غسان الرفاعي: الاستعصاء والسخرية

07-06-2010

غسان الرفاعي: الاستعصاء والسخرية

ـ 1 ـ لجأ الإعلام الموالي للعنصرية الإسرائيلية، في المدة الأخيرة، إلى التستر على ثلاث مفاجآت، لم تكن منتظرة قبل أن تسقط كل الأقنعة (الحضارية الديمقراطية) المزعومة، بعد الاعتداء الإجرامي على ناشطي حقوق الإنسان الذين أبحروا على ظهر (أسطول الحرية) حاملين معهم المساعدات والخير والبركة لسكان غزة، والدعم لصمودهم البطولي في وجه الهمجية الإسرائيلية.

المفاجأة الأولى: صدور بيان (دعوة إلى العقل) الرافض للسياسة العدوانية الإسرائيلية والذي وقع عليه 3000 من المثقفين اليهود الأوروبيين وقد ورد فيه: (إن الاستمرار في بناء المستوطنات في الضفة الغربية، والأحياء العربية من القدس هو خطأ سياسي، وخطيئة أخلاقية، ومن المؤكد أنه لا يمكن أن يتوفر الأمن لإسرائيل إلا بقيام الدولة الفلسطينية المستقلة..). ‏

والمفاجأة الثانية: الزيارة الصامتة التي قام بها المفكر الأميركي حامل جائزة نوبل »نعوم شومسكي« إلى باريس، والمقابلة اليتيمة التي أجرتها له القناة الثالثة من التلفزيون الفرنسي، عشية ارتكاب إسرائيل لعدوانها على ناشطي حقوق الإنسان في أسطول الحرية، والتي قال فيها: (منذ ثلاثين عاماً، وإسرائيل تقتل الأبرياء وتخطف المناضلين الشرفاء، وتعتقل وتعذب النساء والأطفال، منذ ثلاثين عاماً وإسرائيل تمارس ارتكاب الجرائم ولا تبالي بالخروقات لكل القوانين والمواثيق، ونحن صامتون نبرر تجاوزاتها بوقاحة). ‏

والمفاجأة الثالثة: صدور الكتاب المثير للمفكر الفرنسي الكبير روجيس دوبريه بعنوان: (رسالة إلى صديق إسرائيلي)، ويتضمن أقذع فضح لعنصرية إسرائيل، ودورها اللاأخلاقي الاستفزازي في الشرق الأوسط ـ قُدم تلخيص للكتاب في أسبوعيات سابقة ونشر في تشرين ـ ولكن الإعلام الموالي فشل في التستر على الجريمة التي ارتكبت على سفينة مرمرة وسقوط القتلى والجرحى من الأبرياء على يد القتلة الإسرائيليين، وبعد أن ثبت أن هدف الناشطين هو تقديم المساعدات الإنسانية لشعب محاصر ومهدد بالعدوان، لم يكن بمقدور أجهزة الإعلام أن تتستر على الجريمة، فكان أن تصدرت أخبار الجريمة وتداعياتها العناوين الرئيسية في كل الصحف والمطبوعات وفي أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة. ‏

ـ 2 ـ ‏

يحار المتابع للبيانات والتصريحات التي تصدر عن المسؤولين الأميركيين في تفسير تناقضاتها، وفهم مقاصدها، خصوصاً إذا كانت عن الشرق الأوسط، لقد تلاشت، أو كادت، شحنات التفاؤل التي أشاعها وصول أوباما إلى البيت الأبيض، وتوجهاته الجديدة، سواء التي أطلقها من تركيا أو من جامعة القاهرة، باتجاه العالمين العربي والإسلامي، وعاد التحالف البغيض بين الدبلوماسية الأميركية، والعدوانية الإسرائيلية، يتصدر التحركات الدولية، ويبشر بتطورات قاتمة وغير محتملة. ‏

