في عدم مشروعية القرار الحكومي القاضي برفع أسعار المشتقات النفطية

20-06-2016

في عدم مشروعية القرار الحكومي القاضي برفع أسعار المشتقات النفطية

مقدمة

تتضمن الورقة الحالية وجهة نظر مكثّفة عن أسباب عدم مشروعية القرار الصادر بتاريخ 16 حزيران 2016 عن وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك في حكومة تسيير الأعمال والقاضي برفع أسعار بعض المشتقات النفطية.

ولكن قبل الخوض في مضمون هذه الورقة، لا بد من التنويه إلى الفارق الجوهري القائم ما بين مفهوم الشرعية من جهة، ومفهوم المشروعية من جهة ثانية.

فالشرعية (Legitimacy- Légitimité) هي مفهوم سياسي يعني قبول الأغلبية العظمى لحق الحاكم في أن يحكم وأن يمارس السلطة، وهي تتحقق من خلال موافقة أغلبية الشعب على نظام الحكم القائم بشرط التزامه بالمنظومة القيمية والإيديولوجية للمجتمع، وسعيه لتحقيق مصالح هذا المجتمع وغاياته، فالشرعية إذاًـ وكما عرفها أمين معلوف في كتابه اختلال العالم "هي ما يتيح للشعوب وللأفراد أن يقبلوا، ومن دون مبالغة في الإكراه سلطة مؤسسة ما يجسدها أشخاص و تعتبر حاملة لقيم مُشتركة".

أما المشروعية (Legality- Légalité) فهي مفهوم قانوني يتعلق بمدى خضوع نشاط السلطة لسلطة القانون سواء في التزام الحكَّام بالوصول إلى مواقع السلطة وفقاً للدستور وبقية التشريعات النافذة في الدولة، أو في تقيد الدولة بجميع وزاراتها وإداراتها ومؤسساتها وقراراتها بالدستور والتشريعات النافذة أيضا.

تركز هذه الورقة على المحاور التالية:

    أولاً: في تعريف حكومة تصريف أو تسيير الأعمال[1].

    ثانياً: في طبيعة الأعمال التي تدخل في اختصاص حكومة تسيير الأعمال.

    ثالثاً: في حرمان السلطة التشريعية من ممارسة صلاحياتها الدستورية على الأعمال التصرفية لحكومة تسيير الأعمال.

    رابعاً: في مدى صلاحية نظرية "الظروف الاستثنائية" كأساس لتبرير إصدار حكومة تسيير الأعمال قرارات تصرفية كقرار رفع أسعار السلع.

    خامساً: في مدى تعارض القرار المذكور مع أحكام الدستور السوري النافذ.

    سادساً: في كيفية التصدي أصولاً لقرار رفع أسعار المشتقات النفطية الصادر عن حكومة تسيير الأعمال.

أولاً: في تعريف حكومة تصريف أو تسيير الأعمال

يُعرّف المعجم الدستوري الفرنسي حكومة تسيير الأعمال بأنها (النظام الذي يطبق، على الحكومات المستقيلة لكونها لا تتمتع بكامل السلطة، ولا يمكن إثارة مسؤوليتها السياسية وفقاً للشروط المحددة بالدستور)، كما عرّفها الفقيه الفرنسي Waline بأنها: (تصريف الأمور الجارية التي تتصف بالاستعجال والتي لا تكون لها صفة سياسية).

أما الدكتور سليم جريصاتي، عضو المجلس الدستوري اللبناني، فيعتقد أن المبدأ المتعارف عليه الذي يحكم تصريف الأعمال من قبل الحكومة المستقيلة هو ذاك الذي يجد مصدره في القرار المبدئي الشهير الصادر عن مجلس شورى الدولة الفرنسي بتاريخ 4/4/1952 والذي يرى أنه لا مفر من وجود سلطة مناط بها تأمين استمرارية الحياة الوطنية وديمومتها بين تاريخ استقالة الحكومة وتاريخ تأليف الحكومة الجديدة، فتمسي الولاية الاستثنائية للحكومة المستقيلة او المعتبرة كذلك، مسندة فقط إلى مرتكز تأمين مقتضيات الدولة الضرورية[2].

