان عن وفاته رسميا بأيام عدة، وأن الرئيس الفرنسي جاك شيراك كان أول من عرف بوفاته بعد أن أبلغه كبير الأطباء في مستشفى بيرسي بذلك. كانت وجهة نظر الرئيس الفرنسي شيراك هي أن يتم فورا الإعلان عن وفاة عرفات، إلا أنه عندما سأل أطباءه عن السبب الرئيسي في وفاته... فإن الأطباء الفرنسيين جزموا في تقرير سري أرسلوه إلى شيراك بأن المرض الذي يعانيه غير محدد بالدقة، وأنه يعاني من تسمم بطيء غير معروف، وأن السم الذي قتل به عرفات هو من الأنواع غير المتداولة في العالم، وأنه يحوي “خلطة سحرية” تحمل السم ونقيضه في آن واحد، فهي تحمل السم الذي يمكن أن يعطل الأجهزة ويحمل في ذاته العناصر الدوائية التي يمكن أن تنفي السم في حال الكشف علي هذه الأجهزة، وأن هذا السم لا بد من أن يكون قد تم اختراعه أو تجهيزه بعد المرور بالعديد من التجارب، وأنه أخذ حيزا كبيرا من الوقت حتى تم التوصل إلى معادلة التركيبة القاتلة، والتي تنفي في النهاية إصابته بالسم.
وبحسب التقارير المتوافرة فإن الملامح الأولى بعد نقل الرئيس الفلسطيني الراحل إلى باريس كانت تشير إلى أن في جسد عرفات  العديد من البقع الحمراء التي لا تلبث أن تظهر، حتى تختفي، الأمر الذي حدا بأحد الأطباء الفرنسيين على القول بأن ذلك هو الخطأ الوحيد في تلك الخلطة السحرية من السم. فمعادلة التركيب لعناصر السم الكيميائية لم تصل في الدقة المتناهية إلى الحد الذي لا يظهر هذه البقع الحمراء على الجلد، وفي مناطق معينة. وأرجع أحد الأطباء ذلك إلي أن أجساد الحيوانات التي أجريت عليها تجارب هذا السم، وخصوصا الفئران تختلف عن الجسد البشري، الذي يكون أكثر حساسية لهذه الخلطة السحرية، والتي لا تبدو لها آثار على الفئران أو غيرها، مما جعل البقع الحمراء تختفي، وهذا ما خدع القائمين على أمر هذه الخلطة السحرية للسم. وهنا يبدو السؤال المهم هو عما إذا كانت هذه البقع الحمراء التي ظهرت عل جسد عرفات هي وحدها التي تنبئ وتؤكد أن عرفات كان مسموما.
وتؤكد التقارير الطبية أن التشخيص الطبي ربط بين ظهور هذه البقع، وحرارة داخلية في جسد عرفات، وأنه إذا ما تم علاج هذه الحرارة الداخلية، فإن البقع الحمراء ستزول. وهذا ما حدث. فبعد أن حصل عرفات على المسكنات والمضادات الكافية للتعامل مع الحرارة الداخلية في جسده، زالت البقع الحمراء، وكان هذا وحده كافيا لتأكيد  ربط البقع الحمراء بالحرارة الداخلية لجسده، إلا أنه وبعد يوم من وصول الحرارة الداخلية لجسده لمعدلاتها الطبيعية انتشرت البقع الحمراء مرة أخرى، الأمر الذي أدى إلى حيرة الأطباء، خصوصا وأن تكسير الصفائح الدموية لا يرتبط بهذا المرض. فأشار بعضهم إلى أن عرفات يعاني من مرض جلدي، وبدأت رحلة البحث في هذا الاتجاه، إلا أنه، وخلال رحلة البحث تلك ظهر ‘ازرقاق’ في بعض أجزاء الجسد، وزرقة الجسد في بعض المناطق ارتبطت في الوقت ذاته باختفاء البقع الحمراء.
