أي عيد للعمال في العالم العربي

02-05-2007

أي عيد للعمال في العالم العربي

ككل عام يحتفل العمال في غرة شهر مايو/أيار بعيدهم الذي يحاولون من خلاله لفت الأنظار إلى قضاياهم، كما تحاول فيه النقابات والتيارات المتحدثة باسمهم تسجيل وجودها على الساحة السياسية. وبالرغم مما تحقق في بلدان العالم الغربي من إنجازات لصالح هذه الفئة الاجتماعية، فإن ظرف العولمة الجديد ما فتئ يطرح تحديات جمة قد تدفع إلى مراجعة بعض الامتيازات.

بعيدا عن الفضاء الغربي وهامشه الشاسع للحريات، يلاحظ أن نطاق الاحتفال بهذه المناسبة قد توسع ليشمل بلدانا انفتحت مؤخرا على التجربة الديمقراطية في آسيا وأميركا الجنوبية وحتى في أفريقيا.

وحده العالم العربي، ماعدا بعض الاستثناءات القليلة، يكاد يشذ عن هذا التطور العام لأسباب تصب في النهاية في إشكالية العلاقة بين مؤسسة الدولة ومن يمثلها من جهة والمجتمع من جهة ثانية، إذ الحديث عن العمل والعمال ينتهي حتما إلى إثارة قضايا مازالت تعد شديدة الحساسية مثل مفهوم المواطنة والوطن والحقوق.
تطرح دراسة الوضع الحالي للعمال في العالم العربي العديد من الإشكاليات حول طبيعة تعريف هذه الفئة، وذلك بالنظر إلى صرامة مقاييس علم الاجتماع، ثم حول مدى شرعية القول بتجانس الفضاء العربي على هذا المستوى.

غير أننا سنأخذ المسألة في بعدها الأكثر عمومية لنتحدث عن الأٌجراء بهدف تحديد الموضوع، كما أننا سنعتمد على مفهوم العالم العربي من خلال بعده الثقافي العام لتجاوز خصوصيات الأطر الإقليمية المتميزة بالتفاوت الشديد.

إن أول ما يصطدم به الدارس لوضع العمال في العالم العربي هو ندرة المعلومات أو عدم مصداقيتها إن توفرت. وهذا وضع عام مرتبط بنوع من العلاقة المرضية التي تربط بين الأنظمة القائمة في البلدان العربية والمعلومة باعتبار أن مراقبتها توفر لها القدرة على المناورة الإعلامية. نضيف إلى هذا غياب تقاليد الإحصاء وخاصة فيما يخص الجانب الاجتماعي.

غير أن هذه العوائق لا تمنعنا من التأكيد على قتامة الوضع العام للعمال في العالم العربي، إذ هو وضع يتميز بغياب الهياكل التنظيمية المستقلة القادرة على الدفاع عن مصالح هذه الشريحة الاجتماعية.

في هذا السياق لا بد من التشديد على اختلاف أوضاع كل حالة عربية. إذ إن هناك دولا لا يوجد فيها تمثيل نقابي أصلا أو أن التمثيل يتم عبر أجهزة تابعة للدولة، وهذا حال أغلب بلدان الخليج وكذلك سوريا وليبيا، وتستثنى البحرين من هذه المجموعة بحكم حداثة تجربتها النقابية التي تسير نحو نوع من الاستقلالية التنظيمية.

في المقابل نجد بلدانا أخرى تشهد تجربة نقابية مستقلة نوعا ما، وهو حال الجزائر ولبنان ونسبيا تونس ومصر، أي بلدانا عرفت بقدم تجربتها النقابية والنضالية.

لكن الوضع العام للتنظيم النقابي في العالم العربي يبقى يراوح بين الغياب التام والمعركة المحتشمة من أجل الاستقلالية.

غياب هذه الأطر التنظيمية أدى إلى العديد من الفراغات القانونية وإلى تعقيد الوضع الاجتماعي للعمال.

