الكومبارس الأميركي... والثورة السورية

18-04-2015

الكومبارس الأميركي... والثورة السورية

إنّه الفيلم الأميركي ذاته بإبهاره المشهدي وأسطورية شخوصه وأبطاله، يحبكون جميعاً روايةً شاذة ملفقة تعتمد في هيكلها الأساسي على المبالغات والأوهام الزائفة. ينتهي الفيلم الطويل بمشهد مؤثر أخير، يخرجُ فيه البطل الأميركي من مأزقه النهائي بانتصار مدوٍ ونجاح مبهر. يتركُ كلّ الساحة الخلفية للصورة تأكلها النيران والانفجارات، بينما يعلنُ الأميركي انتصاره من كل الجحيم الذي يخلفه، ويبحث عن أقرب شخصٍ ليبلغه «أن المهمة استكملت»، ولم يتبق إلا أن يتشارك قبلةً طويلة مع الشريكة التي تنتظره جانب الشاشة.

لمّا شمرت أميركا وأذيالها في المنطقة واستطالاتها في محيط سوريا عن سواعدهم، وضجّت أصوات المارشات العسكرية، وتوجهت القطع البحرية نحو البحر المتوسط، وبدأت مذيعات «العربية» و«الجزيرة» بالعد التنازلي، وبدأ فحيح الأفاعي والعقارب من الأفواه الحاقدة، وشاعت في الأجواء والفضائيات «المستعربة» روائح العقول المستأجرة بالنفط والغاز في طول الشرق العربي وعرضه، ارتفعت درجة الحرارة وحميت الأيدي المستنفرة، وطاشت الرؤوس الحامية لأن الضربة على سوريا آتيةٌ آتية وهي ستستهدف النظام فقط!سيلفلف الرئيس الأميركي
ملفاته قريباً بعدما طبق سياسة القيادة من الخلف
كان حذاء منتظر الزيدي باتجاه بوش بمثابة البصمة التي ختمت فترة المحافظين الجدد، وأسدلت بها الستارة على نهاية فيلم أميركي طويل قُدم وحيداً في كلِّ عروض السينما. لم يعد ثمة معجبون بأداء «السوبرمان» الأميركي وراعي الأبقار «الكاوبوي»، وخاصة بعد مغامراته الوهمية في مجاهل وكهوف أفغانستان، وفي إسقاط العراق وكذبة أسلحة الدمار الشامل فيه، وأنبوبة وزير الدفاع المختفي كولن باول. أقفلت الستارة على كوارث المشهد الأخير من مغامرات رجل الكاوبوي جورج بوش الصغير في أفغانستان والعراق، مخلفاً مئات ألوف الجنود في البلدان البعيدة، متورطين في حروب عبثية صُدّرت للعالم أنها لنشر الديمقراطية ومحاربة الإرهاب. اختتمت مرحلة وحيد القطب هذا، وبات لزاماً على العاملين في الحكومة السرية النافذة إعادة البريق للحلم الأميركي الجديد، وإن كانت باللعبة المعروفة ذاتها برأسيها ذاتهما الحمار والفيل. إنها رغبة الجمهور ومتطلباته وليس شيئاً آخر، الجمهور الذي لطالما كان ضحية سهلة لإعلام متوحش متوغل، فأدمن السياقات المضللة التي توجهه نحو سياسات «العالم الجديد». سارعت الدولة الامبريالية الأميركية إلى محاولة لملمة نتائج الفيلم الكارثية.
أوباما الأفريقي الأسود المسلم المنحدر من أسرة فقيرة من كينيا، (ولنضحك هنا قليلاً ولنتذكر أن المرحوم القذافي كان يصفه بابننا «مبارك أبو عمامة»)، وهل ثمة حلم يتفوق على هذه السردية الموحية الملهمة لتتوج ما وصلت له صناعة الأوهام والأحلام والأفلام في أميركا من عبقرية، فتوصل شخصاً كومبارساً بموصفات البسطاء المستضعفين الذين مورست بحقهم كل أنواع التفرقة والعنصرية، لتضعه واجهة جميلة متقدة في البيت الأبيض الذي غدا بيتاً متوحشاً مقفراً مكروهاً تجري فيه كل أكاذيب العالم الكبرى وأضاليله.
