أدونيس يطرح أسئلة النكبة التي تبحث عن أجوبة

22-05-2008

أدونيس يطرح أسئلة النكبة التي تبحث عن أجوبة

- 1 –

لماذا لم تعد المدن العربية العريقة كمثل القاهرة، وبيروت وبغداد ودمشق وحلب وفاس تمثيلاً لا حصراً، «موجودة»، على صعيد الإبداع الحضاري، إلا بـ «أسمائها»؟ تقلصت «الهوية»، هنا، في مجرد «الاسم». وهي «تحيا» حضارياً، لا في «الفعل»، بل في «الاسم».

أسأل هذا السؤال الذي أوحته إليّ زيارتي الأخيرة الى فلورنسا وروما (نيسان، 2008). فهاتان المدينتان لا تعيشان، هما كذلك، إلا باسميهما. تبدوان، خارج البعد الحضاري لاسميهما، أقرب الى كونهما ركاماً معمارياً وثقافياً واجتماعياً.

مدنٌ تحيا باسمها، وهي في واقعها، ركامُ أشياء، لا تكاد أن ترى فيه بصيصاً لعلوّ الإنسان.

هل «الذاكرة» هنا، في مثل هذه الحالة، تفعل ايجاباً أم سلباً؟ لكن، ما يكونُ «معنى» شيء، تكمن قيمته في كونه ذاكرةً أو ذكرى؟ واذهب الى أيّ من هذه المدن، فلن تجد فيها – أو قلما ستجد فيها – ما يشدّك اليه، ويجذبك، ويسرّك إلاّ «قديمها».

المفارقة هي أنك، على الصعيد الإنساني الخالص، ستجد أفراداً رجالاً ونساءً، يعطون للحياة معناها، وللوجود قيمته. غير أنك ستشعر، في الوقت ذاته، أن هؤلاء الأفراد يعيشون على «الهامش» بشكلٍ أو آخر، قليلاً أو كثيراً، وأن حياتهم نضالٌ متواصلٌ مريرٌ، ضد البنى السائدة، اقتصادياً وسياسياً وثقافياً.

وإذا كانوا في العالم «الغربي» يتمتعون بحرية الحركة والقول، بسببٍ من تطوّر العقد الاجتماعي في ما بينهم، فإنهم في عالمنا العربيّ «سجناء» بسببٍ من تخلّف هذا العقد، وسترى انهم لا يستطيعون أن «يفعلوا»، ولا أن «يتكلموا» حتى حول قضاياهم «الصارخة» إلا همساً، وفي ما بينهم.

- 2 –

هل ذلك «التقدم» في الغرب عائدٌ الى ثقافة «التعدد» الذي أُرسي في مؤسساتٍ تنظر بعين المساواة الى جميع الأفراد، في معزلٍ عن آرائهم وأفكارهم ومُعتقداتهم: يلتزمون جميعاً بمبادئ المؤسسات، ويظلّون أحراراً في أعمالهم وأفكارهم. وليست السلطة إلا تسييراً إدارياً لهذه المؤسسات.

وهل «التخلّف» في العالم العربيّ عائدٌ الى أن العرب لم يستطيعوا، على مدى تاريخهم أن يبنوا دولةً، وأن يُرسوا مؤسساتٍ بهذه الدلالة الغربية، وانما بَنوا أنظمةً سياسية مرتبطةً بالقبيلة والطائفة وأهوائهما، وهو ما يتناقض مع بناء الدولة وإقامة المؤسسات. وهكذا كان النظام، دائماً، فرداً، وكانت «المؤسسة» التابعة له «قبيلة» – طبعاً، لا لحماية المجتمع، بل لحماية «النظام».

لا تعدّد هنا، بل استتباعٌ وإخضاع.

ولا حريّة، بل تبعيّة.

ولا «فرديّة»، بل «قبليّة»: فأنتَ، هنا، جزءٌ من «نظام»، من «قبيلة»، من «طائفة»، قبل أن تكون «مُواطناً».

ولا «وطن»، إذاً، بل «محميّة»، و «بستان» و «دكان».

ولا «تقدّم»، إذاً، بل «دوران».

- 3 –

هل ثقافة «الوحدانية» هي في أساسِ انعدام التعددية، وثقافة التعدّد؟ هل الاعتراف بالآخر المختلف مُستحيلٌ في ثقافة الوحدانية؟

هل يقتضي التأسيس لثقافة التعدّد، إلغاءً كاملاً لثقافة الوحدانية؟

هل هذه الأسئلة مفتاحٌ لتلك الأخرى: أسئلة الكينونة، والتغيّر، والواقع، والمصير؟

لماذا، لماذا، إذاً، نُهمل أو نموّهُ أو نهمش مثل هذه الأسئلة؟

- 4 –

لنعد الى تلك المدن العربية: ولماذا، لا يُولدُ فيها إلاّ ما يهبطُ من رحمٍ لا تلِدُ ما «يُدمِّر» الإنسان ذاته؟

ولماذا تبدو «الولادة» نفسها في هذه المدن، كأنها شكلٌُ آخر للخراب والموت؟

- 5 –

«الدولابُ»: هذا «العقد الفريدُ» الذي يتدلّى من عُنقِ العالم العربيّ – الإسلامي.

- 6 –

قِرمزيٌّ وسماويٌّ هذا المنديلُ الذي ينسدل على كتفي بيروت: أهو نسيجُ الواقع، أم نسيج الذّاكرة؟

السماء تُمطر يأساً. والسماء على عرشها، لا وراء الغيوم، بل وراء الضبّاب.

وها هو «الجسم» جامِدٌ، و «الجدارُ» هو الذي يتحرّك.

