الدولة الخفية التي تقود الحروب السرية في العالم

31-12-2012

الدولة الخفية التي تقود الحروب السرية في العالم

الجمل - توم إنغلهاردت- ترجمة: مالك سلمان:
 
ألم تكن تلك أعظم الأيام لو كنتَ في لعبة التجسس الأمريكية؟ فقد سقطت بفضلك غواتيمالا وإيران. وفي إندونيسيا ولاوس وفيتنام البعيدة, كم كان الدور الذي لعبتَه كبيراً ! وحتى ذلك الغزو العظيم في كوبا, كم كان رائعاً. في تلك الأيام, لسوء الحظ, لم تأخذوا – خصوصاً أنتم في "وكالة الاستخبارات المركزية" – ما تستحقونه من مديح وتقدير.
كان عليكم أن تعيشوا مع نجاحاتكم لوحدكم. وفي بعض الأحيان, كما في حالة "خليج الخنازير", كان الفشل يعود ليسكنكم (وكذلك سيفعل "نجاحكم" في إيران بعد سنوات عديدة), لكن لم يكن بمقدوركم التحدث بفخر وعلانية عما فعلتموه في عالمكم السري أو رؤية أفلام وعروض تلفزيونية مباشرة عن انتصاراتكم. ولم يكن بمقدوركم أن تشنوا حرباً "سرية" على الهواء يتم نقلها, بشكل إيجابي في الغالب, كل أسبوع تقريباً, أو تتلذذوا بزعم مخرجكم العلني أنها "كانت اللعبة الوحيدة في المدينة". أي, لم يكن باستطاعتكم الخروج مما كان يُسَمى عندها "ظلالكم", والغرق في وهج الاهتمام, أو الانتشاء بوصفكم أبطالاً أمريكيين, والانضمام إلى الأمريكيين لمشاهدة نسخة (خيالية) عن جهودكم العظيمة كل أسبوع على شاشة التلفزيون, أو تلقي الثناءَ على أي شيء.
لم يكن أي من ذلك ممكناً – ليس على الأقل إلى أن قام صحفيان أمريكيان, هما ديڤيد وايز وتوماس ب. روس, بتسليط الضوء على تلك الظلال, ووصفاكم بمثابة جزء من "الحكومة السرية", وأخرجاكم من جحوركم بطرق وجدتموها مزعجة للغاية.
تم نشر كتابهما, الذي يحمل ذلك العنوان المذهل "الحكومة الخفية", في سنة 1964, وكان فتحاً كبيراً بَدَدَ الظلالَ وأضاء. أثارَ اللغط من مقطعه الأول, الذي شكل عندها صدمة كبيرة: "هناك حكومتان في الولايات المتحدة. الأولى مرئية. والثانية سرية."
أقصد, ماذا كان الأمريكيون يعرفون في ذلك الوقت عن حكومة سرية لا يسيطر عليها حتى الرئيس, حكومة متغلغلة في أعماق الحكومة التي انتخبوها؟
تابع وايز وروس: "الأولى هي الحكومة التي يقرأ عنها المواطنون في صحفهم ويدرس عنها الأطفال في كتبهم المدرسية. والثانية هي الآلة المتشابكة الخفية التي تنفذ سياسات الولايات المتحدة خلال الحرب الباردة. وتعمل هذه الحكومة الخفية على جمع المعلومات, والتجسس, وتخطط وتنفذ عمليات سرية في كافة أرجاء العالم."
ظهر كتاب "الحكومة الخفية" مع بداية ما سمي "الستينيات", وهي لحظة تم تسليط الضوء فيها بشكل مفاجىء على زوايا مظلمة أمريكية كثيرة. كنت في العشرين من العمر آنذاك, وفي وقت ما من تلك السنوات قرأت كتابَهما بإحساس مناسب من الرهبة, تماماً كما قرأت من قبل تلك الكتب المدرسية في المرحلة الثانوية حيث هبط سكان من المريخ في الشارع الرئيسي في بلدة أمريكية "نموذجية" ليستمعوا إلى محاضرات حول أسلوب حياتنا ويعبروا عن إعجابهم بدستورنا, هذا عدى عن تلك الشيكات والأرصدة الحكومية المذهلة التي دشنها "الآباء المؤسسون" وأمجاد الديمقراطية الأخرى.