نذكر في هذا السياق غياب القانون الأساسي لأغلب قطاعات العمل، إذ من شأن هذه القوانين الأساسية أن ترسم الإطار العام للحقوق وتوفر الضمانة للعمال من حيث استمرارية الوظيفة ومن حيث الأجور والتعويضات.

لقد ترك هذا الفراغ المجال واسعا للأعراف للتلاعب بحقوق الأجراء، إذ لا تحترم المعايير الدولية لمدة العمل (ثماني ساعات يوميا) كما لا تحترم قواعد السلامة المهنية في ظل تهرب المؤسسات من تعويض عمالها في حالة الحوادث.

لكن معاناة المواطن في العالم العربي مع العمل تبدأ حتى قبل انخراطه الفعلي داخل المؤسسة، لأن غياب ثقافة الحقوق، في ظل أنظمة لا تربطها مع مجتمعاتها سوى علاقة الإكراه، تجعل من العمل والوظيفة والحصول على مورد للرزق امتيازا تتكرم به السلطة القائمة على الأفراد. وهذه هي البيئة المثلى لانتشار المحسوبية والطرد التعسفي من العمل.

وفي ظل انحسار الحريات السياسية وفي ظل انتشار البطالة يصبح العمل، بغض النظر عن الحقوق التي يولدها، مطمحا نهائيا لمواطنين انحصر معنى وجودهم في البعد البيولوجي الحيواني.

فالمهم العمل وضمان لقمة العيش، وهذا هو المواطن المثالي الذي تريده الأنظمة، مواطن يتحدد مصيره من خلال معدته لا من خلال أفكاره.

لا بد من التوقف عند حالة العمالة المغتربة في العالم العربي لما يتميز به وضعها من قساوة تتجاوز بكثير وضع العمال المحليين، وتتكون هذه الفئة من صنفين، يشمل الأول الهجرة العربية/العربية في حين تشمل الثانية العمالة غير العربية.

بالنسبة للعمالة العربية المغتربة داخل البيت العربي نميز كذلك بين الهجرة المنظمة، أي الهجرة للبحث عن عمل، ثم الهجرة القسرية، مثل حالة العمال الفلسطينيين والصوماليين ومؤخرا العمال العراقيين. وهذا الاختلاف من حيث التسميات لا يغير كثيرا في الحقيقة من وضع العامل العربي المغترب مهما كان سبب اغترابه.

فالطرد التعسفي الفردي والجماعي ممارسة رائجة في البلدان العربية النفطية، ولعل ليبيا تعد رائدة في مجال الطرد الجماعي للعمال العرب. أما العمالة الوافدة غير العربية فتعد مجالا للتعدي الفاضح على أبسط حقوق الإنسان.

ليس في وسعنا هنا سوى التذكير بالوضع المزري للخدم في المنازل في البلدان النفطية الخليجية وكذلك في الأردن وفي لبنان، حيث تعاني الفتيات الآسيويات من الاستغلال المادي والجسدي في ظل تهاون الجهاز القضائي الداخلي.

هذا أدنى ما يمكن قوله لتصوير الوضع القاتم للعمل وللعمال في العالم العربي، إنه وضع يطغى فيه الجانب المأساوي على بعض حالات الانفتاح والتطوير التي تسجلها بعض البلدان العربية.

ما هي خلفيات هذا الواقع؟ ترتبط الإجابة على هذا السؤال بالعديد من المعطيات المتعلقة بطبيعة التركيبة الاجتماعية والسياسية للأنظمة القائمة في الفضاء العربي، وكذلك بوضع عالمي أشمل يتأثر به العالم العربي دون التأثير فيه.

تجب الإشارة إلى أن صعوبة هذا الوضع الاجتماعي مرتبطة إلى حد كبير بطبيعة الثقافة العامة فيما يخص مفاهيم العمل والعمال في ظل دول ترى أنها لم تستكمل بعد بناء الوطن.

