حنا مينه: الحرية تحتاج إلى وسائل ممارستها

21-08-2010

حنا مينه: الحرية تحتاج إلى وسائل ممارستها

وهذا أديب يأكل الذل نفسه

وذا أدب رخو المفاصل مصقع ‏

وهذا حكيم يزهق الروح ظله ‏

وذي حكمة تعوي وتلك تجعجع ‏

وهذا، رعاك الله، في الناس شاعر ‏

أيملك في دنيا الكناري ضفدع ‏

إذا سئل التاريخ من مد نارها ‏

أينطقه إلا الأديب المضيّع ‏

يحاول الكتّاب العرب الشرفاء، الذين هم ضمائر شعوبهم حقاً وصدقاً، المروق من بين الدوائر الحمر، لقول ما يريدون، حتى ولو كان هذا القول يرتكز على التعميم، لا الفني وهو المطلوب، بل السياسي أيضاً وخصوصاً، حيث يقرؤهم القارئ، وهو لا يدري أي بلد هو المقصود، وبذلك تضيع الطاسة كما يقول المثل، فلا ينزعج أحد من الحكام العرب، لأن كلاً منهم يهز كتفيه مسراً في نفسه: «هذا الكلام لا يعنيني!» وفعلاً لا يعنيه، ما دام لا يقصده بالاسم والصفة، وما دام النقد ولو كان بنّاءً يذهب مع الريح في هذه الحال! ‏

أشهد أنني، في الأدب والسياسة، لا أمارس هذا الاثم في وطني سورية، وأشهد أن ما أكتبه في جريدة «تشرين» ينشر كما هو، وفي التلفزيون يبث كما هو، فإذا كان هناك استثناء يثبت القاعدة، أستشار قبل حذف هذه الكلمة أو هذه العبارة، دون إخلال بالموضوع، وبلطف يحترم القلم الذي تنزلت به الآية الكريمة، ودون قسر أو إلحاح ليس لأنني محصّن بالشهرة كما يرى هذا أو ذاك، وإنما لأن ثمة انفراجاً، وثمة سعة صدر، وثمة صياغة للنقد، مهما يكن قاسياً، بها جنف عن الفجاجة، وعن المدح أو القدح لغرض شخصي، ودون أن ألفت، مرة واحدة، إلى كتابة ما يراد مني، بل ما أريده أنا، وبحرية تامة ليس معنى هذا أن الدوائر الحمر قد غابت كلياً، وفي كل الأقطار العربية على حد سواء، ففي الدوائر الحمر، الباقية ما بقي التخلف، حماية للحاكم، وكم من حاكم عربي اختزل شعبه بشخصه، وكم من حاكم عربي يخاف من شعبه على حكمه، وكم نخطئ اذا حسبنا أن زوال الكولونيالية، أي الاحتلال العسكري المباشر، بعد الحرب العالمية الثانية، قد جعلنا نفوز بالاستقلال التام والناجز، فالاستقلال، بالمعنى السابق، ليس استقلالاً ما دمنا لم نستقل اقتصادياً، وما دام الخيط الذي يرى، أو حتى لا يرى أحياناً كثيرة، يشدنا إلى المركز الرأسمالي العالمي!. ‏

قال أبو نواس، عندما منعه الخليفة المأمون من شرب الخمرة: ‏

إن حظيّ منها إذا هي دارت ‏

أن أراها وأن أشم النسيم ‏

كأني وما أحسن منها ‏

قعدي يحسن التحكيم ‏

والكتاب العرب ليسوا في القعدة، وليسوا في الذين، جبناً، يحسنون ما لا يحسن، لكنهم ليسوا في الطلقاء، وأقلامهم غير طليقة، وهم بشجاعة، يمرقون من بين الدوائر الحمراء، غير مبالين بالسجن أو قطع الرزق، وهم إلا النادر النادر منهم، لم يبلغوا قامة الكاتب الفرنسي جان بول سارتر، الذي أطلق صيحته المعروفة «عارنا في الجزائر!» والحرب الفرنسية القذرة تتضرى فيها، فجاء كبار الجنرالات الفرنسيين الشرسين، طالبين من الجنرال ديغول، رئيس الجمهورية الفرنسية آنذاك، وبغضب موار، اعتقال جان بول سارتر، فابتسم مشفقاً وأجابهم:»وهل اعتقل فرنسا كلها!؟». ‏

