المصارف السورية في مواجهة الضغوط
تلعب المصارف دوراً مهماً في تمويل التجارة الخارجية، ولكن بالنظر إلى السحوبات المؤقتة التي شهدتها المصارف السورية خلال الفترة الماضية، رغبنا في تسليط الضوء أكاديمياً وعملياً على هذا الموضوع المهم الذي يرفد الاقتصاد الوطني باحتياجاته من المستوردات ويساهم في الانسياب الطبيعي لعملية التنمية، لذا بحثنا في تأثر عمليات تمويل التجارة السورية التي تقوم بها المصارف بالظروف التي نجمت عن الأحداث التي يمر بها البلد في ضوء ما تعنيه من رفع للمخاطر.
كشف الدكتور محمد حلبي الرئيس التنفيذي لبنك البركة سورية: أن تمويل التجارة الخارجية يعتبر أحد أهم الخدمات التي تقدمها المصارف لمتعامليها وأحد هواجسها الأساسية ولاسيما مع تنامي أهمية التجارة الخارجية للدول، فعمليات تمويل التجارة الخارجية عن طريق المصارف مهمة للجانبين، المصارف والمتعاملين، فأهميتها بالنسبة للمتعاملين تتمثل في عنصر الأمان الذي تحققه المصارف لهذه العملية من خلال الاعتمادات المستندية أو البوالص أو الحوالات.... الخ، حيث تضمن التجارة الخارجية عن طريق المصارف وصول الحقوق إلى أصحابها وتوفر على المتعاملين عناء وتكاليف السفر لتحصيل هذه الحقوق، أما بالنسبة للمصارف فتمويل التجارة الخارجية يعد مصدراً من مصادر إيراداتها سواء من خلال العمولات والرسوم التي تستوفيها عند تقديم هذه الخدمة في حالة التغطية الكاملة للاعتماد من المتعامل، أم من خلال الأرباح التي يتم تحقيقها من خلال عمليات المرابحة أو المشاركة في حالة التغطية الجزئية للاعتماد في المصارف الإسلامية، كما تساهم في زيادة الصادرات والتبادل التجاري، إذاً فخدمة تمويل التجارة الخارجية تعود بالفائدة على المجتمع كله بدءاً من المصدر والمستورد والمصنع والبنك.. الخ.
وبيّن حلبي أنه مع ظهور المصارف الخاصة في سورية وبعد صدور القانون رقم 28 لعام 2001 ومن ثم المرسوم التشريعي رقم 35 لعام 2005، كان العمل المصرفي في بدايته يقتصر على الخدمات المصرفية التقليدية من إيداع وسحب وتمويل التجزئة للأشخاص، ولكن ومع تطور العمل المصرفي وكذلك اهتمام الدولة في تطوير البنية التشريعية والقانونية للعمل المصرفي، أصبح هناك تحول في السياسة النقدية السورية، وبدأت تظهر العديد من القرارات والتعليمات التي تعطي المصارف مرونة أكبر في ممارسة دورها في الحياة الاقتصادية، ولعل أحد أهم القرارات المتعلقة بمجال بحثنا اليوم هو تعليمات لجنة مكتب إدارة القطع رقم 475 لعام 2008 التي سمحت للمصارف الخاصة المرخصة بتمويل جميع مستوردات القطاعين الخاص والمشترك من مواردها بالعملات الأجنبية بموجب اعتمادات مستندية أو بوالص برسم التحصيل أو بوالص برسم التحصيل المؤجل لقاء قبض القيمة المعادلة بالليرات السورية استناداً لنشرة أسعار المصرف المعلنة من المصرف المرخص وضمن الهامش المحدد في نشرة أسعار صرف العملات الأجنبية الصادرة عن مصرف سورية المركزي، وجاءت هذه التعليمات لتعيد هيكلة العديد من القرارات التي صدرت سابقاً والمتعلقة بتمويل المستوردات، ولكن هذا لا يعني أنه لا عقبات أو صعوبات أمام المصارف في عمليات تمويل التجارة الخارجية.
وكشف حلبي أن الصعوبات أمام المصارف ترتبط بعدة محاور رئيسة، منها ما يتعلق بأحكام القطع الأجنبي التي يجب أن تُمنح مرونة أكبر مما يمكّن، وماهو مرتبط بالمنشآت الصغيرة والمتوسط الحجم التي ترغب في التصدير لكنها غير قادرة على تحقيق معايير الإقراض التي تضعها المصارف، ومنها عدم ملاءمة شروط التمويل مع طبيعة وخصائص شركات التصدير المتوسطة والصغيرة في سورية، وكذلك أيضاً ضعف الهياكل التمويلية لهذه المنشآت.
