الفجر يأتي من قلب السماء: مذكرات موريس دريون

29-11-2006

الفجر يأتي من قلب السماء: مذكرات موريس دريون

قبل أن يغفو قلم ابن الثماني والثمانين غفوته الأبدية، وقبل أن تقفل سيرة هذا الروائي اللامع، الذي حكى تاريخ ملوك فرنسا بأسلوب الراوي الظريف والساخر الذي آثر الاثارة على دقة التاريخ، أنجز أمنية يتوق اليها كل مؤلف – كتابة مذكراته – مغامرا في جذور مديدة استهلها من القرن السابع عشر، سعيا وراء أسماء ومدن، صنعت في ارتباطها وتسلسلها إرثه الجيني وقدره الإنساني.
هو موريس دريون، ولقبه "السكرتير الدائم لدى الأكاديمية الفرنسية". غمس قلمه في حبر الذاكرة، مسافرا في الزمان والأمكنة، متمهلا عند كل شخص يكتشفه، ملاحقا قدره كـ"ألياذة" هوميروس، عبر المحيطات. فرنسا هي طرف الخيط، منها انطلق يقرأ التاريخ في المحفوظات والوثائق، يجوب القارات، من أميركا اللاتينية إلى روسيا، جامعا من أبحاثه سير أشخاص وعائلات، برزت منها وجوه ساطعة صنعت التاريخ، ونقشت اسماء في سجلات الوجود، وأخرى تنافقت على التاريخ وزوّرت الهوية وانتحلت ألقابا رنانة. وفي ذلك كله، لم يبتعد عن الأسلوب الطريف، الذي خطّ به "الملوك الملعونون"، و"العائلات الكبرى".
"الفجر يأتي من قعر السماء"، حكاية الاغتراب والحروب والزواج والطلاق والخيانات، طوال أربعمئة عام تنكشف في الحلقة الأخيرة منها، الأبوة الحقيقية لموريس دريون وعلاقة الكاتب جوزف كيسيل به. لعل موريس دريون دار القارات مرات بدءا من مدينة ساو لويس البرازيلية الساحلية حيث وُجد أسلافه الأُوَل، ليؤكد المصدر الذي منه وُلد. ببراعة البهلوان تلاعب بخيوط التاريخ وراح أبعد من ذاكرة عمره. هو الشغوف بسير البشر، راهن على هذه المغامرة الشيقة، واستطلع ودوّن ولم يتعثر بين قارة وأخرى. يحل خيوطه بمهارة، ما دامت النواة مغروسة في أرض وطنه فرنسا التي صدّرت منذ القِدَم رجال المغامرات الكبرى، واستوردت رجالات احتموا فيها فصار لهم فيها وطن.
في كتب السيرة عادة، لا يتكلم المؤلف سوى عن ذاته ومحيطه أما في المذكرات فيحكي عن كل شيء. هذه الصفحات يقول دريون إنه سرقها من الوقت، مع انقطاعات وعودات على أشياء منسية، لذا هو يقرّ في مقدمته بحذاقة المصريين القدامى الذين كانوا يلخّصون مذكرات راحل على صفحة حجر.