إن المتتبع للخطاب الإعلامي العربي الرسمي في مخاطبته للأفراد يلاحظ أن المفردة التي تعود باستمرار هي كلمة المواطن، أو المواطنون أكثر من كلمة العمال. وهذا حسب اعتقادي مرتبط بطبيعة السياسة الإعلامية التي تتوخاها الأنظمة لضمان خطاب متجانس مع طبيعتها الإقصائية.

فكلمة مواطن تحيل على مفهوم الوطن، أي تلك القيمة العليا الشمولية التي يلتف حولها الأفراد بشكل يلغي أي تمايز قادر على حمل بذور الاختلاف ويؤدي بالتالي إلى الفتنة والفوضى وإلى تهديد الوضع القائم على التجانس.

أما كلمة عامل فتحيل على سجل الاختلاف الاجتماعي الطبقي في ظل بيئة تقدم نفسها في صورة فردوس من الانسجام والتجانس الاجتماعي والثقافي.

فالمعطى الطبقي يشكل ضمنا تهديدا لمسار البناء الوطني المتواصل والضامن لشرعية ديمومة الفئة القائمة على هذا البناء (الحزب والعائلة والفرد). والعمل بدوره أفرغ من محتواه السياسي والاجتماعي والثقافي العام، أي باعتباره قاعدة لتكوين الفرد كمواطن وكعامل وكإنسان.

لقد أضحى العمل واجبا وطنيا مرتبطا برسالة مقدسة هي بناء الوطن تحت إشراف تلك النخبة التي احتكرت هذه العملية الأبدية.

أعتقد أن المواطن العربي في الشرق كما هو في الغرب سئم عبارة "مزيد من البذل والعطاء" التي تذكره بأن وضع المواطنة مختزل في مقولة الواجب نحو الوطن والساهرين عليه دون أي وجود لمبدأ الحقوق.

لقد أصبح العمل، بكل مشمولاته من عمال ومصانع ومن إنتاج، وسيلة للدعاية الرسمية في سبيل بناء شرعية النظم القائمة، أكثر منه مجالا من مجالات الحياة يؤكد مفهوم المواطنة وحقوق الفاعلين الاجتماعيين.

إنه مجال للتدجين والإنجاز بامتياز. مجال للتدجين لما يوفره من محاصرة لمواطنة مبتورة. وهو مجال للإنجاز لأنه يوفر للسياسة الدعائية مادتها الرئيسية.

لقد أغرقتنا هذه الدعاية بسيل من الكتابات والخطابات المحتفلة بهذا الإنجاز التنموي أو ذاك، كما أغرقتنا أجهزة التلفزة العربية بصور هذا الرئيس أو ذلك القائد والمسؤول وهو يستمع إلى شروحات الفنيين والمهندسين في مشهد مسرحي مثير.

إن الحديث المطول عن العمل في سياق المجهود الرسمي للتنمية يندرج ضمن عقلية تحصر حاجة المواطن العربي في تلبية حاجياته المادية، أي حصر قيمة وجوده في مدى تمتعه بهذه الحاجات الحياتية.

وهذا يتم بهدف التغطية على حاجات أخرى ذات دور حيوي في بناء الإنسان العربي الحديث مثل الحرية وثقافة العقل والحقوق، وكأن لا خيار أمام المواطن العربي، إما الخبز وإما الحرية، فالخيار لك أن تكون عبدا حيا أو حرّا ميتا.

إن احتكار الدولة للبناء والإنشاء وتوزيع الوظائف وتوفير مصدر الرزق يراد به ترسيخ علاقة أبوية بين الفئة الحاكمة والمجتمع.

خطر مثل هذا النهج يتمثل في تكريس عقلية التواكل لدى الفاعلين الاجتماعيين والتشجيع على عقلية الاستجداء وما يصاحبها من محسوبية ومحاباة.