ولم أكن الوحيد الذي قرأ "الحكومة الخفية". فقد كان الكتابَ الأكثرَ مبيعاً, ويُقال إن مدير "سي آي إيه" جون مَكون قد قرأ المخطوطة التي حصل عليها بشكل سري من الناشر "راندم هاوس". وقد طالب بحذف بعض الأشياء. وعندما رفض الناشر, فكر في شراء كامل الطبعة الأولى. وفي النهاية, من الواضح أنه حاول الترتيبَ لبعض العروض السيئة للكتاب بدلاً من ذلك.

الآلات الزمنية وعوالم الظل
مع حلول سنة 1964, كان "المجتمع الاستخباراتي الأمريكي" مكوناً من تسعة أعضاء, بما في ذلك "سي آي إيه", و "وكالة استخبارات الدفاع", و "وكالة الأمن القومي". كان "المجتمع الاستخباراتي", كما صوره وايز وروس, سلفاً متاهة من الفرق السرية التي تتمتع بسلطة متنامية. فقد كان قادراً على إطلاق العمليات السرية في كافة أرجاء العالم, بالإضافة إلى "طيف واسع من العمليات الداخلية", وإسقاط الحكومات الأجنبية, والتأثير في تشكيل الحملات الانتخابية, والقدرة على تخطيط العمليات دون معرفة "الكونغرس" أو السيطرة الرئاسية الكاملة. وقد استنتجا: "ليس بمقدور أحد من خارج هذا المجتمع أن يحدد إن كان هذا النشاط ضرورياً أو قانونياً حتى. ولا يستطيع أحد من خارج هذا المجتمع أن يحدد إن كانت هذه الأنشطة ستشكل, مع مرور الزمن, خطراً داخلياً على المجتمع الحر." وبكل تواضع, قاما بدعوة الأمريكيين إلى مواجهة المشكلة ووضع "السلطة السرية" تحت السيطرة. ("فإذا أخطأنا كمجتمع, فليكن ذلك لمصلحة السيطرة.")
والآن, تخيلوا أن آلة الزمن التي ابتدعها إيتش. جي. ويلز [في روايات الخيال العلمي التي كتبها] كانت متوفرة في تلك السنة التي شهدت نشرَ الكتاب. تخيلوا أنها حملت الصحفيَين, اللذين كانا في منتصف الثلاثينيات عندها, وتوم إنغلهاردت اليافع, 48 سنة إلى المستقبل لكي يتمكنا من دراسة تأثير حكايتهما التحذيرية حول أمة ديمقراطية وجمهورية عظيمة خرجت عن مسارها.
أول شيء يمكن أن يلاحظاه هو أن "المجتمع الاستخباراتي" في سنة 2012, المكون من 17 مؤسسة رسمية, قد تضاعف تبعاً لأبسط الحسابات. كما أن حجمَ العالم السري الفعلي وسلطته قد تناميا بشكل كبير وبكل طريقة يمكن للمرء أن يتخيَلها. خذوا إحدى المؤسسات, وهي الآن جزء من "المجتمع الاستخباراتي, التي لم تكن موجودة في سنة 1964: "الوكالة القومية للاستخبارات الجغرا- فضائية". بميزانيتها السنوية التي تقارب 5 مليار دولار أمريكي, قامت مؤخراً ببناء مقر عملاق بكلفة 1.8 مليار دولار – "ثالث أضخم بناء في منطقة واشنطن, يكاد يضاهي ‘البنتاغون’ في الحجم" – ليتسع لموظفيها البالغ عددهم 16.000. وقد وضعت, بالمعنى الحرفي, "عينَها" على العالم بطريقة تنتمي إلى روايات الخيال العلمي قبل نصف قرن تقريباً, وهي "مصدر معلومات الأمة الرئيسي للمعلومات الجغرا- فضائية." (لا تسألوني عن المعنى الدقيق لذلك, مع أن له علاقة بتخيُل الكوكب, بالمعنى الحرفي للكلمة, وكافة أجزائه – أو, ربما بصيغة أقل تهذيباً, بتحويل كل شبر من الكرة الأرضية إلى هدف ناري.)