لقد طغى صمت إعلامي على اللقاء بين الرئيس أوباما ورئيس وزراء إسرائيل نتنياهو في البيت الأبيض، ومنع المصورون من التقاط الصور التذكارية ولم يصدر بيان رسمي عن اللقاء، كما لم يعقد مؤتمر صحفي مشترك وقيل: إن كل هذه الإجراءات مقصودة لإظهار امتعاض أوباما من موقف نتنياهو ورفضه المهذب لتجميد الاستيطان في الضفة الغربية، والقدس الشرقية، ثم فجأة تسلل الاعتذار الرسمي إلى الإعلام وزعم بأن البيت الأبيض قد وجه دعوة جديدة إلى نتنياهو بصفة شخصية من أوباما وأن الزيارة الجديدة ستحاط بالضجيج الإعلامي تحت شعار: متانة العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل، بل إنها ستسبق زيارة رسمية أعلن عنها لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، على الرغم من تلاحق المسلكيات الرسمية الإسرائيلية التي توصف بالاستفزازية خلافاً لوصايا الموفد الشخصي للرئيس أوباما جورج ميتشل، ولولا تفجر كارثة أسطول الحرية، ومارافقها من فضائح دموية لكان نتنياهو يتصدر العناوين الرئيسية في الإعلام الأميركي. ‏

وقد أظهرت المحافل الدبلوماسية الدولية والعربية ارتياحها بعد أن أعلن أن الولايات المتحدة قد وقعت على البيان الختامي الذي صدر عن مؤتمر الحد من انتشار الأسلحة النووية وفيه ذكر لإسرائيل بالاسم، حين الحديث عن ضرورة خلو منطقة الشرق الأوسط من الأسلحة النووية، وكم كانت الدهشة كبيرة حينما أعلن الرئيس أوباما شخصياً اعتذاره على ورود اسم إسرائيل في البيان، ويؤكد من جديد على متانة العلاقات الخاصة بين الولايات المتحدة وإسرائيل ولم تمض 24 ساعة على صدور البيان حتى أعلنت إسرائيل، بكل صفاقة، أنها لن تلتزم به، وأنها لن تعرض منشآتها النووية لمراقبة مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وأنها ستحافظ على سياسة التكتم فيما يتعلق بامتلاكها للسلاح النووي. ‏

هناك إجماع دولي على أن حصار غزة الظالم هو إجراء غير قانوني، وغير مقبول، إذ لا يجوز أن يحرم مليون ونصف مليون من الفلسطينيين من الغذاء، والمواد الطبية ومواد البناء ويحظر عليهم إعادة إعمار مساكنهم، ومشافيهم ومدارسهم التي دمرها العدوان الإسرائيلي، وتجري محاولات لكسر هذا الحصار تشارك فيها دول ومنظمات وشخصيات نافذة، ولكن إسرائيل تعلن بكل فظاظة أنها لن تسمح بخرق الحصار وأنها ستمنع بالقوة من يتجرأ على الاقتراب من شواطئ غزة ويبدو أن الولايات المتحدة مصممة على ابتلاع الإهانة وعلى التغاضي عن الحصار على الرغم من دعوتها إلى المفاوضات غير المباشرة وحماستها للتسوية الشاملة في الشرق الأوسط ولا يخجل مسؤول أميركي كبير من الإعلان عن أن تصرف إسرائيل هو مظهر من مظاهر السيادة ولا يحق لأحد أن يتدخل. ‏

ـ 3 ـ ‏

ألم يكن نعوم شومسكي على حق حينما طلب من المستمعين إليه أن يصرخوا، كما صرخ الكاتب الأميركي روبرت ستون، في روايته الجديدة فحيح الأرواح، والتي سبق له أن أطلقها في روايته (محاربو الجحيم) حول الحرب الفيتنامية وأن يرتفع الصراخ حتى يصم الآذان ويستقر في أعماق القلوب، لقد أعلن أنه يشعر بالاغتراب والاستلاب في مدينة نيويورك على الرغم من أنه من أكثر الأوفياء إلى هذه المدينة التي تغلي بالحيوية والصخب الفكري. ‏

يكتب في مقدمة الرواية التي صدرت بعد حرب العراق: لكم أشعر أنا وأصدقائي من المثقفين والكتاب بالغربة والاستلاب، إننا نتهامس في مجالسنا في غضب ومرارة: آه، إن رئيسنا جلف، أحمق، كذاب، وكم نسخر من الجهلة من أمثال رامسفيلد، وتشيني حينما يتحدثان بابتذال عن الحضارة الغربية ويبدي ستون إعجابه واحترامه بثقافات وحضارات العالم الثالث الذي يناضل في شجاعة ورواقية من أجل التحرر والخروج من الطوق الفولاذي الذي يحيط به من كل جانب ويتساءل: كيف يمكن أن نتحدث عن الديمقراطية في الداخل ونمارس الاغتصاب والإرهاب في الخارج؟ لقد سيطر رجال المافيا الصناعية والتجارية على مقدراتنا وصادروا ثقافتنا وأصالتنا وليس لهم من همّ إلا جني الأموال، واستعباد الناس، والسيطرة على نفط الشرق الأوسط، ويقول في الفصل الأخير من روايته: العالم منقوش على جسدي، أنا أتألم لما يجري في العراق، في فلسطين، في أفغانستان، وفي التشيلي، والشيشان والبوسنة، ويضيف: أنا لست ناطوراً ليلياً ولكنني أرى النار وهي تحرق المنازل المجاورة، إنها تتقدم نحوي ولهذا فأنا أصرخ أصرخ لإيقاظ النائمين وكما انطبق هذا القول على عهد بوش فإنه ينطبق أيضاً على عهد أوباما وهذا ما قاله نعوم شومسكي. ‏