إن طغيان المنظور العولمي الأميركي الذي يجتاح العالم، مع حالات الإبهار الناجمة عن سياسات متواصلة من الدعاية والإعلام والترويج السخي لفكرة «الحلم الأميركي» والانتقال إلى البلاد الجديدة، أرض الأحلام البراقة التي كرسها المستعمرون الجدد لأميركا الذين أبادوا سكانها الأصليين، فأحاطت الرواية الأميركية ببريق أخّاذ يدعمها وينتج منها، وإن كان في حقيقته بريقاً كاذباً وخادعاً وملفقاً، فلطالما أعمى الضوءُ وضللت الأنوارُ الساطعة، فتوافر مئات القنوات الإعلامية وآلاف المراسلين في مكان الحدث. لا يعني مطلقاً أنك تشاهد الحقيقة، أو أنها تنقله لنا مباشرة بدون تلفيق أو تضليل. لنتذكر أن أكبر أكاذيب العالم جرت تحت عيون العالم وبصره، ونقلت له على الهواء مباشرة. هذا اختصاص أميركي بحت، فمن عرف من قتل جون إف كينيدي بعد كل هذه السنوات الطويلة، بعد أن صور موكبه وهو يتعرض للرصاصات القاتلة في سيارته المكشوفة وهو بجانب زوجته وسط مئات المارة المحتفين به.
ومن توصل للحقيقة في أحداث الأمس القريب في 11 أيلول عام 2001، عندما تعرضت أميركا لما أصبح ذريعة لتغيير العالم، ومشروع البدء بإمساك العالم من رقبته، والسيطرة عليه خصوصاً بعد عشرية من الانتظار أشرف عليها كلينتون، واعتبرها المحافظون الجدد وقتاً ضائعاً وفرصاً غير مقتنصة في التاريخ الأميركي، وكان لا بد من الاستفادة من انهيار الاتحاد السوفياتي وتحويل العالم إلى سياسة وحيد القطب الأميركي. كتبت آلاف الأوراق وشكلت اللجان المختلفة، لكن قناعةً راسخة بأدلة دامغة تجتاح العالم أن ثمة كذبة كبرى بدأ بها الأميركيون عصرهم الجديد في مطلع الألفية الراهنة. وهنا لا يمكن إحصاء الأكاذيب الكبرى التي مررت بها السياسات الحمقاء في العالم وتسببت بندبات بشعة في وجه التاريخ.
يثبت التاريخ أن الأحداث قد تجرى ويندفع كثيرون في سياقها، ويظن الثائر أنه البطل المحرك لها ليكتشف بعد قليلٍ من الحقائق أنه لم يكن إلا مجرد كومبارس في اللعبة الكبرى، وأنه مغفلٌ أدمنَ إطلاقَ الصيحات الثورية في مركبة قطارٍ لم يعرف من أين انطلق والى أين وجهته الأخيرة لنعدد من الأمثلة: إسلاميو تفجيرات 11 أيلول 2001 في غزوة مانهاتن، ظنوا أنهم أبطال التفجيرات وهم في الحقيقة أدوات التفجير وعماله.
كل اعلاميي الايديولوجيا الثورية من نفطيين ويساريين متقاعدين ومحللين استراتيجيين، من عواجيز العسكرتارية الصدئة، وكل من بشّر وفرش الطرق للربيع العربي ولثوراته الملونة المصنعة، ليظهر في ما بعد أن السوريين وأصدقاءهم المقاومين أفهموا العالم الدرس أن «أميركا ليست قدراً منزلاً على هذا الشرق».