أو خذوا مؤسسة كانت موجودة آنذاك: "وكالة الأمن القومي" (والتي كانت تسمى سابقاً من باب السخرية "لا فيه وكالة ولا شي" بسبب سريتها الكبيرة). ومثل ابنة عمها الجغرا – فضائية, فقد شهدت نمواً انفجارياً, من ناحية الميزانية ومن النواحي الأخرى, حيث تندسُ تحت بناء "محَصَن بكثافة" يحتوي على مركز معلومات بكلفة 2 مليار دولار في بلافديل, ولاية يوتا. وتبعاً لجيمز بامفرد, المتخصص في شؤون "وكالة الأمن القومي", عندما يتم الانتهاء من المركز في سنة 2013 سوف يكون قادراً على "اعتراض وتفكيك وتحليل وتخزين كمية هائلة من الاتصالات العالمية أثناء نزولها من الأقمار الصناعية ودخولها في كابلات الشبكات المحلية والأجنبية والدولية الممتدة تحت الأرض والبحر." ويضيف: "سوف تجري في مستخدماته وراوتراته كل أنواع الاتصالات التي سيتم تخزينها في قواعد بياناته التي لاقاع لها, بما في ذلك المضمون الكامل للرسائل الإلكترونية الشخصية, ومكالمات الهواتف الخلوية, وعمليات البحث في محرك غوغل, وكذلك كافة أنواع بطاقات المعلومات الشخصية – وصول ركن السيارات, وبطاقات السفر, والكتب المشتراة, و ‘بقايا الجيب’ من المعلومات الرقمية." لا نتحدث هنا عن الإرهابيين الأجانب فقط, بل أيضاً عن تخزين كميات هائلة من المعلومات حول المواطنين الأمريكيين, وربما تكون أنت من بينهم.
أو خذوا كياناً شبه مغمور تم تأسيسه بعد 9/11, أي "المركز القومي لمكافحة الإرهاب", والذي لا يشكل حتى وكالة منفصلة في "المجتمع الاستخباراتي", بل يعتبر جزأ من "مكتب مدير الاستخبارات القومية". وتبعاً ﻠ "وول ستريت جيرنل", فقد قامت إدارة أوباما مؤخراً بتحويل تلك المنظمة إلى "شبكة صيد حكومية تعمل على تجميع ملايين السجلات حول المواطنين الأمريكيين – بما في ذلك الأشخاص الذين لم يرتكبوا أي جرم." وقد منحت الإدارة هذا "المركز" الحقَ , من بين عدة أشياء أخرى, في "فحص الملفات الحكومية للمواطنين الأمريكيين للتمحيص في أي سلوك إجرامي محتمَل, حتى مع عدم وجود أي سبب للشك فيهم ... ونسخ قواعد بيانات حكومية بأكملها – مثل سجلات الطيران, وقوائم موظفي الكازينوهات, وأسماء الأمريكيين الذين يستضيفون طلاباً أجانبَ, بالإضافة إلى قواعد بيانات كثيرة أخرى. وتتمتع الوكالة بسلطة جديدة تخولها الاحتفاظ ببيانات حول مواطنين أمريكيين بريئين لمدة تصل إلى خمس سنوات, وتحليلها لرصد أي نموذج سلوكي مثير للريبة. وقد كان ذلك كله ممنوعاً في السابق."
أو خذوا "وكالة الاستخبارات الدفاعية", التي تم تأسيسها في سنة 1961 ولم تباشر عملها حتى السنة التي نُشر فيها كتابُهما. قبل حوالي نصف قرن, كما أخبرَ وايز وروس القراء, كان عدد موظفيها 2,500 بالإضافة إلى مجموعة متواضعة من المهام. ومع نهاية "الحرب الباردة" بلغ عدد موظفيها 7,500. وبعد ذلك بعقدين, برزت قصة أخرى عن نمو انفجاري: هناك 16,000 موظفاً في "وكالة الاستخبارات الدفاعية".
في سلسلة المقالات التي نشراها في "واشنطن بوست" في سنة 2010 بعنوان "أمريكا السرية للغاية", لاحظ الصحفيان دانا بريست ووليم آركن نوعاً من التوسع الكبير في مرحلة ما بعد 9/11 الذي كان سيُذهل ذينك المؤلفين اللذين دعيا إلى "السيطرة" على العالم السري: "في واشنطن والمنطقة المحيطة بها, هناك 33 مجمعاً للعمل الاستخباراتي السري للغاية قيد الإنشاء, أو تم بناؤها منذ أيلول 2011. وتحتل معاً ما يكافىء ثلاثة أضعاف مساحة البنتاغون أو 22 مبنىً من مباني الإدارة الأمريكية [البيت الأبيض] – أي حوالي 17 مليون قدماً مربعاً [158 هكتاراً] من الأرض."
