الدراما السورية والقرار السياسي

31-08-2009

الدراما السورية والقرار السياسي

 مع بداية شهر رمضان من كل عام ينطلق ماراثون الدراما على الفضائيات العربية، وكأنه متلازمة لا يصح صيامنا من دونها، وتبدأ بنفس اللحظة المماحكات النقدية لتلك الأعمال، بينما ننشغل نحن في سورية برسم الملامح الدونكيشوتية للحرب التي تستهدف درامانا السورية.
البعض يتحدث عن مؤامرة ضدنا يقودها صناع الدراما المصرية، والبعض يرى المصيبة الكبرى في انتقال بعض فنانينا ومخرجينا إلى خندق الأعداء، وآخرون يتوجسون خيفة من نهوض الدراما الخليجية، ومن بقي من فنانين ونقاد يتوجهون باللوم صوب الشمال، فمحنتنا تقوم بالسماح للدراما التركية باختراق الأثير العربي، والأدهى من ذلك أنها اخترقتنا باللهجة السورية حين قام فنانونا المبدعون بدبلجتها بأصواتهم وأدائهم الذي منحها قيمة إضافية.
فكيف الأمر وقد انخفض إنتاجنا الدرامي هذا العام إلى 23 مسلسلاً فقط، في حين وصل الإنتاج الدرامي السوري في العام المنصرم إلى 51 عملاً؟! هذه المرة يجب ان ندرك أن المؤامرة علينا أبعد من حدود مصر والخليج، وفجأة نتذكر ان الحق على الطليان، والطليان هم دائماً ذلك الغرب الحاقد علينا، والذي اصطنع مؤامرة الأزمة المالية العالمية مبتدئاً بقطاع العقارات في نيويورك، لكن الهدف النهائي له كان في تدمير الدراما السورية. وإلا كيف نفسر التراجع الكمي في عدد أعمالنا الرمضانية؟!
هذه الأزمة المالية العالمية، وهم يتحدثون بلغة الاقتصاد، دفعت شركات الإعلان للإحجام عن توظيف رساميلها في قطاع الإنتاج التلفزيوني، مما اضطر المحطات الخاصة لأن تكتفي بشراء عملين بدل أربعة أعمال مثلاً.
لكن جهابذة التحليل الاقتصادي السابقين لم يقولوا لنا لماذا تم تسويق هذا العمل أو ذاك دون سواهما من الأعمال؟! ولماذا انعكست هذه الأزمة على تسويق الدراما السورية تحديداً دون الدراما المصرية أو الخليجية؟!
إنها مؤامرة من الطليان بكل تأكيد، وهذه المرة تهدف إلى زرع الشقاق بيننا كمنتجين وفنانين أيضاً، مع أن الطليان (أولاد الكلب) لم يفكروا بتصدير مؤامرتهم أو أزمتهم المالية باتجاه الدراما المصرية التي وزعت هذا العام ما يقارب 60 مسلسلاً، أو حتى باتجاه الدراما الخليجية حديثة العهد، مع أنها الأزمة المالية التي نتحدث عنها هي أزمة عالمية!
وإذا حاولنا مقاربة الخارطة الدرامية لهذا العام، سنكتشف أن الأثير العربي حمل إلينا ما ينوف عن مئة مسلسل، توزعت ما بين أعمال مصرية وخليجية وسورية بشكل أساسي، دون أن ننكر وجود بضعة أعمال من دول المغرب العربي، وأقل منها جاء من العراق الشقيق، وما بينهما نشاهد بعض الأعمال ببصمة لبنانية أو أردنية، لكنها مجتمعة لم تستطع حتى تاريخه ان تنافس في سوق الدراما الرمضانية، لأن هذه السوق محكومة بمعادلة معقدة بعض الشيء.
فالدراما التلفزيونية هي فن قائم بذاته، بل ربما تكاد تكون في عالمنا العربي هي الفن الأكثر شعبية ومتابعة من قبل الناس والجمهور، حتى أنه يمكن أن يتنافس في عالمنا العربي على الترتيب السابع في سلم الفنون، إلا أننا ومن باب الاحترام للسينما في العالم كفن سابع نقبل باعتبار الدراما التلفزيونية فن ثامن، واعتقد أننا لو تركنا الأمر لاستفتاء شعبي فربما نكتشف أن جمهور 'باب الحارة' لن يقبل ما دون اعتبار الدراما هي الفن الأول عربياً، من باب النكاية بالطليان على أقل تقدير.
المسألة الثانية أن الدراما التلفزيونية صناعة أيضاً، وتحتاج إلى توظيفات إنتاجية ضخمة من رؤوس الأموال، مما يجعلها خاضعة كأي سلعة لشروط السوق إنتاجاً وتوزيعاً. لكن فرسان طواحين الهواء ما زالوا يأبون هذه الحقائق البسيطة، محتفظين لأنفسهم ببراءة استخدام المؤامرة في تحليلهم الدراما وفق منهج سياسي لطبيعة التناقضات في المنطقة. دون النظر إلى عشوائية سوق الدراما العربية وعدم تنظيمها، فنحن الذين نطالب بأولوية فن الدراما على سواه من الفنون، ونذهب في التنظير لأهميته كسلاح في صراع الهوية ضد العولمة، وصراع الثقافة ضد الابتذال، ماذا عملنا لنحافظ على هذه الدراما ونطورها؟