- نشأت مدينة ساو لويس دي مارانياو على الساحل البرازيلي، زمن قرر الفرنسيون استئصال قطعة من هذه القارة في عهد الملك لويس الثالث عشر فتكنّت باسمه. إسمان سجّلهما التاريخ: أنطونيو تيكسيرا دي مليو، الذي أصبح بطلا بعدما حرّر مارانياو من السيطرة الهولندية، وحفيده فرنشيسكو ريموندو دي كونيا، الذي خط له القدر أن يتزوج دونا ماريا كوريا حفيدة مانويل بيكمان الذي عرف ببطولاته في ثورة يائسة عام 1684. الابن الذي ولد له عام 1799 مانويل أودوريكو مندس، أنجب من زواجه فتاة اسمها ليونيلا كانت كما يقال تتمتع بجمال الجزر.
كيف دوزن القدر لقاء الفتاة البرازيلية بأنطوان كروس، شقيق شارل كروس، مخترع ابرة الفونوغراف والمحفور اسمه في أكاديمية الأسطوانة؟ أنطوان كروس طالب لامع في الطب، انسحر بليونيلا، ابنة مانويل أودوريكو مندس، وتزوجها. انطوان من شجرة العائلة هو جد أمه. من هذا الزواج ولد تيرانس ولور وجولييت، جدة دريون. المصادفات تخلق القدر، وها هي جولييت المغرمة بالموسيقى تتعرف الى أدولف صاموئيل مدير الكونسرڤاتوار في غاند.
أما صموئيل فقصته مثيرة. هذا اليهودي المتحدر من عائلة قديمة مقيمة في لياج، شعر في السادسة من عمره بانجذاب الى المسيح، لحظة دخل مع خادمته كنيسة القديس بولس. في الحادية عشرة كتب أول سوناتا، وفي التاسعة عشرة أول كانتاتا، فحاز جائزة روما. وبينما هو في طريقه لتسلم جائزته، توقف في فلورنسا، وأول زيارة له فيها قصر ﭙيتي. روى أنه تسمّر في مكانه، مبهورا بلوحة العذراء، أصيب بعدها بحمّى شديدة، وظلّت ذكرى فلورنسا تعبر في خاطره. في الخامسة والعشرين كانت أعماله الأوبرالية على قائمة الحفلات الموسيقية. في الثلاثين كتب في مذكراته: "يا يسوع لو تسنى لي العيش في زمنك، لتركت كل شيء وتبعتك".
يقول موريس دريون إن هذا الرجل كانت تصيبه انتفاضات كالبروق التي تقصف جذوع الأشجار. بأسلوب الرسام المدقق في أصغر التعابير، أعطى أدولف صموئيل الصورة البهية، مطيلا الحديث عنه، بإعجاب كبير. صديق برليوز كان، وعلى طريق التأليف وفي السبعين من عمره، كتب سمفونية "كريستوس" عن حياة المسيح، أوركسترا وأورغ وإنشاء. هذا العمل، شهد إقبالا كبيرا في فرنسا وبروكسيل وألمانيا وانكلترا. ختام هذه السمفونية نشيد لمجد الله، "آسر ورائع".
الارتداد إلى المسيحية بفعل هذه السمفونية ليس أمرا شائعا. بعد عام كان صموئيل وزوجته يطلبان العماد من مطران غاند. بعد أربع سنوات، قال وهو على وشك الرحيل: "الآن فهمت ختام هذه السمفونية. إنه تأكيد إيماننا". هنري، أحد أبناء أدولف صموئيل، وقع في غرام جولييت. حبّه للحياة وطبعه المرح، جذبا جولييت، فتمّ الزواج بمباركة العائلة. ليونيلا ثمرة هذا الزواج هي أم موريس دريون.