وبشكل مماثل, فإن ميزانية "المجتمع الاستخباراتي" مجتمعة, التي حلقت بشكل سري لتصل إلى حوالي 44 مليار دولار في سنة 2005 (يجب أن تؤخذ كل هذه الأرقام مع كومة من الملح), قد تضاعفت الآن لتصل إلى 75 مليار دولار.
دعونا نضيف حقيقة مستقبلية صادمة أخرى لهذين المسافرين في الزمن. يجب أن يقول لهما أحد ما إن الاتحاد السوفييتي – تلك القوة الإمبريالية العظمى وعدوة الحكومة الخفية, بجيشها الضخم, وبوليسها السري, ونظام "الغولاغ", والترسانة النووية العملاقة – قد اختفى بمعظمه عن سطح الأرض بشكل غير عنيف ولم تنشأ بعده أية قوة لتواجه الولايات المتحدة عسكرياً. ففي نهاية المطاف, تضخمت ميزانية الاستخبارات الأمريكية, وقامت مجمعات جديدة, وازداد عدد الموظفين بشكل كبير, وكل ذلك في عالم تواجه فيه الولايات المتحدة قوتين إقليميتين واهنتين (إيران وكوريا الشمالية), وتمرداً صغيراً في أفغانستان, وقوة اقتصادية ناشئة (الصين) لا تزال قوة عسكرية متواضعة, وربما عدة آلاف من الأصوليين الإسلامويين المتطرفين وعناصر القاعدة المبعثرين في كافة أرجاء العالم.
يجب أن يعرفا - والفضل يعود إلى حدث مرعب واحد, نوع من ضربة الحظ نشير إليه باختصار اليوم باسم "9/11", وعلى الرغم من تقزيم الأعداء الكونيين – أن "المجتمع الاستخباراتي" قد توسع بلا توقف في بلد تعتريها نوبة من الخوف والارتياب المرضي.

تحضير ساحات المعارك وبناء السفارات العملاقة
إن الصحفيين اللذين أذهلهما حجم الحكومة الخفية التي قاما بتشريحها فيما مضى ربما يصابا بنفس الذهول لمعرفتهما بتطور آخر: الطريقة التي تمت بها عَسكرة "الاستخبارات" في وقتنا الحالي, بينما يقبع الجيش الأمريكي في الظل. بالطبع, من المعروف الآن أن "سي آي إيه" – وهي وكالة استخبارات مدنية كان  يترأسها إلى فترة مؤخرة جنرال متقاعد بأربع نجوم – قد تحولت إلى منظمة شبه عسكرية وتبذل جهداً كبيراً الآن في إدارة حرب طائرات بلا طيارين "سرية" في كافة أنحاء "الشرق الأوسط الكبير".
في السنوات الأولى من إدارة جورج بوش الابن, كان الجيش الأمريكي مصمماً على اتباع بعض أساليب "وكالة الاستخبارات المركزية". فبعد هجمات 9/11 بوقت قصير, بدأ دونالد رمسفلد, وزير الدفاع آنذاك, بدَفع البنتاغون للتورط في أنشطة استخباراتية على نمط "سي آي إيه" – "الطيف الكامل لعمليات الاستخبارات البشرية" – بهدف "التحضير" ﻠ "ساحات معارك" مستقبلية. ولم تنته تلك العملية أبداً. ففي نيسان/إبريل 2012, على سبيل المثال, نشر البنتاغون معلومات تفيد أنه بصدد إنشاء وكالة تجسس جديدة تدعى "الخدمات السرية الدفاعية". مهمتها: عَولمة "الاستخبارات" العسكرية خارج المناطق الحربية الواضحة. كما تم تكليف هذه الوكالة بالتعاون الوثيق مع "سي آي إيه" (على الرغم من الزعم أنها منافستها).
وكما نقل غريغ ميللر, الصحفي في "واشنطن بوشت": "يترافق تأسيس الخدمة الجديدة أيضاً مع تعيين عدد من المسؤولين الرفيعين في البنتاغون الذين يتمتعون بخبرات كبيرة في العمل الاستخباراتي ويحملون آراءً راسخة حول أخطاء برامج التجسس العسكرية, التي ينظر إليها رجال "سي آي إيه" على أنها تفتقد إلى الحيوية."