وبيّن حلبي أن الأحداث الأخيرة التي شهدتها سورية أثرت بشكل جزئي في القطاع المصرفي في جانب المطاليب، أي فيما يتعلق بالإيداعات وتوفير السيولة اللازمة لعمليات التمويل.
وأضاف حلبي: ما من شك أن هناك ارتباطاً وثيقاً وعكسياً بين ارتفاع درجة المخاطر وخدمة تمويل التجارة من المصارف بمعنى أنه كلما انخفضت المخاطر زادت خدمة تمويل التجارة حيث يؤثر ارتفاع درجة المخاطر مباشرة في القرار الائتماني في المؤسسة المصرفية وليس فقط قرار تمويل التجارة الخارجية، ونواجه هذه الحالات في المصارف من خلال مجموعة من الإجراءات التي لها علاقة ببنية الدراسة الائتمانية والضمانات المطلوبة من المتعامل، ودون اللجوء إلى إيقاف تقديم الخدمات للمتعاملين.
وأكّد حلبي أن تقديم هذه الخدمة مرتبط بشكل مباشر بأنظمة القطع الأجنبي المعمول به في سورية وكذلك أحكام التجارة الخارجية، لذلك فإن أي مقترحات لتطوير هذه الخدمة في المصارف تصب في خانة تطوير أنظمة القطع الأجنبي ومنحها المزيد من المرونة وخصوصاً في عمليات تمويل التجارة الخارجية، وكذلك تطوير أحكام التجارة الخارجية نحو مزيد من التحرير والتخلص مما بقي من السياسات الحمائية، إضافة إلى تشجيع المنشآت الصغيرة لمسك دفاتر محاسبية منتظمة وأن تطبق المعايير المحاسبية الدولية بما يؤهلها من الاستفادة من خدمة التجارة الخارجية، وأخيراً إنهاء موضوع العقوبات الأميركية.
وقالت الدكتورة رانيا زرير أستاذة المصارف في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق: إن «المصارف السورية من عامة وخاصة تشكل جهازاً حيوياً في الاقتصاد السوري، فهي تجمع المدخرات من جهة وتوظفها من جهة أخرى بهدف تحقيق أهداف التنمية الاقتصادية وتمويل العمليات التجارية الداخلية والخارجية».
وأضافت زرير: للأسف فإن هذه المصارف تتعرض لتحديات على الصعيدين الداخلي والخارجي، حيث فرضت الولايات المتحدة الأميركية منذ عام 2005 عقوبات على المصرف التجاري السوري بتهمة تبييض الأموال دون تقديم أي دليل يثبت هذه الاتهامات، وكان أثر هذه العقوبات محدوداً، وعلى أثره اتخذت الجهات المختصة عدة قرارات لحماية المصارف السورية وأصولها الموجودة في الدول الأجنبية، مثل قرار ربط العملة السورية بسلة عملات أجنبية بدلاً من ربطها بالدولار الأميركي فقط، وفي عام 2008 تعرض الجهاز المصرفي السوري وكل المصارف العالمية الأخرى لضغوط كبيرة إثر الأزمة المالية العالمية التي بدأت في الولايات المتحدة الأميركية، وقد صرحت حينها الجهات المسؤولة في سورية أن تأثير الأزمة أيضاً كان محدوداً لأن معظم أصول المصارف السورية كانت في بلدان تأثرت بالأزمة بشكل قليل نسبياً ولقلة الأموال الموظفة في الخارج، وما ساعد المصارف السورية على تخطي الأزمة الوعي لدى المتعاملين مع المصارف السورية وثقتهم بالليرة وعدم إقدامهم على سحب ودائعهم منها.. ولا تزال الولايات المتحدة تحاول معاقبة المصارف السورية حتى اليوم.
وكشفت زرير التحديات التي تواجه المصارف على الصعيد الداخلي حيث ازدادت عمليات السحب من الودائع في المصارف السورية، وبما أن المصارف السورية كغيرها من المصارف تحتاج إلى الحصول على مصادر تمويل لتقديم الائتمان والخدمات المصرفية، حيث تعتمد بشكل كبير على مدخرات الجهات العامة والخاصة التي تودع فيها، فإن المبالغ المسحوبة من الجهاز المصرفي أيضاً ستؤثر في المركز المالي للمصرف وتعرض المصرف لمخاطر أهمها مخاطر السيولة والتي تنتج عن السحوبات بمبالغ كبيرة من المتعاملين.
