لبنان أزمة مفتوحة إلى الأبد

23-01-2008

لبنان أزمة مفتوحة إلى الأبد

يعيش لبنان مشهداً سوريالياً متمادياً. أزمة سياسية مفتوحة منذ ثلاث سنوات والكل «يبلّ» يده فيها، ولا تتوفر المخارج، لكأن لبنان صار ساحة ومتنفساً لكل صراعات المنطقة والعالم.
جاء ترشيح قائد الجيش اللبناني العماد ميشال سليمان في هذا السياق السياسي المستحيل. فجأة، صار الرجل الأكثر استبعاداً من لائحة مرشحي الأكثرية هو المرشح الأول عند أول من استبعدوه وفجأة، صار الرجل الأكثر تأييدا من جانب المعارضة، المرشح الأخير و(المشتبه» في تبنيه من الخصوم... وبلغ الأمر حد «ارتكاب» جامعة الدول العربية «سابقة دبلوماسية وسياسية» بانتخاب رئيس دولة بالإجماع قبل أن يقرر نواب بلده انتخابه.
لم يأت ترشيح سليمان في سياق سياسي ودستوري طبيعي، بل في سياق أزمة دفعت بالبلد الى فراغ الرئاسة، في مشهد مشابه لما جرى في العام ,1988 ولو أن الظروف الداخلية والخارجية المحيطة بالاستحقاق الرئاسي والمرشحين قد تغيّرت.
عندما كان الأميركيون يكررون، صبحا ومساء، ومعهم بعض اركان الأكثرية، أن تعديل الدستور «خط أحمر»، بوصفه «يشكل انتهاكا فاضحا للقرار 1559 ولاتفاق الطائف والدستور اللبناني»، انبرى السفير الأميركي جيفري فيلتمان وعبر برنامج «توك شو» لبناني شهير الى اعتماد توليفة جديدة للقبول بالتعديل الدستوري، كان قد سبقه اليها، البطريرك الماروني نصرالله صفير في شهر آب المنصرم بقوله لـ(السفير» من مقر إقامته في الديمان «اذا كان الانقاذ يستوجب تعديل الدستور للمجيء بقائد الجيش رئيسا للجمهورية، فلا مانع في ذلك».
لم يكن امتحان المؤسسة العسكرية اللبنانية وقائدها في «حرب» مخيم نهر البارد هو البداية، ولو أنه شكّل محطة مفصلية. في الرابع عشر من شباط ,2005 لحظة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وفي ذروة الحملة الداخلية والدولية ضد سوريا والمؤسسات العسكرية والأمنية اللبنانية، وصل العماد ميشال سليمان الى قصر قريطم واجتمع بآل الحريري، وتوجه الى السيدة نازك وسعد وبهاء الحريري معزياً وواضعاً استقالته بتصرفهم، قائلا لهم «أنا أتحمل مسؤولية معنوية عن الجريمة بصفتي أحد المسؤولين عن الأمن في لبنان». وقد تركت كلماته أثراً كبيراً، سرعان ما عبّرت عنه عملية تحييد المؤسسة العسكرية ولو جزئياً من سهام حملة بلغت ذروتها بإدخال «الضباط الأربعة» الى السجن.
دخل الجيش اللبناني في تحدي اختبار الذات والقدرة على الإمساك بالأمن، بعد انتهاء ما أسميت «مرحلة الوصاية» وخروج الجيش السوري من لبنان. مرت تظاهرة الثامن من آذار بخير وتحت حماية الجيش وتلتها مسيرة الرابع عشر من آذار. اعتمد ميشال سليمان قاعدة ذهبية في عمل المؤسسة العسكرية: «الدستور ينص على حماية حرية التعبير، وهو أقوى من القرار السياسي، وواجبي ان أنفذ القرار السياسي للسلطة السياسية المنبثقة من الإرادة الوطنية ومقياسه دوماً المصلحة الوطنيّة العليا».
نجح الجيش في تجاوز قطوعات الداخل الأمنية الكبرى من شباط 2005 حتى يومنا هذا بكل «صولاتها وجولاتها الميدانية»، وخاصة في مطلع العام ,2007 وتمثل الاختبار الثاني، في عدم مغادرة العقيدة القتالية الثابتة للجيش منذ مطلع التسعينيات والقائمة على العداء لإسرائيل، وترجم ذلك في محطات عدة، أبرزها «حرب تموز» حيث لعب الجيش اللبناني دوراً داعماً للمقاومة، ويومها قال ميشال سليمان «كل سلاح موجه ضد اسرائيل ليس سلاحاً عدواً بل هو سلاح صديق».