مما تقدم نستنتج أن تعبير "حكومة تصريف الأعمال" يستخدم للدلالة على الحكومة التي تستمر تجنباً لحدوث فراغ حكومي، حيث أن الحكومة المستقيلة أو المعتبرة بحكم المستقيلة يبقى مناطاً بها تصريف الأعمال العادية أو الجارية لحين تشكيل حكومة جديدة. وبالتالي فإن "حكومة تصريف الأعمال" إنما هي حكومة متحولة من حكومة عادية بكامل الصلاحيات إلى حكومة محدودة الصلاحيات في حدود تأمين استمرارية العمل الحكومي في حدوده الإدارية، والسبب في هذا التحول ناجم عن ممارسة دستورية طبيعية فرضها واقع سياسي جديد يتمثل إما باستقالة الحكومة من تلقاء ذاتها، أو اعتبارها بحكم المستقيلة نتيجة واقع دستوري جديد نجم إما عن انتخاب برلمان جديد أو رئيس دولة جديد،أو بسبب استقالة نسبة من أعضاء الحكومة القائمة[3].

ثانياً: في طبيعة الأعمال التي تدخل في اختصاص حكومة تسيير الأعمال

نفهم من هذا التعريف أن مبدأ تصريف أو تسيير الأعمال ليس إلا النتيجة المباشرة لمبدأ استمرار المرفق العام الذي يجب ألا يتوقف عن العمل لارتباطه بتسيير المصالح العامة للمواطنين، ويعود للحكومة بصفة عامة اتخاذ القرارات التي تكفل حُسن سير المرافق العامة، و لكن قدرة الحكومة على اتخاذ هكذا قرارات تصبح محدودة عندما تتحول إلى "حكومة تسيير أو تصريف أعمال" في حال أصبحت حكومة مستقيلة أو بحكم المستقيلة، عندئذٍ تنحصر صلاحياتها باتخاذ القرارات التي من شأنها أن تضمن تصريف الأعمال الضرورية ذات الصلة بالمصلحة العامة والتي يُطلق عليها اسم "الأعمال الإدارية" Actes de gestion ، من دون أن تتعداها إلى "الأعمال التصرفية" Actes de disposition، أي تلك الأعمال التي من شأنها تحميل الحكومة المُقبلة مسؤولية سياسية لكونها أعمالاً غير اعتيادية وغير روتينية ولا تتطلبها حالات الاستعجال.

و قد استقر الفقه على اعتبار الأعمال المذكورة أدناه من الأعمال التصرفية التي لا يجوز أن تصدر عن حكومات تسيير الأعمال نتيجة لكونها حكومات مستقيلة أو بحكم المستقيلة، و هذه الأعمال هي[4]:

    لا يجوز لحكومات تسيير الأعمال أن تقوم بتحديد أسعار السلع والخدمات التي تؤثر على الواقع الاقتصادي للبلد.

    لا يجوز لها تقديم مقترحات لتعديل النصوص الدستورية أو إلغاء نصوص دستورية.

    ليس لها اقتراح مشاريع القوانين أو عقد الاتفاقيات والمعاهدات الدولية.

    لا يجوز لها وضع خطط التنمية الطويلة الأجل أو الشاملة.

    ليس لحكومة تصريف الأعمال القيام بالتعاقد لإبرام القروض، أو إحداث أية أعباء مالية أو صرف أية اعتمادات.

    لا يجوز لها إصدار أوامر تعيينات في الدرجات الخاصة، إذ أن ذلك يندرج تحت مفهوم الأعمال السياسية المحظور القيام بها من قبل حكومة تصريف الأعمال.

    ليس لها كذلك تغيير الهياكل الاقتصادية للدولة، لأن ذلك يندرج أيضاً ضمن مفهوم السياسات العليا للدولة، والمستثناة من صلاحيات حكومة تصريف الأعمال.

    ليس لها اتخاذ أية قرارات أو إجراءات من شأنها تقييد الحكومة اللاحقة أو إرهاق ماليتها.

ويُرجع الفقه أسباب حجب صلاحية اتخاذ قرارات تتعلق بالأعمال التصرفية عن حكومة تسيير الأعمال إلى طبيعة تلك الأعمال التي توجب خضوعها للرقابة البرلمانية ومؤيداتها التي قد تصل إلى حجب الثقة عن الحكومة أو الوزير المختص، هذا الأمر يتعذر القيام به في مواجهة حكومة تسيير الأعمال كونها حكومة بحكم المستقيلة أصلاً، و بالتالي لا تخشى على نفسها من حجب الثقة الذي سيدفعها إما إلى التراجع عن قرار اتخذته أو تقديم استقالتها.