ـ 4 ـ ‏

لم يكن المقال الذي نشر في صحيفة اللوموند لرئيس وزراء فرنسا السابق دومينيك دوفيلبان 2005 ـ 2007 أقل غضباً ومرارة لقد استهله بالقول: إن القرصنة الوحشية التي تعرضت لها سفينة مرمرة في المياه الدولية برهان جديد على عدم اكتراث إسرائيل بالقوانين الدولية، وإفلاسها الدبلوماسي، ومما يجعل الأمور أكثر استحالة على الفهم أن هذا التصرف الأرعن تجاه سكان غزة يصدر عن مجتمع يزعم أنه مفتوح وديمقراطي ومزدهر، إن إسرائيل تهرب إلى الأمام بحماقة وعوضاً عن العمل على التعايش مع الفلسطينيين تمضي قدماً في بناء الجدران العنصرية العازلة وتقتحم جنوب لبنان في صيف 2006 ثم لا تتردد في تدمير غزة تدميراً حاقداً، وهذا التصرف قاد إسرائيل إلى المزايدات المتعجرفة: دوماً اللجوء إلى القوة دوماً الاعتماد على ما لا يمكن تحمله وقبوله ولكن ما تفعله إسرائيل غير مجد وسيقودها إلى الدمار. ‏

وتحدث دومينيك دوفيلبان عن ثلاثة مآزق واستعصاءات ليست في مصلحة إسرائيل: المأزق الأول هو العزلة التي ستخنق إسرائيل عاجلاً أم آجلاً، وقد تجسدت هذه العزلة في توتر العلاقات مع الولايات المتحدة وفي نهاية التحالف الاستراتيجي مع تركيا وفي تصاعد الرفض الشعبي في كل مكان للعدوانية الإسرائيلية، ثم هناك المأزق الثاني ويتجسد في تصاعد الشكوك على مستوى الوحدة الوطنية الداخلية، وعلى صعيد التحالفات الخارجية ومما يدعو إلى الريبة أن الحركة الصهيونية التي طرحت نفسها كحركة تحرر وطني وانفتاح تحولت اليوم إلى حركة عنصرية حاقدة، وأخيراً هناك المأزق الثالث وهو الوصول إلى الاستعصاء في عملية السلام ذلك أن استخدام القوة المفرطة لابد من أن يولد التطرف، ما يخرب كل المساعي لتحقيق السلام. المطلوب هو كسر حاجز الخوف والمساعدة على قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، وهذا معناه في نهاية المطاف القبول بإشراك حماس في مفاوضات السلام والإذعان لقرارات الأمم المتحدة. ‏

ـ 5 ـ ‏

تلاطم الأحداث داخل حدودنا ومن حولنا وفي العالم وما تثيره من ردود أفعال متزنة بعض الأحيان واعتباطية في معظم الأحيان قد تحولنا إلى قبائل جاهلية لا تجيد إلا فن الردح والاقتتال. ‏

نشعر بعض الأحيان أننا نرشق خارج التاريخ المعاصر وقد نستباح جغرافياً على الرغم من تشبثنا بهويتنا، لقد اختار العالم منطقتنا لتكون مركز المجابهة المصيرية بين الشرق والغرب بين التقدم والتخلف بين الانفتاح والشرنقة وهذا ما جعلنا نتراشق الأحقاد ونتمسك بالقوقعة البدائية ما يبعدنا عن المعاصرة وقضاياها وتحدياتها وإشكالاتها ولكن لابد من الخروج من هذه المتاهة بأقل الخسائر الممكنة. ‏

د. غسان الرفاعي

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...