وفي هذا الشهر أيضاً, أعلن رئيس "وكالة الاستخبارات الدفاعية" – وهي في الأصل مكان للتحليل والتنسيق – في مؤتمر أن وكالته سوف تتوسع لتشمل "الاستخبارات البشرية" بشكل كبير, حيث ستعمل على ملء السفارات في كافة أنحاء العالم بمجموعات جديدة من العملاء السريين تحت "غطاء" ديبلوماسي أو أي غطاء آخر. كان يتكلم عن نشر 1,600 "جامع" سيتلقون "التدريب على يد ‘سي آي إيه’ ويعملون في الغالب مع ‘قيادة العمليات الخاصة المشتركة’." وبكلمات أخرى, لم يكن لأي دولة أبداً هذا العدد من "الدبلوماسيين" الذين لا يعرفون شيئاً عن الدبلوماسية.
على الرغم من أن البنتاغون أعاق تمويل عملية توسيع "الخدمات السرية الدفاعية", فإن كل ذلك يمثل إعادة تركيب ما يسمى حتى الآن ﺑ "الاستخبارات" لكنه, في الحقيقة, شكل من صناعة الحروب على مستوى متدنٍ على مسرح كوني وتوسع مستمر لعالم أمريكا السري إلى درجة لا يمكن تخيلها, وكل ذلك باسم "الأمن القومي". الآن على الأقل, من السهل أن نفهمَ لماذا تقوم الولايات المتحدة ببناء سفارات عملاقة, من لندن إلى بغداد إلى إسلام آباد, محصنة مثل القلاع القديمة وبحجم القصور الإمبراطورية لتتسعَ لعدد ضخم من "الدبلوماسيين". وسوف تشمل على فرق من عملاء "سي آي إيه" و "وكالة الاستخبارات الدفاعية" و "الخدمات السرية الدفاعية", من بين وكالات أخرى, تحت "غطاء" دبلوماسي.
سوف تدخل في هذا المزيج مؤسسة أخرى لم تكن معروفة لوايز وروس, لكن معظم الأمريكيين يعرفون بوجودها الآن بسبب الدعاية التي أحاطت ﺑ "سيل تيم 6" ["فريق الفقمة 6"] نتيجة الهجوم على بن لادن وأنشطة أخرى. وهناك دور أكبر تلعبه الآن منظمة عسكرية قبعت في الظل منذ وقت طويل, وهي "قيادة العمليات الخاصة المشتركة". ففي سنة 2009, أطلق عليها مراسل "نيويوركر", سيمور هيرش, اسمَ "حلقة الاغتيالات التنفيذية" (وخاصة في العراق) حيث لم "تكن مسؤولة أمام أحد, إلا في أيام بوش-تشيني ... حيث كانت ترفع تقاريرها إلى مكتب تشيني مباشرة."
في الحقيقة, لم تظهر "قيادة العمليات الخاصة المشتركة" إلى العلن إلا عندما تم تعيين أحد عملائها النشطين في العراق, الجنرال ستانلي مكريستل, قائداً للعمليات الحربية في أفغانستان. فقد برزت إلى الضوء منذ ذلك الوقت حيث تقوم بتنفيذ ما كانت تقوم به "سي آي إيه" في الماضي من عمليات شبه عسكرية, وتعمل على زيادة قدرتها في جمع المعلومات, وتدير حروب الطائرات بلا طيارين الخاصة بها, كما أنها أنشأت مقراً جديداً في واشنطن على بُعد 15 دقيقة فقط من "البيت الأبيض".

لحظات التألق والحروب "السرية"
على المستويات العليا, تعمل قيادات "سي آي إيه" و "وكالة الاستخبارات الدفاعية" و "قيادة العمليات الخاصة المشتركة" الآن على الخلط والمزاوجة في مؤسسات متقاطعة ومُعَسكرة بشكل غامض مهيأة للحرب بشكل دائم. وقد حولت, بهذه الطريقة, الفنون القديمة للاستخبارات والمراقبة والتجسس والاغتيال إلى أسلوب حياة مموَل بشكل كبير, وتقوم الآن بشن الحروب بطريقة سرية وفي كافة أنحاء العالم. أما على المستويات الأدنى, فتتدرب هذه الوكالات معاً وتعمل في فرق متناسقة وتتعاون وتتدخل في شؤون بعضها البعض أيضاً.