ثالثاً: في حرمان السلطة التشريعية من ممارسة صلاحياتها الدستورية على الأعمال التصرفية لحكومة تسيير الاعمال

يرى الفقيه الفرنسي (رنيه شابو) أن لكل حكومة وظيفتان، وظيفة حكومية سياسية تخضع في أعمالها للمساءلة السياسية، ووظيفة إدارية تخضع في أعمالها للرقابة القضائي.  فعندما تتحول الحكومة إلى حكومة تصريف أعمال فإنها تفقد الأهلية السياسية للحكم، ولكن تحتفظ بوظيفتها الإدارية المتمثلة في القيام بأعمال الإدارة العادية التي تنحصر باتخاذ ما يلزم من القرارات من أجل تأمين سير المرفق العام، وهي في ممارستها لهذه الوظيفة تخضع إلى الرقابة القضائية لمجلس الدولة إعمالاً لمبدأ المشروعية[5].

أما بالنسبة للرقابة البرلمانية على أعمال حكومة تصريف الأعمال (الأسئلة وطلبات المناقشة والاستجواب وحجب الثقة [6])، فإنها غير ذات جدوى لكونها حكومة بحكم المستقيلة دستورياً، أي حكومة لا تخشى أن تكون محل مساءلة سياسية تنتهي بسحب الثقة منها وإجبارها على الاستقالة في حال اتخذت قراراً لا يدخل في اختصاصاتها أو فيه افتئاث على الصلاحيات الدستورية لمجلس الشعب وخصوصاً تلك المتعلقة بمراقبته عمل الحكومة (كما هو حاصل في القرار المذكور)، هذا الوضع القانوني لحكومة تصريف الأعمال يجعلها برأينا أمام واجب دستوري بالالتزام بالقسم الدستورية التي أقسمها أفرادها أمام رئيس الجمهورية باحترام الدستور و القوانين[7]، وعليه يتوجب على حكومة تسيير الأعمال ألا تتخذ من القرارات ما يكبل عمل الحكومة الجديدة، أو يجعله يواجه النتائج السلبية لقرارات تمّ اتخاذها في فترة تصريف الأعمال و كانت خارجة عن أعمال الإدارة العادية.

عملاً بأحكام الدستور السوري النافذ، فإن الحكومة مسؤولة أمام مجلس الشعب الذي يحق له محاسبتها وصولاً إلى حجب الثقة عن الوزراء بشكل جماعي أو إفرادي، لكن بمجرد أن تصبح الحكومة القائمة حكومة تسيير أعمال لأحد الأسباب الواردة في المادة 125 من الدستور[8] فإنها تصبح خارج نطاق رقابة السلطة التشريعية لجهة مسؤوليتها السياسية، وبالتالي فإنه يترتب عليها واجب ألا تصدر قرارات تستدعي رقابة مجلس الشعب فيما لو صدرت عن حكومة لا تكون مستقيلة أو بحكم المستقيلة، أي يتوجب أن تكون قراراتها ضامنة لتصريف "الأعمال الإدارية" دون أن تتعداها إلى "الأعمال التصرفية"، وكما بيّنا أعلاه فإن القرارات التي تمس رفع أسعار السلع الأساسية للمواطنين تدخل في خانة الأعمال التصرفية التي يجب أن يتم اتخاذها من حكومة مسؤولة سياسياً و تخضع لرقابة السلطة التشريعية، الأمر الذي يقتضي ألا تكون حكومة تصريف أعمال. هذه الرقابة البرلمانية المنصوص عليها دستورياً قد تفضي في نهاية المطاف إلى تراجع الحكومة عن قرارها، تحت طائلة حجب الثقة، فيما لو تقتنع السلطة التشريعية المُمثلة للشعب بالأسباب التي دفعت الحكومة للإقدام على خطوة مثقلة بالعواقب السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ببساطة، كلما كانت الظروف التي صدرت بها قرارات تمس الحياة المعيشية ظروفاً صعبة، كلما كانت الرقابة التي تمارسها السلطة التشريعية أكثر إلحاحاً. من هنا تبرز عدم مشروعية القرار الصادر بتاريخ 16 حزيران 2016 عن وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك في حكومة تسيير الأعمال والقاضي برفع أسعار بعض المشتقات النفطية، فهذا القرار لا ينتمِ إلى الأعمال الإدارية التي تدخل ضمن صلاحيات حكومة تسيير الأعمال، وإنما يتجاوزها إلى الأعمال التصرفية التي تخرج بالمطلق عن دائرة صلاحياتها، لا يجوز لها القيام بها لكونها ترتب أعباءاً إضافية ليس فقط على المستهدفين بها، بل على الحكومة اللاحقة أيضا، فقرار رفع الأسعار بهذا الشكل الحاد، و بهذا الظرف الحرج وإن بدا يحقق وفراً للخزينة، فإن هذا الوفر سوف يفرض على الحكومة المقبلة مواجهة آثاره الاجتماعية والاقتصادية والصحية السيئة على المدى المنظور و البعيد. هذه الآثار التي لم تلحظها، ربما الحكومة التي أصدرت قراراً ليس من صلاحياتها، لكونه من الأعمال التصرفية التي لا تخول حكومة تسيير الأعمال اتخاذها حيث أنها تتعدى مفهوم الأعمال الإدارية العادية التي يحق لحكومة تصريف الأعمال اتخاذها بهدف تسيير الأمور اليومية والأعمال الروتينية التي لا يمكن تجميدها لضمان سلامة استمرارية المرفق العام .