تصورا أن الولايات المتحدة ـ وهي من الطليان ـ احتلت صادراتها من البرامج الثقافية والإعلامية المرتبة الثانية بعد صادراتها من السلاح، وها هي جارتنا الأقرب تركيا ـ ليست من الطليان الآن ـ تصدر مسلسلاتها المدبلجة إلى الكثير من دول العالم بمن فيهم الطليان ودول آسيوية أخرى، قبل أن تصلنا في المنطقة العربية، ونذكر في سجالنا ضد الأشقاء في مصر أنهم يضغطون سياسياً لتسويق إنتاجهم الدرامي عبر سلة مشتركة تضم أكثر من عمل، بينما نحن في سورية ما زلنا نطالب منذ عقدين أو أكثر بإيجاد آلية توزيع للدراما السورية، بإيجاد اتحاد للمنتجين في قطاع الدراما، بإيجاد مهرجان للدراما يساعد على تسويق أعمالنا دون مجيب، أو كما يقال 'أسمعت لو ناديت حياً'، لكن المنادى قد أصمّ أذنيه.
بالطبع لا يتفق الجميع على رؤية أحادية للأزمة، لكنهم متفقون بشكل أو بآخر بأن أزمة الدراما عموماً هي شأن سياسي، والدراما السورية هي قرار سياسي منذ الأزمة التي عصفت بها قبل سنتين حين امتنعت بعض الفضائيات الخليجية عن شراء الأعمال السورية، وانتهاء بأزمة العام الحالية والتي تسببت بانخفاض الإنتاج الدرامي إلى ما دون النصف. بالمقابل نجد أن الرد السياسي كان جاهزاً على أعلى المستويات، حين قرر السيد رئيس الجمهورية في لقائه مع صناع الدراما وفنانيها دعم هذه الصناعة، لكن هذا الدعم بكل أسف لم يترجم من قبل الجهات المخولة بتنفيذ توجيهات السيد الرئيس إلا بالحد الأدنى. فاشترى التلفزيون السوري أكبر عدد من الأعمال، ونال بعض المنتجين منحة تشجيعية لم تُصرف إلا بعد ثمانية أشهر لكن شيئاً أبعد من ذلك لم يحدث.
وأقصد بأبعد من ذلك أن أحداً لم يتصدَّ لنقاش مسألة الرقابة مثلاً، وضرورة إطلاق حرية الشركات المنتجة في اختيار نصوصها وطريقة تصويرها أو حتى حرية العرض، إذ ما زالت بعض الأعمال التي صوّرت ضمن إطار موافقات مسبقة تُمنع أثناء العرض، ولعل ما حدث مع مسلسل 'الأسباط' هذا العام يشكل الحالة الأمثل للتعبير عن أزمة الرقابة، حيث حصل هذا المسلسل على موافقات كل الجهات الإفتائية في سورية والمنطقة وبكل مرجعياتها الدينية وأهمها السيد حسين حسون مفتي البلاد، لكنه مع ذلك مُنع من التصوير في سورية، وفي العديد من البلدان العربية، حتى اضطرت الجهة المنتجة أن تسافر به أخيراً إلى المغرب حاملة معداتها وفنانيها وفنييها أيضاً، متكبدة تكاليف إنتاجية مضاعفة، والأهم أنها أثرت على وتيرة العمل حيث تأخر انجاز المسلسل عن الدورة الرمضانية الحالية. فكيف تمنع وزارة الإعلام تصوير عمل حاز على كافة الموافقات الرقابية والفتاوى الشرعية التي تجيز تصويره؟! وأين دور القرار السياسي في دعم الدراما السورية من هذه الرقابة؟!
ولماذا لم تبادر نقابة الفنانين ولجنة صناعة السينما والتلفزيون في غرفة الصناعة بأي مبادرة لتنظيم هذا القطاع الإنتاجي الضخم؟ علماً بأن الطرفين يتقاضيان رسوماً وضرائب من الشركات المنتجة، ولماذا لم يبادرا باتجاه المساهمة في تأسيس شركة توزيع ترعاها مديرية الإنتاج في التلفزيون السوري، وإذا كان الأمر يتعلق بضرورة تحويل المديرية إلى مؤسسة مستقلة مالياً، فلماذا لم يستفيدوا من القرار السياسي المعلن لاجتياز هذه العقبة؟! وإذا كان دون ذلك بيروقراطية مانعة، فلماذا لم تساهم هذه الأطراف مع الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون برعاية مهرجان فني وتسويقي للدراما أسوة بمهرجانات تُصرف عليها مئات الملايين دون أن تقدم عائداً مالياً أو فنياً مجزياً؟!
وإذا كنا مقتنعين بارتباط الدراما بالقرار السياسي فكيف نعبر عن هذا الارتباط؟ أو بالأحرى كيف نترجمه كآليات تساعدنا على اجتياز عنق الزجاجة؟ مع علمنا أن استمرار الدراما السورية دون اجتياز هذا العنق ربما يدفعنا لقراءة بيان نعيها في السنوات القادمة.
أنور بدر

المصدر: القدس العربي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...