غسان الرفاعي: المآذن و (الطاعون الأبيض)

07-12-2009

غسان الرفاعي: المآذن و (الطاعون الأبيض)

ـ 1 ـ في الوقت الذي تستعد فيه فرنسا، رسمياً وشعبياً، لإجراء استفتاء (ملغوم) عن الهوية الوطنية، في مناخ سياسي متوتر، متذرعة بضرورة إلغاء ارتداء النقاب في الأماكن العامة، لأنه (يخدش التقاليد الديمقراطية، ويسيء إلى كرامة المرأة)، يأتي الاستفتاء السويسري (الملغوم) أيضاً، الداعي إلى منع وتحريم بناء المآذن الإسلامية، ليحدث انشقاقا في أوروبا كلها، وليشجع التطرف العنصري، وليعطي الصدارة لمشاعر الكراهية والانغلاق الإثني. كم يدعو للسخرية ما قاله (ايرايك بيسون) ، وزير الهجرة والهوية الوطنية الفرنسي: (هناك فرق واسع بين الدعوة إلى تحريم بناء المآذن في سويسرا، ودعوتنا إلى تحريم النقاب: الأولى مرتبطة بتخطيط المدن، والثانية متعلقة بكرامة المرأة).

ـ 2 ـ ‏

إن الاستفتاء السويسري هو إقامة جدار من التحدي، والجهل والخوف، ورفض الآخر، داخل المجتمع السويسري والأوروبي الذي كان يفاخر دوما بسيادة التسامح، والتعايش بين الأقوام، والحضارات، والديانات، إنه تكريس لا أخلاقي لتشويه الإسلام، والخلط بينه وبين الإسلاموية والتطرف والإرهاب ، إنه نمذجة كاريكاتورية واختزال شرير للمبادئ، والإيديولوجيات، والأديان. ‏

الاستفتاء السويسري تصعيد لاستراتيجية مزورة، دأبت بؤر التعصب العرقي على تسويقها، منذ ربع قرن، وتقوم على الزعم بأن (الغريب الوافد) هو دوما المسؤول عن كل المصاعب التي يواجهها المواطن الأصيل. ‏

وكما جاء في افتتاحية لصحيفة (باترويت) السويسرية: (الشر متمثل في هؤلاء الأجانب الغرباء الذين يتسربون إلى نسيجنا الوطني، وعلى رأس هؤلاء الغرباء، المسلمون الذين يزحفون على مدننا وقرانا، ينشرون الوباء والاتساخ في كل مكان..) الاستفتاء السويسري هو تكريس لسياسة (كبش الفداء) التي ينتهجها اليمين الأوروبي المتطرف لانقاذ سماسرة الفساد والرشوة والدعارة. ثم إنه سلاح يستخدمه اليمين المتزمت للدفاع عن العلمانية، زوراً وتلفيقاً. ‏

وكما زعمت (مارين لوين) ابنة الزعيم اليميني التقليدي حين قالت: (المآذن في مدننا وقرانا انتهاك للعلمانية التي نفاخر بها ونعتبرها أهم صادرات فرنسا الفكرية إلى العالم..!) ‏

ـ 3 ـ ‏

قد يصعب أن نصدق أن سويسرا، البلد المتعجرف الذي يفاخر بأنه مجتمع الارستقراطية والتخمة، يمكن أن يصدر إلى عالم السياسة والثقافة (جان زيغلر) الإنسان ـ القديس الذي وهب حياته للمضطهدين والمسحوقين، خاصة في العالم الثالث الذي تنهب خيراته، وتستباح ثرواته، وتستعبد شعوبه بجشع وغطرسة. ‏

لقد تعرفت عليه، في مطلع شبابه، أثناء تحضيري لنيل درجة أكاديمية في جامعة جنيف، وكان يطيب لي أن أجالسه مع المرحوم الدكتور (بديع الكسم) والمرحوم (عبد الرحمن البدوي) الذي كان يشغل منصب الملحق الثقافي في سفارة الجمهورية العربية المتحدة في برن. ولن أنسى جملته التي كان يكررها دوما: (في الإنسان الشرقي شيء من القداسة، حتى ولو تعهر، وفي الإنسان الغربي شيء من ابليس حتى ولو ادعى النبوة!). ‏

‏ ـ 4 ـ ‏

جرى هذا الحوار بيني وبين زيغلر بعد الإعلان عن نتائج الاستفتاء السويسري: ‏

س: ما مغزى هذا الاستفتاء الذي يطالب بمنع المآذن في سويسرا؟ ‏

ج: انه استفتاء عنصري يجلب العار إلى سويسرا، انه اهانة لمليار ونصف المليار من المسلمين في العالم، وخاصة للمسلمين الذين يعيشون في سويسرا والذين يبلغ عددهم 400000 ومعظمهم يعملون في اختصاصهم بنشاط واستقامة، وينصاعون ويتأقلمون مع القوانين المرعية، ويتحركون بعقلانية من أجل الاندماج في المجتمع السويسري، ومما يزيد الأمور تعقيداً وفداحة أن الذين يدعون إلى التصويت على قرار المنع يستخدمون حججا وذرائع كاذبة ومتجنية، خاصة حينما يتهمون الإسلام بأنه ديانة تقوم على العنف، وعلى معاداة الديمقراطية، وأن الإسلام ديانة خطيرة ومؤذية، لا يمكن التساكن مع معتنقيها، هذا تزوير وتجنّ لا يمكن قبوله، خاصة حينما تروج له جماعات متضامنة لا أفراد، هذه فاشية لأنها تحكم على مجموعة من الناس بأنهم خطرون، وأنهم عدوانيون. ‏