وبينما كان العالم منشغلا باحتمالات ملء الفراغ الأمني والعسكري في منطقة جنوب الليطاني، سواء بنشر «اليونيفيل» أو «المتعددة الجنسيات»، تحت الفصل السادس أو السابع الخ.. ابلغ قائد الجيش الحكومة اللبنانية جهوزية الجيش اللبناني للانتشار في الجنوب، فكان القرار التاريخي الذي أعاد الجيش الى أهله وأرضه، بعد 28 سنة من الغياب وتزامن ذلك مع نشر أكثر من ثمانية آلاف جندي على طول الحدود البرية الشمالية والشرقية بين لبنان وسوريا.
دفع الجيش اللبناني ثمناً باهظاً في «الكمين البارد». أكثر من مئة وسبعين شهيداً وأكثر من ألف وخمسمئة جريح بينهم عشرات المصابين باعاقات دائمة. لم يقتصر الأمر على ذلك، بل تضمن تهديدا مباشرا باستهداف كل المؤسسة ورموزها وأولهم ميشال سليمان، في أمر وصف بأنه بمثابة «حكم مبرم بالإعدام»، ولم تأت جريمة اغتيال اللواء الشهيد فرنسوا الحاج الا في هذا السياق الذي يطال في استهدافاته ومخاطره كل المؤسسة العسكرية في المرحلة المقبلة.
لم تتوان قيادة الجيش في زمن «البارد»، عن قرع كل الأبواب، من دمشق حيث يرتبط ميشال سليمان بعلاقة صداقة مع رئيسها بشار الأسد، مروراً بكل العرب، وخاصة السعودية التي استقبلته بصفته العسكرية وكرّمته مراراً، ومصر التي كسر رئيسها قواعد البروتوكول باستقبال قائد الجيش اللبناني في نهاية الصيف الفائت، وصولا الى واشنطن ومعها عواصم غربية أخرى رأت في تجربة الجيش اللبناني الناجحة ضد الارهاب الدولي، خير بطاقة اعتماد ولاحقاً مناسبة لتزكية الترشيح عدا عن أنها لم تتوان عن تقديم ما يمكن تقديمه من دعم ولو جاء متواضعاً للجيش، خاصة بعد «الكمين البارد».
غادر الجيش منطق الاتهامات المسبقة وما كانت التحقيقات تكشفه، كان يبقى ملك الأجهزة القضائية والأمنية، وعندما طلب الأميركيون المشاركة في استخلاص العبر والدروس المستقاة من معركة نهر البارد ضد «الإرهاب الدولي» كان الجواب بأن التقييم يحصل مع القيادة حصراً ومن غير المسموح فتح أبواب المؤسسة أمام أي جيش أجنبي.
حاول كثيرون إقحام الجيش في فخ الصراع الداخلي و«حوصرت» ميزانيته بالتقشف لأكثر من سنتين وأصابه ما اصابه ولكنه لم يتقاعس، وعندما كان المسيحيون يقتربون من بعضهم بعضاً، كما فعل ميشال عون العائد من منفاه الباريسي، يوم زار سمير جعجع في سجنه في وزارة الدفاع في اليرزة، كان هؤلاء يتناسون «الجيش الضامن»، حتى أن عون زار كل القيادات السياسية، بما فيها خصومه، ولم يقم بزيارة واحدة لقيادة الجيش وهيئة الأركان ولو للتعزية بشهداء «البارد»، لا بل كان لسان حاله دائماً أن ميشال سليمان «هو مجرد موظف» في «جيشه» (...) بينما كان سمير جعجع غارقاً في ذاكرة «حرب الإلغاء» ويراهن على الخارج لإبعاد «شبح العسكر» أو يتنطح للوقوف بوجه ميشال عون وكل من يسانده (الجيش ضمناً) عندما كان يأخذ على حليفيه سعد الحريري ووليد جنبلاط في اجتماع الفينيسيا «تقاعسهما وتراخيهما في قرار الدخول في مواجهة شاملة مع المعارضة»!
