ساغان والتفريط والحماقة

24-02-2008

ساغان والتفريط والحماقة

ـ 1 ـ أصدرت المجلة الأميركية «تايم»، في نهاية العام المنصرم، عدداً خاصاً عن «النهاية التراجيدية للمثقفين الفرنسيين» أبرزت فيه أن فرنسا قد فقدت «أهم ثلاث سلع تصدرها للعالم: الخمر المعتق بعد أن اكتشف بعض المتطفلين أسرار تخميره، والجبنة الفاخرة، بعد أن أتقنت مؤسسات الاستهلاك الواسع تسويقها بغزارة، والمثقفين المبدعين بعد أن شاعت الغثاثة في أسواق الفكر الفرنسي»، وكان أقذع ما توصل إليه محرر المجلة هذه الفقرة الموجعة: «كانت قامات مفكري فرنسا شاهقة كبرج إيفل تتلألأ بسحرها وعمقها، ولكن شوارع الثقافة الفرنسية اليوم خالية إلا من بعض المتسكعين، والصعاليك الذين يجيدون مضغ ألفاظ مهترئة...».

لم يصدق الكثير من المعجبين بالثقافة الفرنسية أعينهم، حينما صدر العديد الجديد من مجلة «لونوفيل أوبسرفاتور» الرصينة، وعلى غلافها صورة كبيرة بالألوان لامرأة عارية تماماً، مأخوذة من الخلف، كتب تحتها بأحرف جاحظة: «سيمون دوبوفوار في شقة صديق عشيقها في أميركا»، الفضيحة أن المجلة التي كانت منبراً كبار كتاب فرنسا، من أمثال سارتر، ومورياك، ومارلو، وأراغون، لم تجد إلا هذه الصورة «البذيئة» للاحتفال بمرور ذكرى الكاتبة الكبيرة سيمون دوبوفوار، مؤلفة كتاب «الجنس الآخر» الذي هز الرأي العام، حين صدوره، ألم يكن أحد النقاد على حق حينما كتب: «ألم يبق من تراث سيمون دوبوفوار إلا «إليتاها العاريتان؟»، ولعل الكتاب الجديد الذي صدر في الشهر الماضي عن فرانسواز ساغان «سيرة حياة مخجلة!» بمناسبة مرور ذكراها أيضاً، أكبر شاهد على «انحطاط المناخ الثقافي» وخاصة أنه لا يروي عن فرانسواز ساغان إلا نتفاً من حياتها المبتذلة، وإدمانها على المخدرات، وترددها على المقاهي الرخيصة، واحترافها المقامرة؟. ‏

‏ ـ 2 ـ ‏

لقد التقيت فرانسواز ساغان، مصادفة، في أجواز الفضاء، فراعتني منها شيخوخة منفرة، وهالني فيها هرم بغيض: بشرة وجه «مجعلك»، وأنف ناتئ كالشوكة، وفم مزموم كثقب مفتاح، وعينان ناعستان حزينتان، وحينما تفرست في ملامحها ـ وكانت جالسة على مقعد في الطائرة، غير بعيد عني، خيل إلي أني أعرف هذا الوجه، أو أنني التقيته في مكان ما، ولم تمض لحظات حتى تمتمت: هذه «فرانسواز ساغان»، ولطالما شاهدت صورتها في الصحف وشاشات التلفزيون. ‏

كنت في ذلك الحين رئيساً لتحرير مجلة فرنسية تصدر في باريس وبروكسل اسمها «نور ـ سود»، وكنت في طريقي إلى لندن تلبية لدعوة تلقيتها، للمشاركة في ندوة حول «احتضار الثقافة في أواخر القرن العشرين» ولولا ادماني على التدخين في ذلك الوقت ـ وكان مسموحاً به في الطائرات ـ لما توافرت لي الفرصة لإجراء حوار مع فرانسواز ساغان، إذ طلبت مني أن أشعل لفافتها، على أنني ما زلت أذكر شظايا من هذا الحوار، على الرغم من مرور الزمن، وثقوب الذاكرة. ‏

‏ ـ 3 ـ ‏

تبين لي، بعد تبادل كلمات المجاملة، أننا نشارك في ذات الندوة، وفي حين كان موضوعي: «هامشية المثقف العربي» كان موضوعها عن «مخاطر الالتزام عند المثقف الغربي»، وقبل أن نتعمق في تبادل وجهات النظر، فأجأتني بهذا الاعتراف. ‏