لقد أصبحت التنمية وما تخلقه من عمل وسيلة للمراقبة الاجتماعية للأفراد أكثر منها دعما لبناء مواطنة حديثة.

يرتبط وضع العمل والعمال كذلك بالتراجع العام لثقافة المطالب والاحتجاج سواء في السياق العربي أو العالمي. إنه تراجع عام للمسألة الاجتماعية أمام تبعات العولمة الاقتصادية والفكرية، يضاف إليه تميز الوضع العربي.

فعلى الصعيد العالمي يلاحظ منذ سقوط جدار برلين، ونهاية الاستقطاب الاشتراكي والليبرالي الذي صاحب الحرب الباردة تراجع للفكر اليساري، ليس كمنظور فلسفي فقط بل كذلك كرؤية سياسية للوضع الاجتماعي.

فالتحولات التي صاحبت هذا الحدث السياسي أسست لما يشبه الأزمة الفلسفية من خلال مراجعة قاسية أحيانا لمفاهيم العدالة الاجتماعية والتعاون والتآزر.

لقد تركزت هذه المراجعة بشكل حاسم على محاصرة الفكر الثوري والمطلبي، معتبرة قوانين السوق معطى لا يمكن القفز عليه. وبالتالي يبقى الوضع الاجتماعي نفسه رهن التطور الإيجابي للوضع الاقتصادي، ولا يخضع بأي حال للمبادئ النظرية والإنسانية. أي أن الوضع الاجتماعي يولد من رحم الفاعلية الاقتصادية لا من رحم المبادئ مهما كان نبلها.

في هذا السياق بالذات يمكننا فهم التراجع الكبير للاحتفال بعيد العمال في مختلف أنحاء العالم الغربي، كما يمكننا فهم المراجعة الشاملة في البلدان الأوروبية للعديد من المكاسب التي تحققت بعد الحرب العالمية الثانية.

الساحة العربية تأثرت بدورها بهذا التراجع العام للفكر اليساري الذي احتكر تاريخيا المطالبة بحقوق العمال والفقراء. لكن حدة التراجع ازدادت بسبب خصوصية الظرف العربي.

فتراجع الفكر المطلبي الاجتماعي مرتبط كذلك بهيمنة القضايا السياسية العربية الكبرى مثل القضية الفلسطينية والوحدة العربية، والحرب على العراق. فقد انتزعت هذه القضايا المواطن العربي من الوعي بواقعه الاجتماعي لتلقي به في مجال السياسة العالمية والصراع مع الآخر.

مثل هذا الصراع السياسي دفع إلى الأمام قضية الهوية تجاه الآخر على حساب الوعي بالذات داخل البيئة العربية ذاتها. وما بروز التيارات الإسلامية إلا إفراز للانغماس الكلي في سياسة العلاقة مع الآخر، وهو ما يظهر جليا في خطابها الذي يمر عرضا على المسألة الاجتماعية، أو أنه يختزلها في مسألة المرأة وإقامة الحدود.

يتم هذا التحول السياسي في ظل تركيبة خاصة لما يمكن تسميته بالوعي الاجتماعي. فهذا الوعي يتشكل في بيئة تهيمن عليها علاقات القرابة الدموية. أي أن علاقات التضامن القرابي تطغي على علاقات التضامن المهني والطبقي، وهو ما يحد بشكل كبير من القدرة على تشكيل تنظيمات مؤسسة على الوعي الاجتماعي الشامل.

ما من شك في أن وضع العمل والعمال في العالم العربي مرتبط بشكل رئيسي بطبيعة الأنظمة القائمة التي احتكرت لنفسها حق تقرير مصير الأفراد، لكن نهاية الحرب الباردة وتصاعد وتيرة العولمة الاقتصادية وكذلك حرب الهوية مع الآخر، كلها عوامل ساهمت بدورها في تراجع الوعي بالذات العربية كفاعل اجتماعي.

عادل لطيفي

المصدر: الجزيرة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...