لقد عرفت سويسرا بحيادها السياسي والإيديولوجي، وبمواقفها المتوازنة التي تتناغم مع مبادئ الأمم المتحدة وميثاق حقوق الإنسان، وقد أيدت تقرير غولدستون حول جرائم الحرب الاسرائيلية في غزة، وتتمتع سويسرا بمصداقية دولية تمكنها من التحرك دبلوماسياً وإنسانياً، ولكن الاستفتاء قد طعن هذه المكاسب بالصميم، وقد يصعب الآن تجاوز هذه الخسارة. ‏

س: وما الذي ينبغي فعله الآن؟ ‏

ج: لقد وقعت سويسرا على الميثاقين الأوروبي والدولي فيما يتعلق بحقوق الإنسان، وبموجب هذين الميثاقين، فإن الاستفتاء هو خرق فادح لحقوق مجموعة من الناس، لايمكن قبوله ولا التسامح معه، وعلى هذا، لابد من عرض القضية على المحكمة الأوروبية لحقوق الانسان في ستراسبورغ، ولابد من الانتظار بعض الوقت لمعرفة قرارات هذه المحكمة، ولهذا لا بد من أن يستيقظ اليسار السويسري، وأن يتحرك ضد الجماعات العنصرية التي تستغل مشاعر الخوف والكراهية، وعلى هذا اليسار أن يعبئ قواه والقوى الفاعلة الخيرة في المجتمع السويسري، وان يطرح مبادرة جديدة لإبطال وإلغاء هذا الاستفتاء المرعب ديمقراطياً، وإلا نجحت نتائج الاستفتاء في إلقاء ثقلها على المجتمع. واذا كان الغضب منصباً اليوم على الإسلام، فقد ينال طوائف وجماعات أخرى في المستقبل، إن التسامح في انتشار الشكوك والكراهية والحقد بين الجماعات والطوائف لابد أن يؤدي إلى تفسخ المجتمع. ‏

س: هل ستقتصر آثار هذا الاستفتاء على سويسرا، أم ستكون له آثار شبيهة على الصعيد الأوروبي؟. ‏

ج: إن العنصرية، أو الفوبيا الإسلامية القائمة على الكراهية موجودة في كل البلدان الأوروبية. لا بد من الاعتراف بهذا الواقع، ولكن سويسرا وحدها هي التي وقعت في الخطأ الفادح، إنها اليوم تدفع ثمن عقود من السياسات المخجلة المسيئة، القائمة على الغطرسة والانعزالية، لا بد أن يؤثر هذا سلباً على علاقاتها مع دول العالم، خاصة مع دول العالم الثالث. ‏

‏ ـ 5 ـ ‏

يتحدث كتاب يستشهد به الداعون إلى منع بناء المآذن والتضييق على المسلمين في أوروبا عن (الطاعون الأبيض) الذي يزحف إلى اوروبا (وعن البؤس الأسود، عدم الاكتراث، الجشع، والقرف) الذي يهيمن على حياة المواطن الغربي، بعد أن تمادى في غطرسته خلال قرون، ولم يصل إلى ما وصل إليه الآن بسبب (الغزو البربري) له. ‏

هناك ثلاث مراحل يمر بها الغرب قبل استلامه للطاعون الأبيض: في البدء يكون متغطرساً، فخوراً بازدهاره ورخائه الاقتصادي وامتلائه الحضاري والثقافي وجبروته العسكري، ولكن (النمل البربري) باكتظاظه الديمغرافي وإملاقه الاقتصادي وانحطاطه الحضاري والثقافي، ومشاعر الكراهية والحسد والانتقام التي تحتشد داخله، سوف يزحف من كل مكان، يحكم الطوق على هذا الغرب، ثم سينجح في مصادرة ضواحيه، وتسلق ناطحات سحابه والفتك بمزارعه الخضراء، ومصانعه، ومؤسساته، وأمام هذا الزحف يفضل البعض، ويشكلون الأكثرية، مهادنة الإسلام، وسيغلقون الأبواب ويرفضون اقتحام الزوار المغتصبين لمنازلهم، وهم يأملون أن تزول المحنة أو اللعنة بالسرعة التي حلت بهم، وهناك البعض الآخر سيخرج إلى الشوارع، وسيحاول المقاومة، ولكن الطاعون سيكون قد انتشر وفات الأوان، وعمت البلية: (إنه الاحتلال والبطالة، الاختناق الاقتصادي، اليأس الأسود، عدم الاكتراث، التخلي عن القيم المتوارثة، الأنانية، الجشع، الخوف، انه الانتحار الجماعي). ‏

‏ ـ 6 ـ ‏

اللافت في كتاب (الطاعون الأبيض) هي مهارة مؤلفيه في التضليل والعربدة الفكرية، والإصرار على إظهار الغرب وكأنه ضحية مهددة بالانتحار الجماعي، في حين أن ما يجري الآن هو العكس تماماً، وعلى امتداد الكرة الأرضية، وما نشاهده ليس زحف (النمل البربري) فيما يزعم على جنات الغرب الربيعية، وإنما هي الدبابات والمدافع والصواريخ والطائرات التي تقصف، وتقتل، وتشرد، وتزرع الموت والمجاعة، والبؤس في عالمنا الشرقي، وفي أفغانستان، وباكستان، والعراق، وفلسطين، والسودان، والصومال. ‏

د. غسان الرفاعي

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...