- الغموض الذي اكتنف حياة موريس دريون ينقشع شيئا فشيئا على سكة اكتشافه والده الحقيقي، والقارئ يرافقه من الشمال إلى الجنوب، باحثا، منقبا عن فروع مديدة لشجرة وارفة من العائلات المغتربة والمقيمة. في هذا الفصل من الصفحة 64 نقرأ: "لديّ والدان، واحد بالدم اختفى من الحياة قبل أن يتسنى لي أن أسجل في ذاكرتي ملامحه، والآخر بالتبنّي وله منّي الامتنان والوفاء لكل ما أعطاني إياه".
يقول دريون إنه لو استنطق نسل والده البيولوجي وتَبِعَ خيط ما قبل حياته، لاضطر أن يعبر المحيط إلى الحدود الشرقية - الأوروبية قصة طويلة متشابكة. من أصول "الخازار"، هذه الامبراطورية الممتدة من القوقاز إلى قازان، والشاملة نهر الڤولغا والدون، يعرّفنا دريون بأنطون ليسك. وإذا هو أتاح لمذكراته هذا الفصل من تاريخ هذه الامبراطورية، فليس لأنها مدعاة إلى الحلم فحسب بل "لأنها جعلتني أتطلع بشكل آخر إلى يهود أوروبا الشرقية. فكلمة "مناهضة السامية" التي افتعلت ضدهم هي لغو لا جدوى منه. أنطون ليسك كان من ذرية الخازار. وفي محفوظات أورنبورغ المدينة الواقعة على الأورال، أثناء زيارة قام بها دريون بدعوة من رئيس وزراء روسيا السابق فيكتور تشرنوميردين إلى المنطقة، حصل على خريطة وصور للمنزل الذي بناه ليسك. نصير الموسيقيين، إذ أسس مدرسة للموسيقى، وفي تحرره من التقاليد والدين، استطاع أن يؤمّن العلم في مدارس علمانية لبناته. من ابنته الثانية رايسا، ورث دريون دم الخازار.
رايسا أنطونوفنا المميزة في مدرستها، في زمن كانت الفتيات المتعلمات قلّة، أحبت المسرح وما أوحاه اليها من تحرر في مجتمعها القامع. بيد أن حلمها هذا لم يلق رضى العائلة فتحوّلت إلى الصيدلة لأن القانون كان يسمح للصيادلة، وحتى اليهود منهم، بممارسة اختصاصهم في أي مدينة من الامبراطورية. لكن حبها لطالب الطب صموئيل كيسيل جعلها تقلع عن الصيدلة لأجل المادة التي تخصص بها، ومعا اختبرا العيش في فرنسا. وصلا اليها في السنة التي رحل بها فيكتور هوغو عن الوجود.
جوزف كيسيل كان الابن البكر، هذا الذي جعل منه القدر كاتبا وصحافيا ورحّالة في أقطار العالم. أما الابن الثاني فكان اسمه لازار والثالث غريغوري. الولع بالمسرح الذي أصيبت به والدتهم، انتقل إلى المراهقين، ومعه الشعر. في السابعة عشرة بدأ جوزف كيسيل يحلم بالمجد والمغامرات والمال والترف تعويضا عن البؤس العائلي الذي اعتبره مرضا قاتلا.
في المرحلة الأخيرة من المسلسل الذي تألفت حلقاته من لقاءات مصيرية، وروابط بين عائلات رست أسفارها في باريس، بعضها جاء من خط الاستواء البرازيلي والبعض الآخر من روسيا، نشهد في معهد الفنون الدرامية لقاء ليونيلا ابنة جولييت كروس وأدولف صموئيل مع لازار كيسيل. كانت متزوجة من روجيه وايلد، رسّام موهوب كتب له القدر أن يتخلى عنه أهله، فهام في شوارع باريس صغيرا إلى أن وجد مأواه في بيت للدعارة، عمل فيه خادما لنساء طيبات، ساعدنه ليتلقى دروسا في الرسم. يقول دريون: "لكن سرعان ما تأكدت والدتي أنه لن يفي أحلامها المطلقة".
من بين الرسائل التي تركتها والدة دريون بعد وفاتها، مراسلات روجيه لها من الجبهة التي قاتل فيها بين 1915 و1916. "هذا البعد بين أمي ليونيلا وبينه انتهى بعد ولادتي إلى فراق". لم يلتق موريس دريون بزوج والدته سوى مرة واحدة في حياته وذلك بعد نصف قرن حين أتى اليه مع أقلامه ليرسم ملامحه لمجلة أسبوعية أدبية: "يا لهذا اللقاء الغريب. أنا جامد أمام هذا الرجل الذي حملت اسمه لبضعة أشهر وهو منكب على خطوطه يتجاهل أحدنا الآخر".
ليونيلا كانت امرأة نحيفة، سمراء، ذات طبيعة مشتعلة، وعطشى إلى المديح والثناء. بالرغم من الترف الذي أحاطت به حياتها، كانت تروي لابنها صباها الموسوم بدراما عاطفية كبيرة كان هو ثمرتها. هذه المرأة لم تقم فقط في أجواء المسرح بل كانت تتردد على مقاهي مونبارناس حيث تجد من يمالقها ويغازلها، كالنحّات زادكين والشاعر الأميركي ألان سيجر. "كذلك وجدتُ رسالتين عاطفيتين واحدة من بيكاسو والثانية من أﭙولينير". علم أيضاً انها ارتطبت بعلاقة عاطفية مع جوزف كيسيل، لكن روحها المشتعلة أبدا استدارت إلى لازار كيسيل الأصغر منها سناً، والذي عرف في عالم المسرح باسم سيبير.
"كان في السابعة عشرة من عمره حين بدأت علاقته بوالدتي وفي الحادية والعشرين أُفرغ رصاصة في قلبه. من هذه العلاقة كان نصيبي من الحياة"، يتذكر موريس دريون أن علاقته الكبيرة بجوزف كيسيل ومشاركته حياته من الفجر حتى الليل كما الأخطار وأحزان المنفى، كانت دوما متكتمة عن علاقته بأمه. وإذا صادف أن لفظ اسمها كان يتنهد طويلا متذكرا هذه المرأة القابلة لافتعال كل المآسي. حياة دريون مجموعة من الذكريات أضاءت عمله الطويل في بحثه عن جذوره. يتذكر الكنار الذي أعطته إياه جدته رايسا في قفص يوم زارها في حديقه مونسو. ويتذكر عندما قدّمه جوزف كيسيل إلى زوجته ساندي: "إنه ابن أخي". وأخيرا برز في حياته رجل نبيل، عامله كابنه وأعطاه اسمه وساعده لأن يكون ما حققه في مساره الأدبي: رينه دريون: "لقد كان سندا متينا في صباي".

- أستاذ الرياضيات، شاب روسي مغترب، روى له ذات يوم علاقة عائلته بعائلة كيسيل، علاقة منفى واغتراب، من دون أن يدرك شيئا من روابط موريس دريون بها. فجأة سمعه يتكلم عن انتحار الابن الثاني لازار. "الخبر وقع كالصاعقة في نفسي، فأمه لم تخبره شيئا عن هذا الحادث، مكتفية بالبوح بهذا الحب الكبير الذي لا تزال تعيش في ذكراه. بأحساسه المجرّح فكّر في ضمنه: "أنا ابن رجل انتحر".
"الفجر يأتي من السماء"، ذكريات لمذكرات حنونة، دافئة، ملوّنة، يصف فيها موريس دريون إرادته للحياة، عبر سلالات مبعثرة جغرافياً، وغالبا ما تكون حارقة ومثيرة. المذكرات يعبّر عنها كطقس مقدس. "إنها الثوب الذي يكسوننا به على سرير الموت. إنها قبرنا".

مي منسي

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...