«لقد تربيت على كراهية العرب، أنا من عائلة برجوازية متغطرسة، ولا تخلو من العنصرية، صورة العربي عندنا قاسية: إنه إرهابي يحمل الخنجر، ويعتدي على الأبرياء، ويسرق أموالهم، إنه مراوغ، ولا يمكن الركون إليه...». ‏

ولم أكد «أهضم» هذا الاعتراف الوقح، حتى فاجأتني باعتراف آخر: ‏

«بقيت هذه الكراهية متأصلة عندي إلى أن تجاوزت مرحلة الشباب، وانغمست، بعض الشيء، في الحياة السياسية، كنت أشاهد برامج التلفزيون، وأتابع نشرات الأخبار، بلا مبالاة أو من باب «فض العتب»، وقد لفت انتباهي أن العرب يسيطرون على الخبر السياسي، طوال عشرين عاماً، ولا تكاد الأخبار تخلو من الحديث عنهم، على هذا النحو أو ذاك: تأميم القناة، الهجوم الثلاثي على مصر، معارك الجزائر، حرب 67، حرب 73، الحرب الأهلية في لبنان، الغزو الإسرائيلي للبنان، الحرب العراقية ـ الإيرانية، الفدائيون ـ أطفال الحجارة، الاستشهاديون، الانقلابات، الديكتاتوريات، الاغتيالات، النفط، الثراء العربي الفاحش، والفقر، والمجاعة، حرب الخليج، وهذا ما دفعني إلى الاهتمام بالعرب، وحضارتهم، وتاريخهم، وخصائصهم، وحدث عندي ما يشبه الانقلاب السياسي والثقافي والإنساني، وبعد أن كنت مصابة «بعقدة الكراهية» أصبحت مصابة بعقدة «التعاطف»، أنا دوماً متطرفة، ولكن السؤال الأساسي، الذي يؤرقني هو كيف توصل هذا الشعب الكبير إلى ما هو عليه من تخلف، وتجزئة، وبؤس، على الرغم من كل الإمكانات الضخمة المتوافرة له؟». ‏

‏ ـ 4 ـ ‏

ولم أكد «أتأقلم» مع هذا الاعتراف المذهل، حتى فاجأتني باعتراف آخر، ليس أقل إدهاشاً: «كانت لي تجربة مع شاب عربي من لبنان، تعرفت عليه في ظروف غامضة، ثم تطورت العلاقة بيننا، وفجأة اكتشفت أنني مولعة به بشكل مرضي، كان يصغرني، بل لعله كان بعمر ابني، ولكنه سحرني بلون بشرته، ونزقه، وعفويته، كنت أستقبله في منزلي، وأقضي معه أياماً بكاملها، وأنا شبه معزولة عن العالم، وكنت أصطحبه إلى علب الليل والمقاهي والنوادي، وكأنني أعيش في حلم من أحلام ألف ليلة وليلة، أتاني، ذات يوم، وقال لي: «هذه الليلة أنت ضيفتي، فهل تقبلين دعوتي؟» وقد ترددت كثيراً لعلمي أن موارده شحيحة، لم أشأ أن أرهقه، ولكنه أصر بطريقة واخزة، لفتت نظري.. وكان أن ذهبت معه إلى أفخر مطاعم المدينة، وكم كانت دهشتي كبيرة حينما اكتشفت أنه قد حجز طاولة، وفرقة موسيقية، وأوصى على طعام لا يليق إلا بالأمراء والملوك، وقد أكرمني، في تلك الليلة، بما يفوق حدود المعقول، ومع تباشير الفجر، احتضنني، وقال لي في خيلاء وحزن: «سأختفي من حياتك ابتداء من هذا اليوم» وحينما سألته، وأنا لا أخفي دهشتي وتولعي: «ولماذا لماذا؟» اكتفى بتقبيلي، ثم ودعني، لم أعد أراه بعد تلك الليلة، ثم تبين لي بعد التحقيق أنه قد صرف في تلك الليلة المشؤومة كل موارده عن عدة شهور، بسخاء وجنون، وكأنه بطل من أبطال دستوفسكي، هذا تصرف إنسان كبير، على الرغم من أنه تصرف أحمق، وهكذا أنتم العرب، تفرطون بكل شيء، تفرطون بثروتكم وتفرطون بتاريخكم، وتفرطون بحياتكم، وتفرطون بكرامتكم دون تدبر، ولا شعور بالمسؤولية، إن الهدر دليل على الكرم والسخاء، ولكنه يؤدي إلى الانتحار، لا محالة...!». ‏