اليوم, لن يكون بمقدورك أن تكتبَ مجلداً واحداً بعنوان "الحكومة الخفية". سيكون عليك أن تنتجَ سلسلة من عدة مجلدات. وبينما تنكب على هذه المهمة – ولا شك أن ذلك كان سيصيب وايز وروس بالذهول – ربما كان عليك أن تعيد تسمية المشروع بإعطائه عنواناً مثل "الحكومة المرئية".
لا تسيؤوا فَهمي: فالأمريكيون يمتلكون الآن (أو هم واقعون تحت سيطرة) بيروقراطية "استخباراتية" ضخمة تقبع في الظل تتشكل نشاطاتها من مجموعة من الأعمال المجهولة المعروفة أو المجهولة وغير المعروفة من قبل الناس العاديين. إنها ضخمة بشكل لا يمكن تصوره. وليس هناك طريقة لتقييم فائدتها الفعلية, أو إن كانت "ذكية" على الإطلاق (مع أنه يمكن القول إن الولايات المتحدة ستكون أحسنَ حالاً لو أنها تكتفي بوكالة استخباراتية غير مُعَسكرة, أو اثنتين, بدلاً من كل هذه الوكالات, وكالة لا تعاني من مرض الارتياب وتعتمد على مصادرَ علنية). ولكن لا أهمية لهذا كله. فهي تشكل الآن أسلوباً في الحياة لا يمكن تغييره, أسلوب مرئي بشكل متزايد يتم الاحتفاء به في هذا البلد. كما أنها تشكل جزأ من هذا النمو اللامتناهي للسلطة الإمبراطورية للبيت الأبيض والتي لا تخضع لأي محاسبة أو سيطرة عندما يتعلق الأمر بالشعب الأمريكي, بطريقة لم يكن بمقدور وايز وروس أن يستوعباها في سنة 1964.
كما أنها جاهزة أيضاً لتلقي المديح على "نجاحاتها" (أو حتى أن تساهمَ في رسم صورتها على الساحة العامة). فيما مضى, لم يكن يُذكر اسمُ أو فضلُ عميل من عملاء "سي آي إيه" يموت في عملية سرية. ولكن مع حلول السبعينيات من القرن الماضي, كانوا يحفرون نجمة لذلك العميل على حائط الردهة في مقر"سي آي إيه", ولكن دون أن يعرف أحد من خارج الوكالة أي شيء عن مصيره/مصيرها.
أما الآن, فيمكن لأولئك الذين يموتون في عملياتنا السرية – أو في العمليات الموجهة ضد عملائنا "الخفيين" – أن يصبحوا شخصيات عامة و "أبطالاً" نحتفي بهم. فقد كانت هذه حالة جينفر ماثيوز, على سبيل المثال, وهي عميلة من عملاء "سي آي إيه" ماتت في أفغانستان عندما تبيَنَ أن أحد عملاء الوكالة المزدوجين كان في الحقيقة عميلاً لطرف ثالث وانتحارياً. أو الأسبوع الماضي فقط, عندما مات أحد جنود "فريق سيل 6" في عملية في أفغانستان لإنقاذ طبيب مُختطف. حيث نشرت البحرية صورته واسمه وتم الاحتفاء به على نطاق واسع. كان من شأن ذلك أن يشكل صدمة لوايز وروس.
ومرة أخرى, كانا سيتفاجآن دون شك لاكتشافهما أنه, من أفلام جاك راين وجيسون بورن إلى "سيريانا" و "مهمة مستحيلة" و "المخطوفة", أصبحت "سي آي إيه" والوكالات السرية الأخرى (أو مكافئاتها الخيالية) سلعاً رئيسية في أنظمة الإرسال الأمريكية. ولم تكن الشاشة الصغيرة منيعة على هذا الغزو المرئي, من "24" إلى "الوطن". أو خذوا هذا: بعد انتهاء عملية بن لادن السرية بستة ونصف فقط,والتي قام بتنفيذها "سيل تيم 6", تم تحويل العملية إلى فيلم بعنوان "زيرو دارك ثيرتي", وهو فيلم (إشكالي) تلقى الكثير من الإطناب وتم ترشيحه لجائزة الأوسكار, ويصور بطلة على نموذج عميلة سرية في "سي آي إيه" ظهرت صورتها بشكل علني. وفوق ذلك, تلقى صانعو الفيلم المساعدة, أو التشجيع على الأقل, من قبل "سي آي إيه" والبنتاغون, تماماً كما قدم "فريق سيل 6" المساعدة لفيلم هذه السنة "ضرب من البسالة" ("حيث ... يشرع فريق نخبوي من قوات البحرية الخاصة في مهمة سرية لتحرير أحد عملاء ‘سي آي إيه’") من خلال إعارة جنود حقيقيين من "فريق سيلز" بصفتهم الممثلين (الذين لا يحملون أسماء) ومن ثم تنفيذ إنزال مظلي قام به أعضاء من الفريق على بساط أحمر في حفل افتتاح الفيلم في هوليود.