وبالمحصلة، كان من الواجب الإحجام عن اتخاذ هكذا قرار لسببين:

    الأول أنه يخرج من نطاق صلاحيات حكومة تصريف الأعمال والمحصورة فقط بالأعمال الإدارية دون التصرفية[9].

    الثاني أنه يُعطل الصلاحيات الدستورية لمجلس الشعب في ممارسة رقابته على أعمال السلطة التنفيذية[10] ، فهذه الرقابة تبدو مستحيلة في حال وجود حكومة تسيير أعمال حتى لو خالفت مبدأ المشروعية وقامت بإصدار قرارات تخرج عن نطاق صلاحياتها، فالعرف الدستوري مستقر على أن الحكومة المستقيلة أو المعتبرة بحكم المستقيلة، تصبح فاقدة للثقة الممنوحة لها من قبل البرلمان، وبالتالي تنعدم إمكانية مساءلتها سياسياً، وفق القواعد الدستورية المحددة للمساءلة السياسية.

رابعاً: في مدى صلاحية نظرية الظروف الاستثنائية كأساس لتبرير إصدار حكومة تسيير الأعمال قرارات تصرفية كقرار رفع الأسعار

ذهب الفقه المستقر في أغلب دول العالم إلى القبول بالأعمال التصرفية الصادرة عن حكومة تصريف الأعمال في حال صدرت عنها في ظروف استثنائية تتعلق بالنظام العام وأمن الدولة الداخلي والخارجي، أو إذا كانت من الأعمال التي يتحتم القيام بها في مُهل محددة تحت طائلة السقوط والإبطال وذلك استناداً إلى مبدأ "الضرورات تبيح المحظورات"، بالإضافة إلى مبدأ "استمرارية المرفق العام" مع إخضاع هذه القرارات إلى رقابة القضاء الإداري التي تبدو مُلحة في ظل استحالة الرقابة البرلمانية و غياب مؤيداتها نظرا لانتفاء المسؤولية السياسية لحكومة تسيير الأعمال.

وضع مجلس شورى الدولة، في قرار أصدره في 17 تشرين الثاني 1969 (راشد/الدولة)، مفهوم تصريف الأعمال في إطار سد الفراغ ومنع حصوله، ويجمع بين الضرورة والعجلة، من حيث أن الأولى تبرر التدابير التي تفرضها ظروف استثنائية تتعلق بالنظام العام وأمن الدولة الداخلي والخارجي، في حين أن الثانية تبرر التدابير في الحالات التي فيها مهل قانونية ينجم عن مرورها إسقاط أو إبطال لحقوق عامة او خاصة مكرسة في القانون[11].