ورأى الأطباء أن يوقفوا بحثهم عن البقع الحمراء، ويبحثوا عن تفسير لزرقة الجسد في بعض المناطق، وقد أشار التشخيص الطبي الذي تم إلى أن الدم لا يصل إلى هذه المناطق، الأمر الذي حدا بالأطباء المعالجين على تزويد عرفات بدم نقي، وبكميات متناسبة حتى يتم اختفاء هذه الزرقة، حيث بدأت زرقة الجسد تختفي لعدة ساعات، إلا أنها سرعان ما عادت للظهور بدرجة أكبر عما كانت عليه في اليوم السابق.
أحد الأطباء الذين شاركوا في التشخيص الطبي أكد أن لا علاقة للدم بهذه الزرقة، وأن ما حدث يعود إلى سبب خارجي وطارئ على الجسم وأن هذا السبب الخارجي والطارئ إنما يكمن في أن الجسم “تزود” بمادة غير مألوفة وأن هذه المادة قاتلة، ولكن في حالة عرفات، فقد تم تزويده بكمية من هذه المادة حتى تقتله تدريجيا وببطء من دون أن تترك أثرا في جسده. وهنا تستعيد الذاكرة طريقة وفاة الزعيم المصري الخالد جمال عبد الناصر في أواخر أيلول (سبتمبر) من العام 1970.
هل يمكن للجسم أن يطهر نفسه من هذه المادة السامة بعد فترة؟ كان هذا أحد الأسئلة المحورية التي انشغل بها بعض الأطباء المعالجين لفترة. ولكن في حالة عرفات فإن هذه المادة السامة بدأت تتطهر من الجسد بعدما وصلت إلى الحد الذي أعيت معه كل الأجهزة، وأصبحت غير قادرة على العمل، وأن عودتها للجسم أصبحت من شبه المستحيل. وهي مادة سامة لا تظهر في الدم إلا نادرا، ولكن مناطق تمركزها الرئيسية تكون في النخاع الشوكي تارة والمخ تارة أخرى والمفاصل تارة ثالثة، وأنها في أحيان أخرى تترك هذه المناطق لتعود إلي الدم. وكما قال أحد الأطباء: إنه شيء محير.

تقرير بيرسي
التقرير الطبي لفريق مستشفى “بيرسي” هو احدى الوثائق الأكثر حفظاً للسلطة الفلسطينية. سُلمت نسخة واحدة منه للأرملة، سهى عرفات. ونُقلت نسخ معدودة اخرى الى أيدي بعض كبار المسؤولين في السلطة. في مئات الصفحات، يوثق الاطباء كل فحص مر على الرئيس في فرنسا، وكل شك فُحص ويسترجعون ماضيه الطبي. الوثائق المختلفة محفوظة في إضبارتين سميكتين. يقول التقرير  أنه ومع مرور الساعات غرق عرفات في غيبوبة عميقة. ولم تكن هذه المرة منعكسة ايضا. ورغم انقطاعه عن المستشفى، تابع دحلان الحصول على تقارير دائمة من الاستخبارات الفرنسية عن وضع الرئيس. وفي الثالث من تشرين الثاني (نوفمبر) هاتفه أحد ضباط الاستخبارات وقال له ان عرفات في وضع حرج و”الحديث عن مسألة ساعات”. قرر دحلان العمل. خرج الى المستشفى ولقي سهى، لكنها رفضت في هذه المرة ايضا أن تُمكنه من زيارة قائده ورفضت اقتراحه أن يستدعي الى باريس أبو مازن وأبو علاء وعندها غادر دحلان الى رام الله ليُحدث الوريث أبو مازن بالوضع. في هذه الاثناء كان قد وصل الى المستشفى الرئيس الفرنسي، جاك شيراك، الذي نظر الى عرفات من خلال نافذة زجاجية في غرفة علاج الطوارئ. شيراك، الذي سمع عن الغضب الذي يثيره رفض سهى تمكين قيادة السلطة من رؤية عرفات قبل موته، توجه اليها وطلب أن توافق على الزيارة مع ذلك. “انه في الحق زوجك، لكن الحديث هنا عن شخصية عامة ايضا”، لكن سهى الغاضبة لم تتردد في إجابة ضيفها بشدة ايضا: “اذا ما سمحتَ للمسؤولين الكبار بزيارته، فسأقدم شكوى عنك الى المحكمة. لا تتدخل”. ولعل هذه الواقعة تنبئ عن أمر ما في نفس ارملة الرئيس تجاه كل من دحلان وعباس.