طبعاً ليس في الأقطار العربية سجناء من كبار الكتاب، في ضوء ما أعرف، غير أن «حراس الطهارة»، في مصر الشقيقة، يدسون أنوفهم، من حين لحين، في المسائل الأدبية والفنية، مطالبين بمصادرة هذا الكتاب أو ذاك، أو منع إصدار هذه المخطوطة أو تلك، ومن المؤسف أن طلبهم يستجاب في بعض الأحيان، وهذا ما يشجعهم على التمادي، حتى أصبح من المألوف أن نقرأ في الصحف المصرية والعربية، أن الكتاب الفلاني قد صودر، أو منع تداوله، أو أوقف مؤلفه وناشره، بخلاف ما هو جار في سورية التي يؤكد أصحاب دور النشر فيها وكذلك في لبنان، أن كتاباً واحداً لم يمنع من الدخول، أو التداول، عملاً بشعار الرئيس المرحوم حافظ الأسد «لا رقابة على الفكر سوى رقابة الضمير» وإذا وقع غير ذلك، ففي حالات قليلة جداً جداً وبتصرف شخصي، من رقيب حاقد أو موتور! ‏

إن التعارض بين السلطة الحاكمة، وسلطة الكتابة الصادقة، كانت وستبقى غالباً، بسبب من أن الكتابة استئناف دائم، بين ماهو كائن، وبين ما ينبغي أن يكون، وبتعبير علمي، هناك دائماً تناقض في قلب الوحدة، وهذا التناقض هو الذي يدفع الأمور إلى أمام، وقد تحدثت، بشيء من الإفاضة عن الإيجابيات في موقف السلطة في سورية من التعبيرات الأدبية والفنية، وفي عهد الرئيس بشار الأسد بشكل خاص، لأن مبادرته في منح الأوسمة من الدرجة الممتازة، لجيل بعد جيل من الأدباء والفنانين، سابقة جديرة بالشكر والتقدير، إلا أن الاشادة بما هو إيجابي، دون نقد ما هو سلبي، فيها غياب، أو تغييب، لجدلية الأشياء التي هي قانون علمي لا يدحض، ومن هذا السلب ما هو عام، يشمل جميع المبدعين السوريين، وما هو خاص، يتعلق بي شخصياً أتخذه مثلاً قائماً لا يزال، ففي الشقيقة تونس، تدرس روايتي «الياطر» في جميع الثانويات التونسية، وفي المغرب الشقيق، تدرس روايتي «الثلج يأتي من النافذة» في كل الثانويات المغربية بينما قام أحد أعضاء لجنة إعداد كتاب البكالوريا، الذي يدرس الآن في الثانويات السورية، بحذف قصتي القصيرة «الرجل الذي أبطل مفعول القنبلة» عن حرب تشرين المجيدة، متذرعاً دون حياء بأن هذا هو أمر وزير التربية، فلما قال له الموجه الكبير والمحترم، المرحوم صياح الجهيم «أننا هنا لإرضاء ضمائرنا لا لإرضاء الوزير» بدل فريته، في اليوم التالي زاعماً أن هذا هو أمر القيادة القطرية والقيادة القطرية بريئة من «دم هذا الصدّيق» كما أرجح، لأنه أمر غير منطقي وغير مقبول، ومع ذلك وعلى كثرة ما في سورية من روائيين وقاصين، فإن أية رواية، مهما تكن سويتها الفنية رفيعة، لا تدرس في ثانوياتنا، أو جامعاتنا، لأننا ما برحنا عند تاجر البندقية أو ما يماثلها وكأنما الزمن لم يتغير أو أن تغيره غير مأخوذ في الحسبان، وما يسري على الرواية يسري على القصة القصيرة في تجلي إبداعها، إلا إذا كان هناك استثناء مجلبب بالحياء، يلحظ ولا يلحظ! ‏