وترى زرير الحل الأساسي في ظل الظروف الحالية يتجلى بعدّة نقاط منها التوجه في التعاملات التجارية الخارجية من استيراد وتصدير إلى الدول القوية اقتصادياً والصاعدة مثل الصين والهند والبرازيل وإفريقيا الجنوبية وروسيا والدول الصديقة، وتوظيف المصارف للقطع الأجنبي لديها في هذه الدول وبيع النفط لها للحصول على القطع الأجنبي، وتبسيط القوانين المتعلقة بالاستثمارات القادمة من هذه الدول، وتشجيع السياحة مع هذه الدول، والاعتماد على المعادن الثمينة بشكل أكبر في احتياطيات الدولة، وربط العملة المحلية بعملات الدول القوية اقتصادياً مثل الصين واليابان، وفك ارتباطها باليورو أو الدولار، وخاصة أنهما في طريقهما للتدهور، واتباع الطريقة الإيرانية في بيع البترول ومشتقاته.
وأضافت زرير: تحسين العلاقة مع العراق بقصد تشجيع مرور النفط العراقي والإيراني عبر الأراضي السورية وتصديره من الموانئ السورية، ولفتح الطرق التجارية شرقاً، ورفع الفوائد المصرفية والتأمين عليها بهدف إعادة جذب رؤوس الأموال التي سحبت من المصارف وطمأنة المتعاملين على أموالهم وودائعهم، وتوعية المتعاملين مع المصارف السورية بأهمية دعمهم للمصارف ولليرة في الأزمة الحالية.
وفي سياق متّصل كشف الدكتور عبد الرحمن ميرو رئيس قسم الإدارة المالية والمصرفية في المعهد العالي لإدارة الأعمال (هيبا) أنه «مع التطور الكبير الذي شهده العالم في عمليات التجارة الدولية وما رافقها من ظهور وسائل عديدة تسمح بتمويل أسرع وأضمن وأقل تكلفة للعمليات التجارية، شكلت المصارف التجارية حجراً أساسياً في عمليات التبادل التجاري الدولي، حيث تقوم المصارف بتمويل ودعم هذه العمليات من خلال خدمات عديدة أهمها: الاعتمادات المستندية وخطابات الضمان والكفالات والبوالص».
وأضاف ميرو إن هذه الخدمات تعتبر عادة من الخدمات المصرفية قليلة المخاطرة نظراً لقصر أجلها في أغلب الأحيان وتلازمها مع ضمان مرتبط في معظم الحالات بالمواد أو البضائع التي يتم الاتجار بها.
وبيّن ميرو بعض النقاط المتعلقة بنشاط مكونات القطاع المصرفي السوري من خلال نظرة سريعة على تقارير مصرف سورية المركزي لعام 2010، والتي تضمنت الإحصائيات التالية: تراوحت حصة المصارف العامة من عمليات التسليف والتمويل خلال عام 2010 مابين 78% و83% من مجموع عمليات التسليف التي نفذها القطاع المصرفي خلال العام ذاته. على حين كانت نسبة التمويل الذي منحه القطاع المصرفي الخاص (14%-19%) والقطاع المصرفي الإسلامي (2%-4%).
وتابع ميرو إن هذه التقارير أشارت أيضاً إلى أن نسبة التسليفات وخدمات التمويل التي قامت بها المصارف العاملة في سورية في قطاع التجارة خلال الفترة ذاتها، تراوحت بين 48% و50% من إجمالي التسليفات. ومن ثم يمكن القول إن معظم التمويلات التجارية تتركز في المصارف العامة وبشكل رئيس تحت سيطرة المصرف التجاري السوري وذلك لاعتبارات التخصص والانتشار والسمعة التي يتمتع بها هذا المصرف، في حين مازالت المصارف الخاصة تحاول جاهدةً أن تلعب دوراً مؤثراً في هذا المجال.
وأوضح ميرو أن تغير الظروف الدولية في الوقت الحالي، وبروز معطيات جديدة في تعاطي الأطراف الدولية مع عمليات التبادل التجاري مع سورية، إضافة إلى العقوبات التي فرضت على المصرف التجاري السوري، تعطي المصارف الخاصة أهمية خاصة وتجعل من وجودها حاجة ملحة نظراً للدور الوطني الذي يجب عليها أن تلعبه.
وأكّد ميرو أن هذا الواقع الجديد يفرض صياغة إستراتيجية موحدة على مستوى القطاع المصرفي لدعم التجارة الخارجية وعدم انتظار النتائج التي يفرضها الواقع الجديد ومن ثم البحث عن حلول قد يكون من الصعب الوصول إليها بعد الانتظار.
محمد بدر كو جان
المصدر: الوطن
إضافة تعليق جديد