اجتمع دحلان ، وأبو مازن وحدهما. وأشار عليه بالمغادرة عاجلا الى باريس، بالرغم من معارضة زوجة الرئيس. احتار أبو مازن وأبو علاء. لقد تخوفا من ان يصلا الى مستشفى “بارسي” وأن يُطردا من هناك، وستجد القصة طريقها الى الاعلام وقد يكونان متهمين بمحاولة عزل.
 تحدث دحلان مرة اخرى الى سهى، هذه المرة من بيت أبو مازن، بحضور مسؤولي السلطة الكبار: “نحن نُجلك وسنساعدك”، لكن سهى بقيت على موقفها. “لن أسمح لأي أحد بالدخول اليه” وفي نهاية المطاف توجه الأمين العام للسلطة الطيب عبد الرحيم الى الحضور وحذرهم قائلا “قد تسقط السلطة الفلسطينية اذا لم يخرج وفد من فوره الى باريس”. وافق المشاركون في اللقاء وبعد مضي ساعة غادر عباس ، وأحمد قريع ورئيس المجلس التشريعي، روحي فتوح، الى فرنسا. وعندما سمعت سهى أن الوفد الفلسطيني في طريقه الى باريس خرجت عن طورها. وأرسل محاموها رسالة الى ادارة المستشفى وهددوا بتقديم دعوى اذا ما مُكّن المسؤولون الفلسطينيون الكبار من الزيارة. وفي السابع من تشرين الثاني، رفضت سهى لأسباب مبهمة توصية لا لبس فيها من فريق الاطباء أن يُجرى على عرفات فحص “بيوفسيا” في الكبد لنفي امكان وجود مرض لمفاوي نادر. وفي الوقت ذاته، توجهت الى مراسل شبكة “الجزيرة” في فلسطين المحتلة، وليد العمري، وطلبت اليه أن ينقل اعلانا خاصا ببث حي. دهش العمري، مثل ملايين مشاهديه، لسماع الاقوال التي قرأتها مكتوبة، في حديث هاتفي معه: “هذه دعوة للشعب الفلسطيني. إن جماعة من المتآمرين تريد دفن أبي عمار وهو ما يزال حياً.. لكنه في وضع صحي جيد وسيعود. لن أسمح بذلك”. عمل الاعلان الدرامي مثل عصا مرتدة. وقامت وسائل الاعلام في ذلك اليوم باجراء لقاءات مع مواطنين فلسطينيين هاجموا سهى بسباب مقذع. شعر مسؤولو السلطة الكبار، الذين كانوا قد وصلوا في تلك الاثناء الى باريس، شعورا جيدا بالدعم الذي يصل من المناطق. وفي تلك الأثناء تحدث الرئيس التونسي زين العابدين الى سهى وحذرها من انها “تجاوزت كل حد”. وأعطى هذا الانتقاد مفعوله. وعندما وصل الوفد الفلسطيني الى مستشفى بيرسي (بعد لقاء مع الرئيس شيراك)، انقضت سهى على اعضائه باكية، واحتضنتهم وقبّلتهم واعتذرت منهم عما بدر منها تجاههم. ومع ذلك تم الاتفاق على أن يُسمح لأبو علاء فقط بزيارة عرفات.