وعليه فإن تبرير الأعمال التصرفية التي تصدر عن حكومة تسيير الأعمال في الظروف الاستثنائية يوجب توافر شرطين:

    وجود تهديد أو خطر مباشر ومحدق وجسيم، سواء أكان مصدره خارجياً أو داخلياً، يتعلق بوجود الدولة أو سلامة شعبها أو اقتصادها أو انتظام سير مرافقها.

    استحالة مواجهة هذا الخطر أو التهديد بالوسائل الدستورية العادية.

لا شك في أن هذين الشرطين متوفرين في ظل الحرب التي تشهدها سورية، ولكن ليس لتبرير إصدار قرارات ترفع أسعار سلع أساسية وإنما لاتخاذ قرارات تذهب بالاتجاه المعاكس تماماً لما ذهب إليه القرار الصادر برفع أسعار المحروقات .

في الواقع، ووفقاً للتقرير الصادر عن اللجنة الاقتصادية و الاجتماعية لغرب آسيا ( الاسكوا) بعنوان "كلفة الأزمة في سورية"، بلغ معدل الفقر العام في سورية، حتى شهر نيسان 2016، نسبةً وقدرها 83.5، وبلغت نسبة من يعيشون في فقر شديد 69.3 في المئة من السكان، وهم غير قادرين على تأمين الحد الأدنى من احتياجاتهم الأساسية الغذائية وغير الغذائية. كما بات نحو 35 في المئة من السكان يعيشون في فقر مدقع.

وعليه فإن رفع أسعار مادتي البنزين والمازوت يبدو جائراً للغاية مقارنةً مع الانخفاض الحاصل في قيمتهما العالمية، إذ وبحسب موقع أسعار البترول العالمية (Global Petrol Prices) فقد انخفض سعر النفط الخام بأكثر من 36%، كما انخفض سعر التجزئة للمازوت في وسطي لمئة دولة بنحو 12.8%، والبنزين بأكثر من 10.1%. وفي بورصة نيويورك التجارية (NYMX) انخفض سعر المازوت خلال عام نحو 40% والبنزين نحو 25%.، و عليه فقد كان من المنطقي أن تنخفض أسعار المشتقات محلياً بنسب تتراوح بين 4 و7% للبنزين والمازوت، بدل أن ترتفع بنسبة تتجاوز 30 بالمائة الأمر الذي يدل على أن الحكومة تسير باتجاه رفع الأسعار فقط، بما يخدم ميزانياتها النفطية، وليس في اتجاه يوفق بين مصلحتها وتخفيف العبء الإنفاقي عن كاهل المواطن.

و الأكثر من ذلك فإن البيانات الصادرة عن موقع أسعار البترول العالمية، تُشير إلى أن سعر التجزئة التقديري لليتر المازوت قبل الزيادة الأخيرة يأتي في المرتبة 35 من أصل 100 دولة، أي أن هناك 33 دولة كان المازوت يباع فيها بأرخص من السوق السورية، وأن سعر مازوت التجزئة في الأسواق السورية كان يساوي مثيلاتها في الولايات المتحدة الأميركية، بعد الضرائب وتكاليف التسويق والتوزيع، ولا شك في أن الوضع أصبح أكثر سوءاً اليوم إذ يبدو أن سورية دخلت نادي الدول ذات السعر الأغلى لكل من مادتي المازوت و البنزين، إذ أن أرخص سعر تجزئة للمازوت هو في فنزويلا وليبيا والجزائر وإيران والسعودية ومصر، والأغلى في فلسطين المحتلة والمملكة المتحدة والنرويج والسويد. وأرخص سعر تجزئة للبنزين هو في فنزويلا وليبيا والجزائر والكويت والسعودية، والأغلى في هونغ كونغ وهولندا والنرويج، وبالتالي فإن سورية قد أصبحت الدولة الأغلى في العالم لجهة أسعار مادتي البنزين والمازوت، إذا ما قارنا دخل المواطن السوري بدخل المواطن الأمريكي أو النرويجي أو الهولندي[12].