ولعل العلامة الفارقة، هي العلاقة التاريخية، التي تربط قائد الجيش بالبطريركية المارونية، وساهمت «المهام» التي اضطلع بها مدير مخابرات جبل لبنان سابقاً في تعزيزها، حتى أن البطريرك صفير كان يهنئه دائماً على ترفعه «لأن المسيحيين لا يتعلمون من دروسهم وتاريخهم، وهذا ما أثبتته التجارب، بل هم يعيدون تكرار مآسيهم ودائماً بطريقة أكثر درامية»!
قال ميشال سليمان مراراً، لمن يعنيهم الأمر، منذ اليوم الذي اثير فيه الاستحقاق الرئاسي، إنه حريص على خدمة وطنه وأهله في أي موقع كان «ولكن ليس على حساب وحدة الجيش اللبناني ووحدة اللبنانيين. فأنا رمز للمؤسسة الوطنية الجامعة ولن أقبل الا أن أكون كذلك، واذا لم يوفقني الله اليوم، سيأتي يوم قريب أنهي فيه خدمتي العسكرية، وعندها سأنتقل الى العمل السياسي ولن أتردد في خوض كل المعارك السياسية بالنزاهة والمناقبية نفسيهما».
لم يبرز اي تناقض جوهري بين «الماروني الطبيعي» ابن بلدة عمشيت، والذي يعود أصله الى عائلة كلاب المرتبطة بصلة نسب مع آل لحود في عمشيت، والتي لم تخرج عن انتمائها الوطني ولم تعرف بعدائية للعرب عموماً ولسوريا خصوصاً، بل كانت ابنة شرعية لمحيطها الجبيلي الذي طالما شكّل نموذجاً للعيش المشترك حتى في أصعب المراحل.
كذلك، سجل لقائد الجيش، خاصة بعد الجريمة الكبرى التي مني بها الجيش في «البارد»، ابتعاده عن نزعة شوفينية برزت لدى بعض الضباط والجنود في خضم معركة نهر البارد، حيث كان دائما يحرص على التمييز بين عصابة «فتح الاسلام» وبين الفلسطينيين ابناء المخيمات ولطالما ردد بأنه لو لم يتمكن الجيش من حسم المعركة، لكنا شهدنا فصلا من فصول التحريض العنصري بين الأهالي اللبنانيين والسكان الفلسطينيين، حيث يستحيل بعد ذلك الحديث عن عودة ومصالحة وترميم وإعمار، مع الاعتراف بحصول تجاوزات.
لم يبرز أي اختلاف جوهري بين «المسيحي الطبيعي» وإيمانه بانفتاح لبنان على العالم شرقا وغربا، ولعب وزير الدفاع الياس المر، دوراً مركزياً في عدد من «الصياغات الداخلية والخارجية»، الى درجة صعب فيها على المرشح الرئاسي أن يقال عنه أنه لا يحفظ الأصدقاء، وذلك في معرض تشكيك المعارضة باختياره المر وزيراً ضمن حصته الحكومية. واستطاع سليمان أن ينسج علاقة صداقة مع سعد الحريري الذي كانت له مواقف «سبّاقة»، لولا تدخل «المحبين» خاصة مسيحيي الأكثرية وبعض مرشحيهم الذين سرعان ما تحولوا منذ اللحظات الأولى للإجماع على الترشيح الى تقديم استشارات بالطول والعرض للمرشح الماروني.
وسّع ميشال سليمان مروحة «علاقات الود»، لتشمل وليد جنبلاط، بينما ظل ملتزماً بالحكومة البتراء برغم سوء تفاهم تبدى أكثر من مرة مع قراراتها ومع بعض تصرفات رئيسها الذي يسجل له أنه لم «يقلد» بعض رؤساء حكومات العالم بزيارة المؤسسة العسكرية والتضامن معها.
يرتبط ميشال سليمان بعلاقة صداقة مع الرئيس نبيه بري الذي طالما اعتبره «مرشحه الثاني» بعد جان عبيد، وقال له «ثق يا جنرال، لقد تأكدت من وطنية الرجل عندما اتهمه الأشقاء بأنه أميركي، وقال عنه الأميركيون بأنه «مرشح سوري بامتياز»!
وثمة علاقة وطيدة بين قائد الجيش والأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله، الذي كان يردد في لحظة ما إن أفضل استثمار سياسي داخلي لانتصار «حرب تموز» هو وصول ميشال سليمان الى رئاسة الجمهورية، ولكن اذا تمت مفاضلتنا بين هذا الخيار وبين خيار خسارة حليفنا ميشال عون، سنضطر آسفين...».