‏ ـ 5 ـ ‏

تعترف ساغان بأنها فرطت في حياتها، بكرم وسخاء، ولكنها تقر بأن هذا التفريط قد ساقها إلى الانتحار، ولعل الحكمة التي توصلت إليها ساغان بعد شيخوختها، هي من فرط إصرارها على الحماقة، ولكن هذه الحكمة ـ وهي لا تخلو من سذاجة ـ مطروحة، ولو للهروب من المأزق، أو التنفيس عن الكرب، هل نكون مبالغين، أو مجدفين إذا زعمنا أننا فرطنا في كل شيء، بعنجهية وحماقة؟ فرطنا في استقلالنا، أخرجنا المحتل من الباب، ثم أدخلناه من النافذة، فرطنا بالوحدة فانتهت بالانفصال، وفرطنا في الممانعة، فكانت 5 حزيران، وفرطنا بحرب تشرين فأوصلتنا إلى كامب ديفيد، وفرطنا في انتفاضة الحجارة فأفرزت اتفاقية أوسلو، واتفاقية غزة وأريحا أولاً، وفرطنا بحرب الخيلج فأسلمتنا إلى احتلال العراق، وفرطنا بالنفط فإذا بنا نقبل بالهيمنة الأميركية، وفرطنا في خصوماتنا، وبعصبياتنا، وها نحن على قاب قوسين من حرب أهلية لبنانية جديدة، فلماذا لا نستبدل هذه الحماقة التي هيمنت علينا من فرط تمسكنا بالحكمة العربية «التراثية» بموقف متوازن، يخلصنا من «دوار الإفراط»، ويدخلنا المعاصرة من الباب الكبير؟. ‏

‏ ـ 6 ـ ‏

استهلكتنا أحقاد مبطنة ووافدة، فأنهكتنا وأتلفتنا: خضنا في بحار من الدماء والدموع، وأحرقنا الأخضر واليابس وصدعنا كل الأعمدة التي تقوم عليها حياة مدنية نظيفة، ثم وقفنا بين الخرائب والأنقاض والدخان، نعلن أننا دخلنا التاريخ المعاصر من الباب العريض: معارك ضارية حاقدة بين الوحدوية والقطرية، بين القومية والأممية، بين التقدمية والرجعية، بين الاشتراكية العربية والاشتراكية العلمية، بين الشرعية الدستورية والشرعية الثورية، بين العسكرتاريا والقانون المدني، بين العلمانية والأصولية، ثم تفسخنا طوائف واثنيات، فقتلنا على الهوية والانتماء، وها نحن اليوم عراة عزل، نتفاجع ونصرخ: «وماذا تريدون منا أن نفعل؟ العين لا تقاوم المخرز». ‏

‏ ـ 7 ـ ‏

تقول ساغان: «نحن المثقفين اختصاصيي التشكيك والشغب، أبطال التغيير،ندخل في عالم اليقين المطلق شقوقاً وخللاً، نكتشف أبعاد الفضيحة، لأننا شياطين الفوضى والدمار، في عيوننا حرب أهلية مضغوطة، وفي قلوبنا لهيب لم يهدأ بعد». ‏

ولكن يا سيدتي الفاضلة، الأنتلجيسيا العربية ـ وقد خيل إليها أنها قد احتلت مكاناً سامقاً في المجتمع، وأن دورها قد تورم بما فيه الكفاية ـ ما زالت مصابة بالخصاء، لقد تقلصت، ولم تعد أكثر من «تراكم من الموظفين الطيعيين»، يتخبطون بين الولاء الظاهر والتمزق الباطن، فلا هم مرتاحون لما يصدر عنهم، ولا هم قادرون على إطلاق العنان لقناعاتهم، وتعيش هذه الانتلجيسيا في غيتو، أو على الأرجح، في «حوجلة مسيحية»، وقد تقطعت الصلات بينها وبين ما يضج ويتحرك في فضاءات العالم.

د. غسان الرفاعي

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...