إن الزيادة التي طالت المشتقات النفطية سوف ترفع بند فروقات الأسعار الواردة في موازنة عام 2016 إلى مستويات غير مسبوقة و ذلك على حساب قدرة المواطن السوري على الاستمرار بالبقاء إذ و بحسب الأرقام التقديرية الواردة في موازنة 2016، فقد زاد بند فروقات الأسعار (في الإيرادات الجارية) بنحو 190% عما كان عليه في العام الجاري (2015)، إذ يستضيف هذا البند مبلغاً بنحو 3.6 مليارات ليرة سورية زيادة على عام 2015، بفضل سياسة تحرير الدعم «الجزئي/ بلغة الحكومة» ورفع أسعار المشتقات النفطية بصورة رئيسة هذا العام، والتي أخذت من جيوب الفقراء المستحقين الحقيقيين للدعم، بالنسبة نفسها من الميسورين غير المستحقين له بالمعنى الاقتصادي. ولعل هذه إحدى أبرز صور التشوّه في بنود الموازنة، فبدلاً من إعادة هيكلة الدعم وإيصاله لمن يستحقه، وسعت الحكومة من مصادر ضرائبها غير المباشرة من دون تصريح رسمي في ذلك، فالمبالغ الإضافية التي يدفعها المواطنون كفرق في أسعار المواد المدعومة تأخذ صورة ضرائب غير مباشرة تؤمن إيراداً للموازنة من جيوب الفقراء[13].

المعلومات الواردة أعلاه تبرز أهمية أن تمارس السلطة التشريعية دورها الرقابي على قرارات تتخذها الحكومة و تؤثر سلباً في الوضع المعيشي المتردي للمواطن السوري فما بالنا بقرارات تصدر عن جهة غير مخولة بإصدارها و تحجب الدور الدستوري لمجلس الشعب في الرقابة و المحاسبة.

خامساً: في مدى تعارض القرار المذكور مع أحكام الدستور السوري النافذ

باختصار شديد ، يتعارض القرار المذكور مع المبادئ الاقتصادية و الاجتماعية التي نص عليها الدستور السوري لعام 2012 و المنصوص عليها في المواد التالية:

    المادة الثالثة عشرة، الفقرة الثانية "تهدف السياسة الاقتصادية للدولة إلى تلبية الحاجات الأساسية للمجتمع والأفراد عبر تحقيق النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية للوصول إلى التنمية الشاملة والمتوازنة والمستدامة".

    المادة التاسعة عشرة، "يقوم المجتمع في الجمهورية العربية السورية على أساس التضامن والتكافل واحترام مبادئ العدالة الاجتماعية والحرية والمساواة وصيانة الكرامة الإنسانية لكل فرد".

    المادة الأربعون، الفقرة الثانية، "لكل عامل أجر عادل حسب نوعية العمل ومردوده، على أن لا يقل عن الحد الأدنى للأجور الذي يضمن متطلبات الحياة المعيشية وتغيُرها".

سادساًـ: في كيفية التصدي أصولاً لقرار رفع أسعار المشتقات النفطية الصادر عن حكومة تسيير الأعمال

 هذا الأمر متاح عبر الآليات التالية:

    الآلية الاولى: طلب الرأي الاستشاري لمجلس الدولة في طبيعة القرار الصادر برفع أسعار المحروقات، وما إذا كان إصداره يدخل في مفهوم تصريف الأعمال العادية أو في دائرة الأعمال التصرفية، وفي حال تبين أن القرار المذكور يخرج من طائفة الأعمال العادية فإنه سيصبح موسوماً بعيب عدم المشروعية كونه صدر عن جهة غير مخولة قانونياً باتخاذه: وزير التجارة الداخلية و حماية المستهلك في حكومة تسيير الأعمال، وعليه يمكن أن يكون هذا القرار موضوع دعوى تُرفع أصولاً أمام مجلس الدولة بهدف إبطال هذا القرار، فاحترام مبدأ المشروعية يقضي بأن تلتزم الدولة بجميع وزاراتها وإداراتها ومؤسساتها وقراراتها بالخضوع لأحكام القانون فيما يصدر عنها من قرارات في معرض ممارستها للسلطات المناطة بها دستورياً وبموجب القوانين النافذة.