برزت انتكاسة يتيمة في العلاقة بين المقاومة وقيادة الجيش، عندما أعلن السيد نصرالله أن الجيش خط أحمر وكذلك، فإن مخيم نهر البارد خط أحمر. يومها عتب «الجنرال» على «السيد» وجرت توضيحات متبادلة بينهما ساهمت سريعاً في ردم أزمة عابرة، ويسجل لقائد الجيش أنه واظب حتى في الظروف الأمنية الصعبة التي مرّ ويمر بها «السيد» على استمرار قنوات الاتصال مفتوحة بينهما بشكل مباشر وغير مباشر.
أما علاقة ميشال سليمان برئيس «تيار المردة» سليمان فرنجية، فهي علاقة تاريخية، لولا الانتكاسة الأخيرة، التي أصابت تواصلهما الدائم، إثر زيارة قام بها فرنجية الى اليرزة برفقة المهندس جبران باسيل، ولم تتوج بتلبية قائد الجيش لدعوة عشاء بينه وبين عون، في مكان مشترك، اذ أعتبرها «ناقصة»، خاصة وأنه لم يتردد يوماً في إبقاء قنوات الاتصال مفتوحة بينه وبين عون، بما في ذلك لحظة إدخال الجنرال عون الى مستشفى سان شارل قبل أيام قليلة، وكان ميشال سليمان أول المطمئنين عليه!
أخذ كثيرون على ميشال سليمان أنه في الأيام الأولى من ترشيحه رسميا، وهو يدرك مدى حضور لعبة «الدول» فيها، بدا مستعجلاً، ولذلك، قال البعض من «اصدقائه» له (ربما تجاوزت بعض السقوف السياسية، ولكن هذه لعبة كبيرة، وأنت الفرصة الأولى والأخيرة للبلد، ولذلك عليك أن تبقى هادئاً ومثابراً»، وكان جواب ميشال سليمان «صدقوني، اذا توفر الإجماع حول شخص غيري سأكون أول العاملين من أجل وصوله الى سدة الرئاسة. لم يعد جائزاً وضع بلدنا على خط الزلازل. يجب أن نبني دولة. نحن نعيش في دولة بلا سقف منذ ثلاث سنوات. خدمت الجيش نحو أربعين سنة ولن أغادر المؤسسة العسكرية الا وأنا مطمئن البال الى وحدتها».
عرف العماد ميشال سليمان بحرصه على إبعاد المؤسسة العسكرية عن التجاذبات السياسية والعصبيات الطائفية والمذهبية. وهو دعا العسكريين إلى «مزيد من اليقظة والجهوزية والتشدد في ردع الاعمال المخلة بالأمن والحريات العامة». أولويته اليوم، كما دائماً، المؤسسة العسكرية، ولذلك قرر إعادة رفع معنويات الألوية والقطع والوحدات وبدأ جولة، وسط حجم كبير من المخاطرة الأمنية والشخصية، خاصة بعد تهديدات شاكر العبسي الأخيرة له وللمؤسسة العسكرية.
الصدام عنده ممنوع مع جمهور المقاومة ومع كل اللبنانيين «هؤلاء جميعاً هم أهلنا واذا نزل اي كان الى الشارع سنحمي حقه في التعبير، ولكن لن نسمح بأي إخلال بالأمن وسيبقى الجيش هو الوحيد الممسك بقرار الأمن في الشارع وما نقدره هو وعي أغلبية القيادات السياسية لمخاطر التصادم وحرصها على عدم انزلاق البلد الى المحظورات الصعبة التي سيخرج الجميع منها خاسراً».
ميشال سليمان، وعلى الرغم من «الشبهات» الكثيرة التي شابت ظروف ترشيحه وتزكيته، خاصة من قبل الأميركيين، وعلى الرغم من السهام التي أصابته، خاصة «في الظهر»، ما زال يدرك أن الجيش هو «الخرطوشة الأخيرة» ولذلك قرر أن يواصل معركته من الموقع الذي جعله العنوان الوطني الجامع، بالرغم من الشهية المفتوحة للمرشحين الموارنة الذي يصلون ألف صلاة يوميا، ولا يغادرون مكاتب المنجمين لعل وعسى تأتي أعجوبة تعيدهم الى الواجهة بقدرة قادر في زمن صارت فيه العجائب مستحيلة.

المصدر: السفير

  

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...