الرئيس الأميركي أوباما يتحول الآن إلى بطة عرجاء لا تقدر على اتخاذ القرارات المهمة، وها هو يُهدد من قبل الجمهوريين أن يضرب بموافقاته على المصالحة التاريخية مع إيران بعد إيجاد حلول لبرنامجها النووي. سوف يُسجل للرجل الذي استُقدم لتجميل الصورة وتحسين السيرة أنه اتخذ قرارات مهمة خالفت السياق الاستعدائي للسياسات الأميركية، وأنه ألقى أبدع الخطابات وان مهنته كمحام خريج من هارفارد ساعدته في تقمص شخصية رجل العالم القوي عندما وضع بعض الخطوط الحمراء المزيفة، وأطلق سحب الدخان حوله للتمويه على المتربصين به من عتاة الساسة واللوبيات المختلفة ذوي المصالح المتناقضة.
كيف لسياسي أن يجمع بين الهواجس الوجودية للخليجيين مع المصالحة التاريخية مع إيران، وكيف لمصالح شركات النفط والتسليح أن تبارك لباراك أوباما هذه الخيارات، وكيف يتجرأ أن يوقف دجاجة تبيض ذهباً في الخليج عن نقيقها الأزلي، وهي تقدم رصيداً متراكماً من الدولارات، وكيف يمحو الرجل العداء المستحكم في الوجدان الأميركي لدولة مثل كوبا ويفتح صفحة جديدة معها.
سيتذكر «الثوار» السوريون طويلاً المقامرة التي ساقهم إليها الرئيس أوباما عندما أعلن مبكراً «أنه يجب على الرئيس السوري أن يتنحى وأنه فقد شرعيته»، وحدد للدولة السورية خطاً احمر لا تتجاوزه مطلقاً، وهدد بالتدخل العسكري في حال تم استخدام السلاح الكيماوي، أنّى لفرصةٍ سانحة للثوار ولشركائهم الإقليميين أفضل من هذه، وكيف لأصحاب أحلام وأوهام ومشاريع إقليمية ولأدواتهم المضللة أن يفوّتوا أمراً كهذا!
إن سرديةً وطنيةً صادقة فاحصة مدققة ستأتي حتماً سوف تكشف كمية ضخمة من الأضاليل والكذبات الكبرى في سياق ما دعي «الثورة «السورية» ستذهل الأجيال المقبلة من العرب والسوريين. ولن تكون كذبة أسلحة الدمار الشامل العراقية إلّا فصلاً صغيراً في هذه الملهاة الكارثية، ولن تكون المعلومات المتضمنة في تقرير سيمور هيرش عن «طريق الجرذان» والتعاون الاستخبارتي بين الدول الإقليمية المنخرطة في إسقاط الدولة السورية، خاصة الدور التركي الموغل الذي سهل تمرير الأسلحة الكيماوية إلى جبهة النصرة التي استخدمته في ريف دمشق في الليلة التي تلت قدوم لجنة التحقيق الأممية قبل توجهها لإثبات استخدام مؤكد للأسلحة الكيماوية في خان العسل من قبل «الثوار» السوريين. لن يكون كلُّ ذلك إلا فصلاً آخر من مقامرات خطرة قامت بها «الثورة» السورية وراح ضحيتها آلاف السوريين على طرفي المواجهة السورية والإقليمية.
وسيذكر «الثوار» السوريون بنشوة وتحسر كبيرين ليلةً داعب مخيلاتهم أن أوباما قد اتخذ القرار، وبدأت ساعاتهم وساعات الإعلام النفطي والطائفي المشبوه وكبار كتبته تتكتك على مواقيت واشنطن، معلنةً أن الضربة على سورية واقعة لا محالة، وأنها بداية نجاح المقامرة في إسقاط النظام السوري عبر خطة «تجاوز الخطوط الحمراء».