    الآلية الثانية: طلب رأي استشاري من لجنة الشؤون الدستورية و التشريعية في مجلس الشعب حول ما إذا كان صدور القرار المذكور عن حكومة تصريف الأعمال ينتهك المواد المتعلقة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية المنصوص عليها في الدستور السوري، وكذلك رأيها حول ما إذا كان القرار المذكور ينتهك الصلاحيات الدستورية لمجلس الشعب في ممارسة الرقابة على أعمال الوزارة عملاً بأحكام المادة 74 وما تلاها من الدستور النافذ، ومن ثم استصدار بيان رسمي موقع عليه من قبل أعضاء مجلس الشعب أو باسم مجلس الشعب يدعو فيه حكومة تسيير الأعمال إلى الالتزام بمبدأ المشروعية فيما يصدر عنها من قرارات خلال الفترة التي تعتبر فيها بحكم المستقيلة، كما يدعوها إلى احترام الصلاحيات الدستورية لمجلس الشعب و لاسيما حقه في التشريع و فرض الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية، ويدعو البيان الحكومة إلى طي قرارها المتعلق برفع أسعار المحروقات و الصادر بتاريخ 16 حزيران 2016 عن وزارة التجارة الداخلية و حماية المستهلك في حكومة تسيير الأعمال و ذلك التزاماً بالدستور و بمبدأ المشروعية.

 هوامش:

 [1] ثمة دساتير تستعمل مصطلح "تسيير أعمال" كالدستور السوري (المادة 125، ف2 )، على حين يستخدم الدستور اللبناني مصطلح "تصريف الأعمال" (المادة 64)، أما الدستور الجزائري فقد استعمل مصطلح "تسيير الشؤون العادية" (المادة 96)، أما غالبية الفقه فيستعمل مصطلح " تصريف الأعمال.

[2]  Syndicat régional des quotidiens d'Algérie, Les Grands Arrêts de la Jurisprudence Administrative, Dalloz 12ème éd. p. 477. «Il est indispensable qu'il y ait une autorité chargée d'assurer la continuité de la vie nationale entre la démission du gouvernement et l'investiture de son successeur : les affaires courantes apparaissent ainsi, dit M. Delvolvé, « comme la zone limite de la compétence exceptionnelle d'un gouvernement dont le pouvoir ne repose plus sur aucun autre fondement que sur les nécessités de l'État ».

القاضي في المجلس الدستوري اللبناني د.سليم جريصاتي، تصريف الأعمال بالمعنى الضيق.. ما حدوده؟، موقع العهد الاخباري ، 24 / 10/2009 ،  http://www.alahednews.com.lb/  تاريخ المراجعة ، 18/06/2016

[3]  ـ تنص المادة المئة و الخامسة والعشرون من الدستور السوري العام 2012 على مايلي:

1- تُعد الوزارة بحكم المستقيلة في الحالات الآتية:

‌أ- عند انتهاء ولاية رئيس الجمهورية.

‌ب- عند انتخاب مجلس شعب جديد.

‌ج- إذا قدم أغلبية الوزراء استقالاتهم.

2- تستمر الوزارة بتسيير الأعمال ريثما يصدر مرسوم بتسمية الوزارة الجديدة.

بخصوص حكومة تصريف الأعمال راجع بحث الدكتور سام دلة " حكومة تصريف الأعمال من المفهوم السياسي إلى الإحاطة القانونية"، مجلة الشريعة و القانون بجامعة الإمارات، 2016 .

 

[4]  القاضي هادي عزيز علي، الصلاحيات المحدودة لحكومة تصريف الأعمال القادمة، مادة منشورة على موقع صحيفة المدى، العدد 3078 ، تاريخ 27/05/ 2014،  http://almadapaper.net/ar/news/465148 ، تاريخ الرجوع 11/ 11/ 2015.

[5]      René Chapus: «Acte de gouvernement», Encycl. Dr. Adm., 1958, Tom I, n°3 ; René hapus: «L’acte de gouvernement monstre ou victime?», Dalloz, 1985 . د.سام دلة ، المرجع السابق ، ص.27.

[6]  وسائل  الرقابية البرلمانية على أعمال الحكومة الواردة في الفصل الباب الثامن ، الفصل الأول ، من النطام الداخلي النافذ لمجلس الشعب الصادر عن المجلس في 06/06/1974 و تعديلاته.