وها هم «يهدمون» الإنسان لكي يبنوا «الجدار».

وها هو الجسمُ ينسى حتّى قدميه.

- 7 –

أرَى الناس في مطار فلورنسا، أصغي اليهم،

ما أشقى هذه المدينة:

جسمها «كُرةٌ» تذهب وتجيء بين قدمي المطار.

دخانٌ «سياحيّ» ينفذ الى رئة فلورنسا ويبقّعها.

من أية جهةٍ، من أي ثقبٍ يقدر الفنّ أن يدخل اليها؟

الليل مائلُ العُنق،

والنهار مشحونٌ بالغبار:

أهذه «فتنة» الحياة الحديثة؟

- 8 –

أوه! لم تعد ترقّ للشعر أيّة صخرة، كما كان الأمرُ في «القديم». لم يعد يرقّ له حتى قلبُ اللغة.

- 9 –

«الوقود يهربُ من خزّانه»: هذا ما أعلنه قائد الطائرة (إير فرانس) في مطار فلورنسا، بعد أن صعد الركاب جميعاً، ينتظرون اقلاعها في اتجاه باريس.

هبطنا من الطائرة، عائدين الى المطار، ننتظر.

انتظروا، أيّها المسافرون المستعجلون:

وقُود العالم يهربُ من خزّانه.

- 10 –

جميع الصُّور التي تنشرها الصحافة العربية والأجنبية، عن قادة السياسة في العالم العربي، تظهرهم – فيما «يحترق» هذا العالم، كأنهم في عرسٍ أو عيد.

طوبى للسياسة في العالم العربي تعيش، وحدها، في قصرٍ باذخ، مع زوجٍ وفيِّ اسمه الواقع.

أبوابُ القصر تحرسها النجوم، والعتبةُ سيفٌ بحدّين. وها هُو العلمُ دمٌ، والجمهور غُبار.

وليس عبثاً أن يجهر القصر دائماً: وكيلي الله.

القصرُ طافحٌ دائماً بالعقائد التي لا تليقُ بأجسامها إلا ثيابٌ ينسجها الغيمُ بإبرة الريح.

انظروا. إنّها شجرة الغار تفكّ زُنّارها، هي أيضاً، على عتبة القصر.

- 11 –

لماذا تبدو، أحياناً، هذه الرحمُ التي تُسمى «إنسانية»، أَنها تحتاج الى أبديّةٍ لكي تلِدَ إنساناً؟

- 12 –

لماذا، أحياناً، تبدو الكلمات في هذه اللغة – الأم، الخصبةِ الجميلة، كأنّها لا تقبل أن تكون مسكونةً، لا بالحلم، ولا بالأمل، ولا بالعمل، ولا حتّى باليأس؟

لماذا تبدو كأنّها حصىً، أو قَشٌ؟

- 13 –

لماذا تُصِرّ بعض الأنظمة العربيّة على أن «تُعطي» الولايات المتحدة ما لا يعطيه أيّ نظام حليفٍ لها، وتقبل أن «تأخذ» منها مقابل ذلك، أَدنى بكثيرٍ كثيرٍ مما يأخذه أيّ نظامٍ آخر في العالم؟

- 14 –

لما تُصرّ معظم الأنظمة في العالم على القول ان اسرائيل دولة «ديموقراطية» – بينما هي نفسها تنصّ في دستورها نفسه، على أنها «دولة يهودية»؟

ولماذا تُصرّ هذه الأنظمة على تعليمنا أن الكَذِبَ في هذا العالم هو، وحده، الصّدق؟

- 15 –

قال بوش، مستقبلاً البابا الرّاهن: «كلّ حياةٍ إنسانيّة، إنما هي حياةٌ مقدّسة».

إن كان بوش صادقاً في قوله، فلماذا لا يردّد هذه الكلمة أمام جنوده في العراق وأمام «ولايته» الغالية، العالية في فلسطين؟ (هل سيحقّ لنا، بعد فترةٍ، أن نتلفظ بهذه الكلمة؟) ولماذا يجنّد بوش في جيشه أعداداً من «المجرمين» – خصوصاً من مرتكبي الجرائم الجنسية، والمهربين، والمتهمين كذلك بالإرهاب (مجلة «ماريان» الفرنسية، 26 نيسان/ ابريل 2008) ومن المختصين كذلك في تجارة الأسلحة؟ (نيويورك تايمس).

ولماذا لم يشر البابا إياه في خطابه في الأمم المتحدة، باسم العدالة، والكرامة البشرية وحقوق الإنسان، الى المعذبين المشردين المقتولين في موطن سيده المسيح، وفي موطن جدّه إبراهيم؟

- 16 –

بعد مرور ستّين عاماً على «النكبة»، (ومعي لا تزال متواصلة)، تسمح لنا التجربة التاريخية بهذا السؤال: هل كانت فلسطين «أولوية» عربية، أم كانت، بالأحرى، «وسيلةً» لتعزيز أولوياتٍ أخرى؟

- 17 –

هل يكفي أن يكون الحق معي لكي أنتصر؟

- 18 –

لماذا تتلقى اسرائيل كل ما تريده من عالمٍ لا تقدّم له أي شيء، ولا يتلقى العرب من هذا العالم نفسه الذي يقدمون له كل شيء، إلا «طُرق» الاستغلال لثرواتهم وطاقاتهم.

- 19 –

لماذا أصرّ على طرحك، أنت أيّتها الأسئلة التي «تُحاربها» الأجوبة؟

- 20 –

هل أنتِ ضدّي كذلك، أيتها اللغة؟

أدونيس

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...