المحرضون، أصحاب الأوهام والأحلام وسفراء الرجل الأبيض وغلمانه، الذين سكنوا الفنادق الفارهة، واحتلوا شاشات العولمة وفتحوا بازارات الدم السوري، وانتظروا بالطوابير قوافل وأساطيل المحررين من الناتو وأجلاف العرب، وخاضوا في دماء السوريين حتى أذقانهم، وما كان قصدهم إلا الجلوس على كراسي السلطة حتى لو أجلسوا الوطن كله على خوازيق التخريب والتفرقة والتقسيم، وحتى لو خلفوا مئات آلاف العاهات في أجساد السوريين، ولو رويت بأطنان اليورانيوم الأميركي. لن يكترث هؤلاء لكل التقارير التي ستظهر لاحقاً، وتبين أن الاستخبارات الأميركية والبريطانية وبعثات تحقيق دولية ستبرأ ساحة الدولة السورية من استخدام الغازات السامة، سيضاف لهذا كله معلومات عن القبض على ثوار سوريين متطرفين في تركيا يحملون كميات كبيرة من غاز السارين، سيحدث هذا في العراق أيضاً، وسيصبح فيما بعد استخدام الكلور والسارين أمراً متيسراً في كل ساحات الاشتباك مع الإرهاب، ولن يتبقى حكراً محصوراً على الجيوش النظامية.
سيغير عندها أوباما قراره وسيربطه بشرط موافقة الكونغرس بعد أن وصلته معلومات أن لا شيء متيناً في الاستقصاءات يؤكد استخدام الدولة السورية للأسلحة الكيماوية في دمشق، وسرعان ما نزل عن شجرته العالية بمساعدة الرئيس الروسي بوتين. سأسجل للرجل تراجعه، وسأسجل للدولة السورية تنازلها الطوعي عن الأسلحة الكيماوية كأهم قرار تاريخي في سياق الأزمة السورية، ترفع به السلاح الكيماوي من التداول والمقامرة في كل ساحات المعارك المشتعلة، وتحقن بذلك أرواح عشرات الآلاف من السوريين من استخدامات مقامرة أخرى تقوم بها جهات طائشة معادية في الداخل أو الإقليم. الآن ماذا يجب علينا أن نقول لمن شكّل الجوقة وبدأ بالقرع والتطبيل للضربة الأميركية ومهد لها الطرق؟! ألمْ يحنْ وقتُ المراجعة وإطفاء الأحقاد المشتعلة في الرؤوس الحامية؟! وهل كانوا يدركون الثمن الذي كانت ستدفعُه الأجيال ليصلوا إلى السلطة؟! ألم يتذكروا بركات «الضربات الذكية» للديمقراطية الأميركية من قنابل فوسفورية ويورانيوم ملأت أجواء العراق وأراضيه وأثرها المدمر والمشوه المستمر أجيالاً متعددة، فمتى ستتوقف رحلة الجنون تلك نحو الموت والتخريب والدمار؟!
سيلفلف الرئيس الأميركي ملفاته قريباً بعد أن طبق سياسة القيادة من الخلف، وترك الصراعات تجري بقوى دفعها الذاتية، قد نتذكره ويتذكره الأميركيون بخير، بحيث أنه لم يذهب بهم إلى مغامرات عنيفة كبرى، وأحدث تغيرات مهمة في زمن الأفول الأميركي المتدحرج، وخفف من تداعيه السريع وحسن وضعه الاقتصادي المتدهور، لكن ظروف الفيلم الهوليودي لن تخيب أمل المتابعين وستترك المشهد الأخير ساخناً ملتهباً متفجراً تنتشر فيه النيران والمعارك الطاحنة مع الإرهاب في العالم العربي، حيث تتساقط فيه مجاميع كثيرة من الكومبارس المسترزق لأجل الأحلام المزيفة، بينما تنطفئ الأضواء رويداً رويداً عن رجل أميركي أسود - أريد له أن يلعب شخصية كومبارس - في الحلم الأميركي دون أن يستطيع إلقاء عبارته الأخيرة «المهمة استكملت».

عبد المعين زريق

المصدر: الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...