[7]  نصت المادة 120 من الدستور على مايلي : " يُؤدي رئيس مجلس الوزراء ونوابه والوزراء أمام رئيس الجمهورية عند تشكيل وزارة جديدة القسم الدستوري الوارد في المادة السابعة من الدستور وذلك قبل مباشرة أعمالهم، أما في حالة تعديل الوزارة فيقسم الجدد منهم فقط." ، أما صيغة القسم الدستوري فقد نصت عليها المادة السابعة من الدستور و هي على النحو الآتي:

" أقسم بالله العظيم أن أحترم دستور البلاد وقوانينها ونظامها الجمهوري، وأن أرعى مصالح الشعب وحرياته، وأحافظ على سيادة الوطن واستقلاله وحريته والدفاع عن سلامة أرضه، وأن أعمل على تحقيق العدالة الاجتماعية ووحدة الأمة العربية ".

[8] المادة المئة و الخامسة والعشرون من الدستور السوري الناقذ تنص على انه :

1- تُعد الوزارة بحكم المستقيلة في الحالات الآتية:

‌أ- عند انتهاء ولاية رئيس الجمهورية.

‌ب- عند انتخاب مجلس شعب جديد.

‌ج- إذا قدم أغلبية الوزراء استقالاتهم.

2- تستمر الوزارة بتسيير الأعمال ريثما يصدر مرسوم بتسمية الوزارة الجديدة.

[9] اعتبر مجلس شورى الدولة اللبناني  "أن الأعمال التي تقوم بها الحكومة المستقيلة تعتبر دائماً أعمالاً عادية عندما لا ترتبط بسياسة الدولة العليا ولا تقيد حرية الحكومة اللاحقة. و في قرار آخر استند مجلس شورى الدولة اللبناني الى الفقه الفرنسي في تحديد الأعمال الجارية،

حيث أشار إلى: "أن الاجتهاد يعرف الأعمال الجارية بأنها الأعمال الملحة الضاغطة التي لا تحتمل التأجيل أو الإرجاء لحين تأليف الوزارة   الجديدة والتي، بسبب سرعتها، تستوجب اتخاذ قرارات فورية أو تلك التي تكون مقتصرة على تنفيذ مهمة الإدارة اليومية من دون أن تنطوي على أية صعوبة خاصة أو على أي خيار دقيق" .  د. سام دلة ، المرجع السابق ، ص 19.

[10] ففي لبنان استقر اجتهاد مجلس شورى الدولة المستند على الفقه والاجتهاد الفرنسي على - - التفريق بين:

"الأعمال الإدارية Actes de gestion والأعمال التصرفية Actes de disposition التي لا يجوز للحكومة المستقيلة القيام بها وهي الأعمال التي ترتبط بسياسة الدولة العليا والخيارات  الأساسية والمواضيع المصيرية الحساسة كعقد الاتفاقات والمعاهدات الدولية أو تلك التي ترتبط بحالة الدولة المستقبلية كعقد القروض واحداث أعباء مالية جديدة أو صرف اعتمادات هامة أو قرارات الخطط الإنمائية الشاملة والطويلة الأمد التي تفرض على الحكومة العتيدة، وبين الأعمال الإدارية العادية التي يمكن للحكومة المستقيلة القيام بها وهي التي تتمحور حول تسيير الأمور اليومية والأعمال الروتينية التي لا يمكن تجميدها طيلة مدة استقالة الحكومة والتي لا تقيد مبدئياً الحكومات اللاحقة في انتهاج السياسة العليا التي ترتأيها ولا ترهق ماليتها، وكذلك الأعمال الإدارية التي لا بد من إجرا ئها لارتباطها بمهل حددها القانون تحت طائلة السقوط والإبطال " . د. سام دلة ، المرجع السابق ، ص 18.

[11]  سليم جريصاتي ، المرجع السابق .

[12]    "المازوت يتراجع 13% عالمياً منذ آخر رفع لسعره محلياً.. والحكومة صامتة!! " ، علي نزار الآغا، صحيفة الوطن السورية ، alwatan.sy/archives/37046 ، 2016-01-18

[13]  "كيف أثرت الحرب على موازنة الدولة.. وماذا أخفت بين أرقامها للعام 2016؟" ، علي نزار الآغا ، صحيفة الوطن السورية ،:alwatan.sy/archives/29982، 2015-11-26

 

د.عصام التكروري: مركز دمشق للدراسات

 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...