 وما أن دخل الغرفة التي يرقد فيها الرئيس حتى “انهار أبو علاء بعد رؤيته الرئيس المريض ، يقول أحد النظارة من خلال النافذة. “كان جسم الرئيس كله موصولا بأنابيب، وقد فقد وزنا بصورة ملحوظة ولم يكن في وعيه. اضطر أفراد الفريق الطبي الى مساعدة أبو علاء على القيام عن الارض”. وحصل اعضاء الوفد على توجيه رسمي من الفريق الطبي عن حالة الرئيس (بحسب قرار السلطات الفرنسية وخلافا لطلب سهى). “بيّن رئيس فريق الاطباء في بيرسي ومدير المستشفى أن كل اجهزة الجسم توقفت عن العمل”،وفي هذا الصدد يقول ناصر القدوة، ابن شقيقة الرئيس، الذي كان آنذاك سفير منظمة التحرير الفلسطينية في الامم المتحدة. “قالوا إن الامر قد ينشأ عن عدة اسباب: السرطان، أو تلوث شديد أو تسميم. لكن الاطباء بينوا انهم كشفوا يقينا عن ان عرفات ليس عنده سرطان ولم يوجد فيه تلوث شديد. وبحسب اقوالهم، لم يجدوا دليلا على أي سُم معروف”.
عاد الوفد الفلسطيني أدراجه الى رام الله وقد بدا واضحا لاعضائه أنه يجب الاستعداد سريعا لجنازة عرفات ولنقل السلطة. وبطلب من العائلة، سافر رئيس المحاكم الشرعية الفلسطينية، الشيخ التميمي الى باريس، لكي يكون رجل دين بجوار الرئيس في لحظاته الأخيرة.
كان عرفات قد فارق الحياة بدخوله في غيبوبة وبقي فقط الاعلان الرسمي عن موته ومرت ستة ايام منذ أن غاب عن الوعي، لكن الشيخ التميمي أبلغ من المستشفى أن عرفات، الموصول بآلات التنفس، ما يزال حيا. وبحسب الشريعة الاسلامية، فانه يحظر فصل انسان عن آلة التنفس، وهو ما يزال يُعرّف حيا.
في يوم الثلاثاء، التاسع من تشرين الثاني (نوفمبر) وفي الرابعة فجرا فتح عرفات عينيه للمرة الأخيرة. رد على اللمس وعلى الخطاب الشفهي. بعد ذلك بنحو ساعة لم يعد هنالك رد. بيّن فحص سي.تي أُجري على دماغ الرئيس نزفا شديدا، “مثل تسونامي”، في أجزاء مختلفة من الدماغ. وقد رُفض إمكان إجراء عملية جراحية رفضا تاما بسبب وضعه العام. “علمنا في لاوعينا ان الامر قد انقضى، لكننا تابعنا التأمل طول الوقت”، يقول القدوة. ولكن في الحادي عشر من تشرين الثاني في الساعة 3:30 فجرا، مات عرفات في المستشفى في باريس، بعد نحو اسبوعين من تركه المقاطعة، التي دفن فيها لاحقا. أُعيدت جثة الرئيس الى المقر الرئاسي في رام الله، بعد مراسم وداع منضبطة في القاهرة وفي باريس. هبطت مروحيتان من طراز سوبر فارلون، مصريتان هذه المرة، وهما محاطتان بجمهور كبير. هبّ آلاف الناس نحو المروحية التي حملت جثة “الأب”. لم تُستجب توسلات المنظمين أن يُمكّن جمهور عشرات الآلاف من نقل نعش عرفات الى مكان الدفن. أطلق عشرات من أفراد قوات الأمن النار في الهواء يهدفون الى تفريق الجموع، لكن اطلاق النار اختلط باطلاق نار التشريف للمسلحين من كتائب شهداء الاقصى. بعد بضع ساعات فقط، في خضم الهياج الكبير، نجح منظمو الجنازة في دفن ياسر عرفات، وقلة قليلة فقط من الحاضرين تشهد ذلك .بمعنى أنه تم دفن الرئيس تحت جنح الظلام لاخفاء السر معه .ولا شك في أن القدومي أخطأ بتأخير الاعلان عن محضره وكان الأجدى به كشف السر في حينه.

اسعد العزوني

المصدر: الكفاح العربي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...