صحيح أنه في الوقت الذي نُشر فيه كتاب "الحكومة الخفية", كان فيلما جيمز بوند الأولين قد قوبلا بنجاح كبير وقد بوشر بعرض المسلسل التلفزيوني "مهمة مستحيلة" بعد ذلك بسنتين, لكن الطريقة التي خرج بها العالم الخفي من الظل ليشكل أحد ملامح الثقافة الشعبية تبقى مثيرة للدهشة. ولا تظنوا أبداً أن ذلك مجرد صرعة ثقافية. ففي الستينيات من القرن الماضي, كان على الصحفيين الجادين الكشف عن تلك الوكالات الخفية لمعرفة أي شيء عما تقوم به. وفي تلك السنوات, على سبيل المثال, شنت "سي آي إيه" حرباً جوية وأرضية سرية في لاوس بذلت جهداً كبيراً لنكرانها على الرغم من حجمها ونطاقها.
واليوم, من جهة أخرى, تدير الوكالة ما يسمى حروب الطائرات بلا طيارين "السرية" في باكستان واليمن والصومال والتي يتم ذكر معظمها على الفور في الصحافة, والتي سربت الإدارة معلومات حولها في "نيويورك تايمز" فيما يخص دور الرئيس في انتقاء الأهداف المطلوب تصفيتها.
في الماضي, كان الرؤساء يلتجؤون إلى نوع من "الإنكار المعقول" عندما كان الأمر يتعلق بعمليات الاغتيال مثل عملية تصفية القائد الكونغولي باتريس لومومبا, ومحاولة اغتيال فيديل كاسترو في كوبا و نغو دينه دييم في ڤيتنام. أما الآن, من الواضح أن الاغتيال يُعتبَر جزأ شبه علني من عمل الرئيس الذي يتم تنظيمه وتنسيقه (داخل البيت الأبيض فقط), كما يتم الحديث عنه بشكل علني يبعث على الذهول. أصبح كل هذا جزأ من العالم المرئي (أو على الأقل عملية ترويج عملاقة فيه). لسنا بحاجة اليوم إلى أمثال وايز وروس ليخبرونا عن هذه الأشياء. فمنذ حروب "الكونترا في أمريكا الوسطى" التي أدارتها "سي آي إيه" بتوجيه من الرئيس رونالد ريغان في الثمانينيات من القرن الماضي, تغير تعريف كلمة "سري". إذ لم تعد تعني "بشكل خفي", بل "غير خاضع للمحاسبة".
إنها الآن طريقة مهذبة للقول للشعب الأمريكي: شيء لا يخصكم. نعم, يمكنكم أن تعرفوا عنها؛ يمكنكم أن تمدحوها كما تشاؤون؛ ولكن لا علاقة لكم بها, ولا رأي.
خلال اﻠ 48 عاماً منذ أن نشر وايز وروس كتابهما, انتصرت حكومتهما الخفية على الحكومة المرئية. فقد أصبحت الخيارَ الأول في هذا البلد. وبطرق معينة, فهي تصبح أيضاً الجزأ الأكثر مرئية وأهمية من تلك الحكومة, صرحاً ضخماً من المراقبة والتخزين والتجسس والقتل يمنحنا ما نسميه اليوم "الأمن", ويتركنا مرعوبين من العالم, ولا يتوقف عن التضخم, ويكتسب المزيد من الحرية لجمع معلومات عنا يستخدمها كما يشاء.
مع مرور 48 سنة, أصبح جلياً الآن أن إنجازَ وايز وروس, على الرغم من أهميته, كان دونكيشوتياً. وَضع "السلطة السرية" تحت السيطرة؟ إخضاعها للمحاسبة؟ احلموا, ولكن توخوا الحذر, ففي يوم من الأيام ربما تكون هناك ملفات حتى لأحلامكم.

تُرجم عن "إيشا تايمز أونلاين", 19 كانون الأول/ديسمبر 2012

الجمل: قسم الترجمة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...