وقد كان عندنا، قبل عشرين عاماً تقريباً، وزير تربية متزمت يدعى غسان الحلبي، أمر بدفع رواية الثلج يأتي من النافذة من مكتبات الإعداديات والثانويات، لأنها تبث دعاية شيوعية، والأحزاب الشيوعية أعضاء في الجبهة الوطنية التقدمية، ولها مكاتب وصحف، كما أمر برفع رواية الياطر لأنها إباحية، فكتبت مقالة أفند فيها مزاعمه، وتهافته، بالاسم والصفة الصريحين، نشرتها مجلة تشرين الاسبوعية فكانت فضيحة ذات جلاجل وأجراس، إلا أنه بقي وزيراً للتربية، بكل تزمته وتهافته، دون أن تحرك السلطة الموقرة ساكناً، وكأن شيئاً لم يكن!. ‏

هكذا ترون، كما قال ناظم حكمت: «المهزلة ونذالة تلك الأيام» في وصفه لمناضل يوناني، أنزل العلم النازي عن الاكروبول في أثينا، فقدم بعد إخفاق الثورة اليونانية، عقب الحرب العالمية الثانية، إلى المحكمة بتهمة الخيانة العظمى! ‏

إنني إذا غير محصّن بشهرتي كما قيل، رغم أن رواياتي ترجمت إلى سبع عشرة لغة حية، وليس من كاتب محصّن بشهرته، رغم أن رواياته، في الوطن العربي الكبير، ترجمت أيضاً، إلى عدة لغات عالمية، وكل رواية مترجمة هي سفارة لنا عند غيرنا، وذات تأثير، في الرأي العام العالمي، أكبر وحتى أعظم من كل سفارة لكن هذا لم يمنع دق بابي، ذات يوم، من قبل عنصرين من المباحث، طلبا مني معلومات عن كاتب ومفكر ضليع، في كتابته وفكره، آن كان الكلام يدور، حول المجتمع المدني، فقلت لهذين العنصرين: «تريدانني أن أكون مخبراً لديكما، أو لدى من بعث بكما إلي؟ هيا خذوني موجوداً، فأنا لا أخاف السجن، ولا المنفى لكثرة ما عرفت السجون والمنافي، قبل الاستقلال وبعده وبوحي من هذه الواقعة، كتبت مقالاً في جريدة تشرين مؤخراً، عنوانها: «خذوني إلى السجن.. أرجوكم!» وما برحت انتظر أن يتحقق رجائي، كي أنعم بالراحة، في السجن الصغير، داخل بلدي، أفضل من دخول السجن في الوطن العربي الكبير، الذي أصبح سجناً كبيراً مع الأسف! ‏

لقد كتبت، حتى الآن، ما يقارب الأربعين رواية، ولو كنت في أي بلد أوروبي، ونجحت رواية أو اثنتان من رواياتي، لكنت الآن صاحب مكتب فخم، ولدي سكرتيرات، وحجّاب، ومواعيد محددة من قبل الذين يرغبون بزيارتي، للتعارف أو لعرض بعض القضايا وهذا ما يحدث مع ماركيز لأن روايات أميركا اللاتينية لا تضار منها اسرائيل، وهذا هو سبب انتشارها الواسع، بينما الرواية العربية تفضح أميركا واسرائيل، وتظهر عدوانيتهما وجرائمهما، ضد الأخوة الفلسطينيين المفادين، وتالياً ضد الأخوة العراقيين، الذين يقاومون، بصلابة مدهشة، الغزو الأميركي الذي جرى متذرعاً بالبحث عن أسلحة الدمار الشامل، فلما انفضحت ذريعته ألقى بالمسوؤلية على أجهزة مخابراته التي ضللته، وبدّل قناع البحث عن أسلحة الدمار الشامل بقناع محاربة الارهاب، بينما المرتزقة الذين جاء بهم معه، وعملاء الموساد الذين دخلوا في ركابه وانتشروا كالوباء، هم الذين يمارسون الارهاب، ويقتلون الأبرياء، ويعذبون بوحشية السجناء العراقيين الأبرياء كما حدث في سجن «أبو غريب» وما انكشف من ممارسات تقشعر لها الأبدان، في هذا السجن الرهيب، الذي نجا المجرمون الحقيقيون، من العقاب عن ممارساتهم فيه وفي غيره!. ‏

حنا مينه

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...